العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

ماذا حلّ بالربيع العربيّ؟

النسخة الورقية

في ١٧ كانون الأول/ديسمبر، أطلقت شرارةُ تونس موجةً ثوريّةً في العالم العربيّ. احتلّ ملايين الناس الشوارع يطالبون بالكرامة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. وملأت شوارع تونس، مصر، ليبيا، البحرين، اليمن، وسورية تحرّكات جماهيريّة على نطاقٍ غير مسبوقٍ في التاريخ الحديث، وبدّلت الديناميّات الاجتماعيّة والسياسيّة على امتداد المنطقة بكاملها. وقد أصبحت سياسةُ الأمل ممكنةً، لكن، بعد مرور خمس سنواتٍ على الثورات، ها إنّ قوى الثورة المضادّة المتشكّلة من الأنظمة السابقة وقوى التطرّف الإسلاميّ قد استعادت المبادرة السياسيّة، وهي اليوم تتصارع بعنفٍ على السلطة، فترزح مصر تحت ديكتاتوريّةٍ أسوأ من تلك التي كانت قائمة قبل الثورة، بينما نجد حروباً أهليّة قد اندلعت في سورية وليبيا واليمن. مئات الآلاف قُتلوا، ونزح الملايين.

كيف يمكن تقييم هذا الوضع؟ ما هي أبرز ملامحه وإمكانيّاته؟

لـمجلة «جاكوبين»، بحثت ندى متّى عن إجابات على هذه الأسئلة لدى جلبير الأشقر، أحد أبرز محلّلي المنطقة العربيّة في العالم.

جلبير الأشقر هو بروفسور في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة في جامعة لندن. وسوف يصدر كتابه الجديد، انتكاسة الانتفاضة العربية. أعراضٌ مَرَضيّة، في الربيع.

 

. لمّا انطلقت الانتفاضة العربيّة، أشرتَ ومنذ البداية إلى أنها ستكون سيرورة طويلة الأمد من النضال، تتخلّلها فترات النجاح والنكوص. ما هو تقييمك العام اليوم، بعد خمس سنواتٍ من الثورة؟

. لتوضيح أطر النقاش، لا بدّ من التذكير بأنّ القراءة التي سادت في البداية، خصوصاً في الإعلام الغربيّ، أفادت بأنّ المنطقة العربيّة تدخل مرحلةً من الانتقالات نحو الديمقراطيّة، قد تستغرق أسابيع أو أشهراً في كلّ بلدٍ وتستمرّ سلميّةً نسبيّاً، تبشّر بعصرٍ إقليميٍّ جديدٍ من الديمقراطيّة الانتخابيّة.

تبعاً لهذه القراءة، تكون تونس قد أنجزت فعلياً انتقالها مع سقوط بن علي، ومصر مع سقوط مبارك. كان هناك اقتناعٌ بأنّ النمط ذاته سينتشر في معظم دول المنطقة على طريقة لعبة الدومينو، بشكلٍ مشابهٍ لما شهدته أوروبا الشرقيّة في فترة ١٩٨٩-١٩٩١. وقد تلخّصت هذه الرؤية بوسم «الربيع العربيّ» الذي حقّق انتشاراً سريعاً.

وهي رؤيةٌ استندت إلى تصوّر يفيد بأن «الربيع» أتى نتيجة تحوّلٍ ثقافيّ وسياسيّ حمله جيلٌ جديدٌ متّصلٌ بالثقافة العالميّة بفضل تقنيّات المعلومات والتواصل الجديدة. تبعاً لهذا التصوّر، كانت الانتفاضات أساساً، إن لم يكن حصريّاً، صراعاً من أجل الحريّة السياسيّة والديمقراطيّة.

بالطبع، ليست هذه الرؤية خارجة تماماً عن السياق. فالأبعاد المذكورة هي حكماً سمةٌ بارزةٌ في الثورة. ولكن، النقطة المحوريّة التي شدّدت عليها منذ البداية هي أنّ الجذور العميقة للانتفاضات في المنطقة جذورٌ اجتماعيّةٌ واقتصاديّةٌ، قبل أن تكون سياسيّةً. ما جرى كان انفجاراً اجتماعيّاً في المقام الأول، حتى ولو اتّخذ طابعاً سياسيّاً كحال أيّ انفجارٍ اجتماعيٍّ واسع النطاق.

فالخلفيّة الاجتماعيّة للحراك الإقليميّ يؤكّدها كونه بدأ من بلدين شهدا أبرز التراكمات في الصراعات الاجتماعيّة، أي الصراعات الطبقيّة، خلال السنوات السابقة له: تونس ومصر. ولم تكن شعارات الثورة بحدّ ذاتها سياسيّة، فلم تقتصر على الديمقراطيّة والحريّة فحسب، وإنّما شملت بوضوحٍ المطالب الاجتماعيّة.

من هذه الزاوية، يمكن قراءة الثورة في المنطقة بأدواتٍ تحليليّة ماركسيّة كحالةٍ كلاسيكيّة في الثورة الاجتماعيّة ناتجةً من انسدادٍ مزمنٍ في آفاق التنمية ميّز المنطقة الناطقة بالعربيّة لثلاثة عقودٍ، بمعدّلات نموّ منخفضة بامتياز أفضت إلى معدّلات بطالةٍ مرتفعة بامتياز، لاسيّما بين الشباب.

كنتُ على استعدادٍ خاصّ لقراءة الأمور من هذه الزاوية لأنّني كنت أدرّس صفّاً جامعيّاً عن «مشاكل التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» على مدى سنواتٍ عديدة قبل الثورة. كان من الواضح بالنسبة إليّ أنّ انسداد التنمية في المنطقة سيؤدّي عاجلاً أم آجلاً إلى انفجارٍ اجتماعيٍّ كبير.

ولذلك وصّفتُ باكراً ما بدأ في تونس في ١٧ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٠، ثم انتشر في عموم المنطقة، كبداية سيرورة ثوريّة طويلة الأمد. بذلك، كنت أحيل إلى سيروراتٍ تاريخيّةٍ للثورة لا تكتمل خلال أسابيع وأشهر، وإنما خلال سنوات وعقود. وقد دشّنت الانتفاضات مرحلةً طويلة الأمد من انعدام الاستقرار الإقليميّ ستمرّ حتماً بفترات صعودٍ وهبوطٍ، فوراتٍ ثوريّة وانتكاساتٍ مضادّة للثورة، تنطوي أيضاً على الكثير من العنف.

في البداية، بدوتُ متشائماً لأنّني كنت أطلب من الناس أن يهدأوا من حالة الابتهاج الجماعيّ التي تملّكتهم، مشدّداً على أن الأمورَ ما زالت في بداياتها، وأنّ ما هو على المحكّ بالغ التعقيد والصعوبة، سيستلزم وقتاً طويلاً، ولن يبقى سلميّاً. كما أنّي شدّدت منذ اللحظات الأولى على أنّ السيناريوهين التونسيّ والمصريّ لجهة الإسقاط السلميّ نسبيّاً للحاكمَين لا يمكن تكرارهما في بلدانٍ مثل ليبيا وسورية، أو في الملكيّات: قلتُ ذلك قبل أن تندلع الثورة في أيٍّ من البلدَين الأخيرين.

أما الآن، فقد أبدو متفائلاً عندما أؤكّد أن السيرورة الثوريّة بعيدةٌ عن انتهائها وأدعو الناس إلى نفض الوجوم المطبق عليهم. صحيحٌ أن الوضع يبدو كارثيّاً وفاجعاً في عدّة بلدان: على رأسها، طبعاً، سورية حيث تجري راهناً مأساةٌ هائلة، ولكن أيضاً في اليمن وليبيا ومصر. إلّا أنّ ذلك، رغم كلّ شيء، ليس النهاية. لن يحلّ الاستقرار في المنطقة على المدى الطويل إلّا بحدوث تغييرٍ اجتماعيّ وسياسيّ جذريّ.

ليس حدوثُ تغييرٍ كهذا بأمرٍ حتميٍّ بالتأكيد. ولا ينبع موقفي من التفاؤل، وإنما من إدراك ديناميّات الأزمة من منظورٍ تاريخيّ، والإصرار على أنّ الأمل ما زال مشروعاً. والحال أنّ التنبؤ الوحيد الذي يمكن للمرء أن يجزم به إنّما هو أنّ المنطقة ستبقى محكومةً بالمزيد من الكوارث كتلك التي رأيناها تنكشّف خلال السنتين الأخيرتين بشكلٍ خاص، طالما لم تتبلور شروطٌ سياسيّة ذاتيّة لتغييرٍ اجتماعيّ وسياسيّ مع بروز قوى سياسيّة منظّمة ترفع راية التغيير التقدّمي.

. هل لك أن تصف الأسباب الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تقف خلف الانتفاضات؟ ما هو ذلك الانسداد في آفاق التنمية الذي قاد إلى الثورة؟

. لقد حلّلتُ ذلك تفصيلاً في الفصلين الأوّلين من كتابي «الشعب يريد». لأوجز، فلو نظرتِ إلى معدّلات النموّ الاقتصاديّ في المنطقة الناطقة بالعربيّة بالمقارنة مع كافة المناطق الأخرى من أفريقيا وآسيا، لن يفوتك تدنّيها الكبير. وقد كانت معدّلات نموّ الناتج المحليّ الإجماليّ، خصوصاً نموّ الناتج المحليّ الإجماليّ للفرد، متدنيّة جداً.

يعني ذلك أن الاقتصادات كانت قد صارت عاجزةً عن خلق وظائف تناسب النمو السكّانيّ، الأمر الذي يتسبّب بنسب بطالةٍ هائلة، خصوصاً بطالتَي الشباب والنساء. وقد سجّلت المنطقة الناطقة بالعربيّة أعلى معدّلات البطالة في العالم خلال العقود الأخيرة.

