«إنَّ الهويّة بنتُ الولادة لكنّها
في النهاية إبداعُ صاحبها،
لا وراثة ماضٍ»
محمود درويش
نعم تغيّر فيّ الكثير...
الخطاب الإسلامي المتطرّف الذي صدمَنا جميعاً خلال السنوات الستّ الأخيرة وكلّ ممارسات المجموعات الدينيّة المتطرّفة وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلاميّة طبعاً وتزمّت الشارع المتديّن البسيط حيال الآخر المختلف، وكلّ العمليّات الإرهابيّة في شتى أنحاء العالم جعلت الكثيرين بمن فيهم أنا، يتساءلون حول مبادئ الإسلام. هذا التساؤل فتح الباب للشكّ والنّقد. قداسة الموروث الديني لم تعد عائقاً أمام عدد لا بأس به من شباب ما بعد الثورات العربيّة، فوضعوا دينهم تحت النّقد. أضف إلى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي التي فتحت الباب واسعاً للنقاش حول الدين والإسلام بالتحديد. هذا الوضع حفز البعض على البحث والقراءة كما حصل معي.
كتبت مرّة على صفحتي على موقع فايسبوك منذ سنتين على ما أظنّ: «لماذا كلّما تعمّق الإنسان في دراسة علم اللاهوت ضعُف إيمانُه؟ بمعنى آخر لماذا كلّما استعمل الإنسان عقله تمرّد على أيّ وصاية عليه، وهنا أتحدّث عن الوصاية الدينيّة؟ وما علاقة إعمال العقل بضعف الإيمان الذي من الممكن أن يصل إلى الإلحاد أو إلى قناعة أنّ الأديان هي صناعة بشريّة مع استمرار الإيمان بوجود الله؟». هي أسئلة أظنّ أنّني لم أكن لأطرحها لولا الثورات التي قامت في منطقتنا. قبل أن أطرح هذه الأسئلة كنت دائماً مع القراءة التاريخيّة للنّصّ الديني قرآناً وسنّةً ولم تهتزّ صورة الإسلام عندي إلّا حين تعمقت أكثر في تاريخ الأديان وفي نشأة الإسلام والخلافة وسيرة النّبي والموروث الديني بعينٍ ناقدة. وصلت اليوم إلى قناعة أنّ الأديان صناعة بشريّة، وأمّا عن وجود الله من عدمه فلازلت أبحث عن جواب لهذا السؤال.
حرق معاذ الكساسبة كان حدثاً جعلني أتساءل أكثر عن موروثنا الديني. فالبنية الفكريّة لتنظيم ما يسمى بالدّولة الإسلامّية هو بالأساس امتداد للفكر التكفيري لابن تيمية، «أبو الصّحوة الإسلاميّة» كما لقّبه راشد الغنّوشي. ترك ابن تيمية تراثاً متطرّفاً استشهدت داعش به لتشريع حرق معاذ الكساسبة. قال ابن تيمية: «غير المؤمن تجب عداوته وإن أحسن إليك». وقال أيضاً: «أنفس غير المؤمنين وأولادهم وأموالهم مباحة للمؤمنين»، وغيرها من الفتاوى التي تؤسّس لدار الحرب ودار السلم. الغلوّ والتطرّف الذي تصدمنا به الوهّابيّة والسلَفيّة الجهاديّة المعاصرة كلّ يوم له جذوره التي زرعت منذ قرون خلَتْ. للأسف لم تحُلْ السلفيّة المجدّدة أو سلفيّة عصر النهضة التي يمثّلها الأفغاني وحسن البنّا ومحمد عبده وغيرهم دون بروز فكر سيّد قطب. هذا الأخير أيضا ترك إرثاً سلفيّاً موغلاً في التطرّف. نعم، لا رواد السلفيّة المجدّدة ولا محمّد أركون ولا فرج فودة ولا نصر حامد أبو زيد ولا الجابري ولا غيرهم من المفكّرين التنويريّين استطاعوا أن يحُولوا دون بروز الأصوليّة السنّيّة التي تشهد اليوم أعتى مراحلها وحشيّةً، وهي التي تقضّ مضاجعنا اليوم ودواخلنا كذلك كما حصل معي. للأسف الخطاب الأصوليّ لابن تيمية وغيره انتصر على الخطاب التنويري.
