نباشر في هذا العدد من «بدايات» نشر مقابلات مع مثقفين من سورية تستنطق عن السلطة والمجتمع السوريين وعن معايشتهم الثورات والردّات المضادة للثورات في بلدهم. نبدأ هذه السلسلة بنشر مقابلة مع عزيز العظمة أجراها حمّود حمّود تصدر قريباً في كتاب بعنوان «سورية والصعود الأصولي». والعظمة هو مؤرخ وأستاذ جامعي وكاتب. من أعماله «العلمانية من منظور مختلف» (١٩٩٣) «قسطنطين زريق: عربي للقرن العشرين» (٢٠٠٣) صدر له أخيراً بالإنكليزية «نشوء الإسلام في العهد العتيق المتأخر: الله وشعبه» (٢٠١٤).
كيف تقيّم الصعود الكاسح للمدّ الأصولي في البلاد الإسلامية من خلال الحدث السوري؟
. إننا بحاجة لفهم الأحداث الجارية في سورية، في سياقها الأوسع، إلى لغة مناسبة: لكن دعني أقول في البداية إنّ المفاهيم الأقدم في هذا هي بالغة الأهمية، ومقاصدها كذلك مهمّة وحاسمة، وينبغي أنْ نعود إليها في مرحلة ما، ليس أقلها، دحض الأطروحات الشائعة حول فشل التحديث والحداثة. إنه طرحٌ سهلٌ، ومناسب وممالئ للعقول الكسولة أو العقول التي تبتغي ذلك عن قصد، إنه تبسيط خاطئ تماماً وتمثيلٌ زائف لهذه المسألة. هكذا أيضاً مسألة «عودة» الدين؛ فإنها لا تصمد أمام النظر والتحرّي، لكنْ تجري إعادة اختراعها بطرق مبتكرة، وخصوصاً بين المسلمين.
إننا بجاجة إلى لغة جديدة ما دمنا نتعامل الآن مع ظواهر جديدة، ظواهر اعتبرت وكأنها لا تستحقّ النظر، وكأنّها مجرّد انحرافات عن السوّية، مثل فشل الدولة، والفاعلين السياسيين والاجتماعيين خارج نطاق الدولة، وبروز وتوسع نفوذ الجهادية المتطرفة، من الجزائر منذ أكثر من عشرين عاماً إلى أفغانستان والشيشان والصومال واليمن وشمال أفريقيا والزرقاء والكرك، إلى الرقّة والموصل وأماكن أخرى. هناك ظواهر اجتماعية تُناظِرُ الأخيرة هذه في خروجها على بنى الانتظام الدولتيّة والقانونيّة وغيرها من البنى الرسميّة، وبالتالي استعصائها على المسارات التحليليّة المعتادة والمبتنّاة على افتراض التنظيم والتمأسس الرسميّين: ظواهر مثل عصابات المخدّرات في كولومبيا أو الجيوش المليشياويّة في وسط أفريقيا (حول مناطق الثروات المعدنية في الكونغو وغيرها) وفي غربها حتّى زمن قريب، وفي المثلّث الذهبي في جنوب شرق آسيا، حيث نجد حركات لا تزال قائمة على تجارة المخدرات نشطة ومتماسكة كانت قد رعتها وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) من الستينيات في لونغ تينغ في شمال لاوس. إنّ العديد من هذه الجماعات (وربما كلها)، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، لها أو كان لها اتصال مع الـسي آي إيه، أو على الأقل بعض الأجهزة السرية الأخرى التي عملت بمثابة داعم أساسي ولوجستي لها. لكل فاعليات هذه الجماعات أسس اقتصاديّة واضحة وأساسية.
بعبارة أخرى، لدينا ظواهر نجمت عن وضع حيث «اللارسمي» (الاقتصاد غير الرسمي أو «الأسود»، من خلال شبكات المافيات، أو السياسات اللادستورية ذات الوزن الغالب للأجهزة الأمنية - لكن أيضاً، ولا ينبغي لنا أنْ ننسى هذا، العديد من المظاهر الراهنة للأسواق المالية - الخارجة على القانون ولكن المتمتعة بحماية سياسية، من أنشطة صناديق التحوّط والاقتصاد الافتراضي والتجارة الإلكترونية السريعة جداً في الأسهم والأموال) يتطلّب منا اليوم اهتماماً أكبر من «الرسمي»، مع نتائج أكيدة لفهم العلاقة بين النظام القانوني الرسمي والأساليب والبنى غير الرسمية من التنظيم. وعلى نحو متلازم، لدينا أوضاع غدت فيها نسب وتوازنات الأهمية النسبية للمركزي والهامشي مشوّشة: إنه وضع الانكماش البيّن لعناصر وأدوات الترابط والتكامل المركزية (سواء أكان ذلك جغرافياً أم اجتماعياً أم اقتصادياً أم سياسياً)، وتَوسّع مدى الهوامش بكافة معانيها وانقلاب بعضها على المركز مشكّلة ترتيبات جديدة وانقلاباً نوعياً في الأوضاع التي كنّا قد اعتدنا عليها وتدرّبنا على النظر فيها. وفي مسام انحسار النظم الدولتيّة وغيرها، تقوم نظم تدير التوحّش انطلاقاً من بقايا النظم السابقة الجغرافية والبشريّة والعمرانيّة والبترولية والمنجمية.
إنّ أوجه التشابه بين الحالات التي ذكرتُها (وسوف أنحّي الأيديولوجية جانباً حالياً) مهمة وعديدة، وقد نظر إليها المراقبون بازدراء، تم اعتبارها على أنها مجرّد حالات غير سويّة ملؤها الإجرام والانحراف، ولم تؤخذ على محمل الجد بما فيه الكفاية، ولم يتم التعامل معها بأدوات ولغة ملائمة لفهمها. والمشترك بينها هو، أولاً، أنها حركات تعيد إنتاج نفسها وتستمر في أوضاع تناحريّة. وأنّها ظواهر بنيوية مرافقة لضمور أو تهتّك أو للانهيار الكارثي لبنى وميكانيزمات ضبط وتماسك سابقة عليها باستخدام مادّة هذه البنى السابقة الاقتصادية والبشريّة. كما أنها تشترك (وهذا مهم للغاية) بميزة أنها تأتي من اللامكان. فما حدث في شرق سورية في الأشهر الأخيرة كان تماماً غير متوقع ومن غير المرجح على الإطلاق: هكذا، فقد أصبح غير المحتمل وما كان عصيّاً على التصور، من يوم لآخر، أمراً واقعاً. هذا تصور للأمر يؤكده تنظيم داعش الذي له خاصية الكابوس - وغالباً ما تعيق الكوابيس الفهم وبشكل آخر تتحداه، لهذا يحتاج المرء إلى أنْ يبقى متزناً في مثل هذه الأوضاع. إن لداعش علاقة غريبة مع المكان، كما يفهم عموماً: أي المكان بكونه ليس مجرد إحداثيات خطوط طول وعرض، أو مجرد اسم، بل المكان بما هو نظام مستديم من العمران ومن البشر والحجر ضمن شبكة من الأماكن المرتبط معه. وفي المقابل، ليست هذه الحركة مجرّد جيوب متّصلة فحسب، أُخذت غالباً بالعنوة، بل هي تنشأ من اللامكان وتصدر عنه، هذا رغم أنها حينما تتشكل تقوم ببناء علاقات محلية، وهي علاقات، بحكم طبيعة الأشياء، هشّة وغير مستقرّة. وهذا يعود، ليس أقله، بسبب أنّ هؤلاء الدواعش آتون من اللامكان. للعراق بهذا الاعتبار، بالمناسبة، وضع آخر.
لقد قدّم بعض زعماء الرقة (وأمكنة أخرى) البيعة، وفاوضوا بشأن المصالح والامتيازات مع إبراهيم السامرائي البغدادي الهاشمي الحسيني وممثّليه - وهو في الواقع إبراهيم عواد الذي قَدِمَ من اللامكان، رغم عراقيته: طالب متوسط في التجويد القرآني وإمام مسجد، كان يلعب كرة القدم في الشارع، قد دفعه ورعاه أبو مصعب الزرقاوي الذي جاء هو نفسه أيضاً من اللامكان، أي من سياق الهوامش المضاعفة المتضافرة والمتشابكة مع «مكان» آخر هو شبكات غير منظورة للبعث العراقي وأخرى متبقّية من أزمنة أخرى هي العشائر المستعيدة الروح. كان على الزعماء المحليين المتبقّين أو الجدد أو المتجدّدين في سورية التفاوض مع أبي عمر الشيشاني، وهو كذلك شخص من اللامكان: هو في الواقع طرخان باترشفيلي، جورجيّ المولد والجنسية، خدم في الجيش الجورجي، ومن عائلة مسيحية قد يكون لها أصول إسلامية. وهذا إضافة إلى تونسيين وليبيين وبلجيكيين وأستراليين وسعوديين، وهلمّ جرّا. نقول هذا، رغم أنّ كل هذه الترتيبات والتحالفات المحلية هي، في طبيعتها، غير مستقرة على نحو شديد، وليس أقل من ذلك لأنها علاقة بين مكان مستقر واللامكان: اللامكان بمعنى نبذ المنشأ وإعادة تشكيل الذات ثم اللامكان، أي المكان الخيالي والافتراضي (دابق، الشام، القسطنطينية، رومية في خطاب داعش)، على نحو يضارع هذه الذات الجديدة. واللامكان بمعنى الخروج عن كل الأزمنة التاريخية والخروج عليها.