وقد أنتج هذا الانسداد الاقتصاديّ المزمن تبعاتٍ اجتماعيّة متفجّرة: لا تتجلّى فقط في البطالة الشاسعة، وإنّما أيضاً في جملة من القضايا الاجتماعيّة والتفاوتات المحليّة والإقليميّة الضخمة. فإنّ التجاور ما بين مظاهر الثراء الفاحش والفقر المدقع قد خلق إحباطاتٍ ضخمة. وتفاقمت هذه المشكلة كثيراً منذ الطفرة النفطيّة في السبعينيّات. وكما أردّد دائماً، فإن السؤال الحقيقيّ في العام ٢٠١١ لم يكن عن سبب حدوث الانفجار بقدر ما كان عن سبب تأخّره في الحدوث، نظراً لتفاقم التراكمات القابلة للانفجار.

أمّا سبب هذا الانسداد الاقتصاديّ فيكمن في آثار النيوليبراليّة في السياق العربيّ. والحال أنّ الدول العربيّة، مثلها مثل معظم بلدان العالم، بدأت باعتناق النموذج النيوليبراليّ في السبعينيّات. وقاد ذلك إلى تقليصٍ تدريجيّ لنفقات الدولة في الاقتصاد. فبحسب العقيدة النيوليبراليّة، كان ينبغي أن يتمّ تعويض انحسار استثمارات الدولة من قِبَل قطاعٍ خاصّ مُنحت له حوافز عدّة.

وقد نجح هذا النموذج من نموّ يقوده القطاع الخاصّ في بعض البلدان ذات شروطٍ ملائمة، كما كانت الحال في التشيلي أو تركيا أو الهند، ولو بكلفةٍ اجتماعيّة عالية. إلّا أنّه ما كان لينجح في المنطقة العربيّة ــ بسبب طبيعة الدولة.

فإنّ الغالبية العظمى من الدول العربيّة تجمع ما بين سِمَتين: هي دولٌ ريعيّة، أي دول تُشكّل فيها الريوع (من الموارد الطبيعيّة أو الوظائف الإستراتيجيّة) جزءاً كبيراً من مدخول الدولة، وهي دولٌ تتموضع على سُلَّمٍ يتراوح ما بين «الدولة الميراثيّة» و«النيو ميراثيّة»، والخاصيّة العربيّة الأبرز هي وجودُ لبّ دولٍ «ميراثية» بشكل كامل، أي دول «تمتلكها» عملياً جماعةٌ حاكمة، على عكس «الدولة الحديثة» حيث لا يتعدّى أعضاء الطاقم الحاكم صفة الموظّفين لدى الدولة. هذه السمات جمعاء هي التي قادت لما سمّيته «هيمنة التحديد السياسيّ لتوجّهات النشاط الاقتصاديّ».

إذا أضفتِ إلى ذلك الأوضاع السياسيّة الإقليميّة من نزاع وانعدام استقرار حادّ، تفهمين أنّه لم يكن ممكناً بأيّ شكل من الأشكال أن يصبح القطاع الخاص محرّكاً لمعجزاتٍ اقتصاديّة مثلما أراد النيوليبراليّون أن يؤمنوا، فبقي الاستثمار الخاصّ محدوداً، قائماً على المضاربة في معظمه وموجَّهاً نحو الربح السريع. ولم يعوّض القطاع الخاص عن أفول استثمارات القطاع العام وركودها، ففشل النموذج النيوليبراليّ على نحوٍ بائس في المنطقة العربيّة.

يشير ذلك كلّه إلى حقيقة أن الثورة أتت نتيجة أزمةٍ بنيويّةٍ، وليست عرضيّةً أو دوريّةً، وأنها ليست سيرورة انتقال إلى الديمقراطيّة، تأتي لتتوّج مرحلةً طويلةً من التنمية، كما حدث في بعض البلدان «الناشئة»، وإنما هي نتيجة انسدادٍ مزمن. أما الخلاصة المنطقيّة فهي أنّ بلدان المنطقة تحتاج إلى تغييرٍ جذريّ يطاول بنيتها الاجتماعيّة ــ السياسيّة من أجل تذليل الانسداد.

وأما إزالة رأس جبل الجليد، كإزالة بن علي أو مبارك وحاشيتيهما، فلم يكن بوسعها أن تنهي الاضطرابات. من هنا أتى تركيزي منذ البداية على الأمد طويل، وعلى «السيرورة الثوريّة» كمفهومٍ يتميّز عن «الثورة» التي ظنّ الكثيرون أنها انتهت مع سقوط المستبدّ.

. كيف تمّت ترجمة الصعوبات الاقتصاديّة والتحدّيات التنمويّة في حركاتٍ واسعة النطاق تنشد التغيير، كالانتفاضات؟ هل هو مستوى الصعوبات، كالبطالة مثلاً، الذي صنع الفرق؟ الحجّة المضادّة لذلك تقول إنّ الصعوبات الاقتصاديّة والتحدّيات التنمويّة موجودةٌ في العالم العربيّ وبلدانٍ أخرى منذ فتراتٍ طويلة، ومع ذلك لم تقُد إلى ثورات.

. ليست هذه حجّة مضادة حقّاً لأننا نوصّف هنا انسداداً تفاقمت حاله على مدى ثلاثة عقود. هذا يؤدّي إلى آثارٍ تراكميّة، أحدها ازدياد كتلة البطالة. لم يكن معدّل البطالة مستقرّاً خلال هذه الفترة، بل ازداد حتى بلغ مستوىً مرتفعاً جداً بعد عددٍ من السنوات. وعند نقطةٍ معيّنة، يميل الأثر الاجتماعيّ التراكميّ للانسداد الاقتصاديّ إلى إحداث انفجارٍ في الأنظمة المقفلة بإحكام. هذا من ناحية.

من الناحية الأخرى، هناك أيضاً عددٌ من العوامل السياسيّة تدخّلت في تحديد الانفجار. وقد استعرْتُ من المفكّر الماركسيّ لويس ألتوسير مفهوم «التحديد التضافريّ» مطبّقاً على الأحداث التاريخيّة. فالانفجار لدينا كان ناتجاً من تحديدات متضافرة بمعنى أن عدداً من العوامل السياسيّة تدخّلت فيه لتنضاف إلى العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة البنيويّة.

أحد هذه العوامل، على سبيل المثال، يتمثّل في أثر الحروب الإمبرياليّة في المنطقة لجهة زعزعة الاستقرار، وبالأخص احتلال العراق. هذه العوامل المتنوّعة التقت لتنتج انفجاراً ثورياً عظيماً.

ولكن، ليس لكلٍّ منها الثقل ذاته: العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة هي الأكثر أهميّةً، إلّا أنّ تضافر العوامل كافة أتى متفجّراً على نحوٍ خاصّ.

. أيّ جماعاتٍ اجتماعيّة أدّت دوراً في تنظيم هذه الثورات؟ هل أتى المنظّمون من خلفيّةٍ طبقيّةٍ معيّنة ولماذا؟ هل وُجِدت اختلافاتٌ بين البلدان العربيّة؟

. وُجِدت اختلافاتٌ، بالطبع، ولكن توجد أيضاً بعض السمات المشتركة في هذا الصدد. دَعِني أبدأ بالأخيرة. صوّر الإعلامُ الحركةَ بوصفها تُقاد من قبل مجموعةٍ من الشباب البارعين في استخدام الإنترنت، والذين شكّلوا شبكاتٍ في ما بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّة، حتى أنه أُطلق على الانتفاضات اسم «ثورات الفيس بوك».

هنا أيضاً، ليس هذا بالخاطئ تماماً، لكنّه جانبٌ واحدٌ فقط من الحقيقة. فقد كان هناك فعلاً بين منظّمي الانتفاضات شبّان متّصلون ببعضهم عبر شبكات التواصل الاجتماعيّ. وقد أدّوا دوراً محوريّاً في تنظيم التظاهرات والمسيرات الممتدّة من المحيط إلى الخليج، ومن المغرب إلى سورية.

ولكن، كانت هناك أيضاً قوى أخرى أعارها الإعلام اهتماماً أقلّ بكثير. وهي تظهر بالضرورة إذا سألتِ: لماذا حقّقت الانتفاضات نصراً أوّلاً في تونس ولماذا كانت مصر البلد الثاني، لماذا شقّ هذان البلدان الطريق؟ إذا استقصيتِ هذه المسألة بجديّة، لا يمكن أن يفوتكِ أن تلاحظي سمةً مشتركةً بين البلدين المذكورين هي أهميّة الحركة العمّالية فيهما.

والحال أن لدى تونس وحدها في المنطقة حركةً عمّاليّةً منظّمةً قويّةً تحوز على درجةٍ من الاستقلال عن الحكومة، بما يتيح وجود عضوية منخرطة في الصراع الطبقيّ على مستوى القواعد والقيادات الوسطى والمحلّية.

الاتحاد العامّ التونسيّ للشغل منظّمة فريدة من نوعها، أدّت دوراً محوريّاً في تاريخ تونس الاجتماعيّ والسياسيّ. وكان هناك دائماً بين قياداتها الوسطى الكثير من اليساريّين. وقد لعب الاتحاد العام دور المنظّم الحقيقيّ للانتفاضة في تونس منذ بدأت تتطوّر. فلولاه، لما كانت الحركة لتحقّق النصر الذي أحرزته بمثل تلك المدّة القصيرة التي قلّت عن الشهر الواحد.

وقد خاض الاتحاد العام التونسيّ للشغل في تنظيم الحركة بضغط من بعض فروعه، مثل نقابة المعلّمين، وأمدَّها بقوّة دفعٍ كبيرة. وأدّت فروع الاتحاد المحليّة دوراً محوريّاً في المناطق التي شهدت بدء انتشار الانتفاضة، فدفعت تالياً بقيادة الاتحاد العام لتلحق بالمعركة.

ثمّ بدأ الاتحاد العام بتنظيم إضراباتٍ عامّةٍ جوّالةٍ، في منطقةٍ تلو الأخرى. والحال أنّ اليوم الذي هرب فيه بن علي من تونس، يوم ١٤ كانون الثاني/يناير ٢٠١١، كان هو اليوم الذي وصل فيه الإضراب العام إلى العاصمة. فالاتحاد العام هو إذاً، في الواقع، المنظّم الحقيقيّ للانتفاضة في تونس.

