في مؤتمر بطوكيو في نيسان/ أبريل 1978، تساءل ميشال فوكو ألسنا نشهد «في نهاية القرن العشرين هذه، شيئاً سيشكّل نهاية عصر الثورة؟». غير أنّ «نهاية الثورة» الفوكوية هذه لا تشبه تلك التي تحدّث عنها فرانسوا فوريه، إنما تشبه بالأحرى «انتشار صراعاتٍ تهدف إلى إعادة توزيع لعبة السلطة في المجتمع». ويوازي هذا التحول بنظر فوكو تراجع الماركسية والمشكلة التي كان يطرحها ذلك في عهده. لكنه في العمق، يوسّع الملاحظة التي كان يطرحها في كتابه «الكلمات والأشياء»، عن نظام ماركسي مندمج بشكلٍ تام في فكر القرن التاسع عشر لكنه لا يتصل به بشكلٍ وثيق ليتيح فهم نهاية القرن العشرين. ولعل عصرنا قد حوّل التركيز نحو هوامش الأجراء، ما دفع إلى الواجهة المنبوذين والمساجين والمصابين بأمراض عقلية والمجرمين، والمثليين والأقليات الجنسية. فقد كان فوكو مولعاً دائماً بالمقولات المتضاربة.
العامة الجدد
كان للأزمة الاقتصادية التي أصابت الاقتصادات الغربية في مطلع سبعينيات القرن الماضي كما لأحداث أيار/ مايو ١٩٦٨، أهمية كبيرة على مستوى الجدال الفكري وتطوّر الصراعات الإجتماعية. نذكر أحداث أيار/مايو ١٩٦٨ لأنها، إلى جانب كونها حركة إضرابات واسعة النطاق، فقد ساهمت بشكلٍ كبير في تسليط الضوء على الصراعات المتعددة «المحددة» المرتبطة بالحياة الجنسية أو «الحياة اليومية» أو بالعرقية وبالأزمة، لأنّها سوف توجّه ضربة قاضية إلى الحركة العمالية من خلال الحد بشكلٍ كبير من عديد القوى العاملة ومن قوتها الاجتماعية والرمزية مع ظهور البطالة الجماعية. وبذلك، ينشئ هذا الإطار عدّة نقلاتٍ نظرية مهمة.
على المستوى الفكري، تدفع التغيرات التي تخضع لها الرأسمالية مع انفجار البطالة، بعددٍ كبير من الكتّاب إلى إعادة تعريف «العوامل الاجتماعية القادرة على الاضطلاع بدور العوامل الثورية، وذلك باعتبارها بدائل للحركة العمالية المتعثرة: فلّاحو العالم الثالث، والطلاب، والمثقفون، والمنبوذون». ومن بين هؤلاء نجد بشكلٍ خاص المنظّر الماركسي هربرت ماركوز مدافعاً عن فكرة مفادها أنّ الطبقة العاملة التقليدية ستصبح من الآن وصاعداً «مندمجة» في النظام الرأسمالي وأنّ «الأقليات الفاعلة» وحدها ومعها «إنتليجنسيا الجيل الشاب من الطبقات الوسطى» ستكون قادرة على القيام بعملٍ سياسي جذري. فقد كانت تلك الجماعات بالنسبة إلى ماركوز، «الأقل حظوة» إذ إنّها رمزياً «مهانة، ومحبطة، ومضطهدة، ومن ضحايا التمييز العنصري»، فشكّلت إلى جانب الطلاب، عنصراً حاسماً في انطلاقة الثورات. فلم يعد مركز «الزلازل الاجتماعية» يحدَّد بالتالي جهة البروليتاريا الكلاسيكية إنما جهة «العاطلين من العمل»، و«السود من سكان الغيتوهات»، و«الفئات الفقيرة التي تعاني» والمجموعات «الإثنية» الأخرى المهمشة. ستُكرَّس هذه المقاربة من قبل أندريه غورز الذي دافع، منذ عام ١٩٨٠، عن فكرة مفادها أنّه من الآن وصاعداً اختفى العامل الكلاسيكي واختفت معه «الطبقة القادرة على أن تأخذ على عاتقها تحقيق المشروع الاشتراكي والترويج له». فهو يرى أن «غالبية السكان تنتمي إلى هذه البروليتاريا الجديدة التي ظهرت بعيد الثورة الصناعية والتي تضم مجهولي القيد، والمقتلعين من طبقاتهم، الذين يشغلون وظائف ثانوية غير مستقرة، كالعمال المؤقتين، والعمال الظرفيين، والعمال البدلاء، والعاملين بدوام جزئي». وبخلاف «الفرد البروليتاري» لدى ماركس، لن يُعرّف هذا الفرد من خلال موقعه في قلب عملية الإنتاج الاجتماعية إنما بفعل عدم شعوره بالانتماء إلى أي طبقة، من خلال «نبذه» من المجتمع، وهذا هو مصدر راديكاليته المفترضة. سوف توضع صياغات مختلفة لهذه الفرضيات من قبل شريحة كبيرة من التيارات الفكرية اليسارية في سبعينيات القرن الماضي.
ومع أن فوكو نأى بنفسه نسبياً عن هذا النوع من النقاشات في صلب الماركسية، إلا أنّه يبدو مؤمناً بشعبية النظرية المستجدة «للبروليتاريا الدنيا» وعمليتها. فبالنسبة إليه، كما إلى عددٍ كبير من كتّاب تلك الحقبة، سوف تتمتع هذه الشخصيات الجديدة من الآن فصاعداً بأهمية كبيرة على الصعيد السياسي وستشكّل محركاً جديداً للصراعات الاجتماعية.
«تميل الأحزاب السياسية إلى تجاهل هذه الحركات الاجتماعية بل إلى إضعافها. من هذا المنطلق، تبدو أهمية هذه الحركات جميعها واضحة بالنسبة لي. فهي تتجلّى جميعها لدى المثقفين، ولدى الطلاب، ولدى المساجين، من خلال ما يُسمى «اللومبنبروليتاريا» (البروليتاريا الرثة). لست أعترف بقيمة مطلقة لحركتهم، لكني أعتقد مع ذلك أنّه من الممكن منطقياً وسياسياً استرجاع ما قد احتكرته الحركة الماركسية والأحزاب الماركسية».
يتعلّق الأمر بالتالي بطريقة معيّنة في مواجهة لامبالاة الطبقة العاملة التي باتت أكثر تعقلاً في ما يتعلق بحقوقها المكتسبة وقبولها الإيديولوجية البرجوازية. وهكذا لا يتردد فوكو في التأكيد على أنّه إن كان «القرن التاسع عشر قد مارس أسلوبه الخاص في قمع البروليتاريا»، فقد حصلت هذه الأخيرة اليوم على «حقوق سياسية مختلفة» وبالتالي «حصلت البرجوازية من البروليتاريا على وعدٍ بحسن السلوك السياسي والتخلّي عن التمرّد العلني». وهكذا تكون البروليتاريا قد «استبطنت جزءًا من الإيديولوجية البرجوازية»، إيديولوجيا «النظام، والفضيلة، والامتثال للقوانين، ولما هو مناسب وغير مناسب». وهذه الذهنية التي تفضي إلى «استعمال العنف، والتمرد، والإجرام» تكمن اليوم لدى «البروليتاريا الدنيا من مهمّشي المجتمع». هكذا يجد فوكو جواباً على لامبالاة الأجَراء في أنّ هذه «تستعيد هذه الشرائح المهشة العنيفة من عامة الشعب وعيها السياسي. على سبيل المثال، زُمر الشبان في الضواحي، وفي بعض أحياء باريس، الذين يكتسب وضعُهم الجرمي ووجودهم الهامشي دلالة سياسية بالنسبة إليهم». وبذلك ستشكّل هذه المجموعة المنبوذة الشرارة التي تحتاج إليها البروليتاريا المتبرجزة. والواقع أنّه لن توجد أي «حركة جماهيرية» تحفّزها ثورة «العامة المهمشة» إلا من خلال «اندماج» هذه المجموعات.
