منديل الرأس: «نحن وهُم»
ساحل البوسفور مزدحم بالقوارب وسيزدحم باليخوت ما إن تزداد المناطق ثراءً. بعض هذه اليخوت مجهّزة حاليّاً بما هي قصور عثمانيّة عائمة، أو بما يظنّ صاحب/ة شركة سفريّات أنّها قصورعثمانيّة، أو بما يرغب بها سيّاح خليجيّون يزورون تركيّا وقد شاهدوا المسلسلات الشعبيّة على محطّات التلفزة التركيّة. هذا يعني المبالغة في الطلاء بالذهب ووفرة المخمل وكثرة التطريز.حتّى إنّ بعض تلك المراكب ركّزتْ تماثيل عثمانيّة في قيدومها، ما يجعل الأكثر مناعة منّا يصاب بدوّار البحر. يبدو أنّ هذا يشجّع السيّاح على أن يلتقطوا صوراً تذكاريّة مع تماثيل لواجهات متاجرتربّي شارباً ولحية وترتدي أزياء الباشوات العثمانيّين. وإذا مللتَ من تفاهة «الماضي المُعاد استكشافه» على الشاطئ فاليابسة مسوّرة بدورها بلوحات الإعلانات.
على الجملة هذه اللوحات تقع في فئتين. إمّا أنّها إعلانات عن عروض مسرحيّة أو أفلام بأحجام ووتائر غير مسبوقة في تركيّا، ستُعرَض قريباً على التلفزيون الوطنيّ، أو هي إعلانات عن مشاريعمن «أجل حياة جديدة». سنعود إلى الإعلانات عن المسرحيّات والأفلام. الحقيقة أنّ أوصافاً من مثل «مساحة عيش» و«حياة هانئة» أو «العيش مع أمثالكم» تستخدَم لدعم مشاريع بناء بوتيرةمتسارعة تفضح حقيقة وطنيّة فارغة: إنّ الغرافيتي والإعلان والشوارع هي الجريدة السرّيّة للأمّة. ولدى شيفراتها الكثير لتقوله للذين يستطيعون حلّ رموزها، فيمكن بالتالي الربط الوثيق بين تلكالإعلانات وانتحار مرشّح قاضٍ شابّ من أبناء الطبقة الوسطى طافح بالصحّة لأنّه «ليس مثلهم». إنّ قطاع البناء هو خشبة الخلاص للاقتصاديّات المتخلّفة وهو بالتأكيد واحد من أسباب تكاثرالمجمّعات السكنيّة أو عمارات الشقق. غير أنّ الرسالة المضمرة التي تقول «يجب أن تعيش مع أقرانك» في تلك الإعلانات مسألة مختلفة تماماً.
لفهم ذلك، لنعدْ إلى مساء يوم ٢٢ تموز / يوليو ٢٠٠٧. كان «حزب العدالة والتنمية» قد فاز بالانتخابات ورئيس الوزراء على أهبة إلقاء إحدى خطبه الشهيرة من على الشرفة. منذ أن وصل الحزبإلى السلطة بدأ النظر إلى خطابات الشرفة التي ألقيت ليلة الانتخاب على أنّها مؤسّسة ديمقراطيّة، وتحوّلت تصريحات رئيس الوزراء تلك الليلة إلى تنبّؤات تعلو على القانون. إنّ جدولالأعمال الذي يتعيّن على الأمّة تنفيذه بات أكثر اعتماداً على ما قاله السيّد أردوغان تلك الليلة ممّا هو على نشاطات الحزب. في تلك الليلة التي افتتحتْ العهد الثاني لحزب العدالة والتنمية فيالسلطة، خرج رئيس الوزراء طيّب أردوغان إلى الشرفة وسط الزعيق والأناشيد وحالة هياج عاصفة بجموعٍ مخبّلة. بدأ الهرج للتوّ. توجّه رئيس الوزراء للجمهور وقال: «أروني تلك الأعلام. ما يجعلالعَلَم علماَ هو الدم المراق عليه. والآن فلنعلن من هنا للجميع في تركيا: أمّة واحدة، علَم واحد، وطن واحد، دولة واحدة!». قد لا يكون رئيس الوزراء واعياً لذلك، لكنّ التّكملة هي: «دولة واحدة،شعب واحد، زعيم أوحد!» (كما في القسَم النازي!).
مواطنو «الوجبة الثانويّة»
(...) بعدما وصف النّاخبين من أنصار الأحزاب الأخرى على أنّهم «مساهِمون في ثرائنا» وأعلن أنّ نصف البلد الذي لا ينتمي إلى حزب العدالة والتنمية هم «الوجبة الثانويّة للأمّة»، استطرد قائلاً: «إنّ حزب العدالة والتنمية هو الآن محور حياة المجتمع!».
