ممّا لا شك فيه أنّ الثورات العربية بدت وكأنها من فعل الإسلاميين، خصوصاً جماعة الإخوان المسلمين. إذ أفضت الانتخابات التي جرت بعد الثورات في كل من تونس ومصر، وحتى المغرب، إلى سيطرة هؤلاء. هذا الأمر هو الذي أطلق التصوّر أنها كانت الفاعل الأساس في الثورات. لكنّ في ذلك قفزاً عن الحقيقة، وميلاً لتفسير السابق باللاحق، وبالتالي إعطاء الإسلاميين أدواراً لم تكن لهم. لهذا لا بدّ من إعادة بناء الصورة لكي يتوضّح وضعهم، وتظهر أدوارهم.
الإسلاميون قبل الثورات
كانت هيمنة الإسلاميين (أي الإسلام السياسي) على «المسرح» قائمة قبل الثورات، وكانت جماعة الإخوان المسلمين هي قوة المعارضة الرئيسية، وأقيمت معها تحالفات من قبل أطراف متعدّدة، خصوصاً من قبل اليسار (اليسار الذي بات يدافع عن النظام القديم خوفاً من الإسلاميين). ويعود ذلك لأسباب عدّة، منها «مناكفة» بعض النظم لها، وخصوصاً في مصر، حيث اختلط أمر التنافس الاقتصادي بين فئات رأسمالية والخطاب الأميركي الذي لمّح إلى ضرورة إشراك الإسلاميين في السلطة. لكن الأمر ظهر قبل ذلك في تونس، واتخذ شكلاً مختلفاً في الأردن. بمعنى أن ذلك كان يُظهر الإسلاميين كقوة معارضة للنظم، في وضع كان يتزايد الميل لرفضها. جعل ذلك الأحزاب المعارضة الأخرى تلتف حول هؤلاء، وتتشكل جبهات في بعض البلدان معهم (تونس والأردن)، أو التنسيق القوي معهم (حركة كفاية في مصر).
هذا أولاً، وثانياً كان لدور حماس أثر على إظهار الإسلاميين كقوة «تحرر الوطني»، خصوصاً أنهم نشطوا «من أجل فلسطين»، وأعلوا من دور حماس. وثالثاً صبّ الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ في مصلحتهم، حيث ظهر أنهم قوة «معادية لأميركا» رغم أن من قام بذلك هو تنظيم القاعدة.
هكذا بات لهم رمزية كبيرة، سواء كـ«قوة ديمقراطية»، خصوصاً أنهم لهجوا بـ«خطاب ديمقراطي»، وصل إلى قبول «الدولة المدنية»، وإن كان كل ذلك ظاهرياً، لأن صراعهم مع النظم كان في الواقع صراع النظم معهم دون أن تهدف إلى ذلك، وظلت تميل إلى التهدئة، أو لأن «خطابها الديمقراطي» كان براغماتياً لأنها تلتزم بالشريعة التي تبدأ بأنْ «لا اجتهاد بما فيه نص». ومن ثم سواء كـ«قوة معادية للإمبريالية والاحتلال»، رغم أنها ظلت على تواصل مع الإدارة الأميركية، ويمكن أن نضع «نضالها» من أجل فلسطين بين قوسين.
بالتالي لقد باتت تمتلك رمزية محلية و«هيبة» وطنية، وتلفّ حولها قوى متعددة، من اليسار الذي تهافت لـ«تقديم الولاء والطاعة» إلى القوميين الذين كادوا أن ينخرطوا فيها، إلى فئات مجتمعية أرادت التغيير نتيجة وضعها الصعب، أو نتيجة همها الوطني، أو أوهامها كذلك. لقد كاد القوميون أن يتوحدوا مع الإسلاميين، والتحق قطاع كبير من اليسار بالركب قابلاً بالخضوع لقيادة أصولية تحت أوهام «معاداة الإمبريالية»، أو «الحلم الديمقراطي». لكن كل ذلك هو الذي جعل الإسلاميين قوة مهيمنة في إطار القوى المعارضة للنظم وللهيمنة الأميركية.