أما بالنسبة إلى القرآن فعلينا قراءته بعين اليوم، ورفْع القداسة عنه هو أوّل الطريق في اتّجاه قراءته العقلانيّة والتاريخيّة. الفكر التقليديّ، إذا صحّ طبعاً أن نصفَه بالفكر، ما هو إلّا توارث لقراءةٍ غلب النقل فيها على العقل ووضعتنا اليوم في مأزق مع تراثنا الديني. كلّنا نعلم مدى بلاغة اللغة العربيّة القرآنيّة وتعدّد معاني مفرداتها. بطريقة أخرى، القرآن صالح للتأويل وقابل للفهم المتعدّد، لكنّ قداسة النصّ القرآنيّ هي التي تقف عائقاً أمام إعمال العقل في فهمه.
لَم أغفل أيضاً عن البحث في ما يسمّى بالإعجاز العلميّ في القرآن. كان عليّ أن أقوم بذلك لتهدأ العاصفة داخلي. في هذا الإعجاز إعجاز لقدرات العقل البشريّ وعجز علميّ وحضاريّ وتعويض نفسيّ عن نهضة إسلاميّة أجهضت بحرق كتب ابن رشد. إفلاس المسلمين علميّاً وتكنولوجيّاً وعقدة النّقص المتضخّمة أكثر فأكثر بتضخّم الإنجازات العلميّة للغرب «الكافر» هما وراء تحويل القرآن من كتاب دين إلى كتاب «علم». لماذا هذا الإعجاز العلميّ لاحقٌ لأيّ اكتشاف علميّ غربيّ لا سابق له؟ لماذا لم يكتب فيلسوف الإسلام ابن رشد عن الإعجاز العلميّ للقرآن وهو الأقرب زمنيّاً لنزول الوحي؟ هذا «العلم» هو حديث النشأة أتى به مرضى وسماسرة وأشاعوه بين النّاس لإحكام السيطرة على عقولهم أكثر وزيادة غرورهم بالانتماء للإسلام والتعالي على أصحاب الديانات الأخرى وخصوصاً للهروب من حقيقة أنّنا صرنا في ذيل الأمم.
وفي خضمّ كلّ ما يحصل في منطقتنا فإنّني على يقين أنّ الأصوليّة السنيّة التي نعيشها اليوم هي ضرورة من ضرورات التطوّر وإلّا فلن يلتحق العالم العربّي أبداً بركب الحضارة. تعود جذور الأصوليّة السلفيّة إلى قرون خلَت لكنّ مواجهتها اليوم صارت علنيّة. للأسف سندفع من دمائنا ثمناً أغلى لهذا العراك. ببساطة هو طريق الخلاص لأنّنا عاجلاً أم آجلاً سنُخضع الموروث الدينيّ للنّقد لإيجاد حلول للمأزق الذي نعيش فيه.