وللأسف، لا يوجد في مصر مرادفٌ للاتحاد العام التونسيّ للشغل: فحركة العمّال المنظّمة هي تحت سيطرة الحكومة، باستثناء بعض النقابات المستقلّة التي كانت لا تزال حديثة العهد ومحدودة العدد لمّا قامت الانتفاضة. عوضاً عنها، قاد الحركة ائتلافٌ من القوى السياسيّة.

وكان لناشطي «فيس بوك» دورٌ بالتأكيد، ولكن من السخف حقاً اختزال الثورة المصريّة بشخص وائل غنيم ــ رئيس قسم التسويق في فرع «غوغل» الإقليميّ الذي أنشأ صفحة «فيس بوك» شهيرة ولم يكن حتى مقيماً في مصر، وإنما في دبيّ ــ وتصويره كالشخصيّة الأهمّ في الثورة، مثلما فعل الإعلام لفترةٍ.

لم تدعُ إلى تظاهراتٍ حاشدة في ٢٥ كانون الثاني/يناير ٢٠١١ شبكةٌ افتراضيّةٌ دون سواها، وإنما دعا إليها ائتلاف من ١٧ قوّة سياسيّة حقيقيّة. وشاركت في الحشد شبكاتٌ سياسيّةٌ حقيقيّةٌ ناشطةٌ على الأرض. هذا وكان لحركة العمّال دورٌ مصيريٌّ في تجهيز الأرضيّة للثورة، وتلك نقطةٌ حاسمة. فقد أتى الانفجار في مصر تتويجاً لخمس سنواتٍ شهدت موجةً عارمةً من النضال العمّاليّ، هي الأكثر أهميّة في تاريخ البلد.

بلغت تلك الموجة ذروتها في ٢٠٠٧ ــ ٢٠٠٨ لكنّها حافظت على مستوى مرتفع حتى ٢٠١١. وخلال الثورة نفسها، في مطلع شباط/فبراير، دخلت الطبقة العاملة في دائرة الصراع: مئات ألوف العمّال أعلنوا الإضراب ما أن دعت الحكومة إلى استئناف العمل. وكان لهذه الموجة من الإضرابات دورٌ فعّالٌ في تعجيل سقوط مبارك.

تلك هي القوى الحقيقيّة التي أدّت دوراً محوريّاً في مصر وتونس. وفي البحرين أيضاً، كان للعمّال دورٌ محوريّ تمّ إغفاله تماماً. في البحرين، كما في تونس، حركةٌ عمّاليةٌ منظّمةُ ومستقلّة، ولو كانت أقلّ قوّةً تأثيريّة من نظيرتها التونسيّة، لكنها أدّت دوراً بالغ الأهمّية خلال المرحلة الأولى من الثورة في تنظيم الإضراب العام.

وقد تم قمع حركة العمّال البحرينيّين بقسوة، ليس فقط سياسيّاً بل أيضاً عبر التسريح الجماعيّ للعمّال. وحتى في اليمن، سبقت الانتفاضة موجةٌ من الإضرابات العمّاليّة.

في المقابل، وبسبب الحكومات الديكتاتوريّة للغاية، لم تكن توجد في بلدان مثل سورية أو ليبيا جماعاتٌ منظّمة مستقلّة، سياسيّةً كانت أو حتى اجتماعيّة. وقد كان معظم المعارضين السياسيّين يعيشون في المنفى بعدما عانوا القمع الرهيب في الوطن ــ كما جرى عددٌ من الاغتيالات طاولت المعارضين حتى في الخارج. أما من بقي في سورية من معارضي النظام فكانوا تحت رقابةٍ شديدة، لا يسعهم الخوض في أيّ حركةٍ واسعة النطاق.

لهذا السبب، أدّت شبكات الإنترنت دوراً حاسماً في بلدانٍ كهذه. في سورية، خلال المرحلة الأولى التي استمرت بضعة أشهرٍ، أشرفت على تنظيم الانتفاضة لجان تنسيق («التنسيقيّات») مشكّلة على نحو أساسيّ من الشباب بواسطة شبكات الإنترنت.

هكذا، فبحسب الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة في كلّ بلد، اشتركت عوامل اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة في تنظيم الثورة.

. فلنلقِ نظرةً عن كثب على مصر وتونس، ثمّ لنعد بعدهما إلى سورية. يمكن للمرء أن يرفض تفسير الانتفاضة كنتيجةٍ لانشقاقات في صفوف النخب الحاكمة في البلدان العربيّة، لكنّ مصر قد شهدت توتّرات متصاعدة ما بين النخب النيوليبراليّة الناشئة من جهة، وما يُشار إليه عادةً بحرس مبارك القديم والنخب العسكريّة من الجهة الأخرى. فكيف تقيّم هذه التوتّرات؟ هل تظن أنها أثّرت في الانتفاضات، وهل ترى أنها تشير إلى منحى عامّ في العالم العربيّ نتيجة تنامي الدور السياسيّ الذي يلعبه الرأسمال الخاص؟

. هذه السمات تمّ تضخيمها، وضُخّ فيها الكثير من التفكير بالأماني القائم على عقيدةٍ في العلوم السياسيّة تفيد بأن الطبقة الوسطى هي العامل الحاسم في التغيير الديمقراطيّ. ولذلك، كثيراً ما سمعنا في البداية أنّ الثورات تقودها الطبقة الوسطى المتأثرة بالغرب. والحقيقة أن الغالبيّة العظمى من البرجوازيّة النيوليبراليّة كانت شديدة الخوف من ديناميّات الانتفاضة.

وإذا انتهى الأمر ببعض أعضائها في بلدانٍ مثل تونس أو مصر إلى التنصّل من الحاكم، فذلك لأنّ الحاكم أضحى عبئاً. إلّا أنّهم فعلوا ذلك أساساً من أجل الحفاظ على الدولة. وإذا قام بعض أعضاء الطبقة الرأسماليّة النيوليبراليّة، كنجيب سويرس في مصر على سبيل المثال، بتقديم أنفسهم بانتهازيّةٍ كليبراليّين بالمعنى السياسيّ، فإنّ الكتلة العظمى من النخبة الاقتصاديّة لم تدعم الثورة.

في كلٍّ من تونس ومصر، توصّل الجيش وجزءٌ واسعٌ من جهاز الدولة إلى الاقتناع بأن عليهم التخلّص من الرئيس لكي يحولوا دون استمرار الثورة وتجذّرها. وقد نسي الناس أن ١١ شباط/فبراير ٢٠١١ في مصر كان انقلاباً عسكريّاً بقدر ما كان ٣٠ تمّوز/يوليو ٢٠١٣. وقد نفّذ الانقلابين المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة، في المرّة الأولى بقيادة محمد طنطاوي وفي الثانية بقيادة الرئيس الحاليّ عبد الفتّاح السيسي. وقد صادر الانقلابان الحراك الشعبيّ العارم.

. يتحجّج بعض الناس بوجود قلقٍ بين النخب العسكريّة في مصر وبين ابن مبارك، جمال، الذي أحاطت به آنذاك نخبٌ اقتصاديّة ذات قوّةٍ متزايدةٍ. هل ترى لذلك أيّ أثرٍ في الانتفاضة؟

. كانت هناك بالتأكيد توتّرات في مصر بين الجيش من جهة وجمال مبارك ومحيطه من الجهة الأخرى. كانوا في الواقع يتنافسون، فالجيش في مصر هو أيضاً مؤسسةٌ اقتصاديّةٌ: إنه، في الواقع وبفرقٍ شاسع، أهمّ كتلة مصالح اقتصاديّة في البلد.

للقوّات المسلّحة دورٌ في كافّة أشكال النشاط الاقتصاديّ غير ذات صلة بالشؤون العسكريّة. وهي تتصرّف كأنها شركة قابضة كبيرة، تنافس بعض المقاولين وتمنح العقود لسواهم ــ بينما تطالب لنفسها بحقّ الأولويّة في كافة عقود الدولة.

وقد استفحلت التوتّرات بين القوّات المسلّحة وجمال مبارك لمّا عبّر حسني مبارك عن نيّته توريث السلطة لابنه. فالقوّات المسلّحة قد عارضت التوريث تماماً، بطبيعة الحال، لا سيّما أنّ التوريث كان سوف يعاكس تقليداً قديماً في حكم الجمهوريّة المصريّة من قِبَل العسكريين. فبعد ناصر، حكم السادات ومبارك الآتيان بدورهما من المؤسسة العسكريّة.

إلّا أن هذه التوتّرات جميعها لم تكن في صميم الانتفاضة بأيّ شكلٍ من الأشكال. لقد شكّلت خلفيّةً للتغيّرات التي حصلت في أعلى الهرم، أمّا الثورة فقد أتت من قعر المجتمع ولم تَنتج قطعاً عن صراع داخل النخبة.

. في الآونة الأخيرة، حلّت الحركة العمّالية لاعباً أساسيّاً في المفاوضات حول مستقبل تونس. ويجوز الاعتقاد أنّ تصاعد النضالات العمّاليّة في العام ٢٠١٢ في مصر يفسّر جزئيّاً انقلاب العام ٢٠١٣. لم تكن غاية السيسي أن يسحق الإخوان المسلمين فحسب، وإنما سعى أيضاً لأن ينهي التجذّر المستمر والاضطرابات الاجتماعية المتزايدة التي بلغت ذروتها في مطلع العام ٢٠١٣ ضد محمد مرسي (الرئيس آنذاك). كيف ولماذا أدّى العمّال في مصر وتونس أدواراً مختلفة؟

. بادئ ذي بدء، وكما ذكرتُ آنفاً، من المؤسف أنّه لا يوجد مرادفٌ مصريّ للاتحاد العام التونسيّ للشغل، لأنّ الدولة سيطرت بنحو كاملٍ على الحركة العمّاليّة منذ عهد جمال عبد الناصر وحتى العام ٢٠١١. ومع أنّنا شهدنا ظهور بوادر حركةٍ عمّاليّة مستقلّة خلال السنوات القليلة التي سبقت الثورة في مصر، إلّا أنّها لم تحقّق شيئاً يتيح مقارنتها ولو عن بعد بالحركة التونسيّة.

