بعد أن تنتهي الجائحة الحوثية ستخرج الأرامل، أمهات الحرب، الثكالى يبكين دماً، يلطمن الخدود، ينزعن شعر رؤوسهن، يسلخن جلودهن، يقلعن عيونهن، يبتلعن الغبار وثقل الذكريات وامتداداتها، تعضيها في المكان والزمان في لحظة الهوس باسترداد مُلك عرق الدين والطائفة والمسيدة الإلهية.
تأنيب الضمير الذي لا يهمد، وفجيعة «ياليتني». زادوا علينا، في حضرة «لو»، في غمرة التجييش باسم الله، واسم «حق السيّد»، ومندبة «قهري راحوا العيال فطيس»، و«حسبنا الله ونعم الوكيل». من فلكلور الحزن والندب واقتصاص الحلم، افتضاضه من أول حشرجة الموت التي تخرّ وتسمعها كل أم حتى وهي بعيدة خلف الجبال، رجفة القلب، ورفّة العين نذير شؤم. ولا شؤم أبلغ عندما ينبئونك بأن ولدك سقط «شهيداً» حتى وإن أجبرتك الجارات والقريبات على الاعتقاد بأنه عريس في الجنة وسط حوريات من كل شكل ونوع.
لا أشد وقعاً من سيرة ولدك الذي لا تأتي جثته. وبدلاً منها تحضر أخباره فقط، والخبر الأول: مات والرفاق، ولم ترفع جثثهم. بعدها عليك أن تقفل باب السيرة بنهاياتها الكثيرة: أن جثة ولدك / زوجك ورفاقه مشّطتها الذئاب والديدان والهوام.
النهاية الخنجر: تخلّى القادة عن فضيلة (إكرام القتيل دفنه)، لكنهم مشّطوا الجثث وأخذوا «القناديل» منها فقط١، وتركوا بقية الجثث وبعضها ينبض بعرق الحياة بما تيسّر. نعم جثث أطفالنا الذين لم يتعدّوا الثانية عشرة بعد، بل والثامنة والتاسعة، الجثث المفخخة بالجهاد، وبقتال الدواعش والتكفيريين والعملاء والخونة في عدن وتعز ومأرب وكل مدن اليمن.
في نهاية النهاية
جثث تمييز العِرق الإلهي المقدس ــ «السادة» / «القناديل» / «عِرق الله والرسول» ــ هي فقط التي تسحب وتُكرّم، وتُعطر، وتنثر عليها باقات الريحان والزهور وعطور «جنة النعيم» وتساق في مواكب جنائزية مهيبة، وتدفن في المقابر الكبيرة الكثيرة التي بناها «سيّد الكهف» / «سيد الشهداء» ــ سيان ــ وسط الحضور الكثيف، والتأبين القداسي وتوابعه من زامل الحرب، والزغاريد، وقصائد القرابين لله، وشعار الصرخة٢، ثم تتصدر الجنازة نشرة الأخبار. أما جثث ابني ورفاقه «الزنابيل» ممن لا ينتمون إلى العِرق الإلهي المقدس، «مجاهد» بدرجة أسفل سافلين فلا مكان لها في نشرة الأخبار ولا المقايل والتفاريط٣!
في الليل سيهمد الجميع ليغُطّوا في سابع نومة، إلّا الأرامل اللواتي تسحقهن النهدات الحارقة، سيمتْن في زهو العمر الصاخب، في ليلة وضحاها يصبحن الأب والأم والصديق والحارس للأولاد وجدران البيت والزمن وحارسة حكاية «الشهيد». فهزيمة امرأة فقيرة طرية العود وحدها تدير أطفال ما بعد الحرب، هموم تكبر ولا تصغر، تظهر ولا تختفي: المصاريف، المدرسة، المستشفى، شقاوة الضجيج المنفلت في غياب الأب، و«ضرب زيد عمرو» وسيرورة الأم الصغيرة الكبيرة اليومية، وحنق وسوسات كل ليلة: «كم أنت وحدك» في هذا الضجيج!
آآآآخ، يااااا ولدي
إنها «العَولة»٤ شبكة لا تنتهي من الخيوط المتداخلة والمشتبكة، منظومة «نشتي» (نشتهي، أي نريد)، طلبات الحياة اليومية في ظل الفقر، والجوع والتشرد، واليتم والفقدان.. وو.. إلخ. وأخطرها أن لا شربة ماء في العاصمة والمدن، وفي الصدارة أكبرها، تعز.
