العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥

ريجيس دبريه

في الدين والحدود والأخوّة

النسخة الورقية

المقابلة نشرت في مجلة Philosophie Magazine العدد ٨١، تموز / آب ٢٠١٤.


. العام ١٩٦٠، كان رفاقك في «كلية التربية العليا» ينظّرون للثورة. أنت ذهبت إلى أميركا اللاتينية. كيف حصل ذلك؟

. لا يستطيع أحد أن يقفز فوق زمانه والجو الذي عاش فيه: حرب فييتنام، رواية «عصر الأنوار» لآلييخو كارپنتييه، حرب إسبانيا [الأهلية] من خلال فيلم روسيف «الموت في مدريد»، التعب من إعادة التحديق في الُسرّة لدى الإنتلجنسيا الفرنسية، إلخ. وثمّة الحافز الماركسي الذي يقول «لم يعد يكفي تفسير العالم، يجب تغييره». كانت هذه كلها حوافز للانتقال من مراقِب إلى مشارك.

. كيف تمّ ذلك عملياً؟

. تم بواسطة جملة من النوادر. عشية الإنزال المعادي لكاسترو في «خليج الخنازير» العام ١٩٦١، قصدتُ سفارة كوبا برفقة برنار كوشنير وفي نيتنا التطوّع في الفيالق الاممية. فوجئ السفير بعض الشيء وهو عازف بيانو. «عودا غدًا»، قال، «سوف نرى ما الذي نستطيع فعله». في اليوم التالي، اختفى الغزو: دحره الكوبيون. قرر كوشنير البقاء في فرنسا. أما أنا فقررت المغادرة. بعد شهرين، حللت في الولايات المتحدة مفلساً، ذات رابع من يوليو/تموز، يوم العيد الوطني الأميركي. ومنها غادرت إلى ميامي عن طريق «أوتو ستوب» حيث استقللت آخر طائرة إلى هافانا، يوم ١٤ يوليو ١٩٦١. سوف أكتشف «عالما» قائماً بذاته: غواتيماليين، فنزويليين، أرجنتينيين، كهلم معارضون لاجئون من البر الجنوبي الأميركي. في نهاية ستة أشهر قررت العودة إلى فرنسا، وإلى مقاعد الدراسة في دار المعلمين العليا. ولما كنت قد غادرت دون استئذان، تلقيت لوماً دون أن أطرَد، لأني كنت الأول في امتحان الدخول ولأني حظيت بدعم من جان هيپوليت، مدير الدار حينها. بقيت في باريس إلى العام ١٩٦٣، ثم غادرت لعام ونصف العام، بهويتين: واحدة بصفتي مندوبا من مجلة «الأزمنة الحديثة» التي يرأس تحريرها جان بول سارتر ــ وكانت هذه «تغطيتي» ــ وثانية بصفتي مندوباً أيضا لمجلة «ريڤوليسيون»، التي يرأس تحريرها جان فرجيس. اكتشفت أن الماوية لا معنى لها في أميركا اللاتينية، وأن وحدها حرب الغوار التي يقودها كاسترو لها مستقبل ــ وهي التي كانت تسمّى «الفوكيّة»، أي نزعة توليد بؤر ثورية متعدّدة. أمضيت ١٨ شهراً بين فنزويلا والبرازيل بعد وقفة قصيرة في السجن في البيرو. لحسن الحظ أن مدير وكالة الانباء الفرنسية، وهو صديق لوالدي، نجح في إطلاق سراحي. تلت ذلك مصادفات ولقاءات سمح بها المعتقَد الثوري، وهو نوع من الأخوية مبنيّة على الثقة.

. خلال ذاك، نجحت في امتحان التأهيل aggregation؟

. بل كنت بين الأوائل. لم أصرف وقتاً طويلا في التحضير للامتحان، وقد أراحني ذلك لأنه أبان لي أنّ الفلسفة ليست أمراً بالغ الجدّ، وأنه يمكن النجاح فيها إذا زلّقت في حديثك مفهوماً من هنا ومفهوماً من هناك. بعد ذلك، سجّلت ملخصاً عن تجربتي الأميركية اللاتينية في نص نشره سارتر ولانزمان في «الأزمنة الحديثة»، وعنوانه «الكاستروية: المسيرة الطويلة لأميركا اللاتينية» وهو موثّق ومسنود بطريقة جيدة.

