آرونداتي روي، كاتبة وروائيّة ومناضلة يساريّة هنديّة. ولدت العام ١٩٦١ لأب بنغاليّ يزرع الشاي وأمّ مسيحيّة سريانيّة من ولاية كيرالا. درست الهندسة المعماريّة وتقلّبت في عدّة وظائف قبل أن تتفرّغ للكتابة والصحافة والنّضال من أجل الحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة. عام ١٩٩٦ نشرت روايتها الأولى «إله الأشياء الصغيرة» التي لقيت إقبالاً عارماً وحازت عنها عدّة منح وجوائز منها جائزة بوكر للآداب العام ١٩٩٧.
روي المناضلة اليساريّة دافعت وتدافع عن حقّ أهالي كشمير في الاستقلال. وشاركت في قيادة حملة شعبيّة لمنع بناء سدّ نارمادا الذي اقتلع نصف مليون فلاح من أرضه، وتدعم الكفاح المسلّح الذي يخوضه الثّوار الماويّون (الناكزاليّون) ضدّ حكومات الولايات والحكومة الاتحاديّة في لا أقلّ من ٨٢ مقاطعة في تسع من ولايات الهند.
لم يقتصر نضال روي على الهند. عارضت الغزو الأميركيّ لأفغانستان والعراق، وكانت عضواً في المحكمة الدوليّة الخاصّة بجرائم الحرب الأميركيّة في العراق. مارست كافّة أشكال التّضامن مع الشعب الفلسطينيّ. وإبان العدوان الاسرائيليّ على لبنان العام ٢٠٠٦، وقّعت مع نوام تشومسكي وهاوارد زين وجون برجر وهارولد پنتر ومثقّفين عالميّين آخرين عريضة تتّهم إسرائيل بارتكاب «جرائم حرب» في لبنان وبممارسة «إرهاب دولة». بمثل نشاطها في الميادين كانت غزارة إنتاجها في الكتابة والمحاضرات والنّدوات وفي الإعلام المرئيّ والمسموع. خصّصت الكثير من كتاباتها والمقالات لنقد العولمة والنّيوليبراليّة الرأسماليّة. جسّدت روي قوى عولمة الشركات بما هي طراز جديد من الملوك تصفه على هذا النّحو: «قويّ، لا يرحم، مدجّج بالسّلاح. إنّه طراز من الملوك لم يعرفه العالم من قبل. مملكته رأس المال الخام، فتوحاته الأسواق الصّاعدة، صلواته الأرباح، حدوده بلا حدود، وأسلحته نوويّة».
كرّست روي الكثير من وقتها في السّنوات الأخيرة للتصدّي لصعود اليمين الشوفينيّ المتطرّف إلى السّلطة في الهند. صدرت كتاباتها ومقالاتها وأبحاثها في عدّة مجموعات أبرزها «كلفة الحياة» (١٩٩٩) «دليل الإنسان العاديّ إلى الأمبراطوريّة» (٢٠٠٤). في العام ٢٠١٠ لبّت دعوة الناكزاليّين إلى زيارة مناطقهم المحرّرة وكتبت «مسيرة مع الرّفاق» عن حركة مسلّحة يخوضها من سمّتهم «أفقر فقراء الهند» من فلّاحين بلا أرض وقبائل مهملة يعيشون على أراض غنيّة من الغابات والمعادن. ومن أواخر كُتبها «الرأسماليّة، حكاية أشباح» (٢٠١٤).
آرونداتي روي، التي صنّفتها مجلّة «تايم» الأميركيّة عام ٢٠١٤ بين المئة شخصيّة الأكثر نفوذاً في العالم، تواصل نضالاتها المتعدّدة وهي تنتظر صدور روايتها الثانية «وزارة السعادة الدائمة» في صيف هذا العام. ننشر في ما يلي المقابلة التي أجراها جوزيف كونفاڤرو مع آرونداتي روي ونشرت على موقع «ميديا بارت» الفرنسيّ في ١٣ تشرين الأول / أكتوبر ٢٠١٦ بإذن من الموقع ومن آرونداتي روي.