كلّ هذه التساؤلات التي هزّتني من الداخل جعلتني أقيّم التربية التي نشأت عليها كطفلة وُلدَت مسلمة مصادفة، فالدّين يُورَّث كما الملامح. نعم كأغلب أطفال المسلمين تمّ سجني داخل ثنائيّة الحلال والحرام. التربية على الحلال والحرام، وريثة تربية السلَف طبعاً، فيها قمع للفكر منذ الطفولة. حين ينشأ الطفل على ثوابت، بمعنى «هذا حلال وهذا حرام ولا تسأل لماذا»، يُدفن نهَمه الفطريّ للمعرفة والاكتشاف شيئاً فشيئاً. وفي المقابل يُزرع فيه الخوف من التساؤل والتفكير. وحسب تجربتي كتونسيّة نشأت في بيئة إسلاميّة، أضيف دور معلّم التربية الإسلاميّة (أو معلّم الدّين كما يسمّى في أغلب الدوَل العربيّة) في تعميق هذه الهوّة بين نهم المعرفة والمقدّسات. إذ يأتي معلّم الدّين بعد الأهل ليعلّم ذلك الطّفل السوَر المتحدّثة عن ويلات يوم القيامة فيجْهز على المتبقّي في الطّفل من تلك الفطرة التي خلقت معه لشدّة خوفه من الماورائيّات. وفي سنوات ما يسمّى الآن بالمدرسة الإعداديّة، يلقّنه المعلّم نفسُه طقوس الإسلام بعيداً عن أيّ روحانيّة فتصير الصِّلة مع الله على أساس التّفَاني في العبادة بدلاًمن التّركيز على الصلة الروحانيّة معه. وطبعاً الأسرة والمجتمع ككلّ يواصلان التشديد على عدم تجاوز الخطوط الحمراء في ما يخصّ الدين. الغريب في كلّ هذا أنّ هذا الطفل الذي كبر على ما ذكرت سابقاً يجد نفسه أمام معلّم الدّين ليدرّسه التفكير الإسلاميّ وأمام أستاذ الفلسفة في آخر سنوات المرحلة الثانويّة. يطلبون منه عندها أن يفكّر! كيف؟ هذا الطفل والتلميذ ينشأ كهلاً يؤمن بالثوابت ويلد طفلاً يربّيه كما رُبّي. هكذا يدمَّر العقل! ولهذا فإنّ الأمل في ثورة ثقافيّة ودينيّة هو أملٌ خافت. لكنّ التغيير سيأتي! فالإنسان سيفرض نفسه كالمقدّس الأهمّ يوماً ما!
كذلك مساندتي المطلقة لقضايا المرأة لم تكن لتتعمّق لولا البحث في الإسلام أيضاً والنّقاش حول ذلك. وهذه الجرأة في الطرح التي اكتسبتها بعد سنة 2011 جعلتني قادرة على طرح ثنائيّة المرأة والدّين مع عشرات التونسيّات، وللأسف واجهت صدّاً كبيراً. للأسف حين تُفرض علينا سلطة التابُو حتّى في الأحاديث النسائيّة الخاصّة، كمنْع الكلام فى السياسة والكلام في الدّين وفي وضع المرأة في الإسلام، من قبَل نساء يختلفن كثيراً عن النساء اللواتي ترعبهنّ لعنة التابو فإنّي فعلاً أرى مدى خوف هذين الشقّين من الحرّيّة ومدى عمق تأثير القهر العاطفيّ والجنسيّ والسياسيّ والاجتماعيّ فيهما على حدّ السواء، ومدى بُعدنا كمجتمعات شرقيّة عن التحرّر الفكريّ. هذا ما حصل معي منذ سنتين تقريباً في نقاشات طويلة حول مواضيع مختلفة تعتبرها مجتمعاتنا تابوهات مع نساء تونسيّات على درجات مختلفة من التحرّر ونساء محنّطات فكريّاً يهبْن النّقاش في المسكوت عنه. الغريب أنّ سلطة التابو فُرضت عليّ من قبَل الشقّ المتحرّر أو الذي كنت أعتقد أنّه متحرّر. كيف يمكن فرْض عدم الحديث في الدّين ومغزى النّقاش هو التطرّق لقضايا المرأة في مجتمعاتنا؟ لماذا تخاف المرأة من بنت جنسها وتصّدها بقوّة حين تكسر تابوهات الدّين والعادات والتّقاليد التي فرضها المجتمع الذكوريّ الأبويّ لتحملها المرأة على عاتقها منذ الطفولة حتّى القبر؟ لماذا تتّهمها بالكفر والهجوم على الإسلام وبالحقد على الرجل إذا ما كسرت تلك التابوهات؟ سؤالي هنا: ألا ترون أنّ الحركات النسويّة في العالم العربيّ ركّزت بالأساس على المطالبة بحقوق المرأة؟ بمعنى آخر ألا ترون أنّ الحروب التي خاضتها الحركات النسويّة كانت بالأساس مع المشرّع ولم تكن مع عقل المرأة؟ طبعاً أستثني هنا أسماء مهمّة كرّست حياتها من أجل إرساء وعي أنثويّ يضمن التّغيير الفعليّ لوضع المرأة في بلداننا وتأسيس فكر بالإمكان أن تقوم عليه ثورة حقيقيّة على النّظام الأبويّ القاتل. لكن في الآن ذاته لا يحقّ لي التقليل من شأن النشاط النسويّ الشبابيّ ما بعد قيام الثورات العربيّة لاسيّما في مصر في رفع الوعي لدى النساء، وأنا واحدة منهنّ، بكسر التابوهات وفتح الباب للنّقاش الحرّ. وحقيقةً لا ينبغي أن نحمّل الحركات النسويّة ما لا طاقة لها به. فالمؤسّسات النسويّة تلقى القليل من الدعم، والكثير من الصدّ حتى من الدولة، ولنا في هذا مثال ما يحصل حاليّاً في مصر. فالمؤسّسة العسكريّة المصريّة حاليّاً تتصدّى بقوّة للنّشاط النسويّ المصريّ خوفاً من زعزعته للنّظام الأبويّ التاريخيّ الذي يحكم المجتمع المصريّ بقوّة.