صحيحٌ أنّ الطبقة العاملة أدّت دوراً رئيسياً في البلدين، لكنها، في أحدهما، طبقةٌ عاملةٌ منظّمةٌ بينما كانت في البلد الثاني، ولا تزال، طبقةً عاملةً غير منظّمة بمجملها: ما لديكِ هناك عبارة عن إضراباتٍ معظمها خارجة عن القانون يتم تنظيمها على مستوى محليّ. وكان الأبرز ٢٤ ألفاً من عاملات وعمّال الغزل والنسيج في المحلّة الكبرى في مصر، شكّلوا طليعة الصراع الطبقيّ في مصر قبل الثورة وحتى يومنا هذا. في كلّ لحظةٍ محوريّة، وقفوا في الخط الأوّل.

ولكن، يبقى لغياب حركة عمّاليّة منظّمة ومستقلّة طبقيّاً على صعيد مصر بمجملها تبعاتٌ ضخمة، فوجود الاتحاد العام التونسيّ للشغل هو العامل الرئيسيّ الذي أتاح للأحداث أن تسلك منحىً مختلفاً في تونس ــ إضافة إلى غياب تقاليد الحكم العسكريّ: تونس كانت دولة بوليسيّة تحت سلطة بن عليّ، لكنها لم تكن ديكتاتوريّةً عسكريّة.

إنّ هذين العاملين المتضافرين ــ الخروج النسبيّ للجيش عن السياسة وأهميّة الحركة العماليّة المنظّمة ــ يفسّران قدرة الحركة العمّاليّة على أداء دورٍ على هذا القدر من المركزيّة في الأحداث التونسيّة.

مع ذلك، ليست هي حركةً عمّاليّةً ثوريّةً. صار اليسار مهيمناً داخلها منذ ٢٠١١، لكنّ الغالبيّة العظمى ليست راديكاليّة. يقود الاتحاد النضال الاقتصاديّ الأساسيّ لكنه لا يطمح إلى تغيير الطبيعة الطبقيّة للسلطة.

لهذا السبب، يسعى الاتحاد العام إلى إيجاد تسويةٍ مع أرباب العمل ومع الدولة، وقد أدّى دور الوسيط التوفيقيّ ما بين قوّتَي الثورة المضادّة في البلد ــ النظام السابق والحركة الإسلاميّة ــ بدلاً من النضال ضدّهما من أجل التغيير الاجتماعيّ الجذريّ. ويأتي منح الاتحاد جائزة نوبل للسلام بالتشارك مع نقابة أرباب العمل ليكون مؤشّراً ذا دلالةٍ في هذا الصدد.

مع ذلك، ومن وجهة النظر الاستشراقيّة الغربيّة السائدة، يُفسَّر «الاستثناء الديمقراطيّ» التونسيّ بأنّه «ثقافيّ». ولولا الخجل، لنسَبَ أصحاب هذه النظرة الفضل في «الاستثناء الديمقراطيّ» لبن علي نفسه!

بيد أن الاستثناء التونسيّ الحقيقيّ والوحيد إنما هو الاتحاد العام التونسيّ للشغل، هذه الحركة العمّاليّة المنظّمة، القويّة والمستقلّة. ويؤكّد ذلك أن العامل الأكثر حسماً من أجل الديمقراطيّة ليس «الطبقة الوسطى» مثلما ترى العلوم السياسيّة البرجوازيّة، وإنما الحركة العمّاليّة.

والمعيار الأشدّ دقّة في الديمقراطيّة السياسيّة إنما هو، في الواقع، احترام حقوق العمّال ووجود حركة عمّاليّة مستقلّة. يمكنكِ أن تجدي العديد من البلدان التي تزدهر فيها «الطبقة الوسطى» تحت نظامٍ ديكتاتوريّ، لكنّكِ لن تجدي أبداً حركةً عمّاليّةً مستقلّة بذاتها في ظلّ شروطٍ ديكتاتوريّة.

. الثورة المضادّة انتصرت تقريباً في كافة البلاد العربيّة، باستثناء تونس إذا أمكن القول. ومع أن التونسيّين لم يحقّقوا بعد الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة اللتين يتوقون إليهما، تبقى على الأقل إمكانيّة تحدّي مراكز القوى.

. أخشى أنّ تونس ليست استثناءً في مدّ الثورة المضادّة في المنطقة. وهي تعيش مرحلةً من الثورة المضادّة، ولو أكثر اعتدالاً بكثير من سواها. تونس تشهد عودةً جماعيّة لرجال النظام القديم.

ينتمي الرئيس التونسيّ الحالي هو ذاته ــ عدا عن كونه أكبر رؤساء العالم سنّاً بعد موغابي في زيمبابوي وملكة إنكلترا، وبتناقضٍ مع كونه وصل إلى الحكم فرضياً نتيجة «ثورةٍ شبابيّةٍ» ــ إلى النظام القديم. والحزب السائد الجديد في تونس هو، إلى حدٍّ بعيد ــ ليس حصراً وإنما إلى حدٍّ بعيد ــ نسخةٌ منقّحةٌ من الحزب الحاكم في النظام السابق.

ولكن، على عكس الحال في مصر، فإنّ ذلك كلّه يجري بطريقةٍ أكثر سلاسةً وسلميّة. الفارق الحاسم هنا هو أنّ تونس يحكمها اليوم ائتلافٌ بين هذه النسخة المجدّدة من النظام القديم و«حزب النهضة»، المعادل التونسيّ لجماعة «الإخوان المسلمين» المصريّة مع أنّه لا يمتلك قوّتها.

إنّه سيناريو مختلف، يلتقي فيه جناحا الثورة المضادّة ضمن ائتلافٍ بدلاً من أن يتحاربا، وهو بعينه السيناريو الذي تتمنّى الولايات المتّحدة الأميركيّة أن تراه يمتدّ ليشمل المنطقة بكاملها: ائتلافٍ بين الأنظمة السابقة المرمّمة وما يسمّى بالمعارضات المعتدلة تمثّلها فروع «الإخوان المسلمين» على المستوى الإقليميّ.

. فلننتقل إلى سورية. لماذا يرتبك موقف الكثيرين في اليسار العالميّ تجاه سورية؟ النظام السوريّ شديد القمعيّة والطائفيّة، ومع ذلك، لم تحظَ الثورة السوريّة بالدعم الذي فاز به الآخرون.

. أظنّهم يستندون في ذلك إلى أفكارٍ خاطئةٍ أتت كردّ فعلٍ ضدّ الحكومة الأميركيّة. أولئك الذين لا يعرفون تاريخ المنطقة يظنّون أنّ تحالف النظام السوريّ مع إيران ومع «حزب الله» في لبنان ناجمٌ عن كونه معادياً للصهيونيّة والإمبرياليّة. وتروّج أيضاً أجهزة دعاية النظام السوريّ لهذه الصورة ذاتها. في أواخر كانون الثاني/يناير ٢٠١١، في مقابلةٍ شهيرة أعطاها بشّار الأسد لـصحيفة «وول ستريت جورنال» قبل اندلاع الثورة في سورية، شرح أنّ بلده محصّنٌ ضد الرياح الإقليميّة ــ مثلما شاء أن يعتقد حينها ــ لأنّ نظامه «وثيق الصلة بقناعات الشعب». وأضاف أنّ «الشعب لا يعيش فقط بالمصالح، وإنما أيضاً بالقناعات، خصوصاً في المناطق الإيديولوجيّة بشدّة». عنى بذلك أنّ إقناعه للشعب السوريّ «الإيديولوجيّ بشدّة» بأنه معادٍ للصهيونيّة ومعادٍ للإمبرياليّة، قد حقّق لنظامه الرضا الشعبيّ.

من هنا، لمّا أطاحت القوّات المسلّحة المصريّة حسني مبارك، بثّ التلفزيون الرسميّ السوريّ الخبر تحت عنوان: «سقوط نظام كامب دايفيد». أرادوا أن يصدّقوا، أو بالأحرى أن يُقنعوا الناس، بأنّ الثورة المصريّة أتت نتيجةً لاتفاقيّة السلام مع إسرائيل الموقّعة سنة ١٩٧٨، بينما بقي النظام السوريّ الذي يدّعي التصلّب القوميّ محصّناً تجاه الثورة الشعبيّة. كان ذلك محض إسقاطٍ للرغبات على الواقع بطبيعة الحال، مثلما برهنت الأحداث بعد أسابيع قليلة.

أما اقتناع أيّ شخصٍ من اليسار بمثل ذلك الادعاء فهو أمرٌ مؤسفٌ. والحقيقة أن النظام السوريّ لم يوقّع اتفاقيّة سلامٍ مع إسرائيل، لا لنقصٍ في الرغبة من جانبه وإنما لنقصٍ في الرغبة لدى الجانب الإسرائيليّ. والحال أن جولاتٍ عدّة من المفاوضات تمتّ في الواقع بين الدولتين. قبل سنة ٢٠١١، أدّى أردوغان، وكان رئيس الوزراء التركيّ آنذاك، دور الوسيط بين صديقه الحميم في ذلك الحين بشّار الأسد وإسرائيل.

والجغرافيا هي ما صعّب إنجاز اتفاقيّة سلامٍ بين سورية وإسرائيل بالمقارنة مع مصر. أعادت إسرائيل صحراء سيناء إلى مصر لأنها حاجزٌ عسكريّ قائم بحدّ ذاته، لا سيّما أن الاتفاقيّة نصّت على أن تبقى منطقةً منزوعة السلاح. فالوقت الذي يحتاج إليه الجيش المصريّ لعبور الصحراء الفاصلة بين قناة السويس والحدود الإسرائيليّة، وقتٌ يتيح للطيران الحربيّ الإسرائيليّ تدميره مراراً وتكراراً.