بدايات
آرونداتي روي، مؤلّفة رواية «الله الأشياء الصغيرة» ختمت، بعد عشرين سنة، رواية ثانية تصدر بالإنكليزيّة السنة المقبلة وبالفرنسيّة مطلع العام ٢٠١٨. في الانتظار تنشر مؤلَفين ينتميان إلى نضالاتها ضدّ القوميّين الهندوسيّين والرأسماليّة المتوحشّة.
الكتاب الأوّل «الرأسماليّة، حكاية أشباح» (غاليمار) كناية عن مجموعة مقالات مركّزة حول الاضطرابات في كشمير والطّريقة التي تعمل بها منظّمات المجتمع المدنيّ ومؤسّسات الإحسان، والمنح الدّراسيّة أو الخطابات الملطّفة حول التنوّع والفنّ، كوسائط للاستحواذ على الأراضي وتدمير المخيّلات، في هند يتوافق نموُّها الاقتصاديّ متسارع الوتيرة مع حقيقة أنّ «أكثر من ٨٠ بالمئة من السكّان يعيشون على أقلّ من نصف دولار باليوم».
في مواجهة ذلك، تروي آرونداتي روي عن نضالات تسعى إلى مقاومة تلك المحادل الماليّة والأيديولوجيّة. إذا كان التحليل قاتماً حول المصير الذي ينتظر الإنسانيّة بعدما أبادت طرائق تفكير مختلفة جذريّاً، من خلال إلغائها أنماط حياة معيّنة لتفرض أنماطاً أخرى بديلةً لها، لا تزال آرونداتي روي تطالب بما تسمّيه «الحقّ في الحلم داخل نظام قد حوّل جميع الأفراد إلى أموات أحياء مخدّرين إلى درجة أنّهم يماهون بين النّزعة الاستهلاكيّة الفائضة وبين السعادة والانشراح».
أمّا الكتاب الثّاني فعنوانه «ما الّذي يجب أن نحبّ؟»، الموقّع بالاشتراك مع الممثّل والمخرج جون كوزاك، هو ثمرة لقاء مع إدوارد سنودن ودانيال ألزبرغ، سَلَف «مطلقي الصفّارات» الّذي كان في أساس تسريب «وثائق البنتاغون» خلال حرب فيتنام. والكتاب تأمّلات في الوطنيّة خصوصاً، التي يقول ألزبرغ وسنودن إنّهما تصرّفا بدافع منها، فيما آرونداتي روي تذكّر بضرورة إعادة تعيين الأولويّات: «غابة عذراء، سلسلة جبال، أو واد يجري فيه نهر أهمّ، وبالتّالي أكثر استحقاقاً للحبّ، من أي بلد على الإطلاق. أنا قادرة على البكاء من أجل وادٍ يجري فيه نهر، وقد حصل لي ذلك. أمّا البكاء في سبيل بلد؟».
كتبتِ أنّ الهند باتت قوّة عظمى مثل سائر القوى العظمى، «تملك قنابل نوويّة ولامساواة فضائحيّة». العام ١٩٩٨، في كتابك «نهاية المخيّلة» أعلنت «إذا كان الاحتجاج ضدّ زرع قنبلة ذرّيّة في رأسي فعلاً معادياً للهندوسيّة ومنافياً للوطنيّة، إذذاك سوف أنفصل. في الانتظار، أعلنُ عن نفسي بنفسي جمهوريّة مستقلّة متنقّلة». بعد عشرين سنة تقريباً، أين أنت من علاقتك بالهند؟
في الهند، صار الخطاب القوميّ مروّعاً وقد بدأ ذلك مع بدء التجارب النوويّة. جميع الذين رفضوا الاحتفال بها بما هي علامة على عظمة الأمّة، اتّهموا بالخيانة. الفارق أنّ جميع الذين اتّهموا الأشخاص النادرين الذين لم يتعبّدوا لطقس القوّة النوويّة العظمى، هم الآن في مقاعد السلطة ومتخندقون في معتقداتهم اليمينيّة المتطرّفة. بالتّأكيد، المنطقة بعيدة عن الحالة السوريّة أو العراقيّة، لكنّ حكومة يرأسها [نارندرا] مودي، الذي ينفخ في جمر النّزاع مع كشمير، ويوتّر العلاقات مع باكستان، تدعو إلى القلق، لأنّنا نتحدّث عن قوى تملك قنابل نوويّة.