وفِي شكل آخر من أشكال التمرّد على الهيمنة الذكوريّة على جسد المرأة، ظهرت ناشطات منظّمة «فيمن» النسويّة وربّما أشهرهنّ على المستوى العربيّ التونسيّة «أمينة السبوعي» والمصريّة «عليا المهدي». السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل نحن بحاجة إلى إظهار صدورنا لنكسر هذا الاختزال التاريخيّ للمرأة داخل حدود الجسد؟ إنّها حقّاً مفارقة غريبة، من جهة نحن نناضل لكي نكسر صورة المرأة الجسد ومن جهة أخرى، نُظهر أكثر مواقع أجسادنا حميميّة. شخصيّاً، لا أعتبر هذا شكلاً من أشكال النّضال من أجل تحرير المرأة.
وفي ما يخصّ المثليّين فقضيّتهم هي القضيّة الوحيدة التي استعصت عليّ مساندتها لفترة، وهذا طبعاً جرّاء الثّقافة والبيئة الّتي نشأت فيهما. وهذا أمر طبيعيّ. غير الطبيعي هو أن أظلّ سجينة هذه التربية وهذا الوعي الموروث. وبفضل الكمّ الهائل من الكره والاحتقار الذي يواجهه المثليّون يوميّاً من قبّل الملايين انكسر ذلك الموروث في واصطففتُ إلى جانبهم. وانتبهت أيضاً أنّ المسلم يضيق صدره لرؤية «المخنّث» ولا يضيق صدره لرؤية «المسترجلة». نعم الخوف على الذكورة يقضّ مضاجع المجتمع الذكوريّ.
اليساري العربي والدكتاتورية
أمّا سياسيّاً، وبسبب الوضع في سورية بالذّات، اتّضح لي جليّاً مدى السقوط الأخلاقيّ والفكريّ الذي يعيشه يسارُنا العربيّ الذي منذ أن أعلن صراحة مساندته لكلّ الأنظمة الديكتاتوريّة الزائلة والحاليّة أُسقطت عنه «صفة اليساريّة».