لهذا كانت جماعة الإخوان المسلمين هي القوة الأساسية في المعارضة في مصر، رغم أنها كانت جماعة محظورة، ورغم ما ظهر من توافقات كانت تقوم بها مع النظام (انتخابات سنة 2005 مثلاً). وكانت في محور نشاط المعارضة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تلفّ حولها القوى القومية واليسار، وتكون في كل حراك سياسي، سواء تعلق الأمر بالانتفاضة الفلسطينية أو تعلق بالاحتجاجات السياسية (وليس الاجتماعية) الداخلية. وكانت جزءاً من حركة كفاية ومن كل التجمعات التي تشكلت خلال ذلك. وكان ضغط النظام عليها واضحاً، رغم أنه حاول التوافق معها على دور في البرلمان (نجم عن الضغوط الأميركية)، لكن كان يبدو واضحاً أنّ ميل «رجال الأعمال الجدد» الذين ارتبط دورهم بجمال مبارك، للسيطرة على «السوق» فرض تصعيد الصراع السياسي ضد الإخوان كونهم كجماعة أو كأفراد جزءاً من رأسمالية تجارية تحظى بوجود في السوق. وبهذا، وهم يظهرون كقوة المعارضة الأساسية، كانوا يفاوضون من أجل بقاء وجودهم «في السوق»، وبالتالي لم يعتمدوا خطاباً معادياً للنظام.
في تونس كانوا قد توافقوا مع بن علي حين انقلب على الحبيب بورقيبة، لكنّه عاد فوجه لهم ضربة قوية فرضت خروج قيادتهم وكادراتهم إلى الخارج (أميركا وإنكلترا خصوصاً). وبالتالي فقد مارسوا الصراع مع النظام «من الخارج»، رغم بقاء أعضاء وكادرات من حركة النهضة في تونس. وفي السنوات السابقة للثورة كانوا قد تحالفوا مع أحزاب ديمقراطية ويسارية في جبهة 18 تشرين الأول/ أكتوبر (شارك فيها حزب العمال الشيوعي، والحزب الديمقراطي التقدمي وغيرها). وأظهروا مرونة شديدة، حتى في ما يتعلق بالموقف من قضايا حساسة (المرأة والدولة المدنية).
في سورية كانت الجماعة قد عانت من ضربة قاصمة، وبات قادتها وكادراتها وحتى أعضاؤها خارج سورية، بعد الصراع الذي خاضته ضد النظام نهاية سبعينيات القرن العشرين، وقام على أساس طائفي. ولقد تحالفت مع النظام العراقي، واستقرّ جزء من قادتها وأعضائها في العراق، لكن جلّ قادتها وكادرها استقرّ في الأردن، وخصوصاً في إنكلترا. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عقدت تحالفات مع بعض أطراف المعارضة في إعلان دمشق، غير أنها سرعان ما عقدت تحالفاً مع عبدالحليم خدام. لكنها بداية سنة 2009 أصدرت بياناً يقرّ بـ«وطنية» النظام ويطلب الحوار معه، نتج ذلك بعد أن تطورت العلاقة بين النظام السوري وتركيا، وعمل أردوغان على الوساطة. وظل هذا الموقف قائماً إلى أن نشبت الثورة، وربما أسابيع بعد ذلك.
في اليمن كان حزب الإصلاح (الذي هو واجهة الإخوان) مشاركاً في اللقاء المشترك، وفي الانتخابات، وكان يبدو في مراحل أنه أقرب إلى النظام. في العراق شارك الحزب الإسلامي في «العملية السياسية» تحت الاحتلال. وفي فلسطين كانت حماس قد باتت سلطة على قطاع غزة. في السودان الجماعة هي التي تحكم بعنف وتنهب المجتمع، وأفضى حكمها إلى تفككه. وفي الأردن ظلت جبهة العمل الإسلامي تلعب دور المعارضة، متحالفة مع أحزاب «اليسار» والأحزاب القومية.