هل أنت شخصيّاّ مهدّدة من القوميّين الهندوس؟
تتصرّف الحكومة بتوكيل الجمهور التعبير عن غضبها نحو الأصوات المعارضة. هكذا قاد التنظيم النّسائيّ في «حزب الشعب الهنديّ» تظاهرة أمام منزلي تطالب باعتقالي. وفي نيسان/أبريل الماضي، نظّم طلّاب في جامعة نهرو ندوة نقاش عن شنق الكشميريّ أفظل غور، الذي كتبتُ عنه بعض النّصوص، فقامت مجموعات معيّنة بالاشتباك مع الطلاب فتساءل أحد الصحافيّين في محطّة تلفزيون إخباريّة «من يقف هو وراء كلّ هذا؟ لماذا [هذا المرأة] لا تزال تتمتّع بالحرّيّة؟». وسائل الإعلام المملوكة لكبريات الشركات تلزِمُ الأصواتَ المستقلّة بالصّمت والحكومة تكلّف الرقابة إلى جموع غاضبة.
كيف تفسّرين أنّ النّموّ الاقتصاديّ المتسارع للهند أدّى إلى حالة نلقى فيها أغنى مئة رجل في البلد يملكون ما يوازي ربع الدخل الأهليّ؟ لماذا نظريّة «التسرّب إلى أسفل»، التي تقول بأنّ النّموّ يسمح للثروة بأن «تتسرّب» نحو الطّبقات المحرومة، تبيّن أنّها نظريّة خاطئة، وشهدنا، بالعكس من ذلك، عمليّة «نوفرة» إلى أعلى حيث تتركّز الثّروات على حساب الطبقات الفقيرة؟
يحدث هذا في كلّ أنحاء العالم. واسمه «الرأسماليّة» ولا حاجة إلى أن يمتلك المرء شهادة عليا في الاقتصاد لفهم ذلك. لكن في الهند، هذه الظاهرة مضاعفة لأنّ النّموّ في الهند، على عكس النموّ الصينيّ الّذي تمّ عن طريق الإنتاج وتصدير السلع المصنّعة، قائم كليّاً على استخراج الموارد والمعادن. تاريخيّاً، استعمر البريطانيّون والفرنسيّون العالم من أجل استخراج الموارد الثمينة. اليوم، في الهند، توجد نخبة تستعمر بلدها ذاته. إلى هذا، الرأسماليّة الهنديّة ذات خصوصيّة في أنّ الشركات الكبرى، مثل شركة «تاتا»، تغطّي كلّ مناحي الحياة، من التنجيم إلى الصّحافة وصولاً إلى التّعليم أو مستحضرات التّجميل! النّظام لا يلفظ الفقراء وحدهم، يهمشّ أيضاً التّجار أو المزارعين الصّغار أيضاً، وهم الفئة التي تشهد أعلى معدّلات انتحار، كلّ هذا في حين أنّ الهند باتت تتمتّع باقتصاد قويّ جدّاً.
بأيّ معنى يمكن القول إنّ الرأسماليّة «قصّة أشباح» كما وصفتها؟
إنّي أستشهد بنصّ لماركس قيّم فيه الرأسماليّة على أنّها «أطلقتْ وسائلَ إنتاج وتبادل جبّارة إلى درجة أنّها باتت تشبه الساحرَ الذي لم يعد يستطيع السيطرة على القوى الجهنّميّة الّتي استدعاها». المصانع مقفلة، الوظائف اختفت، النّقابات تبخّرت. جرى تحريض الأشخاص الذين كانوا يشكّلون البروليتاريا بعضهم على بعض: هندوسيّين ضدّ مسلمين، منبوذين ضدّ منبوذين، مناطق ضدّ مناطق، إلخ. لكنّ الرأسماليّة تحوّلت إلى ديانة لا منطق لها. لقد أطلقت هسيتيريا جماعيّة. لكنّنا ندري أنّ الاستمرار بالعيش على هذا النّحو سوف يجرّ العالم والإنسانيّة إلى نهايتهما. إنّنا ندرك ذلك. لكنّ الإدراك لا يكفي لتغيير مجرى الأمور.
لماذا تحكمين على الصّيغتيَن القديمتين اللتين سمحتا للرأسماليّة بتخطّي أزماتها السابقة، أقصد «الحرب والتسوّق»، والتعبير لك، «لم تعد فعّالة بكلّ بساطة»؟ إنّ قوّة الرأسماليّة تكمن في طاقتها على الإبداع والتكيّف.