حين بدأت أكتشف ميولي اليساريّة وحين بحثت في ماهيّة اليسار، تعلّمتُ أنّ على اليساريّ الوقوف ضدّ الإستبداد في السلطة الذي يفاقم الظّلم الاجتماعيّ والوقوف ضدّ الاستبداد في المجتمع باسم الدين. وإلى يومنا هذا أنا وفيّة لما تعلّمت منذ عشر سنوات خلَت. للأسف نرى اليوم اليساريّ العربيّ يدعم ديكتاتوريّة ستالين ولا يدعم ديكتاتوريّة هتلر لا لشيء إلّا لأّن ستالين الطاغية «الشيوعيّ» حارب النازيّة، ونراه يدعم ديكتاتوريّة صدّام حسين ومعمّر القذّافي وبشّار الأسد وعبد الفتاح السّيسي في ما فعل بالإسلاميّين. كذلك نرى الشيوعي العربي مع ديكتاتوريّة الجمهوريّة الإسلاميّة بإيران وفي الآن ذاته نراه ضدّ الديكتاتوريّة الوهّابيّة في السعوديّة إلى غير ذلك من التناقضات الغريبة والمرَضيّة حتّى. والأمرّ أنّه يعتبر نفسه من أتباع الثائر تشي غيفارا والمسالم نيلسون منديلّا ومن محّبي الشيخ إمام. حقيقةً لم أسعَ يوماً إلى خندقة نفسي تحت أيّ مسمّى، لكن في فترةٍ معيّنة حين بدأت أكتشف توجّهاتي اليساريّة أحسست بنوع من الفخر أنّي اخترت الوقوف ضدّ المستبدّ دون أيّ توجيه، لكن بالتأكيد لا أشعر اليوم بأيّ فخر بـ«انتمائي» لـ«يسار» كهذا فضحتْ ثورات الشعوب اصطفافَه مع الأنظمة المجرمة التي حكمتْنا بالنّار لعقود طويلةْ وفضحت نضاله المزيّف ضدّها لها هي حين كانت تحكمنا. وكتونسيّة أريد أن أقول إنّ اليسار التونسيّ غير مبدئيّ، فهو يرفض الاستبداد في بلده ويرضى به ويدافع عنه بشراسة في سورية والعراق وليبيا، إلخ.
هل على اليساري أن يكون ماركسيّاً لينينياً أو ماركسيّاً لينينيّاً تروتسكيّاً أو ماركسيّاً لينينيّاً ستالينيّاً أو ماويّاً؟ ماركس ليس رسولاً والماركسيّة ليست ديناً حقّاً ولينين وتروتسكي وماو ليسوا خلفاء ماركس الرّاشدين. لقد قدّم ماركس فكراً قابلاً للتطوّر ولم يقدّم لنا نصّاً مقدّساً. ولو أنّ ماركس نفسه قال إنّه ليس ماركسيّاً فلماذا لا يُسقط اليساريّ في منطقتنا عن نفسه كلّ هذه المسمّيات؟ لماذا لا يكون ابن عصره وابن بيئته مستفيداً من إرث ماركس ولينين ومطّلعاً على مفكّرينا اليساريّين والتّنويريّين ومطّلعاً على التجارب التحرّريّة العالميّة مطوّراً بذلك تفكيره ويساريّته؟ مات الطاغية ستالين وقُتل تروتسكي منذ عشرات السنين وانهار الاتّحاد السوفييتي وفشلت التجربة الاشتراكيّة السوفييتيّة ولا يزال اليساريّون العرب يتطاحنون بسببهما أو بالأحرى بسبب جمودهم العقائديّ. كن أنت وكن متحرّراً من القوالب اخلقْ يساريّتك وحرّرها من أيّ تسمية.
حين يقول اليساريّ «لبّيك نصرالله» بمعنى «الطاعة لك واتّجاهي إِليك وقصدي وإقبالي على أمرك»، أقول له عندما تعتبر نفسك «يساريّاً» وتقولها رغم يقينك بأنّ حزب الله، الوكيل الشرعيّ لإيران في لبنان، ودولة إيران نفسها هما أصحاب نظم ثيوقراطيّة ديكتاتوريّة دينيّة يدعمون نظام بشّار الأسد المجرم الذي تقول له في سرّك «لبّيك يا أسد» لقداسة شأنه بالنسبة إليك فأنت لست حرّاً، واليساريّ حرّ تسوده الحرّيّة فقط وليس عبداً لأشخاص، لا لبشّار ولا لصدّام ولا لستالين ولا لنصرالله، إلى غير ذلك من الأصنام.
فرّط اليساريّ العربيّ في إنسانيّته لصالح ديكتاتوريّات «علمانيّة» وعسكريّة ودينيّة سَلبت منه تلك البراءة الأولى التي كان عليها حين استهوتْه اليساريّة. اليساريّ العربيّ في تطرّفه انتهج طريق الإسلاميّ في تطرّفه وصار يخون ويتّهم بالعمالة كلَّ من يخالفه الرّأي.