آآآآآآآآآخ، «كان ظهرنا والسند»، تميمة اليوم والغد، حبيب القلب الذي انخلع في صفقة وصفعة موت، باستهلال: «أيها الشعب العظيم». داعي الجهاد هلّ والخيارات الإستراتيجية أينعت، التعبئة الجهادية واجب ديني ووطني، فصعّدوا زامل الحرب والقتال:
«حيّوا بداعي الموت للمشرق والمغرب»٥. لكنه العيد يابن بدر الدين. أخّر الجهاد قليلاً، نونس بسراج البيت وضوئه قليلاً، فالمعركة طويلة. قليلاً يا أبا جبريل، قليلاً يا حفيد الأنبياء.
يردّ ظل السيد:
أعيادنا جبهاتنا٦.
مع كل فاتحة صبح وانسدال قمر، يخفت دلع الأمهات والزوجات. ما بعد الحرب، لن نسمع: «يا نظر عيوني، ويا كش من عيني، ويجعل يومي قبل يومك، وقوّى عظامك، فديتك، صح بدنك»، إلخ. من هدهدات الحصن الحصين لتعويذات الأم لرجل البيت والأسرة، وأبو العيال، وأخ العيال، وسراج البيت و«الحوية»٧: «ذهب الأحبة ولن يرجعوا أبداً».
ستصحو الأرامل والأمهات الثكالى ذات يوم بعد أن يبرد الرأس ويخف من لوثة التثوير الإلهي الأقدس، وتذهب عنه الحمى وحمأة «بالعشر ما نبالي خُلقنا للجهاد» و«حيّ بداعي الموت»، و«مانبالي مانبالي»، و«اجعلوها حربا كبرى عالمية»، «نحنا قرابين السيد. إحنا» وزغردي يا أم الشهيد، ويا زوجة الشهيد، وابن الشهيد، وموروث: «القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة»٨. سيبرد الرأس، لكن سرعان ما ستتصاعد الحمى حد الانفجار المريع، إنفجارات الفَقد وما بعده، الوحدة القاتلة، والتحام الجدران، وظلمات دهاليز البيت، استراق لحظة عشق عند إخماد هجيج الأطفال: أرملة الشهيد لم تبلغ بعد الثامنة عشرة، وما أكثرهن!!
و«أم الشهيد» أيضاً وما أكثرهن. الأم اليمنية، كم تعطيها عمراً في يمنها؟ خمسة عشر. خمسة وعشرين. زودها، سبعة وعشرين؟ لا تتعب راسك في الحساب! كيف؟ فبنات اليمن يتزوجن في سن الثامنة ويترملن في الخامسة عشرة، وأحياناً قبل، ويمتْن دون الثلاثين. استبخاس العمر وكسر زهو الحياة. البضاعة الرابحة والرائجة في «اليمن السعيد»!
هزيمة امرأة. تذبل أوراقها وأزهارها الغضّة قبل أن تفتش في نيسان. سيغلق باب الدار يا تقيّة، وتسدل ستائر النوافذ. وتصطك بصقيع الوحشة الطويلة المستذئبة، فمن يطرق باب مخدعك المتخشب، والمتحجر؟ لا، مؤنس يا تقية. لا من يلملم الحنين، ويجفف الدمعة ويمسح الأنين. الحاضر الآن فقط:
سيّد الوحشة القاتلة، الفالقة واللاعنة لكل جهاد، ولكل قداسة، ولكل إمامة تبتلع الأحبة. تاركة وحشة الأسئلة وما من مجيب في اليمن سوى الفقر، الجوع، التشرد، العطش، الظلام، الجهل، اللاأمان، وناسل الأسئلة التي ستلاحقك ألف سنة آتية من سرمدية الحزن والفجيعة: «على أيش قُتل ولدي؟على أيش قتل زوجي، وأخي، والأحبة هنا وهناك؟ على أيش، وللِما، ولمن، وكيف، وبعده»، إلخ.
إن الحرب، يا مسعّري الحروب بالمفرق والجملة، وكل أوزان ومقاييس الإبادة: لا صوت يعلو فوق صوت «سيد الجهاد»، ومعركة «لن تهزم أمة قائدها علي بن أبي طالب»، و«الحق أبلج والباطل لجلج»، وغيرها من هذيانات الدم.
كم من المهدّئات والمسكّنات، والمنشّطات، وتمائم الأسياد، والبخور، ومسكّنات «المؤمن مستمحن»، وزوامل «ما نبالي»، وتهاني الشهادة، وصورة الشهيد / القربان تعتلي المَفْرج وغرفة النوم، وسرد حكاية «سراج البيت» وكان، وكان، وكان، في زحمة المعزّيات، عفواً المهنئات في فلكلور «السيد»؟ كم من تعاويذ «ترميم الفجيعة» تحتجْنه أيتها الأرامل، وما أكثركن في يمن ٢٠١٥؟ كم وكم وكم؟
كهف السيد، ورأس السيد، وموروث السيد الأقدس، وخياراته الإستراتيجية لشعبي العظيم، لن يجيب، لا اليوم، ولا الغد ولا بعد ألف عام، يا تقية!