في المقابل، فإن هضبة الجولان هي نقطة إستراتيجيّة تشرف بشكلٍ مباشر على مناطق إسرائيل السابقة لاحتلال سنة ١٩٦٧. لهذا السبب، ضمّت إسرائيل الجولان رسمياً إلى أراضيها في العام ١٩٨١. فبالإضافة إلى القدس الشرقيّة، الجولان هو الجزء الوحيد من الأراضي العربيّة المحتلّة في العام ١٩٦٧ التي قامت الدولة الإسرائيليّة بضمّه رسميّاً إليها.

دخل نظام الأسد إلى لبنان سنة ١٩٧٦ بضوءٍ أخضر إسرائيليّ وأميركيّ بهدف سحق منظمة التحرير الفلسطينيّة (م. ت. ف.) واليسار اللبنانيّ، وإنقاذ أقصى اليمين اللبنانيّ من هزيمةٍ وشيكة. وبعد الاجتياح الإسرائيليّ للبنان في العام ١٩٨٢، أكمل نظام الأسد ما بدأته إسرائيل بطردها المقاتلين الفلسطينيّين من النصف الجنوبيّ من البلاد وصولاً إلى بيروت ومنها.

ففي السنة التالية، وعبر وكلائه، طرد النظام السوريّ مقاتلي م. ت. ف. وعرفات نفسه من شمال لبنان. كما دعمت دمشق حلفاءها اللبنانيّين في حركة أمل الشيعيّة الطائفيّة، في حربهم ضد المخيّمات الفلسطينيّة في الثمانينيّات. وفي العام ١٩٩٠، التحق حافظ الأسد بالتحالف الدوليّ تحت قيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة في الاعتداء على العراق، دافعاً بجنودٍ سوريّين إلى المعركة. ينسى الناس أو يتجاهلون ذلك كلّه.

لا يوجد أيّ شيءٍ على الإطلاق معادٍ للإمبرياليّة في نظام الأسد. إنه نظامٌ شبيهٌ بالمافيا، انتهازيّ حتى النخاع، يخدم مصالحه فقط. وفي الوقت عينه، هو واحدٌ من أشدّ أنظمة المنطقة استبداداً، يمارس القمع بوحشيّةٍ مفرطة.

في مطلع الثمانينيّات، استهدفت حملة قمع واسعة اليسار: رُميَ ما يقارب الألف عضو من حزب العمل الشيوعيّ في السجن، وتعرّضوا لتعذيبٍ رهيب. وقد بقي مئاتٌ منهم في السجن لفتراتٍ تتراوح ما بين عشر سنوات وعشرين سنة، مع أنهم لم يتورّطوا يوماً بأيّ عملٍ عنفيّ ولا نظّروا للعنف.

وقد مضى النظام السوريّ خلال السنوات الـ ١٥ الماضية في إرساء تغييراتٍ نيوليبراليّة ذات نتائج واضحة للعيان. شهدت سورية تطوّر طبقة شديدة الفساد من رأسمالية المحاسيب، إذ تحوّلت العشيرة الحاكمة من السيطرة على السلطتين العسكريّة والسياسيّة إلى امتلاك مفاتيح السلطة الاقتصاديّة. فأصبح ابن خال بشّار الأسد أغنى رجلٍ في سورية ومن بعيد، كما غدا الكثيرون من أقربائه شديدي الثراء.

وفي الناحية الأخرى من الطيف الاجتماعيّ، شهدت سورية ارتفاعاً حاداً في البطالة، وتصفيةً للصناعات، وتفقيراً للريف. وقد أدّى ذلك كله إلى توتّرات اجتماعيّة هائلة، انفجرت في العام ٢٠١١. على هذا المستوى، سارت سورية على النمط ذاته الذي سارت عليه باقي دول المنطقة.

. كيف يختلف أولئك الذين خرجوا ضد بشّار الأسد في العام ٢٠١١، إذا اختلفوا بشيء، عن نظرائهم التونسيّين والمصريّين؟

. لتبرير دعمهم نظام الأسد، تحجّج بعضهم بأنّ الثورة السوريّة، على نقيض سواها في بلدان عربيّة أخرى، أتت بقيادة قوى رجعيّة إسلاميّة. وهذا، أيضاً خاطئ تماماً. أولاً، في كلٍّ من تونس ومصر، تمكّنت القوى الأصوليّة الإسلاميّة من أن تستفيد أكبر استفادةٍ من الثورة. وقد فاز «الإخوان المسلمون» في مصر و«النهضة» في تونس بالانتخابات الأولى التي شهدها البلدان.

إذاً، إذا كانت الحجّة أنّ الثورة السوريّة وقعت تحت سيطرة القوى الإسلاميّة، وجب على كلّ من قال بها أن يدعم النظام السابق في كلّ من تونس ومصر حفاظاً على تماسك الرأي.

في الواقع، يدعم حالياً جزءٌ من اليسار في تونس ومصر النظام السابق تحت حججٍ مماثلة. في مصر، دعمت معظم قوى اليسار الانقلاب الذي قاده السيسي، حتى ولو ندمت بعض هذه القوى لاحقاً على موقفها.

أمّا الحقيقة الأساسيّة فهي أن ثوراتٍ شعبيّة قد وقعت على امتداد المنطقة. وإذا تمكّنت القوى الأصوليّة الإسلاميّة من أن تصبح مهيمنة بين القوى المنظّمة في هذه الثورات بلا استثناء، فالسبب في ذلك إنّما يعود بالتأكيد إلى الضعف العمليّ و/أو السياسيّ لليسار من جهة، ولكنه أيضاً وفي المقام الأول نتيجة عقودٍ من حكم الأنظمة الاستبداديّة، من جهة أخرى. يجب ألا يغفل أحدٌ ذلك. لم يكن النظام السوريّ درعاً في مواجهة الأصوليّة الإسلاميّة، ولا كان مبارك أو بن علي، ولا هما الأسد والسيسي اليوم.

منذ أن وصل بشّار الأسد إلى الرئاسة خلَفاً لأبيه على نمط السلالات الحاكمة، شجّع انتشار السلفيين في سورية. كل من كان على معرفة بالوضع السوريّ استطاع ملاحظة انتشار النقاب في الشوارع السوريّة. فقد شجّع الأسد الشاب على الأمر، ظنّاً منه أنه بذلك سيضمن السلام الاجتماعيّ لنظامه، وأن هذه الإيديولوجيا الرجعيّة السلفيّة الإسلاميّة ستُبقي الشعب بعيداً عن التدخّل في السياسة. في نهاية المطاف، انفجر ذلك في وجهه.

والحكاية مماثلةٌ على مستوى المنطقة بأسرها. وقد دعمت الولايات المتحّدة ذاتها الأصوليّة الإسلاميّة ضد القوميّة العربيّة واليسار منذ الخمسينيّات، حتى عادت هذه الأصوليّة وانفجرت في وجهها. وأطلق السادات الإخوان المسلمين من السجون وسمح لهم بأن يتنظّموا من أجل أن يُلحق الهزيمة بالناصريّة. ثمّ تقبّلهم نظام مبارك كحزبٍ جماهيريّ، ولو تحت الرقابة الشديدة. وبسحقها لليسار بمساعدة القوى الأصوليّة الإسلاميّة، أنتجت الولايات المتّحدة والأنظمة المحليّة شروط صعود معارضةٍ من ضمن هذه القوى.

إلى ذلك، لمّا بدأت الانتفاضة السوريّة، فعل النظام كلَّ ما في وسعه لمنع طاقاتها الديمقراطيّة والعلمانيّة، غير الطائفيّة، من الازدهار. شكّل ذلك بالفعل الخطر الأكبر من وجهة نظر النظام، فسحق الحركة بوحشيّةٍ قصوى، وزجّ بعشرات الآلاف في السجون، معظمهم من الشبان الذين كانوا منظّمي الانتفاضة ورأس حربتها.

في الوقت ذاته، ومثلما وثّقت مقالاتٌ وكتبٌ عديدة، أطلق النظام سراح الجهاديّين الذين اعتقلهم في سجونه بعدما استخدمهم في العراق. وقد أتى إطلاق سراح أولئك الجهاديّين كخدعةٍ مكيافيليّة بامتياز أقدم عليها النظام لكي تتحقّق النبوءة التي أطلقها منذ اليوم الأول للثورة بأنها مؤامرةٌ جهاديّة. والحال أن النظام فعل ما بوسعه لخلق الشروط الملائمة لنمو الأصوليّة الإسلاميّة في سورية كي يتغيّر طابع الثورة.

في الوقت ذاته، اعتمد دفاع النظام أكثر فأكثر على وكلاء إيران الإقليميّين الآتين من لبنان والعراق، وهم بالتأكيد لا يقلّون أصوليّةً إسلاميّةً عن غالبيّة القوى السوريّة الإسلاميّة المعادية للأسد. إن الذين يدّعون أن النظام السوريّ «علمانيّ» يغفلون تماماً هذه الحقيقة الجليّة التي تدحض فرضيّتهم.

هذا وقد برز تنظيم القاعدة في سورية مطلع سنة ٢٠١٢ تحت تسمية جبهة النصرة، بمساهمة كبيرة من فرع القاعدة العراقيّ، الذي كان يسمّى دولة العراق الإسلاميّة، والذي يلعب فيه دوراً حاسماً أعضاءٌ سابقون في حزب البعث العراقيّ، الشقيق اللدود لحزب البعث الحاكم في سورية.

ولمّا قرّروا ضمّ جبهة النصرة إلى التنظيم العراقي تحت تسمية الدولة الإسلاميّة في العراق والشام، المعروفة باسم داعش، تسبّب العراقيّون بانشقاق قسم من السوريّين الذين استمرّوا تحت اسم جبهة النصرة، وكفرع لتنظيم القاعدة الدوليّ. وقد أتى ذلك كله كتطوّرٍ شديد الإيجابيّة بالنسبة إلى الأسد وجماعته. والحال أنّ تنظيم داعش قد اشتبك مع معارضي نظامهم أكثر بكثير مما اشتبك مع قوّاتهم.