في العام 1965، شارك فوكو في برنامج تلفزيوني بعنوان «تعليم الفلسفة» لطلاب الصف الثانوي الثالث بإدارة الفيلسوفة دينا درايفس التي كانت حينها مفتشة أكاديمية. الموضوع كان «الفلسفة والحقيقة».
تجربة «اليسار البروليتاري»
تتناسب هذه النظريات بشكلٍ تام مع نوع النشاطات التي قام بها فوكو مع «اليسار البروليتاري». والواقع أنّه، خلال فترة الماوية، حين كان يرافق بيار فيكتور شخصية قيادية في اليسار البروليتاري بين عامي [١٩٦٨-١٩٧٣]اقترب من المسيرة السياسية للماويين. كانت الأهمية المركزية التي تتخذها أعمال مثل احتلال مبانٍ لإيواء البلا مأوى، أو توزيع الطعام على المهاجرين الأفارقة، أو التظاهر من أجل حقوق المعتقلين، ترجع صدى أفكاره السياسية الخاصة. وإن هذا التحوّل في العمل السياسي للأجراء نحو «الهوامش» كان من شأنه أن دفع سارتر إلى أن يرى فيه «لمحات أخلاقية» والانتقال إلى «ماركسية أخلاقية». ويكمن البعد الأخلاقي بشكلٍ أساسي في التحوّل التدريجي في المواضيع المرتبطة بالاستغلال نحو مسائل متعلقة بـ«الأقليات»، أو «المهمشين»، أو «المنبوذين» وبالتالي نحو موضوع السيطرة والتمييز. بذلك تعلن هذه الصراعات الجديدة ما بات يسميه فوكو، منذ عام ١٩٧٢، «ظاهرة جديدة بالكامل، ترتبط بظهور العامة الجدد» الذين يشكّلون الشريحة «غير البروليتارية» من مجموع الأجراء.
وإن هذا التراجع البطيء في مركزية الحركة العمالية، وفي الشمولية المفترضة التي كانت تجسّدها، والتي يتحدث عدد من المثقفين باسمها في الحقل السياسي، يستدعي إذاً استبدالها بنضالات محددة. فلا ينبغي أن يقتصر دور المثقف على السرديات الكبرى، والخطابات الشاملة، كما يجسّدها سارتر، إنما على «استنطاق كل أنواع الخبرات، والإصغاء إلى المصابين بالحبسة والمنبوذين والذين يحتضرون... أعتقد أنّ مهمة الممارس في حقل الفلسفة الذي يعيش في الغرب تتمثل في الإصغاء إلى هذه الأصوات كافة». والمهمة الملقاة على عاتق الفيلسوف، في يومنا هذا، هي أن يفهم خصوصاً كيفية نبذ جزء من السكان وليس كيفية استغلال السواد الأعظم منهم». والمشكلة ليست بالتأكيد مشكلة تحديث مجموعة كاملة من أساليب السيطرة التي كان يُغَض الطرف عنها نسبياً حتى الآن، بل في أن تحظى بالتنظير خارج المسائل المتعلقة بالاستغلال. بعيداً عن رسم منظور نظري يدرس العلاقات بين هاتين المشكلتين، صار التفكير بهما شيئاً فشيئاً على أنهما متعارضتان بل متناقضتان.
من إعادة توزيع الثروات إلى إعادة توزيع السلطة
سيُتابع فوكو جزئياً هذا التطور في أعماله الأخيرة مطلع ثمانينيات القرن الماضي، مع تخلّيه التدريجي عن وجهة النظر المرتبطة بالثورة وحتى عن التحليل الطبقي، فتجده يوجّه أبحاثه نحو «الحوكمة» والثورات التي تواجهها. فلم يعد عامل هذه الثورات يستند بداهة إلى أي مرجع اقتصادي بل إنه يستند إلى العلاقة بين أشكال السلطة المختلفة. وهكذا، فإذا كان فوكو قد انفصل إلى حد بعيد عن الأفكار الراديكالية التي تبنّاها في «سنواته الماوية»، يبقى أنّ العوامل التي ظلّت تأسر اهتمامه تتمثّ في الأشخاص الأقلويين المنفصلين عن علاقات الاستغلال.
فهو يرى، في نهاية الأمر، أن البؤس ومظاهر اللامساواة الاقتصادية هما بشكلٍ أساسي من مشكلات القرن التاسع عشر. وإذ يقرّ طوعاً أنّ هذه المسألة لم تُحَل كلياً، إلا أنها لم تعد مطروحة «بالإلحاح نفسه». فإذا كان «القرن التاسع عشر قد عُني بشكلٍ خاص بالعلاقات بين الهياكل الاقتصادية الكبرى وجهاز الدولة»، فإن «مشاكل السلطات الصغرى وأنظمة الهيمنة المنتشرة» هي التي تحوّلت «إلى مشاكل أساسية». وهكذا، فقد حَلت مشكلةُ «فائض القوة»، مشكلةَ التحكّم بالسلوك وأشكال السلطة الرعوية الحديثة، محلّ مشكلة الاستغلال ومشكلة الثروات. وقد عمد فوكو إلى تسمية «هذا الإطار المحدد لمقاومة أشكال السلطة» بـ«الثورات السلوكية». في هذا السياق، لم يعد فوكو يشير إلى اللومبنبروليتاريا (البروليتاريا الرثة)، أو حتى إلى طبقة معيّنة وحسب، بل بات يشير بداهة إلى المنبوذين، والصراعات المرتبطة بالتحرر الجنسي، وإلى تأثيرات المعرفة في مجالات واسعة جداً كالطب أو الضمان الاجتماعي أو الجريمة.
تهدف هذه الصراعات المحددة التي يصفها فوكو في محاضرته عام ١٩٧٧ بـ«كوليج دو فرانس»، بشكلٍ أساسي إلى مواجهة أشكال الحوكمة التي تنمو في مجتمعاتنا. ويشكّل هذا الموضوع الامتداد الطبيعي للاهتمام الذي طالما علّقه على المؤسسات الإجتماعية الأساسية التي يرى فيها قوة موجهة للتحكم بالسلوك وتنميطه. تقوده هذه الأعمال والملاحظات إلى أن يُصدَم فوكو.