بلى إنّها مبدعة. يكفي أن نرى إلى أيّ حدّ هي مبدعة، فيما يُفترض أنّ الرأسماليّة قائمة على مبدأ المنافسة، بينما الشيوعيّة مبنيّة على الوحدة، ها هم الرأسماليّون يتوحّدون، فيما الشيوعيّون منقسمون شرّ انقسام وعاجزون عن الاتّفاق فيما بينهم. لكنّنا في وضع حيث سرعة تداول المال ورأس المال تغيّر من معطيات المدارك الإنسانيّة وتفسد أرواحنا بطريقة لسنا قادرين بعد على اكتناهها كليّاً. إنّنا أبناء الجنس البشريّ نواجه مشكلة كبيرة.
لديك كلمات قاسية جدّاً ضدّ جمعيّات الإحسان والمنظّمات غير الحكوميّة. لماذا؟
المؤكّد أنّ بعض المنظّمات غير الحكوميّة تمارس عملاً ممتازاً، لكنّ «أنجزة» كلّ شيء، التي تحصل بسبب التمويلات «الإحسانية» (الفيلانثروبية) التي تقدّمها بعض الشركات، مثيرة للشّكوك. فيما تنسحب الحكومات من التعليم والصحّة، ومعظم المجالات التي كانت تعتبر حقوقاً غير قابلة للتصرّف، بات المطلوب الآن اللجوء إلى الإحسان ونشاطات المنظّمات غير الحكوميّة. هذه أوهام.
ثمّة مشكلة أخرى بالنّسبة إلى المنظّمات غير الحكوميّة ترتبط بكونها تصف العالم بطريقة معيّنة. خذ المنظّمات غير الحكوميّة النسويّة مثلاً. إنّها مهمّة للنّضال ضدّ التّشويهات الجنسيّة أو مختلف أنواع التّنميط [ضدّ النّساء]. لكنّ نضال النساء في شاتيسغار ضدّ احتلال أراضيهنّ أو نضال النّساء في أوريسا ضدّ بناء سدّ، لا تُعدّ نضالات نسائيّة تستحقّ التّمويل. إنّ نضال النّساء ضدّ الأجندة الأمبرياليّة والرأسماليّة لم يكن مرّة معتبراً نضالاً نسائيّاً يستحقّ الدّعم. ما تموّله المنظّمات غير الحكوميّة ليس سيّئاً بذاته، لكنْ يجب علينا النّظر إلى ما لا يحظى بالتمويل بالقياس إلى ما يموَّل.
إنّ مؤسّسات مثل روكفلر وكارنيغي الّتي تحقّق أرباحاً فلكيّة، دأبت، مطلع القرن العشرين، على أن تحسم نسبة مئويّة صغيرة من تلك الأرباح من أجل الأعمال الفيلانثروبيّة وتأمين سيطرة أكثر توارياً وتوريةً على عمليّات صياغة السياسات التي تخدمها. انظروا إلى الطريقة التي تموّل بها المؤسسات الكبرى غيتس، فورد، كارنيغي، روكفلر في صناعة التّعليم وكيف حوّلوا فكرة التّربية ذاتها.
في الولايات المتّحدة جامعات ممتازة، تمارس التنوّع الحقيقيّ من حيث التّوظيف، وتستحوذ على إعجاب نخب العالم الثّالث إذ تشهر هذا التنوّع علَماً لها. لكنْ في تلك الأمكنة، لا توضع أشكال اللامساواة موضع تساؤل عميق، ولا طرائق تشغيل الرأسماليّة، ولا الحروب الطبقيّة. إنّه نمط كامل من التلقين العقائديّ، لأنّه ليس في الأمر عضو في الـ«كا جي بي» يأتي لاعتقالك تحت التّهديد بالسّلاح لإرسالك إلى معسكر إعادة تأهيل. لقد تخرّج من صفوف كبريات الجامعات البريطانيّة أو الأميركيّة باحثون وجامعيّون مرموقون، لكنْ منها أيضاً تخرَّجَ رؤساء حكومات، ووزراء ماليّة واقتصاديّون ومصرفيّون أسهموا في فتح اقتصاديّات بلدانهم للشّركات العابرة للقوميّات.