وفي كل ذلك كانت رمزية الإسلاميين هي التي تجعلهم محطّ اهتمام القوى الأخرى، وقبولهم بقيادتها، وحتى الخضوع لخطابها. وكان مجمل النشاط الذي تقوم به، بتحالفاتها، يتركز على مسألة الديمقراطية، والسعي لجعل النظم تقبل بتحقيق نظام ديمقراطي. كل ذلك بالترافق مع خطاب «معادٍ لأميركا»، وداعم لفلسطين.
في الثورات
إذن، كان الإسلاميون يظهرون كقوة مهيمنة، وهم «مركز الصراع»، سواء ضد النظم أو ضد الإمبريالية، أو ضد الدولة الصهيونية. وبالتالي كان يظهر أن الإسلام السياسي هو المسيطر، وبدعم أطراف اليسار والقوميين. كل هذه القوى التي لم تكن تظنّ أن ثورة آتية، وأن الاحتقان الشعبي قد وصل إلى لحظة الانفجار.
الصورة التي تتكرر الآن تتمثل في أن الإسلاميين هم من قاد الثورات، نتج ذلك من نتائج الانتخابات التي أنجحتهم في تونس ومصر والمغرب، وليبيا إلى حد ما. بمعنى أنّ النتيجة باتت سبباً، وأن التالي فسَّر السابق. فلسوف نلمس أنْ ليس من ربط بين الدور في الثورات ونتائج الانتخابات، ومجمل المسار الذي تلاها. ولا شك في أن «مفاجأة» وصول الإسلاميين إلى السلطة هي التي فرضت تفسير السابق باللاحق، أو أضفت على ما جرى تفسيراً ذاتياً ارتبط بحادثة وصول هؤلاء إلى السلطة. وهنا حدث التناقض بين أطراف الحلف الذي حكم مرحلة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الذي قاد إلى أن يتحوّل الصراع من صراع مجتمعي (طبقي) ضد الطبقة المسيطرة (النظام)، إلى صراع «ثقافوي» بين دعاة الدولة المدنية ضد دعاة الدولة الدينية.
لكن، لا بد من متابعة دور الإسلام السياسي في الثورات. في تونس، حيث كانت جبهة 18 تشرين الأول/ أكتوبر تنشط من أجل الديمقراطية، أدّت مفاجأة انفجار الثورة إلى أن تعلن حركة النهضة دعمها من قبل قيادات في الخارج، دون أن تدّعي المشاركة فيها، رغم أن بعض كادراتها في تونس من الممكن أنه شارك فيها، وبالتالي لا تدّعي الحركة أنها شاركت فيها أو قادتها، رغم ما آلت إليه الانتخابات. في مصر رفضت الجماعة المشاركة في اعتصام يوم 25 يناير، وأصدرت بياناً يوم 19 كانون الثاني/ يناير يعتبر أن حسني مبارك هو الأب، وطالبته ببعض الإصلاحات، لكنها نأت عن المشاركة في الاعتصام دون أن تسدّ الباب أمام مشاركة عناصر منها. وجاء هذا الموقف الأخير نتيجة ضغط شباب الجماعة للمشاركة، وهو الشباب الذي ترك الجماعة بعد ترحيل حسني مبارك. لكنها شاركت فيها بعد يوم 28 كانون الثاني/ يناير، أي بعد انتصار الشعب. ولقد ذهب قادة منها إلى السجن حينها، لأن النظام حمّلها مسؤولية ما جرى، وهو الأسلوب الذي يعتمد لتشويه الثورة، أو التخويف منها.
لكنّ الجماعة سرعان ما تجاوبت مع دعوة عمر سليمان إلى الحوار، وكانت مطالبته لها بأن تعمل على إنهاء الثورة. ولم يكن ذلك ممكناً نتيجة أنها ليست المتحكم بها، بل الشباب الثوري هو الذي كان يتحكم بمسارها. ولم تستطع السيطرة حتى على شبابها، هذا الشباب الذي رفض اللقاء، وهدّد بالاقتصاص من الذين شاركوا فيه. وربما كان كل ذلك، أي من رفض المشاركة في الاعتصام إلى الحوار مع عمر سليمان، هو ما دفع هذا الشباب إلى مغادرة الجماعة وتشكيل التيار المصري.