في الحقيقة، إن داعش هو «العدو المفضّل» لنظام الأسد، إذ إنه منفّر للغرب إلى حدّ جعله الحجّة الأقوى لدى النظام في مطالبته القوى الغربيّة بتغيير موقفها منه. يمكنكِ أن تري بوضوح سعي النظام السوريّ الحثيث، بمساعدة روسيا، من أجل إغراء الغرب بدعمه بحجة القتال ضد داعش.

وثمّة اليوم عددٌ متزايدٌ من أعضاء نخب السلطة الغربيّين ــ خصوصاً الأكثر رجعيّةً بينهم، مثل دونالد ترامب الأميركي ومارين لو بان الفرنسية ــ باتوا يدعون إلى ذلك بالتحديد: يطالبون بتحالفٍ مع الأسد وبوتين.

. إذا نظرنا إلى سورية اليوم، يتحجّج بعض النقّاد بأنّ كلّ القوى الموجودة على الأرض السوريّة هي قوى الثورة المضادّة. هل هذا صحيحٌ؟ أليس معظم المقاتلين سوريّين يحاربون الديكتاتوريّة؟

. هم كذلك، فعلاً. لكن واحداً من تعقيدات الوضع في المنطقة هو أنه لا ينطوي على الثنائيّة الكلاسيكيّة بين الثورة والثورة المضادّة. بدل ذلك لديكِ مثلّث قوى. من جهة، يوجد قطبٌ ثوريّ قوامه كتلة من القوى الاجتماعيّة والسياسيّة تجسّد آمال العمّال والشباب والنساء الذين انتفضوا ضد النظام القديم، طامحين إلى مجتمعٍ تقدميٍّ مختلف.

أمّا في الجهة الأخرى، فتجدين معسكرَين وليس معسكراً واحداً للثورة المضادّة. هناك أولاً، معسكر النظام القديم، أي الثورة المضادّة التقليديّة. ثمّ، وللأسباب التاريخيّة التي ذكرتها، توجد قوى رجعيّة ذات طابعٍ دينيّ، رعتها أساساً الأنظمة لتشكّل ثقلاً موازناً لليسار، لكنها نمت وانقلبت ضدّ هذه الأنظمة. وينتمي المعسكران إلى الثورة المضادّة، بمعنى أنّ مصالحهما الأساسيّة وبرامجهما تصطدم بشكلٍ مباشرٍ مع آمال القطب الثوريّ الذي يناضل من أجل التغيير الاجتماعيّ والاقتصاديّ والديمقراطيّ.

فعند وصولهما إلى السلطة بدءاً من العام ٢٠١١، جسّد الإخوان المسلمون في مصر وحزب النهضة في تونس نوعاً آخر من الثورة المضادّة، فاقتنعت واشنطن بقدرتهم على العمل بفاعليّة أكبر من النظامين السابقين، إذ إنهم استمرّوا في سياسات النظام القديم الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

أمّا التغيير الوحيد الذي سعوا لإنجازه فهو أسلمة المؤسّسات ــ أو بالأحرى المزيد من أسلمة المؤسّسات في مصر، حيث بلغت الأسلمة مرتبةً عالية خلال عهدي السادات ومبارك. فارتفعت حدّة التوتّرات بينهم وبين النظام القديم لمّا حاولوا أن يفرضوا سلطتهم على أجهزة الدولة. هذه هي خلفية انقلاب سنة ٢٠١٣ في مصر.

تجدين إذا على امتداد المنطقة معسكرين للثورة المضادّة وقطباً ثورياًّ واحداً. إن ضعف هذا الأخير العمليّ و/أو السياسيّ هو ما أتاح للوضع أن يتطوّر إلى تصادمٍ بين معسكرَي الثورة المضادّة، بينما تمّ تهميش القطب الثوريّ.

سورية هي الحالة القصوى في هذا المجال. كانت هناك طاقةٌ تقدّميّة كبيرة في الانتفاضة سنة ٢٠١١، توازي إن لم تفق حالها في بلدان أخرى، نتيجة انتشار الأفكار التقدّميّة واليساريّة لدى الشعب السوريّ ــ أكثر من انتشارها في مصر، ولكن أقلّ من انتشارها في تونس. إلّا أنّ هذه الطاقة لم تتخذ شكلاً منظّماً. والحال أن شبكات الإنترنت الافتراضيّة تبرع في تنظيم التظاهرات والمسيرات، لكنّها ليست بديلاً عن شبكة تنظيميّة فعليّة.

أضف إلى ذلك التدخّل بالغ النشاط لمعقل الثورة المضادّة في المنطقة متمثلاً بمشايخ الخليج النفطيّة، التي سعت جهدها لتقوّي العنصر الأصوليّ الإسلاميّ في المعارضة السوريّة على حساب كلّ ما عداه. فالثورة الديمقراطيّة الحقيقيّة تشكّل خطراً كبيراً عليهم، كحالها مع الأسد. بهذا المعنى، التقوا مع نظام الأسد في الدفع بالعنصر الأصوليّ الإسلاميّ إلى الصفّ الأول في المعارضة على حساب العنصر الديمقراطيّ العلمانيّ.

نتيجة كل ذلك في سورية هي، والحق يُقال، حالٌ يهيمن عليها صدامٌ ما بين قوّتين مضادّتين للثورة: النظام وحلفاؤه من جهة، ومن جهة أخرى معارضة مسلّحة تعتنق القوى المسيطرة فيها توجّهات سياسيّة تتناقض جذريّاً مع التطلّعات التقدّميّة الأولى للانتفاضة كما تمّ التعبير عنها سنة ٢٠١١. صحيحٌ أن هناك أيضاً قوى معارضة مسلّحة تبدو أقلّ رجعيّةٍ، ولو أنها بالكاد تقدّميّة.

الأهمّ من ذلك هو أن معظم الملتحقين بالجماعات الأصوليّة الإسلاميّة المسلّحة لم يلتحقوا بها لأسبابٍ عقائديّة، وإنما لكونها مصدر رواتبٍ في ظروفٍ معيشيّةٍ سريعة التدهور بسبب الحرب. هذا سببٌ محوريّ حتى في نمو داعش، وقد أتاح للتنظيم أن يجنّد آلاف المقاتلين.

مع كل ما سبق ذكره، فإنّ الطاقة التي تفجّرت سنة ٢٠١١ لم يتم سحقها وإنما تم تهميشها سياسيّاً. الكثيرون ممّن مثّلوا هذه الإمكانيّة غادروا البلد إلى المنفى لأنهم، من جهة، معارضون جذريّون للنظام ومهدّدون من قبَله، ومن الجهة الأخرى، يجدون في انتشار القوى الرجعيّة خطراً معادلاً للنظام عليهم.

إنّ معظم الباقين على قيد الحياة ولم ينتهِ بهم الأمر في السجون، قد غادروا البلاد. هؤلاء الآلاف من الناشطين الذين يجسّدون الإمكانيّة الديمقراطيّة التقدّميّة لانتفاضة ٢٠١١ ويقبعون اليوم في المنفى هم سببٌ للحفاظ على أمل بالمستقبل.

ولكن، في اللحظة الراهنة، جلّ ما يمكن للمرء أن يتمنّاه هو إنهاء هذه الديناميّة الرهيبة لصدام الهمجيّات، كما سمّيته في أعقاب ١١ أيلول ٢٠٠١، حيث تصطدم همجيّة نظام الأسد بهمجيّة داعش، علماً أنّ الأخيرة هي أساساً نتيجة الهمجيّة الرئيسيّة التي مثّلها الاحتلال الأميركيّ للعراق. يجب أن تتوقّف الحرب الأهليّة، ومعها دمار سورية وذبح شعبها على أيدي النظام، ضمن شروطٍ تتيح للاجئين أن يعودوا من المنفى الخارجيّ أو النزوح الداخليّ. هذا هو الآن المطلب الأكثر إلحاحاً.

في اللحظة الراهنة، لا توجد أيّة آفاقٍ لمَخرجٍ تقدّميّ. كلّ مَن يظنّ غير ذلك هو حالمٌ. وفي غياب آفاقٍ شبيهة، أفضل ما يمكن أن يحصل هو وقف التدهور المستمر المرافق للحرب. ولكي تنتهي الحرب، يجب على الأسد أن يرحل، لاستحالة الخروج بأيّ تسوية فعلية وإنهاء الصراع ما دام في موقعه.

إن روسيا وإيران بدعمهما له تصدّان إمكانيّة التسوية. منذ عام ٢٠١٢ وإدارة أوباما تردّد التالي: «لا نطالب بتغيير النظام في سورية ولكننا نعتقد بأنه يجب على الأسد أن يترك موقعه لتصبح التسوية ممكنة بين النظام والمعارضة».

دعا أوباما إلى ما سمّاه «الحلّ اليمنيّ». ففي اليمن، وافق الرئيس على ترك موقعه وتسليم السلطة إلى نائبه، ولم يتم تغيير النظام. عوضاً عن ذلك، تشكّلت حكومة توافقيّة بين المعارضة والنظام، استُثنيت منها عشيرة الرئيس. لم تدم طويلاً كما بتنا نعرف، ومع ذلك، فإن أوباما منذ العام ٢٠١٢ وحتى يومنا هذا يرى فيها نموذجاً يجب أن تقتدي به سورية.

في المقابل، فإن إيران وروسيا تخشيان من أن يخلّ رحيل عشيرة الأسد بآلية النظام كلها التي تزعزعت إلى حدّ بعيد، الأمر الذي قد يؤول إلى خسارتهما سورية كحليفٍ محوريّ لهما في المنطقة. ولذلك، تعيق الدولتان أيّ تقدّمٍ نحو تسويةٍ تفاوضيّة.

إن تسويةً كهذه ستكون، بلا أدنى شكّ، بعيدةً كلّ البعد عن الحلّ المثاليّ. ولكن، طالما استمرت الحرب، فلن يكون هناك أيّ إحياءٍ للطاقة الديمقراطيّة التقدّميّة التي أظهرتها الانتفاضة السوريّة في العام ٢٠١١. إن تلك الطاقة لا تزال موجودةً: فإذا توقّفت الحرب وعادت القضايا الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى الواجهة، سيرى الشعب أن المعسكرَين كليهما لا يملكان حلولاً لمشاكل البلاد.