متى يفهم اليساريّ أنّ كلّ الأنظمة العربيّة هي ضدّ شعوبها؟ «كلّن يعني كلن» كما يقول اللبنانيّ عن زعماء الطائفيّة في لبنان. ومتى يفهم العربيّ أنّ روسيا لم تعد شيوعيّة وأنّها لم ولن تكون صديقة لنا؟ وأنّ إيران وتركيا تخدمان مصالحهما كما روسيا؟ ومتى تدمع أعين العربيّ للآلاف التي قتلها صدّام ويكفّ عن البكاء حين يرى فيديو له وهو يرقص أو يدخّن السيكار؟!
متى نعي أنّ من يتآمر علينا هم حكّامنا؟ صدق درويش حين قال «أميركا هي الطاعون والطاعون أميركا». وأنظمتنا أيضاً طاعون، وعلى رأسها نظام البعث السوريّ والعراقيّ ونظام القذّافي. أنظمتنا هي أمّ التطرّف والإرهاب الذي يُسيل دماءنا اليوم.
قال مهدي عامل: «بوضوح أقول، فالوضوح هو الحقيقة، من لا ينتصر للديمقراطيّة ضدّ الفاشيّة، للحرّيّة ضدّ الإرهاب، للعقل والحبّ والخيال، وللجمال ضدّ العدميّة وكلّ ظلاميّة، في لبنان الحرب الأهليّة، وفي كلّ بلد من عالمنا العربيّ، وعلى امتداد أرض الإنسان، من لا ينتصر للثورة في كلّ آن، مثقّف مزيّف، وثقافته مخادعة مرائية».
ما قاله مهدي عامل أوجّهه كرسالة لمن اختاروا أن يتواروا تحت عباءة ولاية الفقيه ومِن تحتها عباءة حزب الله ومن تحتها عباءة الممانعة للدّفاع عن نظام الأسد الدمويّ وقبر إرادة الشعب السوريّ. والرسالة موجّهة خصوصاً «لليساريّين» الّذين لبسوا عمامة الفقيه واصطفّوا وراء بشّار الأسد. اليساريّ الحقّ هو من يقف إلى جانب ثورة الشعوب ويكون ضدّ التطرّف الدينيّ وسياسة قطر والسعوديّة. بمعنى آخر، لا داعي إلى تخوين من اختار أن ينتصر للدّيمقراطيّة ضدّ الاستبداد بشقَّيه العسكريّ والدينيّ سواءٌ في سورية أو غير سورية.
السنوات الستّ الأخيرة أثبتت مدى بُعدنا عن الإنسانيّة وأثبتت أنّ شعوبنا في غالبيّتها مدجّنة فكريّاً من قبَل أنظمتنا السابقة والحاليّة. وكلّ هذا جعلني أشعر بنوع من الغربة بين يساريّي بلدي وصرت أرى نفسي أكثر مع مجموعة كبيرة من اليساريّين اللبنانيّين والسوريّين الأوفياء لذلك التعريف لكلمة اليسار الذي عشت عليه لسنين عدّة. يساريّو بلدي يريدون لأنفسهم البقاء ويريدون الفناء للآخر المختلف وبالتّحديد الآخر الإسلاميّ. القضيّة السوريّة أيضاً غيّرت في قناعةِ محوريّة القضيّة الفلسطينيّة. فلكلّ شعب قضيّتُه المحوريّة وكلّ شعب من شعوبنا له الحقّ في الحرّيّة بعيداً عن منطق المؤامرة الصهيونيّة الإمبرياليّة.
أمّا عن القوميّة العربيّة التي انجذبت إليها في أول العشرينيّات من عمري فصرت أمقتها وصرت أمقت كلّ المسمّيات الإقصائيّة مثل «العالم العربيّ» و«العالم العربيّ الإسلاميّ». لقد ارتبطت القوميّة العربيّة في صيغتها العراقيّة وكذلك السوريّة بالإستبداد والعدوان والإقصاء. منطقتنا بخليجها ومشرقها ومغربها هي منطقة متعدّدة الإثنيّات والمذاهب والطوائف، حالت القوميّة العربيّة دون احتضانها جميعها تحت الدولة الأمّة ولم أعد أستسيغ أبداً مسمّى الأمّة العربيّة الإسلاميّة لمًا فيها من إقصاء لباقي الإثنيّات والمذاهب.