وقد تمّ تأليف المشهد الآتي بعناء ليرافق هذه الكلمات لحظة التفوّه بها: السيّدة أردوغان، زوجته معتمرة المنديل، أمينة هانم، وعبد الله غُل وزوجته معتمرة المنديل خَيرُ النّسا هانم. والمقصود أنّهذا هو «الزّيّ القويم»، هذا هو «الطبيعيّ». المقصود أنّكِ إن كنت لا تشْبهينهنّ، فأنتِ الآن هامشيّة. والمقصود أيضاً، أنّ هذه الدولة ليست دولتك ولا الشعب شعبك، أنت «آخر». انتَ وجبةثانويّة في أحسن الأحوال. عقب ليلة الانتخاب، كلّ مَن ظهر على التلفزيون للتعليق تكلّم عن موضوع واحد: المصالحة الاجتماعيّة! دوائر رجال الأعمال، الإعلام والسياسيّون الذين لا ينتمون إلىحزب العدالة والتنمية، يؤكّدون باستمرار ضرورة أنْ يتصالح الحزب مع سائر القوى والأحزاب الاجتماعيّة. «نأمل أن يفعل ذلك»، «نتمنّى ذلك»، يقولون. إنّه فعلاً طلبُ رحمة. إنّهم يطلبونالرحمة من الطبقة الحاكمة. ذلك أنّك لا تستطيع أن تضغط على زعيم يملك مثل هذا الجبروت الاجتماعيّ وقد أُعطي نصف الأصوات تقريباً، كلّ ما تستطيع هو أن تطلب منه الرحمة. تستطيع أنتصلّي ألّا يبيدَ الزعيم أولئك الذين لا يشبهونه. وحدهم أمثال الفوهرر النازيّ يطالَبون بالرّحمة، كما تعلمون.
وهذا ما حدث في الحقيقة. بعد ليلة الانتخاب، نزع حزب العدالة والتنمية قناع الديمقراطيّة واللياقة الذي كان يرتديه. وها إنّ رئيس الوزراء يعلن في الساحات «نحن» ويصيح «هم» قبل أن يحذّرالذين لا يحبّونه. السيد أردوغان رائد في قضيّة «هم». ومنذ اللحظة التي بدأ فيها تأييده للتفريق بين «نحن» و«هم»، إذا بأمّة كانت متقلقلة أصلاً في ثقافة التعايش تنشطر نصفين. وسادالاعتقاد بأنّ الشرخ هو بين العلمانيّة والعداء للعلمانيّة. على الأقلّ هكذا بدا الأمر في عهد حزب العدالة والتنمية الأوّل في السلطة. حتّى إنّ الصحف نشرت دعوات فاضحة إلى «نمَط حياةغربيّ...»، لكنّها أعقبتها بالوعود بمجمّعات سكنيّة يسكنها المحافظون الدينيّون «في سبيل حياة هانئة...».
و«الهناءة» هي كلمة السرّ لدى المحافظين. وتعني أنّ «همُ» هم الذين يحُولون بين المحافظين وبلوغ الهناءة. الواقع أنّ مساحتهم الخاصّة كانت تتعرّض لهجوم «بلقنة» عنيف. فكلّما وقف رئيسالوزراء ليلقي خطاباً، أخذ يطارد مثل هذا الهجوم: «لقد تعرّضنا للاضطهاد. لقد سُحِقنا. أمّا اليوم، فمع أنّنا في السلطة، ها نحن نتسامح معهم».
هنا كمثَل تركيٌّ يقول: «إذا ضَرَطَ الإمام، فسوف تُزايد عليه الجماعة». ولمّا كان المثَل شديد الفجاجة، غالباً ما يجري التخفيف منه بالقول: «إذا كان هذا سلوك الإمام، فلك أن تتخيّل ما سوفيجيزه أفرادُ الجماعة لأنفسهم!» [أو كما يقول الشاعر العربيّ «إذا كان ربُّ البيتِ بالدفّ ضارباً / فشِيمة أهل البلد كلّهم الرقص»].