الأخطر هنا هو أن الجماعة باتت تمارس كسلطة منذ رحيل حسني مبارك، وأصبحت في صفّ المجلس العسكري ضد كل حراك، وعملت على تشويه الصراع بـ«أسلمته»، وأيّدت كل العنف الذي مارسه الجيش ضد التظاهرات، من محمد محمود إلى ماسبيرو. ودخلت في ألاعيب المجلس العسكري لصياغة المرحلة الانتقالية. ولهذا كانت أجهزة الدولة، من الإعلام إلى البيروقراطية وغيرها، داعمة لسيطرة الجماعة على مجلسي الشعب والشورى. ولقد كان واضحاً منذ البدء أن توافقاً قد تحقق (برعاية أميركية) لتقاسم السلطة، حيث تسيطر الجماعة على مجلسي الشعب والشورى، ويكون الرئيس من حصة المجلس العسكري. ولقد أدّى اغترارها بقوّتها إلى كسر التوافق حين قرّرت أخذ الرئاسة (بدعم أميركي كذلك). وهو الأمر الذي أوجد التفارق بين قيادة الجيش وبينها، وأفضى إلى استغلال قيادة الجيش لثورة جديدة ضدها لكي يسيطر على السلطة.
أمّا في ليبيا فقد شاركت في الثورة، وعملت على الهيمنة على النظام، وحين أتت الانتخابات عكس ما أرادت دفعت إلى تفكيك البلد متحالفة مع «الجهاديين». وفي سورية لم يكن للجماعة دور، حيث إنها ظلّت «خارجية»، مشرّدة بين العراق والأردن والسعودية وإنكلترا. لكنّها، وأمام حقدها على النظام، عملت على أسلمة الثورة عبر التأثير من خلال الإعلام الذي سمحت تحالفاتها بأن تسيطر عليه (قناة الجزيرة بالخصوص)، وعلى تشكيل بديل في الخارج يكون مدخلاً لتدخّل دوليّ كانت تتوهّم أنه ممكن في ضوء التجربة الليبية. فكانت هي المسيطرة على المجلس الوطني السوري، وحاولت السيطرة على الائتلاف الوطني السوري. كما عملت على تشكيل كتائب مسلحة، أو السيطرة على كتائب تشكلت عبر الإغراء المالي. وظلّت تعمل على أن تكون هي المسيطرة في المعارضة، أو يقود الصراع ضد النظام إلى استلامها السلطة. ولهذا كان دورها في الثورة تخريبياً، سواء عبر الأسلمة التي قادت إلى تغلغل القاعدة وداعش وتوسع دور القوى التي تريد إقامة دولة إسلامية، أو عبر الاعتماد على التدخّل العسكري الإمبريالي، الذي كان يخيف قطاعاً مجتمعياً مهماً، ويسهّل التشكيك في الثورة ذاتها.
في الأردن شاركت الجماعة في الحراك، لكنّها رفضت شعار إسقاط النظام، ومن ثمّ تراجعت عن المشاركة. وفي اليمن ظلّت ضمن اللقاء المشترك الذي فاوض لتنحية علي عبدالله صالح انطلاقاً من «المبادرة الخليجية». وفي المغرب لم تشارك في حركة 20 فبراير.
من يدقق في أدوار الإسلام السياسي يلمس أنه كان يقتنص الفرصة، فلم يقطع مع النظام القديم، بل عمل على التفاهم معه بعد أن اضطر لذلك. ولقد كانت مشاركته في الثورة ضمن هذه الحدود فقط. وبالتالي فإنّ اعتبار أنه هو من قاد الثورة هو تشويه للثورة، وتضخيم لدور الإسلاميين، وصل إلى حالة من الرعب منهم. فقد وصلوا إلى السلطة نتيجة غياب الأحزاب التي تقود الثورة، ومن ثم نتيجة مناورة النظام القديم لإنهاء الثورة، وميل لتعزيز السلطة بقوة كانت تعتبر زعيمة للمعارضة، وهو الأمر الذي يسمح بسحق الثورة تحت حجة أن الثورة انتصرت عبر إيصال «حزبها» إلى السلطة. حيث ستتفكك القوى الشعبية، وتتصادم، فتنتهي الثورة.