إنّنا ننكر، أو نتجاهل، جميع الذين واللواتي يطرحون أسئلة محرجة، وهكذا يجري التحكّم بأنماط التفكير. لقد جرى إخفاء مروحة كاملة من إمكانيّات تخيّلنا لعالم مختلف. الطريقة الّتي بها أبيد أناس يحملون مخيّلات مختلفة مثل شعوب وديان شهاتيسغار أو أوريسا كارثية. فكّروا في التخلّص من الماضي لكنّهم قضوا في الواقع على المستقبل.
ما هي الأمثلة الّتي لدينا على تعطيل الاحتجاجات الراديكاليّة عن طريق تمويل المؤسّسات؟
تجلّى ذلك خلال حركة الحقوق المدنيّة في الولايات المتّحدة، حيث تولّت مؤسّسات فورد وروكفلر تمويل مؤسّسات «السّود» «المعتدلة» بالمنح الدراسيّة والمساعدات أو ورش التّدريب. سبق ذلك في أفريقيا الجنوبيّة، أن قرّرت المؤسّسات الأميركيّة تمويل «المؤتمر الوطنيّ الأفريقي» من أجل مواجهة نفوذ الاتحاد السوفييتي داخله، ما مكّنها من أن تقضي على منظّمات أكثر راديكاليّة مثل «الوعي الأسود» و«حركة ستيف بيكو».
وعندما انتُخب نلسون مانديلّا أوّل رئيس لجمهوريّة أفريقيا الجنوبيّة، انصاع كليّاً لتوافق واشنطن ومحا كلّ ما يتعلّق بالاشتراكيّة في برنامج «المؤتمر الوطنيّ الأفريقي». بل إنّه كرّم الجنرال الإندونيسيّ سوهارتو، الذي قتل الألوف من الشيوعيّين في إندونيسيا، بتقليده أرفع وسام جنوب أفريقيّ. والآن يحكم جنوب أفريقيا مناضلون سابقون يتنقّلون في سيّارات مرسيدس، على أنّ هذا كافٍ للحفاظ على أسطورة تحرّر الشعوب السّوداء.
في الهند، مضت فترة خمسين سنة بين تصفية الاستعمار واعتماد لنيوليبراليّة الرأسماليّة، التي هي شكل من أشكال استعمار النّخب لبلدانها ذاتها. في أفريقيا لم يكن من مرحلة انتقال بين شكلَي السيطرة. لا يمكن أن تقوم الثّورة بتمويل من المنظّمات غير الحكوميّة أو مؤسّسات صاحبة المصلحة في الحفاظ على الأمر الواقع والتي تتكيّف بسهولة مع مقاومات مروّضة ومدجّنة.
انتِ قاسية أيضاً ضدّ سياسات تطبّق باسم حقوق الإنسان. لماذا؟
مهمٌّ أن يبقى المرء حريصاً على التلاوين في هذه المسألة. لست أقول إنّ حقوق الإنسان تشكّل سياسة سيّئة، والعديد من أقرب أصدقائي ناشطون في مجال حقوق الإنسان. لكنّني أقول إنّ هذا لا يكفي. في حين ينبغي أن تشكّل حقوق الإنسان الحدّ الأدنى من الحقوق، صارت الأمر الوحيد الذي يحقّ لنا المطالبة به. إنّ الرأسماليّة قد اختزلت فكرة العدالة بهذه الحقوق وحدها، في حين أنّ الحلم بالمساواة صار من قبيل الكفر. مع ذلك، فحقوق الإنسان قابلة لأن تشكّل حاجزاً أمام مخيّلتنا السياسيّة. وكذلك الأمر، فإنّ التركيز الضيّق على هذه الفكرة، وحصر الاهتمام بأعمال العنف والمجازر فقط، ينتهي إلى تجريم طرفَي النّزاع، أكانوا الماويّين والحكومة الهندية، أم الجيش الإسرائيليّ وحركة حماس. في الهند، في ولايات كشمير وأوريسا وشاهتيسغار، حركات مقاومة ليست من أتباع غاندي، بل هي مسلّحة، لأنّه ليس من خيار آخر للنّضال ضدّ الاستيلاء على موارد تلك المناطق. ومع أنّ مطالب هؤلاء عادلة إلّا أنّها لا تحظى بتأييد الطبقة الوسطى لأنّها تختزلها بـ«عنف» يزعمون أنّه يتعارض مع حقوق الإنسان.