علاقات هشّة وغير مستقرّة
هذا إذا لم تولّد داعش وما شاكلها من داخل الحركات الجهادية عناصر داخلية للاستمرارية والتجذّر، ومن المقدرة على الاستنساخ الذاتي محلّيّاً: غالباً المال والأسلحة والانضباط ومناطق فارغة لحكمها - شريطة أن يتاح مستمرٌ من الزمن كافٍ للاستقرار على وتائر وممارسات قابلة للاستنساخ ثمّ الاستقرار لدى قطاعات محوريّة من المحكومين أو للاستقرار باعتباره نسقاً لهيمنة وإدارة للفوضى. لدى الحركات الجهادية (وهذا واضح جداً في سورية) انشقاقات مستمرة وصعود وهبوط لحركات، مثل انشقاق «أحرار الشام» في ريف دير الزور والاندماج مع داعش، ومثل التداخل المنظور في مخيم اليرموك في نيسان/أبريل 2015، ثم الاندماجات والتحالفات في ربيع ٢٠١٥. دعنا لا ننسى أنّ البيعة (تاريخياً وفي استخدامها الحالي من قبل داعش أو عائلة الأسد أو آل سعود) هي إشارة إلى الخضوع وليس الشراكة. وهذا قد ينشأ عن اتّقاء الشر، أو لغياب سلطة أخرى، أو بالتواطؤ، كما شاهدنا في الموصل وجبل سنجار، حيث انتهز بعض السكان هذه الفرصة لسلب الأملاك والبضائع والأراضي العائدة لجيرانهم. إنني أذكر كل هذا لأقول إنّ داعش ليس لديها على نحو كبير بيئة حاضنة بقدر ما لديها بيئة غير ممانعة وفي بعض الأحيان متواطئة. وعلاوة على ذلك، المهم أنْ لا ننسى أنّ شرق سورية قد تصحّر سكانياً نتيجةً لتطورين اثنين في السنوات الأخيرة: الأزمة الزراعية، ومن ثم، بالطبع، العنف الذي حلّ منذ سنة 2011 والذي ربما كان قد آزر وعورة الطباع في بعض البوادي والأرياف، وأخرجها من عُقالها. وأخيراً، إننا بحاجة إلى أنْ نتذكر أنّ داعش، رغم اندماجها مع الطائفية في بعض الأوساط وفي ظل ظروف معينة (لا سيما في بعض أجزاء من العراق) فإنها لا تسلب وتقتل وتسرق وتهجّر وتطرد المسيحيين والشيعة فحسب، بل إنها تقوم بمثل هذه الشناعات ضد السنّة من غير الموالين أيضاً. وفي الواقع، إنّ العشائر التي قدمت البيعة في أجزاء من سورية تعي تماماً هذا الأمر.
تربية التوحّش
وبالرغم من قدوم هذه الجيوش الخاصة من اللامكان، في العالم العربي كما أيضاً في لاوس أو الكونغو أو كولومبيا، فإنها قد نجحت بدرجات متفاوتة في الاستمرار والدفاع عن الجيوب والمناطق التي استقطعتها. لدى البعض منها طموحات أيديولوجية في جعل هذه الأراضي يوتوبية، حيث تحاول تحويل الأراضي التي تسيطر عليها من لا مكان إلى مكان يوتوبي قادم (هكذا، نجد أنّ داعش وما ناظرها تريد خلق أطفال مجاهدين متطبّعين بالقتل وكذلك استيراد مقاتلين، فضلاً عن مجاهدات النكاح، وإعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية والسلوك الشخصي، بل الدين الإسلامي على صورة غريبة غير مألوفة، مع جرعة قصوى من السُمّية التي تحملها جميع الأديان التوحيدية)، في صراع دائم مع العالم الخارجي الماثل أبداً كنقيض ترسم بموجبه صورة الذات. إنهم يتوسلون ويستندون إلى مفهوم وحشي للهوية، وهو مزيج من طائفية محلية حادة ممتزجة مع جيلٍ في سورية والعراق لم يشهد إلا القليل مما ابتعد عن الوحشية والبؤس. هم يستندون أيضاً في الخطاب والتعبئة إلى نتائج التعددية الثقافية الأوروبية، وهي تمثل تصوراً عن الذات باعتبارها متفردة ومتوحدة ومستوحشة، على نحو جمعي. ومعظم تلك التنظيمات تجعل من أفرادها، ومنهم الأطفال أيضاً، متوحشين على نحو كامل ومقصود، وذلك من أجل زيادة التماسك الداخلي والتأكيد على التمايز النوعي بل الجوهري وحدّة الانفصال عن الخارج. لقد ظهر هؤلاء ذوو الهوى الإسلامي مع مسرح سياسي مغرق في الإغراب، شاهد على خيال محدود مشدود نحو بورنوغرافيا دموية. كما أنهم يعملون على إعادة التنشئة الاجتماعية للأعضاء كلياً وذلك على صورة تسمح بتفكيك الهيئة الاجتماعية والروابط الاجتماعية السابقة على الانتماء لهذه الجماعات، وتفكيك الشخصية الفردية ودمجها في كتلة من الغوغاء لا حدود لمطالبها: إنه انتقال من الإنساني إلى الوحشي لتحقيق الكمال. نجد دوماً في سياق هذا الضرب من التنشئة الإسلامية المستأنفة سلوكيات تتبدى فيها الفظاظة أو قلّة الأدب على أنهما من باب الالتزام بالواجب الديني: الزجر والتدخّل في شؤون الآخرين، مثلاً، أو التمنّع عن مصافحة الأفراد من الجنس الآخر. وهذا ما يماثل الفرق الدينية المشاكلة للجهادية الإسلامية في كل مكان: لقد أقام تمرد تايبينغ في الصين مثلاً (1850-1864) مملكة تايبينغ المسيحانيّة السماوية على الأرض في نانجينغ، حيث مورست كل أشكال ودرجات العنف (وتم الردّ ذلك أيضاً بشكل كامل من قبل أعدائهم الصينيين وكذلك الفرنسيين والبريطانيين، على أساس العين بالعين والسن بالسن)، مما خلّف عشرين مليون قتيل. مثال آخر هو جيش الربّ في أوغندا. إنّ التربية على التوحش جزء لا يتجزأ من إعادة التنشئة الاجتماعية للفرق الخلاصية هذه ولسيناريو الفتن والملاحم.
اقتصاديات مافيوية
دعنا نؤكد أيضاً أنّ كل هذه الحركات هي كذلك مشاريع اقتصادية وأرباب عمل على نطاق واسع. كل أولئك ــ من حركات خلاصية وغيرها ممن نتكلّم عنه ــ يعملون على السيطرة على الموارد الاقتصادية الضخمة: النفط والآثار والصوافي والغنائم والرسوم على البضائع والأفراد (ما يسمّى بالجزية والزكاة) في سورية، والمخدرات في كولومبيا ولاوس، الذهب والماس والمعادن النادرة الثمينة (التي تعتمد عليها الهواتف المحمولة) في الكونغو ورواندا، هذا إضافة إلى الخوّة والغنيمة والفدية، وبالطبع الدعم المالي الخارجي ذي الدوافع السياسية.
ولهذا حقاً، فإنّ اعتبار هذه المجموعات تحت عنوان الانحراف أو الشواذ ليس كافياً أبداً لفهمها، كلّها عصابات نهب وقطع طرق، لكن العبارة المختصرة هذه لا تقرّبها من ملكَة الفهم. إنّ هذه الآن تُمثّل ثوابت بنيوية لنظام عالميٍّ ناشئ، وينبغي أنْ تدرس على هذه الصورة، لا على أنها انحرافات. كذلك أيضاً التحوّلات الجارية نتيجة للتحولات والتبادلات الاقتصادية الدولية، التي تعتبر عموماً انحرافات، وتخضع في كثير من الأحيان إلى محاكمة أخلاقية بدلاً من أن تدرس تحليلياً على نحو سليم: الاقتصادات المافيوية والسياسات والاقتصادات السوداء والسياسات المفترسة للبنوك والمؤسسات المالية وبعض أجهزة الدولة، فضلاً عن الأموال الافتراضية التي يجري إنشاؤها وإعادة تدويرها تباعاً في ثوان معدودة، والسمات الأخرى للرأسمالية المتأخرة بعد سنة 1989 التي تحررت من تحديات النماذج الاشتراكية البديلة.