بهذا باتت الجماعة تنطلق من أنها سلطة، وأخذت تمارس سلطتها بأدوات النظام القديم، ووفق السياسات التي مارسها، وظلت السياسة الاقتصادية هي ذاتها، وأيضاً السياسة الخارجية. ليظهر أن الأمر يتمثل في تغيير الفئة الحاكمة وليس بتغيير النظام كما طالب الشعب.
لا شك في أنّ الرمزية التي كانت للإسلام السياسي لعبت دوراً في أن تصبح البديل بعد الثورة وميل النظام القديم إلى «التنازل»، أو المناورة كما الأمر في الواقع. لكنّ ما أسهم أساساً في ذلك هو رضى النظام القديم عن ذلك، سواء كمناورة، أو نتيجة حاجة، تتمثل في تفريغ الثورة من جزء من «شعبيتها»، انطلاقاً من تحليل خاطئ بأن للإسلام السياسي قاعدة شعبية كبيرة. ولقد نجح الأمر فقط إلى حين، لأن ليس لدى هؤلاء ما يسمح بتحقيق مطالب لا إمكانية لنهاية الثورة دون تحقيقها. فقد دعمت قطاعات شعبية (هي في الغالب ممن لم يشارك في الثورة) الإسلاميين، ولا زال بعضها يدعمهم، لكن السياسات الاقتصادية التي جرى اتباعها، والقائمة على الإيغال في تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، تدفع إلى الثورة من جديد، كما جرى في مصر، وما سيجري في مصر.
ماذا أراد الشعب؟
هذا الأمر الأخير يطرح منظور الإسلام السياسي لمطالب الثورة. لقد كان اعتبار أن الجماعة معارضة يقود إلى اعتبار أنها تمتلك بديلاً عن النظام القديم، أي أن لديها حلولاً للمشكلات المجتمعية. هذا هو الوهم الذي حكم قطاعات مجتمعية انتخبت الجماعة. وإذا كانت قد وصلت إلى السلطة عبر الانتخابات، حيث ظهر أنها تلتزم بـ«قواعد الديمقراطية»، فلا بد من التدقيق في منظورها الذي يقوم على فرض الشريعة، حيث «لا ديمقراطية في الإسلام بل شورى» كما قال علي بلحاج بعد النجاح في المرحلة الأولى من الانتخابات الجزائرية سنة 1991. بهذا، الشريعة هي الدستور كما رفعت الجماعة في مصر، والشريعة لا تحمل منظوراً ديمقراطياً، بل تتضمن شمولية مفرطة تتجاوز القمع السياسي إلى فرض أنموذج للممارسة الشخصية. وإذا كان بعض قادة الجماعة قد لهج بالديمقراطية، وقال بالموافقة على الدولة المدنية، فلأن الجماعة كانت في وضع المحتاج إلى التحالف وليس لأنها طوَّرت في مفاهيمها كما توهم بعض اليسار والقوميين، حيث إن الانطلاق من المنظور الفقهي، الذي هو أساس فهم الجماعة (وكل السلفيين)، يفرض الانطلاق من مبدأ أنْ «لا اجتهاد بما فيه نص»، والنص سابق لحرية الفرد والديمقراطية والتحرر الاجتماعي.