بعد الحمى ستأتي المبالاة وتتفجر، بعد إخراجكن للأحبة وفلذات أكبادكن، في حمأة «ما نبالي» في سبيل حمى الجهاد لقتال ٢٧ مليون نسمة من الدواعش والتكفيريين والخونة واللاثوار بعد النصر المؤزر بالغنائم الذي حشدتن له العيال أيتها الأمهات والزوجات، إكراماً لسيد العبث. وبعد الهرولة ليل نهار لخبز الكعك المبطّن بمهركن المصرور لليوم الأسود من الخواتم والقلادات والجنيهات الذهبية. وبعد أن كرعتن بما تبقى من زاد الأولاد في بطون معارك السيد التي لا تنتهي، ومع كل هزيمة يحولها إلى انتصارات تحصد الأكثر والأينع من «سراج البيت وضوئه»، وما أكثر القرابين من الأسنان الَلبنية في حضور «شهداء السيد»، إنه السيد «إن تكلم بكلمة با يمضيها»٩!
بعد ذلك كله:
انفجر عرق المبالاة يصفعكن، ويصفعنا معكن، ويصيب الوطن بمقتل، عندما نرى جميعنا مئات الآلآف من الأيتام، ومثلهم الأرامل، ومثلهم الأمهات الثكالى. ومثلهم آلة الحرب تجرف البيت والمأوى والمدرسة، والمشفى، والطريق، والحديقة وكم، وكم! فأي إكسير، يا تقية، سيرمّم الفؤاد المنكسر، والضلع الأعوج، والمستقبل بلا مستقبل؟ وأي حكايات ستحكى وبأي أوصاف وكنايات وخيالات وما بعد اللامعقول؟ أرامل الضلع الأعوج! كربلائيات يمن ٢٠١٥! كربلائيات ما دون الثامنة عشرة!
الفجيعة، والضمير المكلوم، يا تقية، عنوان الندم الآتي، بعد انقشاع حمى هذيانات تحرير جيزان ونجران، والركن اليماني والقدس، وإسقاط البيت الأبيض، (موت إسرائيل وأميركا ولعنهما) وتحرير عدن، وتعز والضالع ومأرب والبيضاء، وتهامة، إلخ.
نعم، عندما تنتهي جائحة الحمى /حمم الحوثية، سيتجلى حائط مبكى، لدهور آتية ومتواليات: «حسبك الحرب: الرجال» و«نحنا والخراب ليس فقط جيران، بل الخراب الساكن أروحنا والغرفة والسرير، وما تبقى من ذاكرة حلم طريّ».
سلامتكنّ، يا أرامل اليمن، يا أمّهات اليمن، يا أولاد اليمن. الصبر هو البضاعة الرائجة في زمن الحرب، وإن كان ممنوعاً من الصرف مهما تكاثرت أرصدته كمفاتيح الجنّة التي تصرفها ميليشيات «السيد» للمجاهدين، ولا مفاتيح سوى فناجين القهوة المرة.
رحم الله ضحايا اليمن كافّة، فلا شهيد في حروب الأخوة. لا شهيد في الحروب الأهليّة. كلّنا ضحايا. كلّنا ضحايا.
ودعتكن حافظ الودائع، وما بين الحكاية والهذيان خيط اسمه تقيّة.
وإلا فكيف تشوفووووا؟
- ١. صفة تطلق على النَسَب الهاشمي المقدّس، يقابلها «الزنابيل» وهي صفة تطلق على من هم دونهم من أبناء القبائل والرعيّة، وعامّة السكان.
- ٢. الصرخة المعروفة للحوثيين: «الله أكبر ، الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام».
- ٣. المقايل تجمعات الرجال لتناول القات. التفاريط تجمعات النساء لتناول القات.
- ٤. قُوت العيال والتربية والتنشئة.
- ٥. من زوامل أنصار الله الجهادية. والزامل: نشيد حربي.
- ٦. «أعيادنا جبهاتنا»، شعار رفعه الحوثيون للمجاهدين في الأعياد الدينية ــ الفطر والأضحى، بمعنى :المجاهد لا عيد له، عيده في المعركة .
- ٧. الحوية: حوش البيت.
- ٨. شعار الشهداء من أنصار الله.
- ٩. من الزوامل الحوثية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.