وهكذا، كلّما أطنب «إمامُهم» في أحاديث التسامح والصبر، كان الموظفون الحزبيّون والناس العاديّون، الذين تتشكّل منهم شرايين المجتمع وعروقه، يبذلون قصارى جهودهم لدفع «هم» إلىخارج المجتمع، يلاحقهم ضراط التظلّم. لنطلب مساعدة الأكاديميّ فتحي أسيكيل في مقالته «مرض التظلّم المقدّس» لفهم هذه الظّاهرة:
«إنّ الانتصار الأيديولوجيّ للتظلّم المقدّس يتحقّق بسبب قدرته على تعبئة الطاقة السلبيّة للجماهير («أميركا الدونيّة»، «تركيا العظيمة»، العالَم التركيّ الذي يمتدّ من بحر الأدرياتيك إلى سورالصين العظيم، إلخ.) من أجل بلوغ مستوى أرقي من السياسة، ونظراً لترويجه للاعتقاد المتفائل بأنّ السلبيّة المجتمعيّة لن تلبث أن تتحوّل إلى قضيّة كبرى. في قدرتها على تأجيل «طاقةالاعتراض السلبيّة» الصادرة عن الإحباط المجتمعيّ عن طريق الوعد بانتصار في المستقبل... وبسببٍ من تمكّنها من تجيير طاقات الاعتراض الموجّهة لصالح المثال الأعظم لتحويلها إلى واسطةللإعلاء السلبيّ... وفي تعبئة الجماهير المحرومة حول معتقد يمكن استبطانه على المستوى الروحي والتحكّم بطاقته الاجتماعيّة السلبيّة...».
التظلّم المقدّس
قبل ارتقائه إلى الحكم وبعده، ظلّ رئيس الوزراء يتحدّث عن مظلمة تاريخيّة، عن دولة التظلّم الجماعيّ. هكذا يبدأ: «إنّهم لم يأخذونا على محمل الجدّ، لم يسمحوا لنا بممارسة ديننا، عملوا علىتأخيرنا، سلبونا حقوقنا، سخروا منّا، وأذلّونا». فتحسب أنّ تركيّا منذ تأسيسها كان يحكمها نظام اشتراكيّ ظالم معادٍ للدّين، ولكن «فرضت الجماهير رأيها!» أخيراً. فيتحدّث رئيس الوزراء عن«تركيّا جديدة» عن «تركيّا العظيمة» مع أنّه أجّل ذلك اليوم المُشرق: «الهدف ٢٠١٣!». وفي الوقت الذي أفقر فيه جماهير محرومة أصلاً عن طريق أشدّ السياسات الرأسماليّة توحّشاً، أخذيحرّضهم في الساحات بهذه الكلمات «أنتم تركيّا! فكّروا بالإفكار الكبيرة!».
وهكذا كان، مَن شخّص «المرض» ورفض المساهمة فيه، أولئك الذين لم يستطيعوا التعايش مع هذه الحماسة الخادعة، صاروا الآن الـ«هم». فإذا لم يستطيعوا التكيّف مع «نحن» فالأجدى لهم أنيُتركوا لعزلتهم... أمّا «نحن»، من جهة ثانية، فقد كنّا دوماً الضحايا. دوماً. حتّى عندما كنّا متّهمين بالتزوير، المثبت بالوثائق الدامغة، وعندما يسجَنُ المئات بناءً على تهم سياسيّة، وعندما يحرَمأيّ صوت معارض من الوصول إلى وسائل الإعلام، وعندما كان الناس يُقتلون جرّاء الضرب الذي تلقّوه لأنّهم ليسوا صائمين، وعندما تنهار الليرة التركيّة قياساً إلى الدولار، أو عندما يموت ٣٠١عامل في ليلة واحدة في منجم يشغّله رأسمال مرتبط بالحكومة في كلّ هذه الحالات كانت الحكومة «تتعرّض للتضحية والإساءة» وكان كلّ هذا من قبيل المؤامرة ضدّها. والمتظلّم المقدّس هو ذاكالذي يبرّر«غريزة التعويض عن طريق الثأر» على الدوام.