«بالاهتمام الذي توليه الدولة للأفراد، تصدمنا التقنيات كافة التي وُضِعَت وطُبِقَت لئلا يتمكن الفرد من الإفلات من السلطة بأي طريقة من الطرق، ولا من الإشراف، لا من الرقابة، ولا من العقلاء، ولا من الإصلاح، ولا من التأديب. فكل هذه الآليات التأديبية الكبرى ــ الثكنات، والمدارس، والمشاغل، والسجون ــ إنما هي آليات تتيح حصر الفرد، والتعرّف إلى هويته، وماذا يفعل، وما الذي يمكن فعله به، أو في أي موقع ينبغي وضعه، وكيف يحدّد موقعه بين الآخرين».
إلى هذه المؤسسات كلها يحرص فوكو على أن يضيف «آليات المساعدة والتأمين» لأنه، «إلى جانب أهدافها المتمثلة في الترشيد الاقتصادي والاستقرار السياسي»، فإنها «تجعل من الفرد، ومن كيانه، ومن تصرفاته، ومن الحياة ذاتها ــ ليس من كيان الجميع وحسب إنما من كيان كل واحد منا ــ حدثاً مُجدياً، بل حدثاً ضرورياً لا غنى عنه من أجل ممارسة السلطة في المجتمعات المعاصرة». وفياً لمسيرته الفكرية، يصوّر فوكو الضمان الاجتماعي كأداة تسهم في تطبيع التصرفات والأفراد. في النهاية، وكما لاحظ عام ١٩٨٣، «تفرض أنظمة الحماية الاجتماعية المعتمدة نمط حياة محدداً يخضِع الأفراد له، وأيّ شخص أو أي مجموعة لا تريد أو لا تستطيع لسببٍ أو لآخر التوصل إلى نمط الحياة هذا، تجد نفسها مهمشة من خلال لعبة المؤسسات»، فيصير من المهم بالتالي تحديث «العلاقات القائمة بين طريقة عمل الضمان الاجتماعي وأنماط العيش» والكشف عنها وتوضيحها.
وهكذا فإنّ الدراسات التي تجرى حول الحوكمة ستكون نقطة الانطلاق بالنسبة إلى فوكو ــ وبعض أتباعه مثل فرانسوا إيوالد ــ لطرح إشكالية مركزية دولة الرعاية في «أشكال السلطة الحديثة». غير أنّ من المثير الإشارة إلى أنّه في كتاب إيوالد الرئيسي، وهو ليس مهدى إلى فوكو وحسب إنما صيغ، إلى حدّ كبير تحت إشرافه، لا يتردّد المؤلف في القول إنّ «دولة الرعاية تحقق حلم «السلطة الحيوية». فدولة الرعاية دولة لم تعد تهدف إلى حماية حريات كل فرد من الاعتداءات التي قد يتعرض لها من الآخرين بقدر ما تهدف إلى التحكم بالطريقة التي يدير بها الفرد حياته». ويضيف أنّه «إن كان فوكو، على غرار الدولة الليبرالية، قد وضع الاقتصاد في محور اهتماماته، فلم يعد الاقتصاد عنده هو اقتصاد ثروات مادية، بل إقتصاد حياة». والواقع أنّ إيوالد، مثله مثل فوكو تماماً، لا يرى في ذلك مجرد امتداد لسلطة تأديبية ماضية، بل على العكس يرى إليه شكلاً جديداً من التنظيم. فيشير إلى «أن وجه الرعاية الشامل الوجود، هو الوجه الذي تُقدّم به الدولة نفسها. هذا هو نمط السلطة الذي يتطوّر». وبالتالي فإنّ القلق المرتبط بالشك، وبانعدام الأمن هو الأساس الذي يستند إليه اندماج الناس في الدولة ومراتبها المختلفة، والذي بموجبه «يقبلون كل شيء: الضرائب، والتراتب الهرمي، والإذعان، لأن الدولة هي الضامنة وهي الحامية ضد انعدام الأمن». والحقيقة أنه خلف هذه الحماية المموهة، تهدف هذه المؤسسات بوضوح إلى تأمين استمرارية السلطة، وإلى «مراقبتنا يوماً بيوم»، وتطبيع السلوكيات والهويات التي تنحتها. وبالتالي فإنّ هذه الهويات التي فبركتها الدولة الحديثة والتي «استوعبت السلطة الرعوية المسيحية كأداة لتوجيه الحياة» هي التي أصبحت بنظره رهانه الأساسي. وكما يكتب، «منذ ستينيات القرن الماضي، تشكّل الذاتية، والهوية، والفردية مشكلة سياسية كبرى» وينبغي علينا بالتالي أن نعطي الأولوية لتغيير «ذاتيتنا، وعلاقتنا بذواتنا».
مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بدا واضحاً لفوكو أنّ الأمور لم تعد تتعلق إلى حدٍ كبير بإعادة توزيع الثروات، فلم يتردّد في الكتابة «يمكننا القول إننا بحاجة إلى اقتصادٍ لا يكون قائماً على الإنتاج وتوزيع الثروات، بل إلى اقتصادٍ قائمٍ على العلاقات السلطوية». يتعلّق الأمر بالصراعات ضد السلطة «بما هي تستغلّ الناس اقتصادياً»، أقل منه بالصراعات ضد السلطة في الحياة اليومية المتجسدة في الحركة النسوية، وتحركات الطلاب، والمعتقلين، و«البدون» إلخ. في هذا «النضال ضد السلطة» في الحياة اليومية يتعلق الأمر بالأحرى بـ«رفض» السلطة. لهذا النقل في التركيز عواقبُ على مستوى الأهداف السياسية التي يدافع عنها فوكو وعلى مستوى رفضه المتنامي للاستراتيجيات الاشتراكية والشيوعية القديمة. بالنسبة إليه، «ليس هدف هذه الحركات جميعها هو نفسه هدف الحركات السياسية أو الثورية التقليدية: لا يتعلق الأمر بتاتاً باستهداف السلطة السياسية أو النظام الاقتصادي». لقد ولّى زمن «المعارك السلطوية والمؤسساتية الكبري»، ينبغي من الآن فصاعداً النضال من أجل «زعزعة استقرار آليات السلطة» ورفض الصيغ كافة التي تهدف إلى تنميط تصرفات الأفراد وهوياتهم. وكما يكتب، «هدفُ هذا النوع من المقاومة والنضال موجّه بالأساس إلى وقائع السلطة بحد ذاتها، أكثر بكثير منه إلى أي شيء كالاستغلال الاقتصادي، وأكثر بكثير منه أي شيء كاللامساواة. وترتبط هذه الصراعات بواقع أنّ ثمّة سلطة قيد الممارسة، وبأنّ مجرّد كونها قيد الممارسة أمر لا يطاق بذاته». ومع أنّ فوكو لا ينظر نظرة معيارية بشكلٍ أساسي إلى هذه التطورات التي يراقبها، فهو يبدو مقتنعاً بأنّ هذه الحركات تحلّ في الواقع محلّ نضال ضد الاستغلال فات أوانه.