وقع النص بين يدي غيفارا خلال إحدى زياراته للجزائر، فحمله إلى كاسترو الذي تساءل: «من هو هذا الفرنسي الذي يعرف أشياء كثيرة عنا؟». دعاني إلى «مؤتمر تضامن القارات الثلاث» (التريكونتيننتال) بصفتي خبيراً في الثورات، ولم أكن كذلك. هنا وجدتني مرتبطاً بالمشاريع التآمرية لتلك الحقبة. اقتفيت أثر تشي في بوليفيا العام ١٩٦٧ حيث اعتقلتني القوات النظامية للحكومة البوليفية، وحوكمت وصدر بحقي حكم بالسجن لثلاثين سنة، ثم أطلق سراحي بعد أربع سنوات تقريباً بفضل تغيير في نظام الحكم في بوليفيا وحملة تضامن دولية. تسألني عن دوافعي؟ التمرّد على البرجوازية التي وُلدت في كنفها؛ فضول تجاه العالم؛ اليقين بأن أوروبا في مأزق وأنه إذا كان من إمكانية لبناء اشتراكية مجدية، فسوف تولد خارج النموذجيَن الصيني والسوفياتي.

. أيّ نوع من النشاط مارسته في أميركا اللاتينية؟

. سوف أمتنع عن أن أهذر بالنوادر في مجلة فلسفية راقية ومجدية. من يهتم للأمر يمكنه قراءة كتابي «تبارك سادتنا» والجزء الثاني من «الوقت المطلوب لتعلّم الحياة» في منشورات غاليمار. باختصار، كانت الفكرة الأساس هي أنّ الفِعل هو الذي يخلق الظروف الموضوعية لنجاحه، وأنه من المهم أن يتعلّم المرء استخدام المتفجرات والرماية على «البازوكا» [المضاد للدروع]. تلقّيت تدريباً عسكرياً على تقنيات النضال السرّي، لكنّي لم أضطر إلى استخدام المتفجرات. كل ما قمت به هو استطلاعات على الأرض للعثور على أماكن يمكن للحرب الغوارية أن تتمركز فيها في القارة الأميركية الجنوبية.

. ماذا كان رأيك بكاسترو وبالنظام الكوبي؟

. لم يكن النظام الكوبي يثير اهتمامي. لن تلقى في كتاباتي خلال تلك الفترة تقييمات للنظام الداخلي لكوبا، وبالتأكيد لن تلقى مديحا له. كان النظام الكوبي بالنسبة إليّ قاعدة خلفية، لا نموذجاً، كانت الحصن الذي منه نقاتل النظام الإمبريالي الأميركي الشمالي الذي يدعم كل الدكتاتوريات العسكرية. كان كاسترو رجلاً جذاباً، مثقفاً، يحسن الاستماع. اختلفنا لكنه كان مؤمناً بما يفعل. قامت صداقتنا على الرغبة في إطلاق الثورات في أميركا اللاتينية، نقطة على السطر.

. وتشي غيفارا؟

. هو نقيض كاسترو. لم يكن ذا مزاج استوائي على الإطلاق. كان منكفئاً على نفسه، متخندقاً، منعزلاً، يضع مسافات بينه وبين الآخرين.

.هل كان السجن اختبارا للحقيقة؟

. لنقل كان لحظة حاسمة من لحظات التأمل. كانت المحكمة مهزلة. في الزنزانة، ينتهي اللعب ويتّسع الوقت للتعمّق في الأشياء. سُمِح لي بالمطالعة. إلّا الكتب السياسية. هذه كانت ممنوعة. فقرأت دون كيخوت والتوراة. في السجن اكتشفت أنّي فرنسي. وأن الثورة ليست هي وطني في نهاية المطاف. وأنه لا يمكن تجاوز الخصوصيات، وأعتقد أن من لا يغادر وطنه لا يستطيع أن يكون وطنياً. في كل الأحوال، كل «محرّري» أميركا اللاتينية، أمثال بوليفار وسان مارتان وميراندا وآخرين، اكتشفوا هويتهم «اللاتينية» في باريس، أي عندما كانوا منفيين، بالمعنى الجذري للكملة، عندما خرجوا من بيئاتهم. ينطبق عليهم قول جميل جداً لفكتور سيغالين «الداخل ينتظرك في الخارج». من لا يعرف الخارج لن يتعرّف إلى الداخل. أدركت أنه في النضالات الوطنية المسماة تحررية، يشكل الأجانب أجساماً غريبة في نهاية المطاف. من هنا إدانتي الغريزية للتدخّلات النيوكولونيالية أو المحافِظة الجديدة من العراق إلى ليبيا. سوف نهزم دوماً [نحن الغربيين] بما نحن غزاة ومحتلّون. باختصار، جعل مني السجنُ سياسياً ديغولياً يسارياً متطرفا. وأنا أهوى مثل هذه المعادلات المتضاربة.