الحكومة ومولات التسوّق
الحكومة التركيّة تحبّ «مولات» التسوّق. لا يحبّونها فقط بما هي المؤشّرات البرّاقة على اقتصاد مزدهر، إنّهم يعتقدون أيضا أنّ مولات التسوّق هي الحلّ السِحريّ لأخطر مشكلات البلدالسياسيّة والاجتماعيّة. خلال السنوات العشر الأخيرة من حكم حزب العدالة والتنمية، امتلأت منطقة الأناضول كلّها بمولات تسوّق تنمو كالفطريّات بواجهات الأبنية المبهرجة في الخارجوالموسيقى الصاخبة أبداً ودائماً في الداخل، فباتت هي الأماكن المقدّسة لعبادة الرأسماليّة قدر ما باتت القلب النابض للمدن. ولكن ليس هذا وحسب: تخلق المولات تنميطاً جديداً، مثلها مثلسائر مولات التسوّق في انحاء أخرى من الكرة الأرضيّة: شخص يتجوّل بين المتاجر، مخلوقات لا تستهلك بالضرورة ولكنّها تقضي وقتها بل تقضي حياتها إذا جاز التعبير تتأمّل الاستهلاك. وما دامتأكثريّة المجتمع عاجزة عن استهلاك السّلع المتوافرة في متاجر المولات، فهم يرتادونها فقط لمشاهدة الآخرين يمارسون الاستهلاك، أي يرتادونها فقط ليثبتوا حضورهم قريباً من دفء البحبوحة.الشباب، خصوصاً الفتيان والفتيات القادمون من أحياء المدينة الفقيرة، يتجمّعون في مجموعات لتنظيم زياراتهم السياحيّة اليوميّة إلى حياة الطبقة الوسطى المتألّقة. والمولات لا تكتفي بتقديمصيغة جديدة من «الآغورا» (الساحة العامة الإغريقيّة) ففي هذه الصيغة «الحديثة» لن تستطيع الكلام لارتفاع الموسيقى والصدى اللامتناهي للأصوات إنّها توفّر أيضاً للزائرين شعوراً بالأمان فيمجتمع متجزئ. وفيما تصير الطرقات أكثر محافظة وأقلّ أماناً، تعطيك المولات الإحساسَ بأنّك في عالم موازٍ حيث كلّ شيء صحّي وأقلّ توتّراً. إنّها تسمح للناس بأن يتنكّروا كأغنياء بمن فيهمالعاملون في المتاجر، ومعظمهم لا يتقاضى أكثر من الحدّ الأدنى للأجور. بسبب حرّيّة الاستهلاك، أو أن يعيش المرء وهْم الاستهلاك، يشعر الناس بأنّهم «أحرار»، كما قيل لي ذات مرّة عندما كنتأجري مقابلات مع المتسكّعين الفقراء في المولات. إنّ كائناً بشريّاً جديداً في طور الولادة، يولد بصمت مبهوراً بطوفان السلع، يعاني من الإدمان على الترَف. تماماً كما في دبيّ.
إسلام للأثرياء
«إنّ المجادلة مع أحد أنصار حزب التنمية والعدالة كمثل لعب الشطرنج مع حمامة. مهما تكن مهارتك في اللعب، سوف تتولّى الحمامة قلب كافّة الحجارة في نهاية المطاف!». والنساء مع الأسفهنّ اللاعبات الأبرز حضوراً في هذا الصدام الاجتماعيّ، ذلك أنّهن يحملن أو لا يحملن سيماءهنّ على رؤوسهنّ. يبدون كأنّهن كنّ يشعرن دائماً بالاستصغار أو الازدراء. لهذا السبب، حتى عندما يَجُزنأفخم أحياء إسطنبول في السيارات الفارهة وهنّ يرتدين أغلى الثياب يبقين الأكثر تعرضاً للظّلم. فإذا وجّهت امرأةٌ سافرة كلمةً أو نظرة شاذّة إليهنّ ففي ذلك أفدح الأخطاء السياسيّة. إنّ امرأةتنتمي إلى المرتبة الأغنى في الطبقة البرجوازيّة المحافظة الجديدة لا تزال «ضحيّة» أكثر من مدرّسة متقاعدة ترتدي الزّيّ العلمانيّ (مهما يكن يعني ذلك) وتعيش عند حدود الفقر...
هل يعقل أنّكِ لا تستطيعين تحمّل مرتديات المنديل في أحياء المدينة الأكثر ثراءً؟ في هذه الحالة، حريّ بك ألّا تطلقي منبّه سيارتِك على امرأة معتمرة المنديل في سيّارتها رباعيّة الدّفععندما تخرق قوانين السّير. أم تراك تؤْثرين ألّا لا تتولّى امرأة معتمرة المنديل السواقة أصلاً وما إلى ذلك. والقسم الأكثر إيلاماً هو أنّ عدد اللواتي يدركن أنّهنّ أخوات يجري دفعهنّ إلى صراعقوى غير ذي معنى إطلاقاً، عددهنّ قليل في الجهتين. ولا يزال العدد على حاله.
بمنديل أو من دون منديل، اللواتي يعلنّ أنّ المسألة هي مسألة رأس مال ينتقل من أيدٍ إلى أيدٍ أخرى ويتمّ التقرير بناءً على ذلك لا يزلن غائبات عن التلفزة وعن الصحافة. ذلك أنّ تلك المقاربةتسيء إلى سرديّات التظلّم المبالغ به. وأسوأ ما ينتج من هذا الوضع هو استغلال الجشعين إلى السلطة لقصص فتيات يُمنعْن من دخول الجامعة لأنّهن يغطّين رؤوسهنّ. إنّ هداياتشفكتليتوكسال، الكاتبة والأكاديميّة التي كانت لها دائماً رؤية واضحة للمسألة الراهنة، تقارب الأمر على النّحو الآتي:
«يجري حاليّاً العمل على إنتاج طبقة مسلمة ثريّة تؤيّد أردوغان. إنّ الحكومة قد أسهمت في تضخّم قطاع البناء والعقارات. إنّ موضوع «الطبقات الثريّة التي تخلقها الإدارة» سياسة تعود إلىالأيّام الأولى من العهد الجمهوريّ، وقد سبق أن عانينا من توابعها كأمّة».