. يقول البعض إنه، لو ترك الأسد السلطة، فستستولي عليها جبهة النصرة وداعش. أنتَ تقول إن الإطاحة بالأسد ستسرّع النضال من أجل التحرر السياسيّ.

. صحيح. السبب الرئيسيّ الذي يتيح لجبهة النصرة ولداعش النمو هو استمرار نظام الأسد بالوجود. إن همجيّة نظام الأسد في قمع الانتفاضة هي التي خلقت أرضيّةً سمحت لتنظيمي القاعدة وداعش بأن يتطوّرا في سورية.

لم تكن هناك جماهير جاهزة لأن تلتحق بمثل تلك الجماعات المجنونة. وقد انتهى الأمر بالناس أنهم رأوا في الجماعتين ردّاً مناسباً على الفظائع التي إرتكبها النظام وعلى الفوضى التي سادت. لعبت داعش على ذلك الوتر، وفرضت نظاماً شموليّاً دينيّاً بينما كانت تؤمّن للناس خدمات اجتماعيّة شبيهة بخدمات دولة. ولهذا السبب، أطلقت على نفسها اسم «الدولة» الإسلاميّة.

إن الطريقة الممكنة الوحيدة للتخلّص من داعش والقاعدة هي بإزالة الأسباب التي تدفع بالناس إلى الالتحاق بمثل هذه الجماعات. عندما حاولت الولايات المتّحدة سحق تنظيم القاعدة بالوسائل العسكريّة حصراً خلال معركة ومذبحة الفالوجة في العراق، فشلت على نحو بائس. ولم تتمكّن من تهميش القاعدة إلا بعدما بدّلت إستراتيجيّتها واستندت إلى القبائل العربيّة السنيّة داعمةً إياها بالمال والسلاح.

وإذا تمكّنت القاعدة المتحوّلة لداعش من استعادة السيطرة على أجزاءٍ واسعةٍ من العراق خلال صيف ٢٠١٤، فلأن حكومة نوري المالكيّ الطائفيّة المدعومة من إيران قد أعادت خلق ظروف الحقد العربيّ السنّي التي أتاحت أساساً لتنظيم القاعدة أن ينمو تحت الاحتلال الأميركيّ. لذلك، وللمفارقة، خشي معظم العرب السنّة في العراق من الانسحاب الأميركيّ سنة ٢٠١١. فبإحدى سخريات التاريخ، انتهى بهم الأمر إلى أن رأوا في القوّات الأميركيّة حمايةً لهم إزاء حكومة المالكيّ الطائفيّة الشيعيّة.

وفي سورية أيضاً، لا بدّ من إزالة الظروف المولّدة للحقد الطائفيّ السنّي من أجل إنهاء جاذبيّة النصرة وداعش، وسواهما من الأصوليّين. أما الشرط الأول لتحقيق ذلك فهو إبعاد عشيرة الأسد عن السلطة، كونها مكروهةً من قسمٍ عظيمٍ من المجتمع السوريّ.

. فلننتقل إلى الجيوسياسة والولايات المتّحدة. كيف تصف الردّ الأميركيّ على الثورات؟

. هذا أيضاً موضوعٌ يقاربه يساريّون كثر بجمودٍ فكريّ. فيفشل الكثيرون في إدراك أن تجربة العراق كانت كارثةً محوريّة. إنها بالفعل أهمّ كارثةٍ في التاريخ الإمبرياليّ الأميركيّ. فمن وجهة النظر الإستراتيجيّة، إنها كارثةٌ أسوأ من كارثة فييتنام.

ما يعجز بعضهم عن فهمه هو أن إدارة أوباما، بعد بوش، ما عادت تخوض في تغيير الأنظمة. وقد كان شعار باراك أوباما إزاء الانتفاضة العربيّة سنة ٢٠١١ هو «الانتقال المنظّم للسلطة»، ولم يكن «تغيير النظام». أراد الحفاظ على الأنظمة عبر تغييراتٍ محدودةٍ في أعلى الهرم تتيح انتقالاً سلساً من دون اضطرابٍ أساسيّ في النظام.

وينطبق الأمر حتى على ليبيا. فالتدّخل الذي قادته الولايات المتّحدة في ليبيا كان محاولةً لاستيعاب الانتفاضة الليبيّة وتوجيهها نحو صيغة انتقالية يجري التفاوض عليها مع ابن القذافي، النجل المَرضي عنه في الغرب. وقد سعوا إلى ذلك حتى الدقيقة الأخيرة، غير أن المحاولة باءت بالفشل الذريع إذ أدّت الانتفاضة في طرابلس إلى انهيار النظام.

لهذا السبب، تحوّلت ليبيا إلى كارثةٍ إضافيّة من وجهة النظر الإمبرياليّة الأميركيّة وصارت حجّةً إضافيّةً ضدّ أي سياسة «تغيير للنظام» تتضمّن تفكيكاً جذريّاً للدولة، كما حصل سابقاً في العراق. ولهذا السبب أيضاً، لم يصدر عن الولايات المتّحدة تصريحٌ واحد يفيد بأنها تريد إسقاط النظام في سورية. قالوا فقط إنه ينبغي على بشّار الأسد أن يترك سدة الحكم لكي يتيح انتقالاً تفاوضياً للسلطة. بكلام آخر، يريدون من الرجل أن يرحل ويبقى النظام في مطرحه.

لقد تلقّت الولايات المتّحدة الانتفاضة العربيّة سنة ٢٠١١ وهي في أسوأ أحوال هيمنتها الإقليميّة منذ ١٩٩٠. في سنة ٢٠١١ ذاتها، جلت من العراق من دون تحقيق أيٍّ من الأهداف الإمبرياليّة المحوريّة للاجتياح.

حصل التدخّل في ليبيا أيضاً بفضل ضوء أخضر من روسيا. فقد امتنعت الصين وروسيا عن التصويت في مجلس الأمن لدى الأمم المتّحدة عند مناقشة قرار التدخّل في ليبيا. كان بوسع الدولتين استخدام حقّ الفيتو ضد التدخّل. ولكن، وعلى عكس الحال مع القذافي، تنظر روسيا إلى نظام الأسد كحليفٍ أساسيّ، إذ كان القذافي قد تحوّل خلال سنواته الأخيرة ليصبح صديقاً عزيزاً لواشنطن ولندن وباريس وإيطاليا برلوسكوني.

ولمّا أتى دور سورية، لم تفكّر واشنطن جدّياً بتدخّلٍ عسكريٍّ مباشرٍ، على الإطلاق. وقد جاءت لحظة في العام ٢٠١٣، ارتبك أوباما بسبب «الخط الأحمر» الذي حدّده لمّا أثير موضوع الأسلحة الكيميائيّة، وتنفّس الصعداء لمّا عرضت روسيا عليه تسويةً مع الأسد. وعموماً، فإن الوضع أشدّ تعقيداً بكثير من منطق «عدوّ عدوّي هو صديقي» الذي يستند إليه معظم اليسار «المعادي للإمبرياليّة» بالطريقة الانفعاليّة.

. إذا كانت روسيا والولايات المتّحدة متفقتَين على بقاء النظام السوريّ فما هو صلب الخلاف بينهما إذاً؟

. يتمحور الخلاف حول مسألة الأسد، بالطبع. فحتى الساعة، تتمسّك روسيا به لأنها تجد في عشيرة الأسد الضمانة الوحيدة لبسط سيطرتها على سورية. روسيا لا تقلّ إمبرياليّةً عن الولايات المتّحدة، وهي حتى أشدّ وحشيّةً بالنظر إلى ما فعلته في الشيشان رغم كونها جزءاً من الاتحاد الفدراليّ الروسيّ (أي مرادفة لولايةٍ من الولايات المتّحدة).

وبالمقياس الاجتماعيّ، فإن النظام الروسيّ أكثر نيوليبراليّةً ويمينيّةً من النظام الأميركيّ، إذ ثمّة ضريبة واحدة ثابتة على الدخل الفرديّ نسبتها ١٣ في المئة في روسيا، مقابل سقفٍ للضريبة التصاعديّة يصل إلى ٤٠ في المئة للضريبة الفدراليّة الأميركيّة، من دون حسبان ضرائب إضافيّة محليّة أخرى. أما ضريبة الشركات الروسيّة فنسبتها ٢٠ في المئة، مقابل ٣٥ في المئة للضريبة الفدراليّة الأميركيّة، أيضاً من دون حسبان الضرائب المحليّة، وأشرس «الجمهوريّين» لا يحلم بتحقيق ذلك في الولايات المتّحدة.

يلعب بوتين أيضاً الورقة الدينيّة عبر استدعاء الكنيسة الأرثوذكسيّة الروسيّة لتبارك تدخّله في سورية، وتصفه بالحرب المقدّسة. إنّ تصوّرات بعض اليساريّين الذين يحيون في بُعْدٍ زمنيٍّ آخر ويؤمنون بأن روسيا هي، بشكلٍ من الأشكال، مواصلةٌ للاتحاد السوفياتيّ وأن فلاديمير بوتين هو وريث فلاديمير لينين، إنما هي مضحكة تماماً.

. ولكن، ما هي مصالح روسيا الإمبرياليّة في سورية؟

. سورية بلدٌ لروسيا فيه قاعدتان جوّية وبحريّة، فتتفاعل معه تماماً كما كانت واشنطن لتتفاعل بخصوص أيّ بلدٍ لها فيه قواعد شبيهة. ونظام الأسد هو حليف موسكو الإستراتيجيّ الأقرب في المنطقة.

تلك أيضاً فرصةٌ لبوتين ليبلغ كلّ الديكتاتوريّين: «يمكنكم أن تعتمدوا عليّ في الدفاع عنكم ضد ثورات شعوبكم أكثر بكثير ممّا يمكنكم الاعتماد على واشنطن لذلك. يكفيكم أن تُقابلوا ما بين دعمي للأسد وتخلّي الولايات المتّحدة عن مبارك». لهذا السبب، صار بوتين صديقاً حميماً للسيسي، ديكتاتور مصر الجديد.