محاربة النبذ لا اللامساواة
إن فكرة «النهاية» للنضال ضد الاستغلال ومظاهر اللامساواة لصالح تركيز أكبر على إعادة توزيع السلطة قد لقيت صدى مذهلاً لدى جمعيات عديدة تناضل من أجل «المنبوذين» ولكسب الاعتراف بـ«خصوصية» و«مشاركة» هذا الفاعل السياسي الجديد قيد التحول. وتتمحور هذه العناصر الفاعلة والحركات السياسية أكثر فأكثر حول فكرة أنّه سينشأ، على هوامش الأجراء، مجموعة متزايدة من المنبوذين من أنظمة العمل السائدة ومن دولة الرعاية الاجتماعية. ومن بين هذه المجموعات، يمكننا أن نشير إلى الأهمية المركزية لحركة «ATD» (إغاثة لكل استغاثة ــ العالم الرابع)، التي تنشر منذ منتصف ستينيات القرن الماضي، على نطاقٍ واسع، فكرة بروليتاريا دنيا ملقاة إلى هوامش كل أنظمة الأجر السائدة. وتتحدث الجمعية عن «شعبٍ من دون هوية ولا حياة عامة»ينبغي منحه الحق في الوجود السياسي. هذه المسألة الجديدة تنقل الخطوط النظرية التقليدية من خلال التساؤل «كيف حصل أن يستمر عبر التاريخ هذا الوضع الذي لم يعد يتعلق باستغلال البعض من قبل البعض الآخر، إنما بقمع أشد الفئات حرماناً من قبل المجتمع المحيط بها ككل؟».
وتجدر الإشارة إلى التقارب الكبير مع المسائل التي يطرحها فوكو نفسه في دفاعه عن الفكرة القائلة بضرورة «تقديم نقدٍ للنظام يفسّر الآلية التي يعمد المجتمع الحالي من خلالها إلى تهميش شريحة من المجتمع» بالنسبة إلى حركةATD، كما بالنسبة إلى فوكو «الحقبة الأخيرة من حياته»، «فإن تحويل نظام الإنتاج أو نظام الاستحواذ على وسائل الإنتاج لن يحمل حرياتٍ وفرصاً أكثر مساواة للجميع. ولن يغيّر الظروف التي تعيش فيها الشريحة الأكثر فقراً من السكان، ما لم يتوفر، في الوقت عينه، حدٌّ أدنى من حقوق الإنسان تسمح لهذه الشريحة بالخروج من حالة الإقصاء». في الحصيلة، ليست تهدف سياسات التضامن الكلاسيكية إلا إلى «إعادة توزيع الأوراق على المشاركين في اللعبة»، كما أنها ليست تقارب معالجة أوضاع المنبوذين. تكمن المشكلة بشكلٍ خاص في أنّ هذه المجموعة الاجتماعية «المكبّلة بقيود الإقصاء»، هذا «الشعب التجاهل، الساعي دوماً إلى التجمع والمشتت باستمرار»، لا يحظى بأي تمثيل خاصٍ به، ولا بأي هوية. وهذا «الشعب المنبوذ» من «التضامن العمالي» ومن «الضمان الاجتماعي» هو إذاً في «وضعٍ جمعي مميّز» يتطلب بالتأكيد أدواتٍ هي ذاتها مميزة تتجاوز مسألة إعادة التوزيع الاجتماعي.
ليس هذا موضع بحث سياسي فحسب إنما هو موضع بحث رمزي في الوقت عينه، إذ إنّه يهدف إلى فرض الاعتراف، من خلال مجموعة مفاهيم محدّدة جداً، بوجود مجموعة اجتماعية جديدة لم تعد تتجسّد فيها الشبكة التقليدية للصراع الطبقي. ومن خلال وجوده السياسي والرمزي بذاته، يقلب هذا العامل الجديد المفترض الإشكاليات السياسية التقليدية لليسار رأساً على عقب. وهو لن يحوّل وصفات مكافحة مظاهر اللامساواة وحسب، إنما سوف يحوّل أيضاً مفهوم اللامساواة العدالة الاجتماعية ذاته. إن هذا التركيز على هذه الشرائح من الأجراء والأهمية التي يتخذها في المناقشات العامة، سوف يمنح «النبذ الاجتماعي» تأثيرات سياسية دائمة. الواقع أنه لن تعود اللامساواة بشكلٍ عام هي المشكلة، إنما الشكل الذي تتخذه تلك اللامساواة بالنسبة إلى بعض الفئات الاجتماعية. وهكذا، مع أننا نستطيع التفكير منطقياً بأنّ أياً من هؤلاء الكتاب لم يتوقع ذلك، إلا أنّه لن يعود في وسعنا التغاضي عن تأثيرات مقاربتهم، وتحليلاتهم، وهم قد وضعوا في صلب تفكيرهم الآليات التي تعيد توزيع آثار اللامساواة عوضاً عن تلك الآليات التي تنتج اللامساوة بحد ذاتها.
وهكذا ستشهد سبعينيات القرن الماضي انتشار الكتب والمقالات التي تتبنّى هذا النوع من التعارض والتي تعيد تشكيل مجموع الفرضيات الاجتماعية التي يستند إليها عمل السياسات الاجتماعية. يُذكر في هذا السياق كتاب رينيه لونوار بعنوان «المنبوذون: واحد من كل عشر فرنسيين». تفسح هذه الدراسة حيّزاً واسعاً لمن يعانون صعوبة في التكيّف اجتماعياً، وللمعوقين جسدياً وعقلياً، وللأشخاص الذين يعانون أمراضاً نفسية ــ جسدية، ولمدمني المخدرات، والمصابين بالعصاب، والمجرمين، فتلفت إلى أنّ «شريحة المهمشين تتسع». بالمقابل كان صدى هذه المقالات والكتب المتعدّدة سيئاً نوعاً ما في الحلقة السياسية اليسارية وخير شاهدٍ على ذلك شخصيات على غرار جان ميشال بيلورجي، وهو نائب اشتراكي سابق غالباً ما يؤتى على ذكره بصفته أحد آباء «الدخل الأدنى للإدماج» RMI، الذي ما كان يتردد في الإشارة عام ١٩٨٨ إلى أنّ «مفاهيم الفقر، والنبذ، والتهميش الاجتماعي ما كانت يوماً تلقى القبول في صفوف اليسار». ويوضح أنّ مفكري اليسار «لم يكفّوا يوماً، على مرّ السنين، عن أن يروا في تلك المفاهيم أسلحة إيديولوجية لليمين لحجب ظاهرة استغلال العمال، ومسؤولية النظام الاقتصادي الرأسمالي عن ذلك». وهكذا، مع أنّ يبلورجي يدافع أيضاً عن وجود سياسة محدّدة وقيام نظام موازٍ للضمان الاجتماعي من أجل «الفقراء» و«المنبوذين» الآخرين، إلا أنّه لم يكن يتردد في الاعتراف بأنّ مقاربة مماثلة «لا تخلو من السلبيات، حيث إنّها بطبيعتها تضمن نبذ أشكالٍ عادية من التضامن بين شريحة كبيرة من الطبقات الاجتماعية المهمشة».