يجدر أن أضيف أنّ الكاتبة امرأة ترتدي منديل الرأس. كذلك يجب أن أضيف أنّها هي أيضاً قد فُصلتْ من عملها في صحيفة مُوالية للحكومة بسبب انتقاداتها...
سياسة «صفر مشاكل مع الجيران»
بدأ الأطفال السوريّون يملأون شوارع تركيّا في البدء بالعشرات، ثمّ المئات وأخيراً بالآلاف. حفاة، جائعون، ثيابهم رثّة ولا صوت لهم. يتسوّلون ببضع كلمات تركيّة تعلّموها ويلجأون للّغةالعربيّة عندما لا تعود التركيّة تؤدّي الغرَض. الكلمة الّتي يكرّرونها أكثر من غيرها «سورية! سورية!». يعرفون أنّها تؤكّد سوء طالعهم الذي لا جدال فيه. ينتظرون أن يزدحم السّير فيلتصقوابزجاج السّيارات حالما تفرمل لتتوقّف. بعضهم لم يبلغ الخامسة. إنّهم يتعلّمون التركيّة من خلال مفردات التسوّل. أهُم أصغر من أن يدركوا أنّهم ضحايا سياسة خارجيّة مدّعيّة، مخادعةومختلّة كليّاً. لكنّهم سوف يكبرون قريباً ويكتشفون أنّ الحكاية التي أدّت بهم إلى التجمّع يائسين في زحمة السير بدأت منذ سنوات عدّة.
بدأ كلّ شيء عندما حلّقت الطّائرة فوق البرج. ولعلّ رجب طيّب أردوغان كان صاحب أكبر حظّ في أن يركب موجة «معنا أو علينا» التي سيطرت على العالم ابتداءً من ١١ أيلول / سبتمبر ٢٠٠١.صدف أنّه كان القائد المسلم الشابّ لبلد ديمقراطيّ، أكثريّته العظمى مسلمة، كما كان يقال دائماً. كان المرشّح المناسب ليدعم المفهوم الأمنيّ الذي سوف يؤثّر في عالم ما بعد ١١/٩ لأّنه كبيرُالمتعاونين في المنطقة مع السياسة النيوليبراليّة ولأنّه يظهر على الساحة العالميّة بما هو المثال الجيّد في ثنائيّة المسلم الجيّد/المسلم السيّئ الّتي ابتدعتْها واشنطن. كانت واشنطنمنتشيةً لأنّها اكتشفت دوراً نموذجيّاً في مواجهة «الإرهابيّين المسلمين» أكثر وسامةً من الدّور السعوديّ. كانت سحنة هذا المثقّف قد تكرّست ليس فقط في البيت الأبيض وإنّما في الجامعاتالأوروبيّة بالغة الاحترام. وكانت تركيّا، البلد المسلم العضو في الحلف الأطلسيّ، هي الطالب الأوروبيّ النجيب في الشرق. علّق أردوغان على الشؤون الداخليّة بقوله «لا اعتدالَ في الأمر، ليسثمّة إلّا إسلام واحد» وأخذ يتباهى بالظهور بمظهر «القائد الجديد للإسلام المعتدل» في الإعلام الدوليّ الرسميّ وعلى غلاف مجلّة «تايم». خلال تلك الفترة، كانت العلاقات التي نسجتْها جماعةفتح الله غولن في واشنطن قد استُخدمت إلى أبعد حدّ، خصوصاً أنّ المنظّمة باتت ضليعة في العلاقات الدوليّة. أخذت التقارير الصادرة عن مصانع الأفكار الدوليّة تتنافس في مديح الديمقراطيّةفي تركيّا. آه، ما أعذب الأيّام الأولى! حينها ظهر غزو العراق على جدول الأعمال وعلا في المهرجانات صراخ المطالبين بإشراك الجيش التركيّ في قوى الاحتلال الدوليّة. حيل دون ذلك بفضلجهود «منبر رفض الحرب» الذي ضمّ مئات الألوف من الأشخاص، وكنت واحدة من اثنين تولّيا النطق باسمه، ما أدّى بالبرلمان إلى أنْ يصوّت ضدّ دخول الجيش إلى العراق. بيني وبينكم، للحكومةأسبابٌ عديدة للغضب من أمثالي. بالرّغم من أنّ رئيس الوزراء كان حانقاً على أمثالي، إلّا أنّه نجح، لست أدري كيف، في أن يستخدم التصويت في البرلمان لصالحه، مع أنّه لم يكن له يد في الأمر.الحقيقة أنّي كنت حينها في لبنان بصفتي مراسلة صحافيّة وقد شاهدت بعينيّ الاثنتيْن ملصقاً في أحد معاقل حزب الله يصوّر شافيز وأردوغان جنباً إلى جنب بما بصفتهما القائدين المعارِضينلاحتلال العراق وقد كتب في الأسفل هذه الكلمات: «أين هُم الرّجال العرب؟!».