بهذا كان اللهج بالديمقراطية هو نتيجة الصدام مع نظم استبدادية، والحاجة لتحالفات مع قوى مدنيّة. ولقد لاحظنا كيف وافقت جماعة الإخوان المسلمين في مصر على الدولة المدنية قبل الثورة، وحتى خلالها، ثم بعد أن سيطرت على مجلسي الشعب والشورى قالت بـ«الدولة المدنية ذات الخلفية الإسلامية»، ثم بعد سيطرتها رفض المبدأ، وترددت الدعوة إلى «الخلافة الإسلامية». في تونس كان المسار يحذو حذو مصر، ربما بخطوة إلى الوراء، لكن لا شك في أن السعي للدولة الدينية كان قد بدأ قبل سقوط الإخوان في مصر، ومن يراجع تصريحات الغنوشي حينها يلاحظ ذلك. ويمكن أن نشير إلى أمثلة تحققت قبيل الثورات العربية في السودان وفلسطين، حيث ظهرت السيطرة الاستبدادية للنظم الإخوانية فيهما. فالمنظور الأساس الذي يحكم الجماعة هو إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة، وكل ما عدا ذلك هو للمناورة من منظور براغماتي.
بالتالي إذا كان الإسلام السياسي قد وصل إلى السلطة عبر الانتخاب فإنه لا يحمل منظوراً ديمقراطياً يجعله يكرّس النظام الديمقراطي، بل إنه يميل إلى تجاوزه نحو نظام ثيوقراطي. تجارب إيران والسودان وغزّة واضحة، وكان مسار تجارب مصر وتونس يسير في المسار ذاته. بهذا نلمس أن الإسلام السياسي كان يعيد إلى الوراء في وضع كان الشعب يريد التقدم إلى الأمام. شعب كان يريد الحرية بينما كانت الجماعة تحمل شمولية أسوأ مما يواجهه.
وإذا كانت الحرية هدفاً للثورات، فقد كانت مطالب الشعب تتحدد في الحق بالعمل في ضوء الزيادة الكبيرة في البطالة، وتحسين الأجر في وضع شهِد انهيار القدرة الشرائية للطبقات الشعبية، وكذلك مواجهة أزمة التعليم والصحة وانهيار البنية التحتية. وكل ذلك كان يطاول النمط الاقتصادي الذي أوجد كل هذه المشكلات التي أصابت نسبة 80% من الشعب، ومن ثم أصبح تحقيق مطالب الشعب يعني تجاوز النمط الاقتصادي، الذي بات ريعياً يتمحور على النشاط في قطاعات العقار والخدمات والبنوك والاستيراد والسياحة. فهل يحمل الإسلام السياسي رؤية تحقق ذلك؟
يُنظر إلى الإسلام السياسي فقط من منظور الصراع مع النظم، ومن «معاداة أميركا»، وأيضاً من «الصراع مع الدولة الصهيونية»، وكذلك من «التزام الديمقراطية». لكن لا يُنظر إليه من منظور المصالح الطبقية التي يمثلها، والمنظور الاقتصادي الذي يحكم رؤيته. وكل ذلك هو الأساس في فهم سياساته، والذي ظهر حال تسلّمه السلطة. وأهمية ذلك هي نتاج أهمية الأزمة الاقتصادية التي تحكم المجتمع، وتفضي إلى كل المشكلات التي جرت الإشارة إليها. حيث ظهر واضحاً أن أساس الحراك الشعبي على العموم هو نتيجة الأزمة الاقتصادية، التي أدّت إلى بطالة مرتفعة وفقر شديد وانهيار في التعليم والصحة والبنية التحتية. لهذا لا بد من لمس المنظور الاقتصادي للإسلام السياسي، ولجماعة الإخوان المسلمين خصوصاً.
هنا لا بد من درس الفقه ما دام هو الأساس الذي يحكم منظور هؤلاء، وحيث ليس من الممكن الخروج على ما يرد فيه. فهم يعملون على تحقيق «الشريعة» كما يقولون، ويلتزمون، فـ«الإسلام هو الحل» كما كان شعار جماعة الإخوان المسلمين في مصر. و«الشريعة دستورنا» كما قالت الجماعة، وكل السلفيين كذلك. والشريعة تنطلق من «قدسية» الملكية وحرية الاقتصاد، لهذا أيّدت جماعة الإخوان المسلمين في مصر عملية الخصخصة لأن التأميم «مخالف للشرع»، وأيضاً إعادة الأرض المصادرة من الإقطاعيين لأنّ الشرع يرفض المصادرة. وإذا عدنا إلى الأساس الفقهي نلمس كيفية تحوّل التركيز في المجال الاقتصادي لكي ينحصر في التجارة، الأمر الذي يظهر في الاستناد إلى «حديث شريف» يقول «في التجارة تسعة أعشار الربح»، كما قال الإمام أبو حامد الغزالي. وهذا الأمر فرض الميل لكي تصبح التجارة هي النشاط الاقتصادي الذي يقوم عليه «المنظور السلفي» (أو الإسلامي). وسنلمس أنّ التجار هم منْ صاغ المنظور الفقهي منذ انهيار الإمبراطورية الإسلامية، وفي أساس المرتكز الفقهي للسلفية الحديثة، التي منها جماعة الإخوان المسلمين. حيث كانت البيئة التجارية التقليدية هي القاعدة التي دعمت نشر السلفية، ونشوء الجماعة.