وهذا الخوف الذي يتحدث عنه بيولورجي جيداً، بعيداً عن أن يتعرّض للإغفال، يبدو أنّه تجسّد وقد أحلّ ـ «سياسات مكافحة النبذ» أو «مكافحة الفقر» محلّ سياسات النضال ضد اللامساواة، وتوسّع الضمان الاجتماعي والحفاظ على الحق بالعمل. وكما لاحظتْ كوليت بيك جيداً، هذا البناء السياسي البطيء لـ«شعبٍ» منبوذ وللسياسات التي سوف يكون هو موضوعها قد «أسهم في إرساء أساسٍ نظري وإطلاق المسألة الاجتماعية في ما يتعلق بعمليات الإنتاج والفقر في عالم العمل ذاته». كانت نهاية النضال ضد مظاهر اللامساواة من خلال الضمان الاجتماعي والدعوة إلى نظامٍ جديد تُهيّئان لبداية الهجمات النيوليبرالية ضد الدولة الاجتماعية وأنظمة الضمان الاجتماعي المطبقة.
الاضمحلال النيوليبرالي للدولة
في ما يخص هذه المسألة، لا ينحصر تحليل فوكو بمشكلة إقصاء المهمّشين عن تقديمات الضمان الاجتماعي وبأشكال الهيمنة التي ينتجها هذا الأخير، إذ يبدو أيضاً أنّه يتبنى الملاحظات الليبرالية جداً عن الضمان الاجتماعي، الناشئة للتوّ في فرنسا. بيد أنّ هذا التطور سيجد حلغاء له في ما سوف يسمى «اليسار الثاني» الفرنسي، وهو تيار أقلوي لكنه نافذ جداً في الإشتراكية الفرنسية يجمع بشكلٍ خاص الحزب الإشتراكي الموحّد ، بقيادة ميشيل روكار، والاتحاد الديمقراطي الفرنسي للعمل، وهو اتحاد نقابي بارز. ونجد أيضاً شخصية مثال بيار روزانفالون الذي يقدّر فوكو أعماله، المنجذب إلى مناهضة الدولة والرغبة في «تقليص أو إلغاء دور الدولة في المجتمع الفرنسي».
وهكذا يكرر بإخلاص نسبي الاعتقاد الشائع راغباً في أن يرى في الضمان الاجتماعي نظاماً ذا «صلابة متزايدة» قد تكون له تأثيرات سلبية على ديناميكية الاقتصاد، وتأسيس الشركات، ويذكر بشكلٍ خاص، بدون أن يأخذ مسافة منه حقيقة، تقريراً يعود إلى عام ١٩٧٦ نُشر في «المجلة الفرنسية للقضايا الاجتماعية»، يرى بأنّ الضمان الاجتماعي «سوف يرفع كلفة العمل ارتفاعاً كبيراً» وسيكون مسؤولاً جزئياً عن البطالة. وفي ما يتعلق بالإنفاق على الصحة، يعتبر رأي فوكو أوضح وأقرب إلى رأي الليبراليين الجدد. بعيداً عن تأييدٍ غير مشروط للنظام، تجده ينتقد بشدّة كلفته. فيقول، إن كانت الحاجات في المجال الصحي لم تعد قابلة لقياس الكمية أو الحصرية، «فليس من الممكن تعيين موضوعي لقاعدة نظرية وتطبيقية، صالحة للجميع، يمكننا القول انطلاقاً منها إنه قد تمت تلبية الحاجات المرتبطة بالصحة بشكلٍ كامل ونهائي». تقوده هذه الملاحظة، التي تعيد إنتاج الحجج التقليدية لمعارضي أنظمة العناية الصحية العمومية، إلى الاستخلاص أنّه من «الواضح أنّ التحدث عن «الحق في الصحة» لا معنى له أبداً». من هنا يذهب فوكو بطبيعة الحال إلى طرح تساؤلٍ لمعرفة ما إذا كان «المجتمع ينبغي أن يسعى، من خلال وسائل جمعية، إلى تلبية الحاجات الصحية للأفراد؟ وهل يستطيع هؤلاء المطالبة قانونياً بتلبية هذه الحاجات؟». ومع أنه يحرص على الاستدراك مباشرة «غنيّ عن القول أني لا أدعو إلى اي لون من الليبرالية المتوحشة، تفضي إلى تغطية صحية فردية لمن يملكون الوسائل لذلك وإلى انعدام التغطية الصحية بالنسبة إلى الآخرين». ومع ذلك فالواضح بالنسبة إليه هو أنّه «من المستحيل في أي حال من الأحوال، السماح بتزايد النفقات في هذا البند بالوتيرة التي كان يتزايد فيها خلال السنوات الأخيرة». وفي مقالٍ نُشِر عام ١٩٧٦، يتبنّى الحجة النيوليبرالية الكلاسيكية التي تفيد بأنّ الرعاية الاجتماعية (وبشكلٍ خاص في الحقل الصحي) تعني عملياً إعانة الفقراء للأغنياء باعتبار أنّ الأغنياء هم أكثر المستفيدين من مختلف الخدمات المقدمة. ويوضح قائلا، «إنّ التحوّلات الإجتماعية التي كنا نأمل أن تحققها أنظمة الضمان الاجتماعي لا تنجز الوظيفة المتوقعة منها [...] فالأكثر ثراءً ما زالوا يلجأون بمعدل أكبر بكثير من الأكثر فقراً إلى الخدمات الطبية. وهذه هي الحال في يومنا هذا في فرنسا. وفي المحصّلة، يدفع المستهلكون الصغار الذين هم في الوقت عينه الأكثر فقراً، من خلال اشتراكاتهم، ثمن الاستهلاك المفرط للأكثر ثراءً».
ميشال فوكو مع جان - بول سارتر وأندريه غلوكمسان خلال تظاهرة في باريس في السابع والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر 1971 احتجاجاً على الجريمة العنصرية بحق الشاب
جلال بن علي
وهذه الحجّة التي عمّمها ميلتون فريدمان على نطاقٍ واسع في مؤلفه الصغير بعنوان الحق في الاختيار، ولا بد أنه قد لفت نظر فوكو، تفيد عادة في الاعتراض على أي شكلٍ من الخدمات الشاملة المموّلة من قبل الجمهور باعتبار أنّ هذا النوع من الأنظمة يفضي دائماً، بحسب فريدمان، إلى انتقالٍ من الأكثر فقراً نحو الأكثر ثراءً». وغنيّ عن القول إن حجة فريدمان تهدف بشكلٍ أساسي إلى الترويج للأنظمة الصحية الخاصة.
أخيراً، يشير فوكو أيضاً إلى أنّ الضمان الاجتماعي «أياً كانت تأثيراته الإيجابية» ــ على الرغم من أنّه لا يأتي على ذكرها أبداً ــ له أيضاً «تأثيرات سلبية» من بينها الإبقاء على «بعض آليات التبعية وحالاتها». عند الحد الفاصل بين نقدٍ نيوليبرالي ونقدٍ موروث عن أحداث أيار/ مايو ١٩٦٨، يعطي فوكو الأولوية للتحرر والاستقلالية عوضاً عن المساعدة، ويجادل بأنّ «ما كان ينبغي أن نتوقعه من هذا الضمان الاجتماعي، هو أن يعطي لكل فردٍ استقلاليته تجاه مخاطر ومواقف تقلل بحكم طبيعتها من مكانته أو ان تخضعه إخضاعا». ويدافع بذلك عن «مشاركة» أكبر للمستفيدين من الضمان الاجتماعي لكي يتحمل كل واحد منهم مسؤولية خياراته الخاصة مع أن الدقّة تتطلّب دائماً وبداهة القيام بتحليل استرجاعي، إلا أن خطابه القليل التلاوين منحاز في أقل تقدير.