كان أردوغان غاضباً عليّ وعلى أمثالي لأنّنا منعنا تركيّا من لعب دور فعّال في احتلال العراق، لكنّ شوارع العالم العربيّ كانت تحيّي رئيس الوزراء بما هو بطل يتحدّى الولايات المتّحدة. وفيخطابات لاحقة، نجح في أن يتصرّف وكأنّ قرار عدم المشاركة في الاحتلال كان قراره هو. الآن وقد تكوّنت لديكم لمحة عن المناورات السياسيّة لـ«حزب العدالة والتنمية» ولأردوغان، سوفتتقلّص مفاجأتكم إزاء تلك الحالات العجيبة. ظلّت تلك الحالة الفريدة تدفع إلى اليأس أولئك الذين تذكّروا الحقيقة لعدد كبير من السنين، لكنّ أردوغان ظلّ مواظباً على إلقاء خُطب تدين احتلالالعراق. ماذا عساي أقول؟ كان الأمر مثيراً للاهتمام!
اكتشاف الشرق الأوسط
في كلّ الأحوال، أعقبت ذلك فوراً الفترة الباهرة للسياسة الخارجيّة لحكومة «حزب العدالة والتنمية»، وأخذ رئيس الوزراء يتحدّث عن «إخواننا في الشرق الأوسط»، وذكَر «الجوار الثّقافي» إلّاأنّه باح أخيراً بما كان يكتمه: المبادرة الشرق أوسطيّة!
الشرق الأوسط، الذي جرى تحاشيه ثقافيّاً ووضْع مسافة بيننا وبينه سياسيّاً منذ تأسيس الجمهورية، بات الآن يعني الأقطار التي نستطيع زيارتها من دون تأشيرة سفر. إلى ذلك، تحرّرت التجارة،وإذا الزعماء، لكي يستعرضوا علاقات الجوار الحميميّة، يزور واحدهم الآخر لتناول فنجان قهوة. خلال فترة وجيزة قبل اندلاع الانتفاضة في سورية، أشار طيّب أردوغان إلى بشّار الأسد بما هو«أخ». تفصيلٌ مضحك: الاسم الذي كان «إيسَد» يستخدَم عندما كانت سورية صديقة، تحوّل إلى «إيسِد» ما إن بدأ رئيس وزرائنا يطبّق سياسات ضدّ النظام. ولمّا كان «إيسَد» اسماً شائعاً فيتركيّا، الرجل الذي صار عدوّنا بات لزاماً أن يكون له اسمٌ «أجنبيّ». وبمجرّد أنْ غيّر رئيس الوزراء «أيسَد» إلى «إيسِد» حتّى هرعت الصحافة برمّتها لتغيير الاسم الذي كانت تلفُظه بالطريقةذاتها لسنوات. وقع الحرَم على تسمية «إيسَد» «إيسَد»!
ولكن، قبل أن نرمي نظرة على فترة العداوة هذه، لا بدّ من أن نتفحّص الظروف التي في ظلّها تحوّلت تركيّا إلى «تركيّا الفتاة» للسياسة الدوليّة. لنستشِر البروفيسور سولي أوزيل، الخبير فيالسياسة الدوليّة، كي نفهم الصعود المفاجئ لهذا النّجم في المنطقة:
«إنّ صعود الشخصيّة التركيّة في السياسة الدوليّة جرى في وضع إقليميّ ودوليّ مخصوص. وكانت العناصر التي تحكّمت بذلك الوضع هي هجمات ١١ أيلول ٢٠٠١ (على مركز التجارة الدولي فينيويورك) والحرب على العراق ٢٠٠٣، وولادة توازن القوى الجديد في المنطقة. إنّ عجز الولايات المتحدة عن السيطرة على نتائج حرب العراق أغرق العراق في العنف. ومن النتائج الإقليميّة للحربنفوذ إيران المستجِدّ وتحوّلها إلى قوّة إقليميّة تمتدّ من سورية ولبنان، عبر حزب الله، إلى شرق المتوسّط عبر حركة حماس في فلسطين. مع إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدّام حسين، اختلّتوازن القوى على أرض العراق هو أيضاً، وقد كان لصالح السنّة خلال قرون، وبات لإيران نفوذ في المنطقة لأوّل مرّة منذ نحو ثلاثة قرون. إنّ الوقائع الإقليميّة الجديدة التي خلقتْها الحربالعراقيّة كانت لصالح تركيّا قدر ما كانت لصالح إيران. كانت أنقرة وثيقة الصّلة بالتطوّرات في العراق. وبسبب امتياز القدرة على التواصل مع كافّة الجماعات، استطاعت أن تتحوّل إلى لاعبٍإقليميّ نافذ ولو لفترة من الزمن. بالرغم من كلّ الضغط الذي مارسته الولايات المتّحدة، لم تقطع تركيّا علاقتها بإيران أو بسورية. بل بالعكس عزّزت علاقاتها الاقتصاديّة بالبلدين وبسائر الفاعلينفي المنطقة. وسعَتْ تركيّا إلى أن تكون الوسيط بين إيران والغرب. وقطعت شوطاً من تحقيق هدفها توقيع معاهدة سلام بين سورية وإسرائيل، إلى أن أدّى هجوم إسرائيل على غزّة العام ٢٠٠٩إلى إحباط ذلك الهدف».