. ولكنك أيضاً مفكّر في انغلاق المجتمعات على نفسها وفي الحدود... لكي تفهم ما الذي يوحّد مجتمعاً معيّناً، لجأت إلى مفهومٍ مستمدّ من الرياضيات، «اللااكتمال» لكورت غوديل (١٩٠٦-١٩٧٨). ما القصة؟

. لم يلهمني غوديل البتة. ساعدني فقط على صوغ أفكاري على نحو أفضل. حككت رأسي طوال سنوات وأنا أتطلع إلى الحواجز، وأقرأ عن الأساطير التأسيسية للمدن، وأدخّن السجائر في «الساحة الحمراء» سابقاً ــ حيث التدخين ممنوع ــ أو أتلوّى في الزنزانة، كل ذلك من أجل أن أكتنه لماذا عندما يكون ثمة انفتاح نحو الأعلى يكون ثمّة انغلاق في الأسفل، والعكس بالعكس. الصوفي ينعزل. وعندما ترسم حدوداً أو تبتني حِمى أو سوراً، يكون لك «هيكل» templum (من الإغريقية temno، أي «قطع»)، أو تكون لك مساحة يحرّم دخولها وإلّا يكن عقابه الموت، أي تكن لك روما. لديّ مئات الأمثلة المحدّدة أستشهد لك بها حيث يتمفصل رسم الحدود مع التسامي، وتعيين الانتماء مع تحديد بؤرة مركزية. بعدها عرفت نظريات غوديل، وهي بالغة التعقيد، كما يعرف الجميع، وسوف أمتنع عن تلخيصها، ولكنها تقول هذا تقريباً «لا يمكن بناء أطروحة (ط) تعلن تماسك نظام معيّن (ن) إذا كانت (ط) تنتمي هي ذاتها إلى (ن)». ليس المجتمع بالنظام المنطقي، بالتأكيد، وإنما بدا لي أنّ الصياغة من شأنها التمثيل على العلاقة الملتبسة بين الحدود والمقدّس، إن شئنا الاختصار. النهائية مسطحة. إننا محدودون في المكان والزمان. ليكن. في حين أن اللااكتمال نافر. إنه يتفرّع من الخارج إلى الداخل. وهذا هو ما يلحم خطاً عمودياً بخط أفقي، والهناك بالهنا، والغد، أو الماضي، باليوم الحاضر. إنّ نظاماً مستقرّاً لا يمكن أن ينبني على ذاته. لا تنبني الأخلاق على معطيات الأخلاق؛ يجب أن يتوافر دوماً خط عمودي، عامل جامع، أو يجب أن يتوافر معطى خارجي ليتكوّن خط أصيل/حلولي. إن هذا النقصان الوجودي بمثابة الإعاقة لكنها إعاقة منتجة. إنها مصدر قوة ذلك الكائن الآكل للنباتات واللحوم معاً، منتصب القامة، وهي ــ الإعاقة ــ ما قد أعدّ له لأن يسير مرفوع الرأس. ما يقع تحت مدارك الإحساس يحيل إلى غَيب يمنحه معناه الحقيقي أكان إلهاً، أم بطلاً مؤسساً، أم فكرة قائدة، أم المجتمع اللاطبقي، أم الإمام الثاني عشر، إلخ.