إن أفكار فوكو المتعلقة بالمساءلة، وانتقاد البيروقراطية، وبالفاعلية، وإدارة الأكلاف، مع الغموض الذي يلفّها، سرف تقود بعض الكتاب إلى أن يروا فيه نوعاً من بشير بـ«الطريق الثالث» الذي دعا إليه [رئيس وزراء بريطانيا الأسبق] أنطوني بلير. وكما أشار خوسيه لويس مورينو بيستانيا، «يبقى لدى فوكو في النهاية جزء كبير من النقد الثقافوي لليسارية وبرنامجٌ أقرب إلى ديمقراطية اشتراكية ليبرالية جداً ــ تتقبّل الرأسمالية باعتبارها واقعاً لا مفر منه، وترى أن الدولة لا يمكنها أن تنتج إلا المزيد من البيروقراطية وأنّ دولة الرعاية، بعيداً عن أن تكون شرطاً للمواطنة الحقيقية، تغرق الفرد في علاقات تبعية». ولم يتردد كولن غوردن، أحد أبرز مترجمي أعمال فوكو والمعلقين عليها على العالم الأنكلوسكسوني، في التصريح بأنّ «بعض صياغات بيل كلينتون وطوني بليرعن «الطريق الثالث» فضلاً عن «الديمقراطيين الجدد» تجسّد جزءًا من العملية التي يبدو أنّ فوكو كان يتحدى الاشتراكيين للانكباب عليها: الدمج الاختياري لعناصر من خطاب النيوليبرالية واستراتيجيتها في ديمقراطية إشتراكية خضعت للمراجعة والإصلاح».
ومع أن فوكو لا يتحدّث أبداً بشكلٍ واضح عمّا يُفترض أن يكون هذا الشكل من الحوكمة الاشتراكية الحقيقية، لا بدّ من الإشارة إلى أنّه بدا منجذباً بشدّة إلى بديل دولة الرفاه الذي اقترحه ميلتون فريدمان عام ١٩٦٢عن «الضريبة السلبية» في كتابه الشهير «الرأسمالية والحرية» ثم بشكلٍ موسّع أكثر في كتابه «حرية الاختيار» العام ١٩٨٠. علماً أنّه سوف يصار إلى تبنّي هذه الصيغة على نطاقٍ واسع، وبأشكالٍ مختلفة منذ ثمانينيات القرن الماضي، من قبل هذا «اليسار الجديد» الليبرالي جداً من خلال المطالبة بالدخل الشامل.
الضريبة السلبية وسيلة للتحرر
ازاء العيوب الكثيرة جداً التي يتضمّنها النظام الكلاسيكي للضمان الاجتماعي، بدا فوكو مهتمّاً بمشروع استبدال هذا الأخير بنظام ضريبة سلبية. الفكرة بسيطة نسبياً، وتقضي بأن تقدّم الدولة مخصصات لكل شخص دون سقف اجتماعي معيّن. لم يعد الأمر يتعلق بالتفريق بين الأشخاص العاملين والعاطلين من العمل، والمستحقين وغير المستحقين، يتلقّى الجميع، دون حد معيّن من الدخل، مبلغاً إضافياً من الحكومة. واالهدف بالتالي هو التأكد، بمعزل عن أي مستلزمات إدارية، من ألا يعيش أي شخص دون حد أدنى من مستوى المعيشة. وبالطبع، كان هذا الرأي يتماشى بالنسبة إلى ميلتون فريدمان، مع نهاية الخدمات العامة. فبالنسبة إلى أتباعه، يُفضّل تقديم الدعم إلى الأفراد مباشرة عوضاً عن تقديم الخدمات الجماعية.
في فرنسا، ظهر هذا الجدال منذ العام ١٩٧٤ في كتاب ليونيل ستوليرو بعنوان الانتصار على الفقر في البلدان الغنية. وتجدر الإشارة إلى أنّ فوكو نفسه صادف ستوليرو، مرات عدة، عندما كان المستشار التقني لمكافحة الفقر في مكتب [الرئيس الفرنسي] فاليري جيسكار ديستان. يدعو ستوليرو إلى إصلاحٍ جذري للضمان الإجتماعي الذي يشبّهه بمصفاة مثقوبة. ويذكر في كتابه حجتين لذلك. أولاً، سيسمح هذا النظام بالتصدي مياشرة لتأثيرات الفقر (من خلال دفع المخصصات) بدلاً من المناقشة غير الفعالة لأسباب الفقر (أي تعيين من هو الفقير المستحق ومن ليس كذلك). ثم يسير ستوليرو في الاتجاه ذاته لميلتون فريدمان، ليقدم محاجة فلسفية عميقة، تميّز بين سياسة تسعى إلى تحقيق المساواة (الاشتراكية) وسياسة تسعى ببساطة إلى القضاء على الفقر من دون التطرق إلى الفروقات بين الطبقات (الليبرالية). فبالنسبة إليه، «يمكن للعقائد [...] أن تحثّ على التمسك بسياسة تهدف إلى القضاء على الفقر، أو على سياسة تسعى إلى سد الفجوة بين الأثرياء والفقراء». وهذا ما يسميه «الحدّ الفاصل بين الفقر المدقع والفقر النسبي». الحالة الأولى تقود ببساطة إلى مستوى معيشة يحدّد عشوائياً (وهنا تطبيق الضريبة السلبية)، وتقود الثانية إلى الفروقات العامة بين الأفراد (وهو ما يتصدّى له الضمان الاجتماعي والدولة الاشتراكية). ويرى ستوليرو أن «اقتصاد السوق قادر على استيعاب تدابير لمكافحة الفقر المدقع» لكنه «عاجز عن استيعاب علاجاتٍ قوية جداً لمكافحة الفقر النسبي». لذلك فهو يعتقد، كما يقول، «أنّ التمييز بين الفقر المدقع والفقر النسبي هو في نهاية المطاف تمييز بين الرأسمالية والاشتراكية». بالتالي فإنّ رهان الانتقال من أحدهما إلى الآخر رهان سياسي: القبول بالرأسمالية كشكلٍ اقتصادي سائد أو عدم القبول بها.