كيف يمكن أن يتصرّف المرء إزاء ذلك؟
لا ينبغي تصوير الأمر وكأنّ شيئاً لم يتحقّق في هذا المجال. خِيضت معارك. ونجح فقراء في أن يمنعوا شركات تعدين كبرى عن العمل. تحقّقت انتصارات، لكنّها لا تصل إلى أجهزة الإعلام وليس مَن يحتفل بها.
هل تعرّفين نفسك بأنّك شيوعيّة؟
لا. لكنّني أعتقد أنّ الطّبقات الاجتماعيّة معطىً أساسيّ لفهم طريقة تشغيل العالم وتحليله بطريقة سليمة. عدم التفكير بناءً على الطّبقات أشبه بأن يكون المرء بلا هيكل عظميّ أو عظام. ولكنّني أعتقد أيضاً أنّ قصْر التّفكير بناءّ على الطّبقات فقط، كما يفعل بعض الشيوعيّين، أشبه بأن يكون المرء هيكلّا عظميّاً بلا جسد.
ممّ تتكوّن هذه «المخيّلة الجديدة» التي تكتبين عنها؟ هل لك أن تصفيها لنا؟
نعم، نستطيع وصفها. ولكن ليس ببضع عبارات. هذا ما أحاوله في روايتي الجديدة وأنا قاب قوسين من إتمامها.
تكتبين: «لعلّ الوقت قد حان لنستعيد الليل» ما معنى هذا المشروع؟
العبارة اشارة إلى بناية ضخمة لانينيليا، قرب بومباي، يملكها أغنى أغنياء الهند، موكيش آمباني. البناء مكوّن من أغلى مساكن بنيَت على الإطلاق، له ٢٧ طبقة وثلاث منصّات لطائرات الهليكوبتر وست طبقات من مرائب السيارات و٦٠٠ من الخدم. يشتكي الجيران أنّ هذا المسخ قد سرق منهم الليل بكلّ ما فيه من أضواء مُعمية. غير أنّ استعادة الليل هي أيضاً مطلب نسويّ قديم ويندرج في الاستعادة الضروريّة لكلّ عناصر الطبيعة الّتي يمارس عليها العنف، أكان الهواء أم الماء.
هل تعتقدين أنّ اقتراحك إلغاء الإرث اقتراح واقعيّ؟
لا يقتصر الإرث على الممتلكات الماليّة والماديّة. عندما تراقب انتشار نظام النّبذ في الهند يتكشّف لك إلى أيّ مدى يشكّل الإرث مسألة موقع وجاه وحقوق. إذا كنّا نريد تغيير الأمور، يبدو لي أنّ من المهمّ البدء بالتفكير بطريقة لا تديم الامتيازات والمكتسبات.
ما الّذي تعنينه بـ«حروب نمط الحياة» في الكتاب الذي خصّصته لمقابلتك مع إدوارد سنودن برفقة دانيال ألزبرغ، وهو «مطلق إنذارات» آخر مسؤول عن تسريب «وثائق البنتاغون» إبّان حرب فيتنام؟
ان نمط الحياة الأميركيّ صار نمط الحياة الأوروبيّ ونمط حياة النّخبة الهنديّة. كان سنودُن وألزبرغ على حقّ إذ أدانا وحشيّة الحرب في فيتنام والرّقابة التي تمارسها وكالة الأمن القوميّ الأميركيّة. لكنْ تبقى الحاجة إلى معرفة لماذا تخوض الولايات المتّحدة تلك الحروب، في الأمس كما اليوم. والسّبب الأبرز هو السيطرة على الموارد والرغبة في الإفادة منها بأسرع وقت ممكن. وهذا يتطلّب التّبشير بنوع معيّن من الحياة، مبنيّ على شهيّة الاستهلاك اللامتناهي والمنفلت من كلّ عقال.