هنا لا بدّ لي من أن أتدخّل في محاولة تفسير. كان الشعار الأكثر استعراضيّة في سياسة تركيّا الخارجيّة في ذلك الحين هو «صِفر مشاكل مع الجيران»! وكان البروفيسور أحمد داود أوغلو، الذيسوف يعيَّن رئيساً للوزراء فيما بعد، هو مَن خرج بتلك الحيلة. كان مؤلّف كتاب عنوانه «العمق الاستراتيجي»، توافق الخبراء على أنّه خالِ من العمق إلى أبعد حدّ. ولنكون منصفين، كانت سياسةصفر مشاكل مع الجيران لها رنينٌ محبّب في آذان السامعين، لأنّ تركيّا، منذ تأسيسها، كانت دولة مستوحدة تعتقد أنّها «محاطة بالأعداء». أخيراً سوف تختفي الغيلان خلف الحدود فنقيم علاقاتطبيعيّة مع أرمينيا وإيران والعراق وسورية وسائر البلدان. أخيراً، كانت هذه هي الخطّة. وبدا أنّها تسير أيضاً في الاتّجاه الصحيح لفترة من الزّمن. لنعُدْ إلى سولي أوزيل مجدّداً لنرَ ماذا حصل بعدذلك:
«تأسيساً على مبدأ «صفر مشكلات مع الجيران»، اتّخذت تركيّا خطوات لفتح الطريق أمام الاندماج الاقتصاديّ. جرى تحرير التجارة وإلغاء متطلّبات التأشيرة لعدد كبير من البلدان. ونتيجةلهذين العاملين، تركت المسلسلات على التلفزيون التركيّ أعظم الأثر في المنطقة وارتفعت وتيرة الزيارات المتبادلة وانتشار نمط الحياة التركي، والديمقراطيّة والرفاه و«القوّة الحيّة» التيتغذّت من إجراءات الانضمام إلى عضويّة الاتّحاد الأوروبيّ، التي ساد الاعتقاد أنّها سوف تساعد تركيّا على جذب الأنظار نحوها. وكانت المقاربة الأساسيّة للسياسة في تلك الفترة هي أنّ تركيّاهي «البلد المركزيّ» بالنسبة إلى المنطقة كلّها. بناءً على هذا المفهوم، برزتْ إلى المقدّمة «الرغبة في المسيرة المستقلّة» التي شكّلت تقليداً راسخاً في السياسة الخارجيّة التركيّة. بسببصعود نجمها، ونظراً إلى التراكم التاريخيّ والسياسيّ والاستراتيجيّ، ساد الافتراض بأنّ على تركيّا أن تنتج سياسة مستقلة ومسيّرة ذاتياً... وكانت النّقلة في مركز العالم الاستراتيجيّ نحو الشرقوالفراغ في القوى في المناطق المحيطة بتركيّا قد وفّرا لأنقرة سلفاً هامش مناورة واسعاً. هذا الامتياز البنيويّ، مقروناً بمميّزات تركيّا الفريدة (بما هو بلد مسلم جديد، علمانيّ، ديمقراطيّ،رأسماليّ وعضو في الحلف الأطلسيّ) يسّر عليها تحقيق هدفها المرغوب.
الانتفاضات العربيّة وفشل «سياسة القوّة الناعمة»
أمّا فشل سياسات تلك الفترة التي سوف تدفع «القوّة الناعمة» إلى الأمام فعائد إلى الوجه الأمنيّ. مع أنّها حدّدت سياستها الخارجيّة بواسطة مفاهيم صيغت بعناية فائقة وسعَتْ إلى تغيير وجهالمنطقة وجوارها بواسطة القوّة الناعمة، إلّا أنّ تركيا كانت تفتقر إلى سياسة أمنيّة شاملة. بالمقارنة، لم تكن تملك فرصاً كثيرة لردع الخصوم أو أنّها لم تكن تملك تلك الفرص على الإطلاق.