ويبدو فوكو منجذباً بشكلٍ جلي إلى الحجج التي يقدّمها عالم الاقتصاد هذا وهو يخصص مساحة كبيرة من محاضرته بعنوان «ولادة السياسة الحيوية» للضريبة المقترحة من قبل ستوليرو. ومع معظم المحاضرة التي يلقيها يتأرجح بدقة، كما يلاحظ بستانيا، «بين التحليلات والتقييمات الإيجابية»، يبدو المقطع الذي يتطرق فيه إلى الضريبة السلبية إيجابياً نسبياً. وهي تحديداً هذه اللاانتقائية في معايير التوزيع التي تروق بشكلٍ خاص للفيلسوف. فيبدو هذا النظام بنظره رداً على الحوكمة وعلى أشكال تنميط السلوك التي تفرضها المؤسسات المركزية والدولتية القديمة. فيلاحظ «قليلاً ما يهم هذا التمييز الشهير الذي سعت الحوكمة الغربية لوقتٍ طويل إلى إقامته بين الفقراء الصالحين والفقراء السيئين، من لا يعملون بمحض إرادتهم ومن هم من دون عمل لأسباب خارجة عن إرادتهم. في نهاية المطاف، نحن لا نأبه وينبغي ألا نأبه بمعرفة سبب وقوع أحد ما دون مستوى اللعبة الاجتماعية؛ سواء كان مدمناً على المخدرات، أو عاطلاً من العمل بمحض إرادته، نحن لا نأبه لذلك إطلاقاً. تكمن المشكلة الوحيدة في معرفة، أياً تكن الأسباب، ما إذا كان فوق الحد الأدنى أم لا». بالتالي سوف يسمح النظام الجديد بمساعدة مجموعة السكان «المتأرجحة» أو الفائضة عن سوق العمل «باتباع نمطٍ ليبرالي جداً، وأقل بيروقراطية بكثير، وأقل انضباطية بكثير من نظامٍ يتمحور حول العمالة الكاملة ويعتمد آلياتٍ كآليات الضمان الإجتماعي». وبفضل آلية ترفض أي تمييز بين «الفقراء»، «نترك أخيراً للناس إمكانية العمل، شاؤوا أو أبوا. ونمنح أنفسنا، بشكل خاص، إمكانية عدم جعلهم يعملون، إن لم يكن من مصلحتنا أن نجعلهم يعملون. نحن نضمن لهم ببساطة إمكانية معيشة الحد الأدنى عند عتبة معينة وبهذه الطريقة يمكن أن تشتغل السياسة النيوليبرالية». وهكذا نتجنب كل ما شجبه فوكو في مؤلفاته على امتداد السنوات من حيث كافة أشكال السيطرة على الأجساد، وعلى السلوك، والسيطرة على الحياة الجنسية الموجودة بقوة والمحجوبة غالباً في سياسات اشتراكية عديدة باسم الحد من مظاهر اللامساواة، فنشعر بالتالي بأنّ فوكو يتعاطف نوعاً ما مع «فضائل النزعة الاقتصادوية الأنتروبولوجية للنيوليبرالية». وكما يشير بستانيا في ملاحظته، يرى فوكو أنّ «النيوليبرالية لا تُسقط نماذجها على الفرد: ليس لهذه النماذج أي أثر أدائي كما أنها لا تُسقِط أي شكلٍ من أشكال الحياة الطبيعية؛ إن هي إلا إطار من التعقّل لفهم سلوك الفرد».
«الكائن الاقتصادي» هو كائن لا تهمّه إلا الحسابات المنطقية، فلا يجوز بالتالي الحكَم على خياراته من منطلقٍ أخلاقي، إنما ينبغي فهمها ببساطة من خلال مصلحته. ففي نهاية المطاف، ليس للدولة أن تقرر ما على الكائن أن يفعله بأمواله (الصحة، والتعليم، والاستهلاك)، هو وحده من يقرر ذلك خارج أي حكمٍ معياري. وهكذا تجعل النيوليبرالية في النهاية «الأفراد مسؤولين عن حياتهم من دون أن يُفرَض عليهم أي نموذج أنتروبولوجي محدد. [...]على الأفراد ألّا يخضعوا لأي قاعدة في ما يتعلق بطريقة العيش أو الحب أو التسلية، عليهم ببساطة أن يضمنوا الوسائل الذاتية والموضوعية التي تخوّلهم تحقيق ذلك»، إن استطعنا أن نفهم الحماسة التي شعر بها فوكو حيال فكرة إقامة نظامٍ ذي رسالة عالمية، لكن ثبت أن التاريخ قد عاكس كتاباته. إنّ واجب العمل لم يتعزز وحسب مع ظهور الرفاه الاجتماعي، لكن التسويد المذهل للسلوكيات وأنماط العيش الذي ولَّدته العقلانية النيوليبرالية لم يحرر بالفعل الأفراد من أي معيارية.
في النهاية، يبقى فوكو غامضاً في ما يتعلق بكيفية الانتقال من سياسة تهدف إلى الحد من مظاهر اللامساواة نحو نضالٍ بسيط ضد الفقر، مع أن الواضح عنده أنّ «هذه الضريبة السلبية هي، كما ترون، طريقة تتجنّب كل ما له علاقة بالسياسة الاجتماعية، وبمفاعيل إعادة التوزيع العامة للمداخيل» وهي نتيجة لذلك «النقيض تماماً للسياسة الاشتراكية»، ليبقى من الصعب نسبياً معرفة حكمه في هذه المسألة. لكنه لم يتمكّن من إغفال المهمة التي صاغها ليونيل ستوليرو أيما صياغة في كتابه. فالانتقال من سياسة إلى أخرى هو بالضرورة نتيجة تطبيق الفكرة التي تفيد بأنّه «إذا لمسنا «الأعلى»، فإننا نلامس صميم الديناميكية الاقتصادية للسوق، أي قدرته على الاستثمار، وعلى الابتكار، وعلى اختيار الاستثمارات». والقيام بذلك يعني «حرمان الاقتصاد التنافسي من البوصلة التي توجهه والنابض الذي يمنحه طاقة الدفع، وتسليم الدولة مصير الاقتصاد، في آن معاً. وتسليم الدولة مصير الاقتصاد هو ما أسمّيه الاشتراكية». إن مآل النقاش الذي زجّ فوكو نفسه فيه هو بالتأكيد الخيار بين القبول بالرأسمالية أو القبول بالاشتراكية والحد من مظاهر اللامساواة. في تعريفه الحقبة التاريخية التي يعيشها باعتبارها «حقبة ما بعد ثورية بالأساس»، بحسب شهادة إيوالد، يبدو أن فوكو في الحقبة الأخيرة من حياته قد حسم خياره.
خلاصة
تعتبر المسيرة الفكرية لميشال فوكو استثنائية من نواحٍ عدّة. ليس لغناها وحسب إنما أيضاً لتطوّرها المستمرّ ولقدرته على التفكير في مشكلات عصره، بل استباقها. فيبدو بذلك أنّه يجسّد دائماً روح حقبته، مع بقائه على مسافة منها.
سواء خلال انتسابه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، أو خلال الفترة التي كان فيها ديغولياً، أو خلال تقرّبه من الماويين، ظل فوكو محاوراً قريباً وبعيداً في آن واحد. على غرار «رفيق الدرب»، لا لحزب وإنما لحقبة زعزعها فكرياً، ظل فوكو متقدّماً دائماً على أبناء جيله. غير أنّ فوكو «الأخير» يفاجئنا من خلال تعاطفه شبه المبطن وغير النقدي مع النيوليبرلية الناشئة. ثم إنه في الوقت الذي يرهص بـ«تحوّل كبير» إيديولوجي وسياسي في آن معاً، بعيداً عن استباق العواقب المقبلة، عمد إلى تشجيعها نوعاً ما باسم استقلالية أكبر وباسم ثورة الفرد ضد البنى المؤسساتية و«السرديات الكبرى».