لدينا أيضاً تّشظّ داخلي اجتماعي-اقتصادي وفي مستويات أخرى، لجميع المجتمعات من دون استثناء، وبروز سمات العالم الثالث في أجزاء كثيرة من العالم الأول، ولدينا كذلك سياسات الهوية، بما في ذلك النزاعات الأهلية (العرقية والطائفية والدينية) التي تحلّ محلّ الأسس الأخرى لبناء الأنظمة السياسية، وغالباً في تلازم مع سياسات التشاركية القائمة على أساس المحاصصة. وينبغي على المرء الّا تفوته الإشارة إلى التحولات في وظائف الدولة، خصوصاً منذ ١٩٨٩: أي النزعة إلى تقليص وظائفها التمدينية ووظائف الهيمنة، وخصخصتها لصالح بعض الجماعات في كثير من الحالات (كما هو الحال مثل سورية). لدينا هنا حقيقةٌ وهي أنّ الديمقراطية الليبرالية ليست حقاً تعويذة تحتوي حلاً شاملاً لجميع المشاكل، ومن المرجح بقاؤها في مناطق معيّنة من العالم فقط. وبالطبع، لدينا ظواهر ثقافية مثل ما بعد الحداثة والتي تشكل رديفاً أيديولوجياً لهذه التحولات النكوصية العالمية، ذلك أنها تجذّر تمثّل بعض النخب الثقافيّة في البلدان المتخلفة لدونيّة أممهم واستعصاء الترقّي عليها.
. من الواضح أنّ لسلطة الدولة في أغلب البلدان العربية اليد الطولى في استكمال تدمير الفضاء السوسيولوجي. أليس هناك من إشكال علماني في دعوة هذه الأنظمة، وبخاصة في بلدين مثل سورية وتونس، بالعلمانية وهي التي تساهم في تفريخ الأصولية؟ الآن الإسلاميون لا يتخذون مسلكاً في الهجوم على العلمانية إلا من خلال الاحتجاج بسلطات الأنظمة «العلمانية» هذه (هناك بعض من الأصوات المثقفة السورية تشارك الإسلاميين هذا النفس في الهجوم على العلمانية والعلمانيين، لكن بأساليبها الملتوية، تحت حجة لفظة ديماغوجية: «علمانويين». ياسين الحاج صالح هو فقط أحد هذه الأصوات في هذا الخط الهجومي، ومعه لائحة عريضة من المثقفين). هل لديك من تعليق على هذا؟
. دعنا لا ننظر إلى هذه التسميات كما لو كان المرء يقدّم شهادات حسن السلوك. وإنّ وسم العلمانيين بالعلمانويين، وعطف ذلك على رعاية الاستبداد، ليس إلا نقضاً خطابياً للعلمانية يتسم بموقف مضطرب من طرف علمانيين معطوفين على الشعبوية.
المجتمع المدني والدولة الاستبدادية
القول بأنّ النظام السوري علماني، رغم رعايته النكوص الاجتماعي (الطائفي والقبلي) والديني، ليس قولاً لصالح العلمانية ولا ضدها. إنني أدرك تماماً الجدل الذي تشير إليه أنت، وأنا شخصياً تعرضت للنقد في هذا الشأن، وإلى الزعم بأنني مُوال للنظام أو مثقف استبداد كما يقال، وذلك مع قدر كبير من التجني والاختلاق عليّ والادعاء بمعرفة مواقفي على نحو غريب لست قادراً على التعرف إليه وأنا أراقب في السنوات الأخيرة تفسّخ النظام إلى نظام مسلّح للصوصية والابتزاز والسطو الذي أخذ الدولة رهينة ــ ارجعْ إلى ما سبق أن قلته حول اختلاط الرسمي باللارسمي ــ، هذا الكلام سهل جداً ومجانيّ. وإنّ ما يترتب عليه هو أنه موضوعياً رديف للتيارات الأصولية. أحياناً بوعي تماماً، وأحياناً من دون وعي. ياسين الحاج صالح، كما أستشفُ من الكتابات الأخيرة، قد راجع رؤاه حول الإمكانات الثورية للقوى الإسلامية، وأراني متأكداً من أنه على وفاق معي الآن حينما أجزم بأنها الآن ليست من جانبنا نحن السوريين، وأن الخيارات السياسية (هذا إذا كان لنا أنْ ندعوها خيارات في هذا المرحلة من الزمن وبعد كل الذي حدث) ليست واضحة.
لطالما ارتبْت بالجماعات الأصولية، خلال فترة ما أطلق عليه فترة حركة المجتمع المدني في دمشق، وربيع دمشق الذي سبق الربيع العربي، بعد وقت قصير من تسلّم بشار الأسد السلطة. فقد أوضحت وجهة نظري (مع صديقي فيصل دراج) في جريدة «الحياة»: أنّ النهج المشجع على استجلاب القوى المعادية للحداثة والديمقراطية والعلمانية، و ذلك في إشارة إلى الإخوان، إلى ما يسمى «التسويات التاريخية» في ظل ظروف غير واضحة، ومن موقف الضعف تنظيمياً، والذهاب إلى أنّ الديمقراطية شعار فضفاض دون توصيف، تعويذة تشفي كل العلل الاجتماعية والسياسية ــ كل ذلك من السذاجة بمكان، وكان لدى العديد تشاطراً و فهلوة وما ندعوه بالعاميّة «زعْبَرَة»، على منوال ما قلته سابقاً حول تعامل الكثير من المثقفين العرب مع العلمانية في العقود الثلاثة الماضية.
أكثر سذاجة هو ذلك الشعار السخيف الذي يعلن بالسبّابة المرفوعة أنّ «الإسلام هو الحل». إن موقفي الآن كموقفي في أيام ربيع دمشق حول الرؤية الساذجة عن المجتمع المدني، باعتباره ببساطة ما هو غير الدولة الاستبدادية (أو في تونس، ما هو ليس إسلامياً)، وحول الترّهة شبه السوسيولوجية الذاهبة إلى أنّ المجتمع ليس فقط متمايزاً عن الدولة، بل إنه مقابلٌ لها على وجه التناقض. هذه نظرة شائعة، وكان قد روّج لها أستاذ علم الاجتماع السوري برهان غليون الذي تحدّث بنحو غريب عن «الدولة ضد الأمة» وفق إطلاقية أيديولوجية تحول دون أي وصف سوسيولوجي لأيّ منهما، أي المجتمع والدولة. هناك كثير من الانتقادات بسبب هذه المواقف، لكن قناعتي بها ثابتة، ومنها ــ وقبل عدة سنوات مما دهمنا من الحدثان في السنوات الأخيرة ــ أن الخطابات الإسلامية (وكان المرء آنذاك مهتماً بالإخوان أكثر من داعش) حول الديمقراطية هي شعبوية أكثر منها ديمقراطية أي أنّها استبدادية المآل، وبأنّ مثل تلك القوى ليست من الشركاء في أية تسويات تاريخية تبتغي المصلحة العامّة.
لقد قيل في الردود النقدية أنني أقوم بـ«الحكم على النوايا». هذه تهمة صائبة أتحمّل وزرها، ذلك أنني قدّمت بهذا الموقف حكماً سياسياً، والحكم السياسي دون الحكم على النوايا ساقط، ولا تنطوي الأحكام السياسية على المجاملة. وأعتقد أن ما حدث في مصر في ظل مرسي لهو دليل كاف على ذلك: جوع إلى السلطة، جوع وكأنه خلقيّ لا يمكن إشباعه أبداً، ما نسميه «العين الجائعة» التي تروم تمام الاستحواذ، هذا جنباً إلى جنب مع شعور هؤلاء الإخوان بأهلية وبأحقية حصرية كما أسلفت، مع خطاب مستفيض في المظلوميّة وأيديولوجية تستبدل الشعب بالإخوان (التمثيل وكأنه الاستبدال: تمثيل الإخوان لجوهر المصريين والمسلمين، وهكذا دواليك). لقد كان شخص مرسي سبيلاً للاستيلاء على الدولة: فهو كان من الناحية الاسمية رئيساً للجمهورية، بيد أنه كان في الواقع الفعلي ممثل الإخوان في مكتب الرئاسة.
في الحديث عن الأصولية وعلاقتها بالمكان، وعن تجذر الأصولية في العديد من الأرجاء السورية، وعن علاقة هذا بالمكان وبالدولة، أقول لقد عملت الدولة السورية في الفترة البعثية على طمس العلاقة بالمكان، وشجعت الهجرة الجماعية للناس من الأرياف الذين شعروا إما بالقلق والاضطراب في المدن أو حملوا إلى المدينة ضغائن قوية انقلبت بسرعة إلى أحقاد مكتومة. لقد أراد البعث، ومنذ أيامه الأولى، إغراق المدن بالمهاجرين من الريف، والعديد من هؤلاء المهاجرين، الذين عاشوا الإحباط على جوانب وهوامش دمشق وحمص وحماة وغيرها من المدن، انقلبوا من ثم على الدولة نفسها التي سعت إلى إحضارهم إلى حيث وجدوا أنفسهم. أما تراث المدينة والتراث الوطني المؤرشف في المتاحف والذي يعود إلى المدن، فإنّ ذلك لا يعنيهم بشيء، وهو عديم المعنى للأصوليين العديمي الجذور الذين يخربون التراث الوطني لسورية والعراق أو يهربونه لمصالح تجارية عبر الحدود. في هذا محو للتاريخ الفعلي لحساب تاريخ أصولي متخيّل، يدمّر المكان وتاريخ المكان ويحوّل ما تبقّى من سكانه إلى كائنات منقطعة عن أزمنتها. إن هذا مكمّل لزعم داعش بأن سورية ليست للسوريين، وأن العراق ليس للعراقيين بل لأمة قيد الاختراع.