لا يمكن الحديث هنا عن نظرية، الأجدر أن نتحدث عن بداهة أو عن مبدأ/قاعدة. ولا يمكن البيان عن ذلك منطقياً، ولكنك إذا عاينت الوقائع التاريخية، فسوف تلقاه بديهياً. اذا أزلتَ المرجع المعصوم، يتفجّر البنيان من أساسه. لم يقوَ الاتحاد السوفياتي على البقاء على قيد الحياة بعد نزع صفة القداسة عن لينين. ولن يكتب للولايات المتحدة حياة طويلة إذا ما سقط تمثال لنكولن عن منصّته، جراء حملة تنقيحيّة تاريخية ما، أو إذا اختفت عبارة «بالله نؤمن» من على الدولارات الأميركية. الديانة الإنجيلية الوطنية، والإله الكونفدرالي، كلاهما عنصر لحم، والقوى النازعة نحو المركز تحول دون اندلاع حروب الأعراق والطبقات، وتسمح بتكوّن فسيفساء. إذا خطر ببال فرنسا أن تسمح للمقدّس الجمهوري تبعها بأن يذوي، سوف تتناسل إلى جماعات تنمّي كل منها قداساتها المخصوصة، وتدعّمها بقوانين استرجاعية. إننا نتعرّف إلى المقدّس عند ما توجد تحريمات وقوانين مانعة، وهذا ما ليس يتطلّب قيمة بسيطة.

. ألا تخشى في أيامنا هذه انكفاء الأمم على ذواتها؟ في خطابها بمناسبة الأوّل من أيار/مايو، استشهدت مارين لُ بين بك عن الحدود «الحدود ضرورية للبلد قدر ما البشرة ضرورية لكل إنسان» ــ وهي بصدد إدانة الخطر الذي يسببه التخلي عن الحدود والهجرة على فرنسا. ما الذي يوحي لك هذا النمط من الاستيعاب؟

. كان عليها أن تقرأ كتابي «لحظة الأخوة»، ذلك أن الأخوّة هي النقيض من وطن الإخاء. الأخوة هي أن تكوّن عائلة ممن ليسوا بأقارب. إنها تعني استبدال رابطة الدم بروابط المعنى. هي أن تقول لا للحتمية البيولوجية. والأخوّة فكرة مسيحية أصلًا، وليس كمثلها فكرة جمهورية، بل اشتراكية. «العائلة المقدّسة» عائلة هي معاد تركيبها: الابن متبنّى والأب مجرّد مانح اسم، والأم رحم مُعارة إلى «الروح القدس». وبهذا المعنى كانت الأخوّة فكرة ثورية، تقطع مع إملاءات الأنساب والجينات. وفي كل حال، هي ثورة ١٨٤٨ التي وضعت نفسها تحت رعاية «المسيح البروليتاري».

أثرتُ موضوع الحدود من أجل تطمين الغريب في إطار من احترام كرامته وتفرّده، وتذكير الغرب الإمبراطوري بأن ليس له الحق في أن يحسب نفسه في بيته أينما كان في هذا العالم. ويمكن استخدام الفكرة أيضاً لمنح الغريب بَشَرة.

كل الأفكار الأساسية قابلة للانقلاب. الحدود، على عكس الجدران، لا تميّز إلا من أجل أن تلي بطريقة أفضل. أنّ لا تميّز، يعني أن تستتبِع أو أن تَسحَق.

ريجيس دبريه خلال توقيفه في كاميري في بوليفيا في نيسان / إبريل من العام 1967 (أرشيف - أ ف ب)

. تقول «الدين هو لاوعي السياسة». إننا نميل إلى نسيان ذلك. من هنا عجزنا عن فهم الشرق الأوسط وأوكرانيا.