وبعيداً عن «منطق» تآمر الغرب على عروبتنا وإسلامنا، فإنّ هذا الصدام الذي نعيشه اليوم مع القوى الظلاميّة هو نتيجةٌ طبيعيّة لعقود من الإقصاء والتفقير والجهل، لكنّ هذا الصدام هو ضرورة حتميّة يتطلّبها التّغيير كما قلت سابقاً. هذه القوى ليست غريبة عنّا، هي منّا وفينا. هي صنيعة أنظمتنا ومناهجنا التعليميّة وتراثنا الدينيّ، وهي أيضاً وليدة الإقصاء الكلّيّ للإسلاميّين. مدينة حماه شاهدة على مجازر حافظ الأسد ضدّهم هناك في العام 1982. كذلك إلغاء الجيش الجزائريّ للانتخابات التشريعيّة التي فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلاميّة فوزاً ساحقاً في أواخر سنة 1991 أتى بكارثة للجزائر. هذا الانقلاب على إرادة الشعب وهذا الإقصاء الكلّيّ فتَحَا الباب واسعاً أمام الفكر الجهاديّ الذي كانت نتيجته حقبة مظلمة من الإرهاب عاشتها الجزائر. الخطر نفسه يهدّد مصر. فالسيسي بسجنه وإقصائه لجماعة الإخوان المسلمين يجعل من قادتها رموزاً ومُلهمين لملايين يشاركونهم طريق «الإسلام هو الحلّ» وقد يلجأون يوماً ما للعنف الشديد. ونظام بن علي أيضاً انتهج السياسة الإقصائيّة ذاتها تجاههم وسيطر على الحرّيّات الدينيّة طوال سنين. أضف إلى ذلك الفقر وانعدام الفرص وانعدام التنمية في العديد من المناطق في بلداننا. كلّ هذا أدّى إلى تكوين بؤر نما فيها التطرّف وسهل استقطاب شبابها. أكرّر: صراعنا الدمويّ اليوم مع الاٍرهاب هو نتيجة طبيعيّة لعقود من الإقصاء والتفقير والجهل وهو مرحلة من مراحل التطوّر.
أثرُ التديّن والإدانة عميق وغائر في تراثنا، ولهذا فمن العسير جدّاً أن نصل إلى التجرّد العقائديّ لنستوعب معنى العلمانيّة، هذا المصطلحَ «الدخيل» الذي تهابه الأغلبيّة. نعم هو مطلب عسير لكن ليس من باب المستحيل، ويظلّ الأمل في غدٍ سيّدُه الإنسان باقياً لا يموت. هذا الأمل اضمحلّ وهجه حين بدأت ثوراتنا الشعبيّة تغرق في بؤرة التطرّف الدينيّ. لقد تغيّرت ملامح شارعنا وكساه غطاء دينيّ تُراقُ تحته الدماء في تونس والعراق وليبيا وسورية والسودان. هذا الأمل بدأ بالتلاشي أيضاً حين زجّ بالآلاف من المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين في سجون مصر، وكذلك حين انتهكت ولازالت إنسانيّة الإنسان السوريّ تحت ترسانة بشّار الأسد الحربيّة وسيف التطرّف. واليوم صار المشهد ضبابيّاً أكثر كي لا نقول كالحاً بقيام «الدولة الإسلاميّة» في الشام والعراق. أتساءل كيف سيتمّ اجتثاث هذا الفكر الموغل في اللاإنسانيّة. إذ إن مفكّرينا التنويريّين عجزوا عن كسر الأغلال التي تقيّد العقل العربيّ والتي جعلت منه إنساناً عاجزاً عن الالتحاق بركب الحضارة حين كان الوضع أكثر انفتاحاً بكثير. اليوم جميعنا يتساءل: لماذا تبدو الثّورات العربيّة أقرب إلى «الثّورات الدينيّة» منها إلى الثورات العلمانيّة الحديثة؟ هل نمر اليوم ّبما مرّت به الثورة الفرنسيّة قبل أن تتوَّج بإرساء االقوانين الوضعيّة بعد إراقة الدماء بوحشيّة لا مثيل لها؟ لكنّ الثورة الفرنسيّة مهّد لها فلاسفتُها بفكر يرقى بالإنسان إلى الدرجة التي يستحقّ. وفي المقابل لا توجد بنية فكريّة صلبة ترتكز عليها ثوراتنا. نحن بأمسّ الحاجة إلى ثورة فكريّة مستنيرة، لكنّ هذا التنوير الذي يراد له أن يكون بدون إراقة دماء سيشكّل بالنسبة إلى المتشدّدين من المسلمين فاجعةً وربّما كارثة لأنّه مبنيّ على التضحية ببعض النصوص الدينيّة بوضعها في سياقها التاريخيّ وحبسها هناك.