النيوليبرالية والجيوش الخاصة
حتى الشعور بالوطنية في السنوات العشرين الماضية قد أحبط من قبل سلطة مجموعات استولت على الدولة. في العراق في الصيف الماضي، تبخّر الجيش أمام هجمات داعش، و بعد ذلك بأشهر في الرمادي، وقد فشلت الدولة في الاضطلاع بدورها الأساسي والجوهري. وفي سورية تستخدم الجماعة الحاكمة الجيش لتدمير البلاد، وتتسبب في هروب وهجرة نسبة كبيرة من مواطنيها، داخل البلاد وخارجها. إنها تستخدم الجيش باعتباره مليشيا، جنباً إلى جنب مع غيره من المليشيات الطائفية المحلية والأجنبية المدعومة من إيران، على نحو صريح ونابٍ. وفي الوقت نفسه، لقد كانت جاهزة للتخلّي عن السيطرة على مساحات واسعة من شرق سورية لصالح جماعات إسلامية وكردية، ولم تكن مستعدّة للدفاع عن مواقعها العسكرية في مدينة الطبقة أو تدمر وأماكن أخرى، أو لإقالة وزير الدفاع المسؤول عن هذا كله. كانت إحدى نتائج ذلك ظهور جيوش خاصة، بما فيها التشكيلات القبلية، كما تم ذلك في وقت سابق في العراق، وبعض من هؤلاء عملوا على دعم تنظيم داعش الذي أصبح في ما بعد لاعباً داخل المسرح القبلي السوري في الصراع والمنافسة، وإن كل هذا بالطبع يتعلق باقتصاد الحرب في المناطق السورية خارج سيطرة الحكومة، وإلى حد كبير في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة: وينبغي أنْ نستذكر أنّ العديد من جماعات الشبيحة في سورية، هي عملياً جيوش خاصة، لاعبة في مجال الاقتصاد غير الرسمي.
إنّ هذا، إضافة إلى النتائج الاقتصادية لليبرالية الجديدة التي رسمها الدكتور عبد الله الدردري لسورية، وأدّت إلى إهمال ولا مبالاة تحوّلت إلى إمعان في تهتّك القيم. لقد كان نظام التعليم في سورية، وحتى نسبة التدريس للأطفال، في العقدين أو الثلاثة الماضية، تحت ضغوط تراجعية هائلة، إلى درجة الاختلال، حتى لتبدو الخطابات الأصولية، وخصوصاً تلك المبهرجة، جذابة في مثل هذه الشروط: فهي مألوفة في مفرداتها، وذات حضور تلفزيوني منذ فترة طويلة، وسهلة التكرار وواعدة بالخلاص، ولها ميزة إضافية، في ظروف السنوات الأربع الماضية، في قابليتها للتمويل والدعم. ودعنا نتذكر أنّ المليشيات أرباب عمل، أو أنّ التعبئة التي تُستجمع تتضافر مع البؤس وتنتج هستيريا جماعية وإيحاءات جماهيرية على نحو فعال، وتغسل الأدمغة. وحالما تتاح لها بنية تحتية فاعلة (مثل لجان الشريعة وغيرها المدعومة بأجهزة القسر والقمع)، فإنّ الأصولية تغدو مكتفية ذاتياً ومنتجة ذاتياً وقادرة على إعادة إنتاج ذاتها.
. في البداية كنا نفكر ما الذي يحدث في «رقصات الموت» في سورية، كما أطلقت عليها أنتَ مرة، أريافٌ تقاتل أريافاً؟ وهذا على اعتبار أنّ معظم القوى السورية الفاعلة في هذه الرقصات تتحدر من الأرياف. لكنْ هل من الممكن التوضيح أكثر ما المقصود بالضبط من أنّ الأصولية ترتبط بالمدن لا الأرياف؟ وهل هذه ظاهرة عامة في العوالم الأصولية؟ وهل لهذا الكلام من علاقة حول ما يُقال عن ارتباط الإسلام بالمدينة؟
. ليست المسألةُ أريافاً ضد أرياف بقدر ما هي هوامش ضد هوامش، وذلك في رقصات الموت في ظل تشبيح متبادل من قبل العديد من العناصر المنتمية إلى الفئات المهمشة إلى درجة الرثاثة ــ البروليتاريا الرّثة بعبارة كانت دارجة أيام عزّ الماركسية. إنني لا أعرف بالتفصيل كيف صار حال الأرياف بعد الأزمة الزراعية في سورية في السنوات القليلة الماضية، خصوصاً (2008-2010) التي فاقم الإهمال من أثرها وفاقم منها غياب الكفاءة عن الشخص الذي كان آنذاك وزيراً للزراعة (عادل سفر) والذي عيّن رئيساً لمجلس الوزراء السوري عام 2011. علينا أن نأخذ بالحسبان أيضاً تصرّف عناصر الأمن في مفاصل نسيج العلاقات الاجتماعية، وبطبيعة الحال، في نسيج العلاقات الاقتصادية، وخصوصاً الاستيلاء على الأراضي وغيرها من الممتلكات بناء على هذا التبرير أو ذاك، وعلى امتداد حياة جيل كامل.
ما حدث في سورية منذ بداية الحراك قبل تحوّله إلى حروب أهليّة هو أن الكثير من العناصر الشبابية المتعلمة، المستقلين والواعدين من المجموعات الشبابية، ممن كان لديهم المقدرة على القيادة والعمل على إنتاج تماسك سياسي و معنوي وطني شامل ومنظور واسع للحراك، قد تم التخلص منهم قتلاً أو اعتقالا أو هجرة: أولاً، من قبل قوات أمن النظام (وأعتقد أن هذا كان سياسة متعمدة وجزءاً من استراتيجية أمنية هدفت إلى أن تتصدع سورية إلى جزر أمنيّة تغرق الحراك في المحليّة و تمنع التكامل الوطني عن الداخل)، ولاحقاً، من قبل القوى الجهادية التي حلّت محل هذه المجموعات الشبابية وفتكت بما تبقى منها أو امتصت القليل من بقاياها.
الجهادية وطقوس الموت
ارتبطت الإسلامية بشكل عام مع أشكال معيّنة من العمليات التربوية وهذه، كما قلت سابقاً، من منتجات التحديث. مواقع الإسلامية الأساسية كانت الفئات المتعلمة من الدرجة الثانية، من البرجوازية الصغيرة، والمتعلمة تعليماً تقنياً على العموم والقاطنة في المدن، إضافة إلى مهاجرين جدد إلى المدن، وإنتجلنسيا مدن صغيرة ومهنيين. كل هذه الفئات عانت من الانسدادات نفسها في التقدم إلى مواقع النخبة العليا، وهم دائماً مرتبطون عائلياً أو باعتبار مكان المنشأ. وما دامت الإسلامية تعتاش في واقع متناقض مغاير لادعاءاتها عن هذا الواقع، فإنها تتطلب جهداً دؤوباً من التمثل الداخلي للوهم، وبالتالي وضعية تقبلية لما هو غريب على الرغم من شيوع بعض مفرداتها وادعاءاتها المعيارية.
الإسلامية، من الناحية السوسيولوجية، لهذا ولأسباب أخرى، هي أقل شيوعاً في الريف منها في المدينة ــ الأمر نفسه يمكن تطبيقه على أيديولوجيات أخرى مثل الشيوعية: لقد تم تعبئة فلاحي ماو من قبل الحزب والدولة، والعديد منهم لم يكن (إذا ما تحدثنا سوسيولوجياً) من الفلاحين أو لم يعودوا كذلك. تعتاش الإسلامية على تدمير الثقافة اليومية السائدة. إنّ نمط الإسلامية الذي نجده اليوم سائداً، على عكس سابقه (على الرغم من أن كليهما إلى حد كبير من منشأ حضري) يزدهر في فترة تعرضت فيه مؤسسات التعليم الحديثة إلى الاستنزاف والإهمال، كما هو الحال في سورية، ما أدى إلى انحطاط المدارك على المستوى الوطني، وعزّز الظلامية والتخلّف الاجتماعي.
لقد بدأت الإسلامية بالانتشار في الأرياف، كما أشرْت سابقاً، عندما لم يعد الريف ريفاً، وعندما أخضعت العلاقات المحلية إلى علاقة شائكة بالمكان جاءت مع الجهادية. إنّ الجهادية التي نشاهدها اليوم ليست فقط مولعة بالموت، بل إن لديها طقس موت ثميناً تدعوه «الشهادة». ثم إنها تشكّك في حياة البشر وتتحفظ عليها، ما دامت هذه الحياة وتلك الحيوات لا تتوافق مع الخيال الجهادي لما يشكّل حياة مقبولة وصحيحة وإجبارية للبشر. إنّ الحيوات السويّة في وضع الهجرة تقتضي خيالاً هلوسياً تُركّب فيه صور بدئية راجعة إلى العصر الذهبي المزعوم، ومع فكرة الطليعة التي طرحها سيّد قطب وحسن البنّا قبله. لا بل هناك البعض ممن يعيش هوس صور الفتن والملاحم ودابق ويأجوج ومأجوج وفتح رومية. وتجري صياغة عملية لهذا كله بتوسل لغة الشريعة، ويفترض أن تكون هذه الرؤية الشرعية بدهية وشاملة لكافة البشر الموجودين فعلاً.