بُعَيد الانتفاضات العربيّة التي انطلقت في العام ٢٠١١، تغيّر الوضع في جوار تركيّا مرّة جديدة، وعلى نحو غير متوقّع. لم يحدث التحوّل الذي سعت إليه جماهير مدينيّة أساساً انتفضت مطالبةبالديمقراطيّة. باستثناء تونس، لم يبق بلد من بلدان «الربيع العربي» متمتعاً بآليّات ديمقراطيّة. وقد ساهمت موجة الردّة المضادّة للثورات الآتية من بلدان الخليج بانقلاب تموز/ يوليو ٢٠١٣ فيمصر فعاد البلد إلى النظام القديم. واستعرَ العنف مع انهيار السلطة في ليبيا. ولأنّ سورية لم تُترك لحالها، تحوّلت إلى مشهد دمويّ لاإنسانيّ مشين لصراع قوى إقليميّ (إيران السعودية تركيّا)وكَونيّ (الولايات المتحدة روسيا/الصين). بعد الانتفاضات العربيّة، كان من الطبيعيّ أن تجذب تركيّا أنظار العالم. بل إنّها كُلّفت بدور النموذج بسبب قوّتها الخفيّة، أي، لكونها دولة مسلمةديمقراطيّة تنتمي إلى المنظومة الغربيّة. كانت المقاربة الصحيحة والأخلاقيّة لسياسات تلك الفترة هي دعم انتفاضة الشعوب ضدّ الأنظمة الاستبداديّة.
غير أنّ أنقرة، عجزت عن أن تفسّر توازن القوى في الشرق الأوسط التفسير الصحيح. فبالرغم من أنّ جميع الدول المعنيّة كانت دولاً مسلمة، لم تتمكّن من أن تحدّد وجهة السياسات التي كانتتتبعها بلدان المنطقة، وقد كانت لها أهداف متباينة. والأشدّ مفارقةً في الأمر هو الإدراك المتأخّر، بعدما غادرت القوّات الأميركيّة العراق، أنّ الوجود الأميركيّ في ذاك البلد قد وسّع من حرّيّة المناورةلتركيّا توسعة فعليّة.
عدا عن ذلك، أعتقد أنّ أنقرة ارتكبت خطأين إضافيّين:
- تخلّت عن السياسة التي التزمتها بدقّة إلى حين بداية التمرّد في سورية في آذار/ مارس ٢٠١١ لأنّها لم تستطع إقناع النظام البعثي بالبحث عن حلّ سلميّ. فلعبت الدور الأبرز في الحربالأهليّة السوريّة وسمحتْ للمعارضة بأن تستخدم حدودها. في نهاية سنوات ثلاث، ترسّخ الاعتقاد في العالم أنّ تركيّا واحدة من أبرز داعمي التنظيمات الجهاديّة السنّية.
- بسبب قربه العقائديّ من الإخوان المسلمين، غالى «حزب العدالة والتنمية» في دعم حكومة الإخوان المسلمين في مصر. نتيجة لذلك، فإنّ موقف شجب الانقلاب، الصحيح أخلاقيّاًوسياسيّاً، جعل من الخطاب الرسمي شديد القسوة، وأدّى إلى قطع العلاقات الدبلوماسيّة مع مصر. بالإضافة إلى ذلك، دقّ إسفيناً بين تركيّا وبلدان الخليج المتحلّقة حول العربيّة السعوديّةوأضاف عنصراً لا يُستساغ أيضاً إلى العلاقات مع الغرب.
من جهة أخرى، أدّت احتجاجات «حديقة غيزي» في حزيران / يونيو ٢٠١٣ والتي وقعت قبل فترة قصيرة من الانقلاب في مصر، إلى تشوّهات غير قابلة للترميم في صورة تركيّا الديمقراطيّة التيأنشأتها بعناء كبير على امتداد العقد المنصرم. كان من شأن ردّ فعل حكومة «حزب التنمية والعدالة» على تظاهرات حديقة غيزي، والعنف الذي مارسته الشرطة، ودعم الحكومة لها، والخطابالمستخدم خلال تلك الحوادث، أن أفسد فرصَ تركيّا لأن تكون نموذجاً ديمقراطيّاً أو حتّى ليبراليّاً لمنطقة الشرق الأوسط.
عند مراجعة انعدام الكفاءة الخطير في السياسة الخارجيّة، بذلتْ محاولات للتهرّب من ذلك الوضع باستخدام مفهوم سُمّي «الوحدة الثمينة». غير أنّ تلك التقلّبات لا تغيّر من حقيقة أنّ السياسةالخارجيّة قد دخلت نفقاً مظلماً من التخبّط وباتت تركّز على حفظ ماء الوجه».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.