لهذا، حين نتناول جماعة الإخوان المسلمين لا بد من درس «امتدادها الاقتصادي»، كجماعة وكأفراد. وكما أشرتُ فقد تموضعت في البيئة التجارية التقليدية من خلال دعم فئات تجارية تقليدية لها، وانخراطهم فيها. لقد ظهر ذلك واضحاً في سورية ومصر وتونس والأردن. وظهر بالملموس بعد المصادرات التي تعرضت لها الجماعة في مصر بعد سقوط محمد مرسي، حيث ظهر أنها قوة اقتصادية منافسة تنشط في القطاع التجاري، وهذا ما حاولت قوله حين أشرت إلى سبب صراع نظام مبارك معها، حيث كان «رجال الأعمال الجدد» (الذين هم نهّيبة الدولة) يعملون على تحقيق احتكار كامل على السوق، مما كان يدفعهم لتجريم الجماعة من أجل تدمير أفرادها اقتصادياً. وفي تونس كانت البيئة التجارية خصوصاً في الجنوب (صفاقس) هي أساس إعادة بناء حركة النهضة، بالترافق مع فئات من الحزب الدستوري.
لكن لا بد من أن نتناول الجماعة من منظور أشمل، حيث إنها ترابطت مع الرأسمال السعودي الخليجي، بعد أن كان هؤلاء يغدقون عليها. وظهر هذا الترابط عبر البنوك الإسلامية، حيث تظهر الجماعة كشريك فيها، وكان يوسف ندا هو المشرف على استثماراتها في هذا المجال. وبالتالي فهي ضمن شبكة الهيمنة الرأسمالية الخليجية، ولا يمكن أن تُفهم سياساتها خارج ذلك. ولهذا معنى عميق في ما يتعلق بهيمنة منظومة أيديولوجية سلفية على مجمل المنطقة مدعومة بالقدرة الاقتصادية هذه.
في هذه الوضعية يمكن تحديد «الأساس الطبقي» للجماعة خصوصاً بكونه يتعلّق بالفئات التجارية التقليدية المترابطة مع الرأسمال الخليجي، وهي فئة «محافظة»، بل رجعية تعيد ماضياً رحل، وبالتحديد تلك المرحلة التي عبّرت عن الانهيار، وأنتجت «فقهها»، منذ أبو حامد الغزالي إلى ابن تيمية وابن القيم الجوزية، امتداداً إلى محمد بن عبد الوهاب الذي أعاد إنتاج هذا الفقه، وقامت على أساسه المملكة السعودية. ولقد أتت الجماعة ضمن هذا السياق، حيث إن جذرها الوهّابي واضح، الأمر الذي جعلها محطّ دعم الفئة التجارية التقليدية (والاستعمار الإنكليزي كذلك). بالتالي، ولأنها تقوم على النشاط التجاري تحديداً، أي ليس في الزراعة أو الصناعة، ونشطت في البنوك (خصوصاً شركات توظيف الأموال التي كانت ظاهرة في مصر السبعينيات وعبّرت عن عملية نهب)، فقد قامت منظومتها على حرية الاقتصاد، لأنّ التجارة تقوم على ذلك (التصدير، وخصوصاً الاستيراد الذي بات هو المسار الوحيد تقريباً للنشاط الاقتصادي في هذا المجال). وبهذا تشابكت مع المسار الاقتصادي الذي بدأ مع الخصخصة، فنشطت في التجارة والبنوك والخدمات. وهي القطاعات التي عمّمتها الليبرالية «المتوحشة»، بعد أن دفعت عبر الانفتاح الاقتصادي والخصخصة إلى تدمير الصناعات القائمة وتراجع الزراعة، وتحويل النشاط الاقتصادي نحو قطاعات العقارات والخدمات والسياحة والاستيراد والبنوك والبورصة.