هنا يكمن التجريد والاستلاب عن الممارسات الاجتماعية حيث تعتزل الجماعات الجهادية البشر وتعزل نفسها، حاوية خليطاً كبيراً من «المهاجرين والغرباء»، من القفقاس وبريطانيا وماليزيا جنباً إلى جنب مع المال من الخارج (ينبغي على المرء ألّا ينسى أبداً، مرة أخرى، أن المليشيات أرباب عمل)، ويتفاعل هذا كله مع البنى المحلية التي تُقدِم على تحالفات محلية، والتي غالباً ما تكون انتهازية لكلا الطرفين، تتضمن امتيازات محلية للجماعات المحلية وقدراً من الحماية (حتى وإنْ كانت هذه الحماية غير مؤكدة أو غير مستقرة) من عمليات النهب التي ترتكبها الجماعات الجهادية نفسها، سواء أكانت محلية أم غريبة على حد سواء، والاستيلاء على المرافق العامّة.
كل الصور في هذا المقال تحوي تجهيزات للفنان السوري نزار علي بدر بعنوان «حجارة صافون» عن هجرة السوريين إلى أوروبا
هل النظام نظام علوي؟
من الضروري معرفة لماذا انقلبت أجزاء كبيرة من الريف على الدولة، بعدما كان قد فضّلها البعث واستقى من بعضها مادة للحزب والاستخبارات (حوران) وبعض تشكيلات القوى المسلّحة (بادية حماه)؟ إنني أعتقد أنّ الأزمة الزراعية في السنوات الأخيرة تكتسي أهمية كبرى كعنصر تفسيري وتوضيحي للأسباب المباشرة. كما أنّ مصادرة الأراضي في ظل إطار مجموعة من الذرائع لها القدر نفسه من الأهمية. وهنا ينبغي أنْ نتذكّر عمليات النهب والإذلال: فإذا ما انقلبت النفوس والأمزجة في أجزاء من حوران، التي كانت مصدراً لرجال الاستخبارات وقوى أخرى على الدولة، فإنه ينبغي للمرء أنْ يفكر أيضاً في عبارات بسيطة أنه منذ بداية الحراك كل هذه العوامل قد اتخذت زخماً خاصاً عندما تفجرّت سمة خاصة تعزى للحورانيين: «طلعت حورانيّتهم» (كما يصطلح السوريون غير الحوارنة على ذلك). إنّ المناطق التي كانت خاضعة لنهب النظام منذ 2011، لم تترك للسكان (ومن تبقى من السكان) سوى الاستياء والإذلال والإهانة والفاقة. وهذا، بشكل ما يختصر الأربعين سنة الماضية في التاريخ السوري الذي تدهور فيه الشعور القومي والكرامة الشخصية والشعور الطبيعي بالتضامن بين الناس إلى مستويات بدائية أسفرت عن الرغبة في الانتقام الخالص والأعمى، مع تهتّك بيّن للقيم ومنها قيم المواطنة والمصلحة العامة والوطنيّة والتكافل الاجتماعي المدعوّة أحياناً بالنخوة (عادت الأخيرة للبروز والفعل المتقطّعين أيّام الحراك).
وليس من المستغرب أنّ أجزاء كبيرة من حلب وأماكن أخرى كثيرة لم تنضم للحراك، وأنّ ما حُسب منها تالياً في خانة الثورة احتلّته مليشيات قدمت من ريف المدينة: النظام السوري لديه جذور وروابط اجتماعية، سواء أحببنا هذه الحقيقة أم لا، وكانت لديه مثل هذه الروابط في 1979-1981، ولا يزال يمتلكها بعدما توسع بعضها وضمر البعض الآخر. وثمّة أجزاء من الريف على حدود الصحراء، وخصوصاً في الشرق، كانت مناطق ذات أهمية للتجنيد العسكري بين الشوايا. إن وزير الدفاع السوري الحالي فهد الفريج مثال على هذه الوضعية وهو من أرياف بادية حماه. إن الكثير من هؤلاء قد حول وجهة تحالفه إلى جهة داعش ــ الأمر الذي تمكن مقارنته بمرونة تشكيل التحالفات بين القبائل في غرب العراق، في أعقاب النزوع إلى تشكيل الجيوش الخاصة التي دعيت بالصحوة. في هذه انكسار الرابط الوطني لصالح الرابط الأهلي. وإن استخدام «الحشد الشعبي» في العراق على ما هو معروف عنه من الدموية الطائفية لا بد من أن يدفع بالكثيرين من ضحاياه السنّة إلى التعاطف مع داعش والانضمام إليها.
وقد حصل في المستويات العليا من المجتمع السوري، وبين الإنتجلنسيا كذلك، الكثير من التزاوج بين العناصر السنّيّة المدينية وبين العلويين. يحقّ لنا هنا أن نتحدث عن تحالف مالي وتجاري بين الثروات الجديدة والثروات الأقدم، وعن المصاهرة. وبالطبع، إنّ النظام السوري ليس نظاماً علوياً، على الرغم من أنّ العلويين يشكلون مادته البشرية المركزية في العديد من أجهزة أمن الدولة والقوات المسلّحة. وعندما نتحدّث عن العلويين فإن المقصود ليس العلويين على نحو مجرّد، بل أفراد منتمون إلى أفخاذ وقرى معيّنة ــ وبالمقابل فإن علي مملوك رئيس أمن الدولة سني دمشقي، وكذلك رستم غزالي كان سنّياً من حوران. لكن الثلاث سنوات الأخيرة قد شهدت صعوداً مذهلاً في التعبئة الطائفية من جانب النظام (وتعبئة طائفية سنّية مقابلة ومماثلة في استشراسها)، عند العلويين، وعلى نحو أوسع عند الشيعة على العموم مع وفود المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية والأوزبكيّة إلى سورية: حزب الله وكتائب أبي الفضل العباس وعصائب أهل الحق وحزب الله السوري، إضافة إلى زعران الساحل السوري والحرس الثوري الايراني الذي أخذ مؤخّراً على رشقنا بفارسيته. إنه ليس نظاماً علوياً، بل استبداد تقوده عائلة أمن وبزنس علوية تستخدم وسائل مباشرة قائمة على عصبيات القرابة والقرية والطائفة الفرعيّة داخل الجماعات العلويّة للدعم والتعبئة. ولكنها بالتأكيد لا تمثل العلويين بالمعنى السوسيولوجي ولا تفيد العلويين كجماعة إلّا في الخطاب السجالي. إنّ الجماعة التي تستفيد من المصالح أو المنفعة الموضوعية هي دائرة ضيّقة جداً، وليست كلها علوية، فاعلة داخل كتلة اجتماعية أوسع بكثير. تنطبق الاعتبارات نفسها على ما يقال من أن نظام صدام حسين كان نظاماً سنياً.
لكنّ ذلك يجب ألّا يؤدي بنا إلى إهمال وقائع أنتجتها الحرب وخصوصاً دور الحرس الثوري الإيراني وأجهزته فيما يدّعي بفخر أنه نشر للثورة الإسلامية على حدود إسرائيل: ثمّة ما يشي بتغيير متعمّد للخارطة الديمغرافية في سورية: لم يبق في حمص إلّا عدد قليل من سكانها، ونرى أنّ حزب الله يعمل على ألّا يعود أهل القلمون إلى قراهم بعد تدمير الأراضي الزراعية وقطع 10.000 شجرة مثمرة فيه. لعلّ الإيرانيين راغبون في استكمال ما بدأه حافظ الأسد عندما التمس موسى الصدر لاعتبار العلويين شيعة اثني عشرية، وتعميم ذلك على قطاعات أوسع من الشعب السوري باسم تصدير الثورة الإسلامية، وربما رغبوا في أن يشهدوا يوماً ما زوجة الرئيس الأسد مرتدية التشادور.
. ماذا يمكن أنْ تقوله عن الخطاب المثقّف السوري ودوره المأمول حيال هذا الدمار في الدولة وبخاصة الدمار على المستوى الاجتماعي والأهلي الطائفي؟ وكنا قد أشرنا سابقاً في هذا الحوار إلى الانقسامات الهائلة والصلبة التي تسكن هذا الخطاب، والذي ذهبت أطراف منه إلى دعم الأصولية وسارت في الوقت نفسه وفق السياسات الطائفية ولم تعتبر الحركة الشعبية منذ البداية الحراك السوري سوى أنها حراك السّنة. وذهبت أطراف أخرى أيضاً، بذات ميكانيزمات المرض، لتدعم أطرافاً مضادة أخرى سواء اكتست أثواباً طائفية أو استبدادية. الصورة معقّدة، لا شك بذلك، لكن هل من كلمة حول دور للمثقف حيال ما أشرنا إليه؟
. المهم أنْ نلاحظ هنا أنّ أدوار المثقفين في سورية وأماكن أخرى من العالم العربي قد تغيرت إلى حدّ كبير في العقود الماضية، وبعض هذا يعود إلى التغيرات في وسائل الإعلام. إننا بعيدون عن الأوضاع التي استلزمت أفكاراً وأمزجة تستخدم مفردات «الطليعة» أو «جيل القدر». لقد اتجه المثقفون نحو العمل التكنوقراطي بمعانيه الأوسع (ومنها التعليم الجامعي) وإلى الانتماء المهني للمؤسسات القائمة وفقدوا الكثير من قدرتهم على المبادرة، والكثير من المكانة الاجتماعية التي كانت لهم سابقاً، وشجاعة الرأي المستقل. أشرت إلى وسائل الإعلام، ولكن كانت هنالك أيضاً عملية طويلة من الترويض ومن الترهيب، وليس أقلّها خيبات الأمل والفشل السياسي في 1967 و1989 وفي لحظات أخرى كذلك. والعديد منهم، كما أشرت سابقاً، أخذوا يمالئون مشاعر الرأي العام المفترض. لقد عملت كل هذه العوامل على حرمان المثقفين من دوائر حامية وخاصة بهم. ونتيجة لذلك، فإنّ ما نجده من النشاط الجماعي الذي مورس تحت مظلة المثقفين تحديداً كان ضعيفاً وبالكاد كان حقيقياً: كانت الأشكال المؤسسية ضعيفة للغاية والإنتاج الثقافي ساذجاً سياسياً. لا شك أن هناك بعض الأفراد ممن يكتب في قضايا مضيئة ومثيرة، بيد أنهم لا يزالون هامشيين دون بيئة حاضنة قادرة على أن تشكل لهم (كما كانت الأحزاب في فترة سابقة)، وأن تضمن لهم الاستمرارية والأثر.