من هذا المنطلق، لم يكن فوكو غريباً، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، عن رفض أي نقاشٍ عن مظاهر عدم المساواة، أو عن بدائل الرأسمالية أو عن الأدوات السياسية والمؤسساتية التي قد نحتاج إليها للنضال ضد الرأسمالية. كذلك، إنّ التكريس الفكري للنيوليبرالية، جهة اليسار كما جهة اليمين، و«الانقلاب الرمزي» الذي انتهى إلى استبدال مبدأ الرؤية والتقسيم للعالم (هو مبدأ وتقسيم قائمان على مفهومي الطبقات الاجتماعية والاستغلال) بمبدأ آخر (مبدأ النبذ والفقر) هو جزء لا يتجزأ من التطور الفكري لفوكو (وآخرين غيره). وهكذا يبدو أنّ الإستراتيجية التي اختارها هذا اليسار في سبعينيات القرن الماضي، محولاً خطاباته نحو «ذرات» من الأجراء وضد «الدولة» و«المفهوم المركزي للتحوّل الاجتماعي»، قد ولّدت هزيمة مزدوجة: فقد فاز اليمين على المستويين الاقتصادي والايديولوجي في آن معاً. الهزيمة على المستوى الاقتصادي، لأنّ تراجع أشكال التدخل «الاشتراكية» وتنظيم الدولة لم يفضِ إلى استقلالية أكبر وحرية أكبر للفرد. والهزيمة على المستوى الإيديولوجي لأنّ الفكرة القائلة بوجوب النضال ضد آثار اللامساواة (النبذ، والفقر، والتهميش المدني الخ.) قد تجنّبت إلى حد كبير مناقشة اللامساواة ذاتها مع الاكتفاء بالنضال من أجل المساواة في الفرص. في المحصّلة، عززت سياسة الهوية و«الثورات السلوكية» من نضال إنسانوي مغالٍ من أجل «الاحترام»، و«الاندماج»، و«العيش الكريم»، على حساب نضالٍ أقل أخلاقية بكثير، من أجل إعادة توزيع الثروات.
«يُقاس انتصار الليبرالية أيضاً بالنظر إلى العمق الاستثنائي الذي مكّنها من التسلل إلى الرؤى المتعارضة للعالم وإعادة تشكيلها بشكلٍ سافر، غالباً دون أن ننتبه لذلك»، على ما ذهب ستيفانو إزارا. وهكذا، بعيداً عن الانتصار على خصمها في مبارزة حتى الموت، غالباً ما كسبت النيوليبرالية خصمها لتبنّي أفكارها الخاصة وعلى حسابه. وهكذا يتبيّن أنّ قصة ما سمّاه فرانسوا كوسيه «الكابوس الكبير لثمانينيات القرن الماضي» أكثر تعقيداً مما بدا أنها قد تسرّبت كما يبدو في الزوايا الأقل توقعاً على الإطلاق. بات من الضروري من الآن وصاعداً إعادة بناء فكرية وسياسية لمشروعٍ مساواتي من دون توفير انتقاد لكل هذه «الزوايا» التي تخلّى عنها اليسار إلى العقيدة المهيمنة.
المراجع:
- Stephano G. Azzara, L’humanité commune, Delga, Paris, 2011.
- Colette Bec, La sécurité sociale. Une institution de la démocratie, Gallimard, Nrf, Paris, 2014.
- Michael C. Behrent, «Accidents Happen: François Ewald, the «Antirevolutionary» Foucault, and the Intellectual Politics of the French Welfare State», The Journal of Modern History, 82, September 2010.
- Michael C. Behrent, Penser le xxe siècle avec Michel Foucault, Colloque Foucault et les Historiens, École des hautes études en sciences sociales, le 14 juin 2013. Texte non publié.
- Jean-Michel Belorgey, La gauche et les pauvres, Syros Alternatives, Paris, 1988.
- François Ewald, L’Etat providence, Grasset, Paris, 1986.
- François Ewald, «Foucault et l’actualité», Au risque de Foucault, éd. Dominique Franche et al., Paris, 1997.
- Michel Foucault, «La philosophie analytique de la politique», juin 1978, Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚232, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, «Méthodologie pour la connaissance du monde: comment se débarasser du marxisme», 25 avril 1978, Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚235, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, «Le grand enfermement», mars 1972, Dits et écrits, vol. I., 1954-1975, n˚105, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, «Sur la justice populaire. Débat avec les maos», juin 1972, Dits et écrits, vol. I., 1954-1975, n˚108, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, «Méthodologie pour la connaissance du monde: comment se débarasser du marxisme», op. cit. p. 616.
- Foucault. «Les réponses du philosophe», novembre 1975, Dits et écrits, vol. I.,
- 1954-1975, n˚163, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, Sécurité, Territoire, Population, Hautes Etudes, Gallimard, Paris, 2004.
- Michel Foucault, «Un système fini face à une demande infinie», 1983, Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚325, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, «Foucault étudie la raison d’Etat», 1980, Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚280, Gallimard, Paris, 2001, p. 856.
- Michel Foucault, «Sexualité et politique, mai 1978», Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚230, Gallimard, Paris, 2001.
- Michel Foucault, Michel Foucault: La sécurité et l’Etat, Novembre 1977, dans Dits et écrits, vol. II., 1976-1988, n˚213, Paris, 2001, p. 385.
- Michel Foucault, Naissance de la biopolitique, Hautes études, Gallimard, Paris, 2004.
- Michel Foucault, Crise de la médecine ou crise de l’antimédecine?, dans Dits et écrits, II., 1976-1988.
- Michel Foucault, A propos de la gouvernementalité (Les leçons 78/79). Une discussion avec Colin Gordon, traducteur, rédacteur et commentateur des écrits de Foucault, co-auteur de The Foucault effect (1991) avec Graham Burchell.
- Milton Friedman, Rose Friedman, Free to Choose. A Personal Statement; John Gerassi, Entretiens avec Sartre, Grasset, Paris, 2011.
- André Gorz, Adieu au prolétariat, Galilée, 1980.
- René Lenoir, Les exclus. Un Français sur dix, Seuil, Paris, 1974.
- Herbert Marcuse, Vers la libération, Minuit, Paris, 1969.
- Mouvement ATD quart monde, Livre blanc: le sous-prolétariat en Belgique, Bruxelles, juin 1977.
- Frédéric Panier, Pour une historicisation de l’exclusion: Les raisons sociales du succés d’un quasi-concept, Louvain, 2004. Texte non publié.
- François Perroux, Herbert Marcuse, François Perroux interroge Herbert Marcuse…qui répond, Aubier, Paris, 1969.
- José Louis Moreno Pestaña, Foucault, la gauche et la politique, Textuel, Paris, 2011.
- Pierre Rosanvallom, «L’Etat en état d’urgence», Le Nouvel Observateur, 670, Septembre 1977.
- Lionel Stoléru, Vaincre la pauvreté dans les pays riches, Flammarion, 1974.
- Slavoj Žižek, Après la tragédie, la Farce!, Flammarion, 2009.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.