. الديني عاملٌ ناظم وهو أكثر زخماً ليُرى إليه على أنه عتيق. ما إن يتفكك نظام سيطرة حتى تستيقظ البنى التحتية الدينية والثقافية. هذا تقريبا ما يجري في أوكرانيا اليوم، وما يجري أيضا في مئة مكان آخر. لن نفهم شيئا عن أوروبا إن مَحَونا خط ريغا ــ سپليت الذي يفصل العالمين اللاتيني والأرثوذكسي. وقد ارتسمت حدود الانشطار منذ المجابهة بين الكاروليجيين والبيزنطيين. إننا نتجاهل بيزنطة، فنعجز عن فهم موسكو، روما الثالثة. وليس في «المعهد الوطني للإدارة» يمكننا تحصيل مفاتيح الإدراك هذه. الانقسام بين الشيعة والسنّة، وهو بخطورة الانقسام بين الكاثوليكيين والبروتسطانت في القرن السادس عشر، اقتضى الأمر دزينة من السنوات لأن تتنازل وزارة الخارجية وتهتمّ به، فيما العقيدة الإعلامية السائدة لا تزال قائمة على ثنائية الدكتاتوريات/حقوق الإنسان. كيف يمكن التعامل مع الصين اليوم بمقاييس المُحاسِب، متغاضين عن التاو وعن كونفوشيوس؟ وكيف التعامل مع الهند وماليزيا وبورما دون معرفة البوذية والهندوسية؟ دعوت أخيراً إلى تعليم الحالة الدينية في المدرسة العلمانية. وكانت النتيجة الفشل النهائي غير المدوّي. … من يسمّون أصحاب القرار في بلادنا يقرأون الصحف ويسكرون من الأخبار صبح مساء. هل تستغربون أن يكونوا متأخرين بشوط أو شوطين عن مسيرة الأشياء. لم يفهموا بعدُ أنّ الخريطة الثقافية للكرة الأرضية لم تعد تتطابق مع الخريطة السياسية.

. في الخمسينيات، اسسّتَ مدرسة فكرية جديدة هي علم الإعلام (الميديولوجيا) التي تهتم بأنظمة الاتصال وأشكال التنظيم الجمعية والمعتقدات.

. الميديولوجي يهتمّ بالمسلسلات التي تسمح بصعود فكرة مجرّدة إلى موقع القوّة. لم يهتمّ ماركس بمعرفة كيف يمكن لفكرة أن تتحوّل إلى قوّة مادية. [عنده] الحقيقي يفرض نفسه لأنه حقيقي. و«الدفاتر الماركسية اللينينية» في «دار المعلمين العليا» كانت تحوي على غلافها هذا الاستشهاد «الماركسية جبّارة لأنها صحيحة» والتوقيع: لينين. كان ذلك مرعباً لكنه ذو دلالة. بالنسبة إلى هذه الصيغة من المادية التاريخية، البناء التحتي موجود في أسفل، في الإنتاج الاقتصادي، وليس في أعلى حيث المجال الرمزي. تباشر الميديولوجيا عملها يأتي انطلاقاً من التمرّد لأنها تجهد لتحطيم الجدار الذي شيّدته الإنسانية الكلاسيكية والتراتب الأكاديمي بين الذات والموضوع، الروحي والمادي، النبيل والشرير. في حين أن الغرض هو تزويج الإنسان للآلة، وفرض التقانة على الثقافة والثقافة على التقانة. وقد بدأنا ندرك مع الثورة الرقمية أنّ المدى الإعلامي هو نظام نقل ونظام قيَم في الآن ذاته. وعندما ننتقل من مجال الكتابة إلى مجال الفيديو، ومنه إلى المجال الرقمي، لن نلقى بين أيدينا الأجهزة ذاتها، ولا الذهنية ذاتها، ولا العقلية ذاتها ولا القيم ذاتها. ولم يكن للكائن العالِم أن يبقى على قيد الحياة لولا هذه الأدوات، وبدون التقانة لن يعود معنى لفكرة التقدم. بعد المنشار الكهربائي لا يعود الحطّاب إلى الفأس، ولن نعود أنا وأنتم إلى التلفزيون الأسود بعد التلفزيون الملوّن. ولكن بعد ماركس ولينين يمكنكم العودة إلى سيريل وميثود القديسين اللذين نشرا المسيحية بين الشعوب السلاڤية. شكراً للمهندسين. ولتحي البوليتكنيك ومدرسة الجسور والخنادق. المشكلة أنه يجب إنتاج الجديد وإعادة إنتاج القديم في آن معاً إذا أردنا أن نستمر على المدى الطويل. علينا أن نجيد الابتكار وأن نعرف كيف نَرث في آن معاً. «النظام والتقدّم» هو الشعار المرفوع على العَلَم البرازيلي. وفي ظني أن هذا البلد سوف يحقّق الكثير، لأنه يتذكّر أوغست كونت أفضل منّا ويا للأسف.

العدد ١٢ صيف / خريف ٢٠١٥
في الدين والحدود والأخوّة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.