لهذا على العموم، فإنّ المسألة ليست مثيرة على وجه خاص، إلّا أنّها دالّة على قلّة معرفتنا نحن السوريّين ببلدنا: إنّ قلّة الدراسات التي تتناول المجتمع والدولة والثقافة في سورية شأن لافت، وهو مرتبط باجتماعيّات المعرفة في ظلّ الاستبداد. وذلك يجعل معرفة السوريين (وغيرهم) بسورية معرفة انطباعية تسيّرها الأهواء في معظم الأحيان. إلّا أنّ الحروب الأهليّة السوريّة بدأت ترهص بنتاج أدبي رفيع، خصوصاً في مجال الرواية، وببعض التحليلات والشهادات النيّرة المنشورة في الصحافة وفي مجلّة بدايات وفي بعض المواقع مثل الجمهوريّة، وبعض الدراسات الجديدة، لكنّ أكثر ذلك بقي هامشياً ولم يصبج جزءاً من الثقافة السياسية العامة التي قد يكون لها الأثر في صنع السياسات.
. لكن ألا تعتقد أنّ هذه الأشكال الأصولية الجديدة التي تحرّكت من الهوامش وامتزجت بالحراكات الشعبية يقف وراءها غياب الانضباط في الحراك الشعبي وغياب قيادات مثقفة، بل واختلاط الأصوات المثقفة مع المدّ الأصولي؟ لقد كان هناك إصرار من الشارع المثقف منذ البداية على عاملين: الأول، عدم اعتراض ونقد الأصولية، ما دامت المعركة ليست معهم «الآن»، بل مع الأنظمة الاستبدادية. والثاني، إصرار شديد على غياب أي قيادة مثقفة أو حتى منظمة، ما دامت هذه الحركات هي حركات الشارع، حركات شعبية، لا حركات نخب (وأنا في ذهني الآن برهان غليون)... إلخ. ألم يمثل هذا إحدى نوافذ المدّ الأصولي؟
. نعم، بالطبع. إنني أزكّي ما تقوله أنت وأشير إلى نقاط قد قيلت بالمعنى نفسه وبدقة في سياق هذا الحوار. إنّ اختلاط الأصوات المثقفة مع المدّ الأصول واضح في العديد من الحالات، والقليل من المعارضين سعى إلى إبعاد نفسه عن الغموض في هذا الخصوص. البعض قام بهذا، البعض على الأرض، وآخرون في المعارضة خارج سورية، والبعض أيضاً في المجلس الوطني والائتلاف الوطني حالياً وسابقاً ودفعوا ثمن ذلك مما تأتّى عن الإخوان وبالطبع داعمي الإخوان. لقد أصبح التردد في نقد الأصولية في السنوات الأخيرة مرضاً، وتضخّم على نحو كبير حيث كان هناك إصرار على «وحدة المعركة» و«وحدة الصف» والجدال الفارغ حول أنّ العلمانية هي لعبة الاستبداد وتحيّز للأسد، وأنا لست متأكداً تماماً مما إذا كان المعارضون حقاً يعتقدون بهذا وبأنّهم لا يدركون أنّ القوى الأصولية ستصبّ عليهم كل جام غضبها إذا ما استطاعت. لا بل بالفعل قد فعلت ذلك. اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل يجسّد مثالاً على ذلك من بين العديد من الأمثلة. «الجهاد في سبيل الله» ليس معركة الحرية ضد الاستبداد.
الحجة القديمة نفسها: أنّ «الشعب» أو الشارع له طبيعة وميل ديني بالسليقة ولديه نزوع فطري لمقاومة التطور. وهناك أيضاً فكرة ساذجة للغاية عن الديمقراطية كتدفّق عفويّ وعضويّ للأمة وليس تنظيماً سياسياً وعملية اجتماعية وسياسية. والقادة والمثقفون السوريون لا يرغبون عموماً أنْ يقودوا بالمعنى الحقيقي للكلمة: استخدام الأموال الموجودة، نعم، والقيادة من الخلف، نعم، لكن ليس قيادة بالمعنى الحقيقي. إن الوحيدين الذين يمارسون القيادة ويستبدّون بالقيادة هم الأصوليون المسلحون، وإني أنظر بأسى لما حصل للجيش السوري الحر على الأرض وعلى يدي «القيادة السياسية» والقوى الخارجيّة الداعمة لها.
ومرة أخرى، نعم، غياب القيادة المثقفة والمسيسة هي عنصر هام هنا. وهذا يشكّل إلى حد كبير نتيجة لسياسة منهجية من قبل النظام، نفّذها منذ بداية الحراك، بالقتل والاعتقال أو النفي لتلك العناصر، وتقطيع البلاد إلى جيوب أمنية حالت دون ظهور سياسات وطنية جامعة. إنّ السياسات التي صيغت إلكترونياً، كما عكستها شعارات أيام الجمعة في البداية، أصبحت بسرعة احتكاراً للإخوان المسلمين، الذين وضعوا المزيد من الدين في المحتوى وقاموا على زخرفة وتشويش الحراك على مقاسهم.
ولكن مرة أخرى، لا بد لي من الإصرار على نقطة كنت قد أشرت إليها دائماً. لا يوجد هناك حركة ناجحة، ولا يمكن أنْ يغدو تيار ما مركزياً، إذا افتقر إلى الوسائل اللوجستية والتنظيمية. و هناك تمويل كبير للحركات الأصولية.
. هل هناك من شيء ترغب بإضافته في ما يخص مسار الصعود الأصولي في البلاد العربية، وبالتحديد في سورية؟
. دعني أستجمع في هذا المقام خيوط ما سبق أن قلت، وأن أقترح تصوّراً لما أرجّح أنه سيحصل في سورية في المستقبل، أن أستجمع الخيوط وأحرّفها على أسس الناظم الأساسي لها، وهو الوضع على الأرض، وعلى الصورة المتجلية الآن، أي في نهايات نيسان ٢٠١٥. وإنني أجازف هنا، وتعزّ عليّ المجازفة السوداوية بتوقّع ما كان لوقت قريب عصيّاً على التصوّر وما هو أبشع ما يمكن تصوّره. قد يكون في ذلك انتصار للتجربة على الأمل، لكنّ ثمّة سلوى قابعة في أمل غير واضح المعالم وقائم على إدراك تعقّد الوضع في سورية وفي المجالين العربي والعالمي، ووجود متغيّرات قد تتسارع وتقلب من الوجهة التي تسم ديناميّات الوضع الحالي: تحوّل نوعي مستديم في التوازنات العسكرية غير المستقرّة، تحوّل نوعي في السياسات الدولية.
إن سورية بلد اقتلع: وحدة جغرافية اقتلع ما فيها من مجتمع بعد أن بادر النظام إلى تحويل نفسه إلى قوة احتلال غداة سوء الاستجابة للأزمة السورية والحراك الذي نجم عنها، غداة فشل رئيس الجمهورية في الاستجابة واختياره اللجوء إلى سياسة صفرّية ــ وكأنه أراد أن يؤكد لنفسه وغيره أنه ابن أبيه بل وأكثر من ذلك. وفي ذلك حصاد لما زرعه النظام على امتداد ما قارب الآن نصف قرن.