. إذاً، يريد بوتين أن ينمّي دوره الإمبرياليّ في العالم العربيّ؟

. أفعال موسكو تتبع المنطق ذاته الذي تسلكه واشنطن. فتنظر روسيا إلى سورية كقيمةٍ إستراتيجيّةٍ تماماً كما كانت الولايات المتّحدة تنظر إلى فييتنام في الماضي، أو إلى أيّ نظامٍ كانت واشنطن مستعدّةً لدعمه عبر التدخّل العسكريّ المباشر.

ولكن اليوم، يميل بوتين أكثر من أوباما إلى التدخّل العسكريّ المباشر، إذ لا تزال الإمبرياليّة الأميركيّة تحت تأثير إرث «العقدة الفييتناميّة»، وقد أعاد إحياءَها الفشلُ الكارثيّ في العراق، رغم أن بوش الأب وبوش الابن ظنّا كلاهما أنهما تخلّصا من ذاك الإرث.

يستفيد بوتين من ذلك متّخذاً موقفاً أشدّ صرامة من واشنطن حول سورية، عبر تقديم الدعم الكامل لنظام الأسد، بينما لا تدعم الولايات المتّحدة المعارضة السوريّة بأيّ طريقةٍ مماثلة. إنّ دعم واشنطن للمعارضة يبدو مادّة للنكات أكثر منه مسألة جديّة. في المقابل، موسكو وطهران تمدّان النظام السوريّ بدعمٍ شامل على كافة المستويات، بما فيها الانخراط الكثيف للمقاتلين الوكلاء عن إيران.

. اعتنت المملكة السعوديّة وسواها من مشايخ الخليج بتدمير الانتفاضات. ما كان انقلاب السيسي لينجح في مصر لولا الدعم السعوديّ الكامل له. هل سيتمكّن السعوديّون من الاستمرار في أداء هذا الدور لمدّةٍ طويلة؟ برأيك، ما هي آفاق التغيير في بلدان الخليج؟

. تلك مشكلةٌ رئيسيّةٌ، بالفعل. لطالما كانت المملكة السعوديّة قلعة الرجعيّة الرئيسيّة في المنطقة. وهو ذا الدور الذي أدّته منذ نشأتها، لأنها دأبت على أن تكون الدولة الأكثر رجعيّةً على الأرض. إذا اعتبرتِ داعش دولةً، يمكنكِ أن تقولي إنها تنافس السعوديّة في هذا الصدد. وتتشاركان في الكثير من السمات وفي تاريخٍ متشابهٍ، غير أنّ إحداهما تم إنشاؤها في مطلع القرن العشرين والثانية أتت بعدها بقرنٍ وبأدواتٍ مختلفة جداً.

المملكة السعوديّة هي معقلٌ رئيسيّ للرجعيّة في المنطقة، لكنّ قدرتها على أداء دورٍ عسكريٍّ مباشرٍ تتبدّى أكثر في محيطها الخاص، في الخليج. أدّت دوراً محوريّاً في مساعدة الملكيّة البحرينيّة على قمع الانتفاضة في البحرين. في اليمن، تتدخّل المملكة السعوديّة إلى جانب الحكومة الائتلافيّة التي أنتجتها التسوية اليمنيّة في تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١١، في مواجهة الرئيس المخلوع علي عبد الله الصالح المتحالف حاليّاً مع الحوثيّين. هذا في الأساس صراعٌ آخر ما بين معسكَرَين مضادّين للثورة، مثلما ناقشنا أعلاه.

في سورية، كان للنظام السعوديّ دورٌ معظمه أتى عبر التمويل، وليس التدخّل المباشر. فلسوء حظّنا العظيم، استولى السعوديّون على بلدٍ اتضح أنه يمتلك أكبر احتياطيّ للنفط في العالم. وقد منحهم ذلك إمكانات ماديّة هائلة سخّروها على مرّ العقود لمساعدة سيّدهم الأميركيّ ونشر إيديولوجيّتهم الغارقة في الرجعيّة والأصوليّة.

من شتّى الزوايا، لا يمكنكِ فهم قوّة الأصوليّة في العالم الإسلاميّ المعاصر إذا تجاهلتِ العامل الحاسم في نموّها الذي تشكّله المملكة السعوديّة. في المدى الطويل، لا بدّ أن يرحل حجر العثرة فائق الرجعيّة هذا لكي تستطيع السيرورة الثوريّة الإقليميّة بلوغَ نتيجةٍ تقدميّة.

إن قطبَي الثورة المضادّة في المنطقة العربيّة مدعومان من قِبَل قوى متنافسة: الولايات المتّحدة وروسيا، مشايخ الخليج وإيران. ولا تنسي أنّ نظام إيران هو أيضاً نظامٌ أصوليّ إسلاميّ، ولو من نوعٍ مختلف. وتواجه السيرورة الثوريّة العربيّة كلّ هذه القوى.

. نظراً لحجم ثرواتها، يبدو أن التغيير أمرٌ ميئوسٌ منه في المملكة العربيّة السعوديّة. برأيك، ما هي آفاق التغيير في هذا البلد؟

. صحيح أن لديهم الكثير من المال، ولكن يوجد أيضاً فقرٌ كثير في المملكة السعوديّة مع ذلك. وتُولّد المفارقةُ التي تكمن في أن مملكةً على هذا القدر من الثراء تشهد هذا القدر من الفقر، غضباً عميقاً ضد العائلة المالكة بين السكّان الأصليّين، فضلاً عن المهاجرين.

إنّ أكثر تجليّات المعارضة فجاجةً حتى الآن هي التي تزايد على النظام الملكيّ في مذهبه الإسلاميّ فائق الأصوليّة، والمعروف باسم الوهّابيّة. تلك كانت الحال في انتفاضة مكّة سنة ١٩٧٩، ثم في وقتٍ أقرب مع تنظيم القاعدة. يعرف الجميع أن ١٥ من أصل ١٩ مشاركاً في هجمات ١١ أيلول/سبتمبر كانوا سعوديّي الجنسيّة. وقد ضمّت القاعدة ولا تزال تضمّ عدداً كبيراً من الأعضاء حمَلة الجنسيّة السعوديّة.

معارضة كهذه هي الوحيدة التي تمكّنت من أن تنمو في المملكة السعوديّة تحديداً كونها تمكّنت من أن تعمل في ظل إيديولوجيا النظام، بينما تتضاعف الصعوبات التي تعيق نمو المعارضة التقدّميّة هناك، تلك النسويّة أو المعارضة الشيعيّة مثلاً.

مع ذلك، ثمّة طاقة تقدّميّة في المملكة، سوف تنفجر عاجلاً أو آجلاً. وستنفجر بالطريقة ذاتها التي شهدتها الدول الأخرى في المنطقة. وقد كان نظام الشاه في إيران شديد القمعيّة، ظنّه الكثيرون محصّناً ضد الانهيار.

لكن، لمّا انطلقت الموجة الثوريّة في إيران في أواخر السبعينيّات، رأينا بأيّ سرعةٍ تمكّنت من إسقاط نظام الشاه. فلا توجد أنظمةٌ أبديّةٌ، والنظام السعوديّ لن يكون أبديّاً بالتأكيد وهو يقوم على القمع الرهيب، والتفاوت الاجتماعي الهائل، والمعاملة المقزّزة للنساء.

. انطلاقاً من معرفتك باليسار الراديكاليّ في العالم العربيّ، هل أنتَ متفائلٌ بالنظر إلى آفاق الثورات العربيّة؟ هل يصحّ القول بأن نجاح الثورة العربيّة مرتبطٌ جوهريّاً بنجاح التعبئة العمّاليّة؟

. تلخيصاً لما ناقشناه منذ بدء حوارنا، أقول إنّ الأمل ما زال لديّ، رغم أنني لن أصف نفسي بالمتفائل. ثمّة اختلافٌ نوعيّ هنا. إن الأمل هو الاعتقاد بأنّ الإمكانيّة التقدّميّة لا تزال متاحةً، أمّا التفاؤل فهو الاعتقاد بأنّ هذه الإمكانيّة سوف تتحقّق.

أنا لا أراهن على انتصارها لأنّني أعرف مقدار صعوبة المهمّة، وهي تزداد صعوبةً عندما ينبغي بناء قيادات بديلة تقدّميّة تقريباً من الصفر في بلادٍ كثيرة. فالمهمة شاقّة، هائلة، لكنها ليست مستحيلة. ولم يتوقّع أحدٌ انتفاضةً تقدّميّة مبهرة كتلك التي شهدها العام ٢٠١١.

إن السيرورة الثوريّة طويلة الأمد في المنطقة ستُقاس بالعقود بدلاً من السنوات. من وجهة نظرٍ تاريخيّة، ما زلنا في مراحلها الأولى. يجب أن يكون ذلك حافزاً رئيسيّاً على النشاط المكثّف من أجل بناء حركاتٍ تقدّميّةٍ قادرةٍ على أن تتولّى القيادة. أمّا البديل فهو مزيدٌ من الهبوط في الهمجيّة وانهيارٌ عام في النظام الإقليمي إلى ذلك النوع من الفوضى الرهيبة التي بدأت تنتشر في بضعة بلدان.

أمّا بالنسبة إلى القوى العاملة، فحين أتكلّم عن قياداتٍ تقدّميّةٍ أقصد ضمنياً أن الحركة العمّاليّة يجب أن تكون جزءاً أساسيّاً منها. لهذا السبب ينبغي على البلاد التي تمتلك طاقاتٍ أكبر في هذا الصدد، مثل تونس ومصر، أن تفتح الطريق. ويمكننا حينها أن نشهد تأثراً سريعاً للبلدان الأخرى.

ودعِنا لا ننسى أنّ المنطقة العربيّة ليست موجودةً على كوكبٍ آخر. إنها جزءٌ من الوضع العالميّ، وقريبةً جداً من أوروبا. وعليه، فإن من شأن نشوء يسارٍ راديكاليّ في أوروبا أن يؤثّر تأثيراً مهمّاً في نموّ رديفٍ له في المنطقة العربيّة.

العدد ١٣ - شتاء ٢٠١٦

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.