لقد قدّم المفكّر الجزائريّ محمّد أركون طرحاً أرى فيه أيضاً خلاص الأمّة العربيّة ألا وهو العلمانيّة الحديثة أو الجديدة أو المنفتحة كما سمّاها. وحسب رأيه، النّقد العلميّ للعقل الدينيّ يدعو في المقابل إلى النّقد العلميّ للعقل العلمانيّ في الآن ذاته وكلّنا يعلم أنّ العقل العلمانيّ يرى أنّ لديه حصانةً تحميه من النّقد. وأتّفق معه تماماً في رفضه للعلمانيّة التي أطلق عليها اسم العلمانيّة النضاليّة أو السطحيّة التي لا تعير أيّ اهتمام للظّاهرة الدينيّة المتأصّلة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة داعياً إلى تجاوز المقابلة التقليديّة بين العلمانيّ والإيمانيّ وإرساء العلمانيّة المنفتحة التي تجمع بينهما. فهل الحداثة قادرة على أن تؤلّف بين ما هو حداثيّ وما هو دينيّ؟
اعتقد أنّ التغيير السياسيّ الذي اجتاح المنطقة تعثّرَ وتخبّط لأنّنا انتهجنا الطريق الخطأ في الإصلاح، فالرّبيع السياسيّ ينقصه ربيع فكريّ، ونحن في أمسّ الحاجة إلى التغيير الجذريّ على مستوى الفكر العربيّ الإسلاميّ ذاته والسياسة تأتي لاحقاً. ولنا من المثقّفين والتنويريّين ما يكفي لقيادة ثورة فكريّة تنطلق من الإصلاح الدينيّ ذي الخطاب البسيط الذي تفهمه الجماهير الشعبيّة المتديّنة قبل أيّ طرح للتنوير الفلسفيّ، فهذا الطرح يجب أن يمهَّد له كي لا يصَدّ.
ثورة سياسيّة أم ثورة ثقافيّة؟ أيّ ثورة يجب أن تسبق الأخرى لنصل إلى التغيير المنشود؟ يقول كثر إنّ الثّورة السياسيّة هي بذرة التغيير الحقيقيّ في منطقتنا، لكنْ أعتقد أنّ حديثنا لم يعد نظريّاً، فالتغيير السياسيّ الذي اجتاح المنطقة في السنوات الأخيرة للأسف زاد شعوبنا تمزّقاً وفرقة وكراهية. تاريخيّاً، كلّ الثورات العالميّة الكبرى هي ثورات ثقافيّة بالأساس غيّرت بنية العقل المجتمعيّ أوّلاً قبل أيّ تغيير سياسيّ. النهضة الأوروبيّة مثلاً كانت نتاج الفكر الرشديّ وطبعاً الإرث الفلسفيّ الإغريقي. فقد كانت ثورة فكريّة علميّة عظيمة قادها كوبرنيكوس وديكارت وكانط وغيرهم. كذلك الثورة الفرنسيّة ارتكزت على فكر روسّو وفولتير وغيرهم حين هزّت أركان الكنيسة وانتفضت عليها. لكن للأسف حين قامت الثورات العربيّة لم تجد فكراً صلباً ترتكز عليه، حتّى إنّه لم تحصل ثورات ثقافيّة موازية للتخفيف من وطأة السقوط في بؤرة التطرّف الديني.
في الختام أريد أن أقول إنّ في اللاانتماء انتماءً للإنسانيّة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.