سورية بلد مقتلع خراب وأطلال يسمع فيه عزيف النظام وداعش وصدى البوم والرصاص، تتناهشه الضباع وتتناهش حوله. ولذلك فإنني لا أفهم الباعث على صياغة المشاريع التي تفترض أنه بالإمكان إعادة الإعمار انطلاقاً من الصورة التي كانت سورية عايها عام ٢٠١١، مع بعض التعديلات القانونيّة والدستوريّة والإداريّة. لا مستقبل لسورية كبلد إلّا إذا أعيد اختراعها أي إعادة تكوينها في انقطاع مع ماضيها القريب والبعيد باستخدام المادة البشرية وغيرها التي تبقّت، أي إن المنطلق سيكون الواقع الديمغرافي الناتج من الحروب الأهلية السورية والتصدّع الذي ضرب البلد: قلت إن سورية كادت أن تصبح لامكاناً، وأعني بذلك أن الروابط الأفقية والعمودية التي شكّل تقاطعها الكيان الوطني السوري قد تقطعت: الروابط بين المناطق والفئات الاجتماعية (وهي غير مقتصرة على الطوائف والإثنيات) والنشاطات الاقتصادية والبنى التحتية والمتون والهوامش. هُجّر أكثر من نصف السكان داخل الوطن وخارجه نتيجة للحروب ــ حروب الاحتلال التي شنّها النظام، والحروب الأهليّة ــ وسياسة الأرض المحروقة واستمرار النظام في تفريخ الفئات الجهاديّة ورعاية الأصولية والقبَليّة في المجتمع، وبوادر سياسة تحوّل ديمغرافي قائم على التهجير والاستيطان، إضافة إلى خسارة سورية العناصر الأكثر تعلماً وتأهيلاً وقدرة وثقافة، معطوفة على انهيار عميم للنظام التربوي عدا في بعض المناطق التي استعيض بها عن الانهيار بالتقهقر والعفن. ليس غريباً عن جوّ الجهالة والتجهيل البدائيين هذا ما صرّح به دون خجل بيّن أو مستتر مفتي الجمهوريّة العربيّة السوري غداة اجتياح الجهاديين لمدينة جسر الشغور. قال المفتي محمد حسّون إن الجيش السوري انسحب بسبب دخول شهر رجب لأن القتال فيه حرام.
هذا مع تداخل الإسلام الأصولي والجهادي مع سقوط الأنظمة وتنظيم الفوضى، وشبكات الإرهاب مع أنابيب ومنابع النفط وأزمة الغرب مع مهاجريه، وشبكات الاتصال العالمية، وأجهزة الاستخبارات المختلفة، والعشائر المتجددة، وفساد المقاومة، والهويات القاتلة والخطابات السياسية المتقادمة. الحاصل أن أيّ تفكير في مستقبل سورية ينبغي أن ينطلق من هذه المعطيات وليس من وهم الاستمرار في عمليات سياسية فقدت أسسها البنيوية والديمغرافية، فقد أضحت أجزاء كبيرة من سورية مجرّد مواضع ونقاط تقاطع الطول والعرض دون عمران: أشك في أن المهجرين سيعودون، والأرجح أنهم سيصبحون بروليتاريا رثة شاملة للمنطقة. وإذا استثنينا غزواً عربياً ــ عالمياً لسورية (أو نصراً للمليشيات الجهادية المدعومة تركيّاً وخليجياً، تتلوه مذابح طائفيّة) تالياً لتضعضع الموقف العسكري للنظام في ربيع 2015 واهتزاز إيران بعد قصف الحوثيين، فإنه لن يتبقى لدينا من قوى تقوم على إعادة اختراع سورية إلا القوى في مناطق سيطرتها حيث تدار الفوضى، مع شيء من الأخذ والردّ والكرّ والفرّ مع قوى النظام. بموازاة ذلك لدينا النظام، لكنّه أصبح الآن نظاماً تكاثرت عناصره الداخلية ومراكز السلطة فيه، ولذلك فإن أية تسوية قد تؤدي إلى إعادة اختراع البلد تقتضي إرضاء القوى التي أنقذت النظام: الشبيحّة، وإيران، والمليشيات الأجنبية في سياق نظام مليشياوي مافيوي، والوسائط في التعاملات الاقتصادية (كالنفط بين داعش والنظام بوساطة السيد جورج حسواني).
هناك بوادر لإسكان العناصر المليشياوية المعبّأة طائفياً في دمشق القديمة، وتشييع بعض ضواحي لدمشق وغير دمشق. والمرجّح أن تتم عملية تشييع لبسطاء الناس الباقين في مناطق أساسية من البلاد، ولم يفُتْ بعض قادة المليشيات تذكيرنا بأن جلّ سورية كانت شيعية حتى العصر الأيوبي (بِنِحَل مختلفة). ليس لي اعتراض على التشييع، وعلى تبديل الإنسان لدينه أو الانخلاع عن الدين بالكليّة، ولست معنياً بكون أكثرية سورية سنّية أم شيعية. اعتراضي على جعل سورية سنية أو شيعية، أي على أنْ يُجعل للوطن نِحلة. فلا أريد لسورية أن تكون هذا ولا ذاك إذ إن ما أريد لها هو أن تكون سورية لا يصفها دين ولا تصفها نحلة أو طائفة. أما شكل النظام المتحوّل والمعتضد بالمليشيات والشبيحة، فإنّ صورته ستعتمد في تصوري على من سيربح الصراع على سورية داخل إيران وبين أجنحة النظام الايراني، وذلك بعد أن يقرر أرباب القصر في دمشق التخلّي نهائيّاً عن المناطق الشرقية وبعض الشمالية والجنوبية لمن هو قادر على الاستبداد بها. قد تتخذ البلد الواحد من شكلين: إما دولة ذات مظهر علماني، مع طابع أهلي ذي غالبية شيعية (والافتراض هنا هو أن المهجّرين لن يعودوا ــ انظر مثال حمص ــ بل سيتبدّدون)، وإما دولة تلتزم ضوابط الحرس الثوري الايراني. إن ما قاله بشّار الأسد يوم ٨/٥/٢٠١٥ لهو ذو دلالة على معرفته بدستور بلاده وبفهمه للتناظر الدستوري مع إيران. فهو ادّعى أنّ الدستور السوري ينصّ على كون الشريعة مصدراً اساسياً للدستور. وهذا غير صحيح: إن الدستور السوري النافذ يعتبر الفقه الإسلامي أحد مصادر التشريع، والبون بين الإثنين واسع، ووجد في ذلك مقابلاً في ما يتعلّق بشكل الحكم لمبدأ ولاية الفقيه.
أما الولايات المتحدة، فلا سياسة لها في سورية، لديها فقط تخوّفات وهواجس، و نموذج العراق كحلّ مثالي. ليس لسورية لدى أميركا أي مكانة تتجاوز الحسابات الجيوستراتيجية: وذلك يجعل مستقبل البلاد منوطاً بالمفاوضات مع إيران، وربما مع استعادة الروح للبلدان العربية التي بدأت تشعر بعدم كفاية الدور الأميركي في حمايتها. أما تركيا، فهي وضعت نفسها خارج الحلبة، ولو أن لديها من المقومات ما يسهّل لها إعادة الانخراط بناءً على ما يحصل من تطورات في سياستها الداخليّة. ليست سورية، ولا العالم العربي بالنسبة إلى الأميركيين اليوم إلّا مساحة مضطربة بين إيران وإسرائيل، أي عودة الروح إلى المعتمد المزدوج لسياسات الولايات المتحدة أيام الشاه، في منطقة لا يمكن فيها الاعتماد على الدولة ولا على الشعب. وهي ستستمر في صورتها هذه على أنّها ثقب أسود فيه مُفتَتَح الجحيم وبوّابته. هذا إلّا إذا عادت الروح إلى النظام العربى بعد عقود من التهالك والتهتّك تالياً لإدراك ما نسمّيه بالعاميّة «االسخن» والخطر الوجودي والشعور بإمكانية أو حتّى بأرجحيّة الانقراض. علّنا ندرك أن أميركا والسعودية صديقان وليسا حليفين: الحِلف لإسرائيل وايران.
. اسمح لي الأستاذ عزيز في السؤال الأخير أنْ أستفسر عن نقطة أخيرة تتعلق بحضورك في العالم العربي عموماً وسورية خصوصاً: كيف تقيّم حضورك في مجرى الأحداث السورية؟ هل أنت تأخذ مسافة بالفعل بينك وبين العالم العربي، كما قيل كثيراً أخيراً؟
. لا بد للمرء هنا، في الإجابة عن هذا السؤال الصعب في نهاية هذا الحوار (وهو لدغة ذيل العقرب في هذا الحديث)، من الاعتراف أولاً بأن هناك مسافة موضوعية، وهي مسافة نشأت على نحو طبيعي من واقع حياتي خارج سورية منذ زمن طويل. أما بالنسبة إلى فضاء تجربتي الخاصة وارتباطي العاطفي بسورية/ لبنان، وعلى نحو أخص بدمشق/ بيروت، فإنه في ظلّ الظروف الحالية للمواصلات والاتصالات ليست المسافة المكانية أمراً كبير الأهمية بالنسبة إلى التجربة اليومية إذا كان المرء مقيماً في فيينا أو أبو ظبي أو في سنغافورة أو لندن وبالفعل، في هذا الجزء أو ذاك من دمشق. إنّ شبكة العالم اليوم وسهولة الحركة، بالنسبة للبعض القادر على الحركة، يزيلان عملياً البعد المادي الذي يقاس بالكيلومترات ــ وها نحن نشهد في داعش عالماً إسلاميّاً افتراضياً على درجة بالغة من الفاعليّة. كما أنّ عناصر الاقتراب والبعد ليست هي بالحد الكبير بين الحياة اليومية في سورية وبين بلد عربي وسورية وبلد غير عربي، بل بين التجربة اليومية في سورية وأي مكان في الخارج. ومثل هذه الحالة قد ذكرت سابقاً في نقاش الوقائع الافتراضية والأماكن الافتراضية التي يعوم عليها البرابرة من داعش والمنظمات المماثلة.