إنّ إدوارد بيرناي، ابن شقيقة فرويد، هو من أوائل من غيّروا طريقة بيع السلَع، ليس بالإصرار على الحاجة إلى الاستحواذ على هذه السلعة أو تلك، وإنّما بالنّجاح في غرس الاعتقاد بأنّ هذا المنتوج او ذلك يسهم في شخصيّتكم ذاتها وفي انشراحكم الشخصيّ. إنّ هذا التّخييل عن استهلاك لا متناهٍ، تلك الفكرة عن سعادة تمرّ عبر امتلاك المزيد والمزيد من الأشياء، والاعتقاد بأنّ الحضارة والرأسماليّة متماثلان هذه كلّها تحتاج إلى إعادة نظر وإعادة تساؤل بشأنها إذا كنّا نريد فرصة للبقاء على قيد الحياة. لكنّني لست مقتنعة بأنّ الإنسانيّة تريد أن تبقى على قيد الحياة.
في ذلك اللقاء مع إدوارد سنودُن ودانيال ألزبرغ، نشعر بأنّك لا تزالين متردّدة بشأن الدّوافع الوطنيّة لفعلهما. يقولان إنّ ما دفعهما للفعل هو اعتقادهما بفكرة ما عن أميركا، «خانتها» حرب فيتنام أو الرّقابة التي مارستْها وكالة الأمن القوميّة. إنّك ترفضين الشوفينيّة منذ وقت طويل، لكن إذا كانت هذه قد تسبّبت في عدد من الحروب، فإنّ البشر لم ينتظروا الأمم الدول من أجل أن يتحاربوا فيما بينهم؟
لست أقول إنّه لا حاجة إلى وجود بلدان أو أمم. لكنّني أقول لا حاجة إلى أن يُمحضوا سلطة باطنية كما هو الحال في فرنسا أو الهند، حيث يعتقد كثيرون أنّ بلده يجسّد التفوّق الثقافيّ أو الحضاريّ. هذا كلام فارغ. يجب إراحة الأعصاب بعض الشيء.
كيف تفسرين فشل الكتّاب والفنّانين في تقديم تخييل أقلّ إجراماً من تخييل الإعلام؟
اعتاد الفنّانون والكتّاب الرّضوخ لمتطلّبات السوق، حتّى وهم يوحون وكأنّهم يُجرون التّجارب، لأنّ المتوقّع منهم هو أن يُجروا التجارب، ولكن ضمن حدود معيّنة. عندما كتبت روايتي «إله الأشياء الصغيرة» لقيت استقبالاّ إيجابيّاً، وشعرت بأنّ المطلوب منّي أن أنشر، بعد عامين، رواية أخرى، إلى ما هنالك. ولكن لو أردت تحقيق تلك الرّغبات، لما كنت استطعت المشاركة في أيّ من النّضالات التي شاركت فيها ولا أن أكتب الأبحاث والمقالات التي كتبت. عندما نشرت «نهاية المخيّلة» بديلاً من نشر رواية جديدة، اغتاظ الذين احتفلوا بروايتي الأولى وكرهوني.
إنّ مخيّلة الاستهلاك اللامتناهي قد اخترقت العالم الفنّي وإنّنا شهود على «غسيل ثقافي» على غرار ما شهدناه مع «الغسيل الأخضر». إنّ أكبر مهرجان للأدب في العالم يجري اليوم في جيابور، بالهند. إليه يتدفّق النّاس من كلّ أنحاء العالم، ناشرين ومثقّفين. وفيه يجري الحديث عن حرّيّة التعبير وحرّيّة الفنّ، فيما الأشخاص الذين يموّلون المهرجان يبيدون سكّان الغابات ويدعمون حكومة ترى إلى مجرّد أنْ لا تكون هندوسيّاً أو قوميّاً هو جريمة من الجرائم. تموّل شركات التنجيم مهرجانات السينما أو الأدب، يشارك فيها أناس رائعون يتحدّثون بطريقة مهذّبة عن حرّيّة التعبير فيما المموّلون يدمّرون العالم.
في هذه الحالة، ما الذي يترتّب علينا أن نفعل؟ أن نحبّ، على حدّ تعبيرك في كتابك؟
ينبغي التفكير. وإنّي أفكّر كثيراً، ولذلك لم أنهِ بعدُ كتابة روايتي الجديدة حول هذا الموضوع. لكنّني أعتقد أنّنا يجب أن نقطع مع الاعتقاد الذي يقول بأنّ الكائن البشريّ عليه أن يكون في مركز العالم ومع كلّ السرديّات التي تخترق ذلك الاعتقاد.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.