عن المعارضة والمعارضين
لقد انحدر الكثير من القادة، وتقزمت قامات عديدة. القليل ممن أعرفهم وأكنّ لهم بالغ الاحترام، وأقدّر على وجه الخصوص بعض القوى على الأرض في سورية، والذين لم ينجرّوا وراء الشعبوية الإسلامية ولديهم حرص على الدولة والعلمانية (لكن ليس للطغمة الحاكمة) الذين خبروا ضغوطاً داخلية وقيوداً حقيقية. بالطبع، لم يكن هذا الخط هو الفائز، كما تبيّن ذلك من الاعتقال الثاني للؤي حسين في تشرين الأوّل ٢٠١٤ (الرجل الشجاع والذي يمتلك رؤية عاقلة، ولو أنه بدا بعد خروجه وكأنّ الوضع قد أفقده توازنه). وعليّ أنْ أضيف أنني أجد ابتذالاً بالغاً في القيل والقال عن هذا الرجل وعن حركته وعن غيره، ما يشكل أسلوباً رخيصاً في العمل السياسي اعتدنا عليه ولم نعتد. وقد كان للنميمة وأكل لحوم الناس عواقب كبرى على الائتلاف، الأمر الذي أنتج في النهاية وضعاً كارثياً. وحينما كان لؤي حسين يتخذ مواقف سياسية في البداية ثبت عليها، تحوّل الوضع في سورية على نحو كبير. وحينما كان الحراك الذي كان واعداً قد انحرف ودمّر ولم يعد لديه توجه إيجابي (وليس ثمّة وسيلة للتغيير السياسي في سورية)، فقد تحوّل هو وحركته من الموقف السياسي إلى الموقع اللاسياسي المبدئي، وهذا يمثّل نتيجة، من وجهة نظري، عناداً مبدئياً أكثر منه سذاجة.
أشك كثيراً بالأحزاب القديمة في المعارضة الداخلية، الذين لا يفهمون تماماً ماذا يجري في سورية، وفقاً لتقديري، ويستمرّون في التفكير وفق معايير ومفاهيم تقادمت. إنني أثمّن كثيراً الآلاف من الشباب، والذين التقيت بالعديد منهم هنا وهناك، وهم شباب متعلمون وليست لديهم إلا القليل من الأوهام، عقلانيون على نحو كبير مثير للإعجاب، وذوو إرادة جيدة وواعدون، أجبروا على المنفى. إنهم مستقبل البلد إذا ما تبقى هناك شيء للعودة إليه قبل أنْ يضربوا لهم جذوراً في فرنسا أو السويد أو أي مكان آخر. إنهم يرفعون الرأس. كما أنني أقدّر قوات المقاومة الكردية الشديدة في عين العرب، والذين يرفعون الرأس أيضاً: إنهم بقيادة امرأة، وعقلانيون في السياسة، وينظرون إلى أهدافهم المحدّدة، وأنا أتجاهل هنا المناكفات والطموحات اللاسورية التي تحرك الكثير منهم.
إنها «حرب الشبّيحة ضد الشبّيحة»
وبالمناسبة هنا، يجب عليّ القول إنّ أكراد سورية والعراق قد صعدوا إلى حد كبير في السنوات الأربع الماضية نتيجة قدرتهم على تنظيم أنفسهم والمقدرة على التعامل مع اختلافاتهم بطريقة تفضي إلى الصالح العام كما يرونه، ولم يستسلموا إلى المرض الإسلامي من الناحية الاجتماعية أو من ناحية أخرى. لقد كنت منذ فترة طويلة معادياً لفكرة تقرير المصير الذاتي السياسي الكردي، وما زلت أضيق بالدعوى الكردية الخالصة، التي كانت كثيراً مختلة وقصيرة النظر، ولا أحيّي اغترابهم المتعمد عن الجسم السياسي السوري، والشوفينية التي لديهم والانتهازية التاريخية التي اعتادوا عليها، بما في ذلك التاريخ الطويل من التعاون بين مختلف الجماعات الكردية مع كل من كان مستعداً للتدخل لصالح طموحاتهم القومية بما في ذلك إسرائيل. إنهم يعتبرون أنفسهم أكراداً أولاً على نحو ضيّق وليسوا سوريين إلّا على نحو جانبي.
أما الآن فإنني ما عدت بالضرورة معادياً لهدف الاستقلال لديهم، فقد أثبت الأكراد أنهم أجدر بذلك منّا نحن. وقد شرّعت سلطاتُ الحكم الذاتي الكردي في الحسكة في 11 تشرين الأول 2014، بقوانين، مساواة المرأة في مسائل الميراث، وحظرت الزواج الإجباري واعتبرت جرائم الشرف على أنها جرائم دون تخفيف الحكم. وهذا يذكرنا بالمرحلة المبكرة التقدمية المتفائلة في القومية العربية، والتي لم تسع إلى التأكيد على الدم، بل على التقدم والطليعيّة. هذا على الرغم من بوادر تطهير عرقي موجّه نحو العرب و غيرهم من الأقوام غير الكرديّة.
لم يكن فهمي للقومية قائماً على عصبية الدم، رغم أنني لا أنكر مشاعر العصبية لديّ. يتمثل فهمي لها في كونها شكلاً من أشكال المجتمع السياسي يفضي إلى الدولة-الأمة من المواطنين، وهو ما يعرف بالنموذج الجمهوري، الذي تجسّد في فرنسا وتركيا الكمالية: إنه ترتيب مدني يناقض الاجتماع السياسي الأهلي. إنه الافتراض أنّ الدولة القومية هي أكثر انفتاحاً على التنمية والتقدم، هذا رغم أنّ من تاريخها الطبيعي أنْ تقوّم بأساطير حول الأصل والبطولة. ومن هذه الناحية، فإنّ الأكراد ــ في مناطقهم السكنية (التي استولوا على الكثير منها من الأرمن والآشوريين في الذاكرة الحية المعاشة حتى اليوم)، ريفيون وعشائريون على نحو كبير، ينقسمون، أحياناً بصراعات عنيفة، إلى جماعات اجتماعية وسياسية ولغوية يقودها عناصر منفتحون على القضايا الدولية والحضرية ــ قد نظّموا أنفسهم وأثبتوا أنه لديهم الكثير ليعلّمونا إياه، وليس العكس. أما فكرة أنّ الجسم القومي متماسك بالضرورة فهي فكرة أيديولوجية مخيالية عزيزة على القوميين أينما كانوا.
وبالعودة إلى سياسيينا: يعود الكثير من هذه البهدلة ــ التقزيم لبعض أعضاء المعارضة السورية إلى التصورات المنتفخة لمواهبهم السياسية. يتطلب النشاط السياسي عدداً من المواهب والسمات الشخصية التي يمتلكها البعض ويفتقر إليها آخرون. والعديد من أولئك الذين شاركوا في النشاط السياسي يفتقرون إلى ذلك، وهذا ما يظهر جلياً في الكثير من التصريحات والمواقف العلنية المحرجة والسهولة التي تم بها استيعابهم من هذا الجانب أو ذاك. أما بالنسبة إليّ، فدعني أقول التالي: على الرغم من أنني كثيراً ما أجازف، لم تكن لديّ طموحات سياسية. وليس اعتدادي بنفسي عاملاً مستقلاً عن عقلي. إنني أعلم أن مواهبي في ما يخص ممارسة السياسة اليومية متواضعة جداً، بما في ذلك صبري المحدود، ولذلك فإنني أحجمت ــ ويا ليت آخرين أحجموا مثلي ــ عن التنطّع إلى الزعامة السياسيّة، ذلك أنّ أيّ انخراط مباشر لي في السياسة في السنوات الأربع الأخيرة لم يكن ليفيد أحداً.
على ذلك فإن مساهمتي (وهي متشائمة فكرياً، إلا أنها لطالما تحتفظ بـفسحة أمل) كانت مبتعدة عن العمل الحركي، حيث إنها ارتبطت بالتقييم وتشكيل الآراء، والتي ألقيتها بمعظمها شفاهياً، ولكن القليل منها قد نشر (ولم يكن لدي جهاز سياسي للتوزيع). ثم إنّ السيناريوهات المرعبة التي تلمّستها لا يمكن أنْ تكون جذابة سياسياً ولا ينبغي أنْ تحاول أن تكون كذلك. ويجب عليّ الاعتراف هنا بالتردد في القيام بمداخلات على الصعيد العام. وربما بشلل ما، حيث رأيت الوضع في سورية يتطوّر إلى الحرب بين نظام بربري ومعارضة مسلّحة كبيرة وأيضاً رجعية، حرب الشبيحة ضد الشبيحة. حربٌ حيث الخيارات مظلمة ما دام الدافع الأصلي للحراك قد دمّر، وشروطه الأولية لم تُدعم، مهما بقي من العناصر غير الطائفية وغير الإسلامية المسلحة في ظل حالة من الحصار الجدي مع تراجع في المناورة على الرغم من التسلح والتدريب من جانب الولايات المتحدة وغيرها من الجهات الفاعلة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.