لهذا لم يخرج «البرنامج الاقتصادي» الذي طرحته جماعة الإخوان المسلمين في مصر سنة 2008 عن ذلك. وظهر واضحاً بعد وصول حركة النهضة في تونس والجماعة في مصر إلى السلطة، حيث صدرت تصريحات واضحة تقول بأنهما لم يختلفا مع السياسة الاقتصادية لبن علي وحسني مبارك، واستمرّا في التعاطي مع شروط صندوق النقد الدولي، ورفضا زيادة الأجور أو حلّ أزمة البطالة. وفي تونس ما زالت حركة النهضة تدعم حكومة هدفها الأساس هو التطبيق الفعلي لشروط صندوق النقد الدولي. وكل ذلك ليس «اضطراراً» بل نتيجة «الأساس الطبقي» والمصالح الاقتصادية، لهذا وجدنا أن الجماعة في مصر بعد أن سيطرت على السلطة كاملة دفعت لكي يحتلّ رأسماليوها محلّ جماعة جمال مبارك، أي مافيا نظام مبارك.
نخلص إلى أنّ الجماعة تمثّل فئة رأسمالية «محافظة» أو متخلّفة رجعيّة، وتنشط ضمن اقتصاد حرّ، وفي القطاعات «الرائجة» كما أشرت، بالتالي تصرّ على إبقاء النمط الاقتصادي ذاته. وهي في إطار أوسع في تشابك مع رأسماليّة خليجية (سعودية، قطرية) وإقليمية (تركية)، ومن ثم تعبّر عن مصالحها كذلك. وهذا يعني أيضاً أنّ النمط الاقتصادي الذي تشكّل بعد انهيار «نظم التحرر»، والقائم على الانفتاح الكامل، وتسهيل «الاستثمار الأجنبي»، بمعنى هيمنته بالتحديد. بالتالي فليس من خلاف هنا بين التعبير الطبقي للجماعة وللنظام القديم ذاته (أي نظم بن علي وحسني مبارك وغيرها)، ولهذا كان «التنافس» هو ما يحكم العلاقة بينهما كما ظهر في الصراع ضد الجماعة في تونس ومصر، والتشابك في الأردن واليمن والعراق، والسيطرة في السودان.
كل ذلك يعني أن الإسلام السياسي لا يحمل تغييراً في النمط الاقتصادي، بل يعزز من النمط الاقتصادي القائم بطابعه الريعي، من خلال التشابك مع الرأسمال الخليجي الذي يعمل نتيجة التراكم المالي لديه على الهيمنة الاقتصادية في كل الوطن العربي. وبهذا سوف لن يكون في أجندة الإسلام السياسي حلّ مشكلة البطالة، بل سوف يزيدها في سياق توسعة الطابع الريعي للاقتصاد. ولا حل لمسألة الأجر لأنه يعزز النهب ولا يسمح بإعادة توزيع الثروة بشكل «منصف». وبالتالي لن يكون مهتماً بإصلاح التعليم، ربما على العكس سوف يزيد في «أسلمته» وتخلّفه، ولا الصحة، ولا حتى البنية التحتية. إن مشروعه الاقتصادي لا يلحظ كل هذه المسائل، وليس مهتماً بها، بالضبط لأنّ مصالحه «في مكان آخر».
هذا ما ظهر في تونس ومصر، ومصر خصوصاً، حيث إن عدم حلّ بعض المشكلات المجتمعية، سواء تعلق الأمر بالبطالة وخصوصاً الأجور، بعد رفض إقرار الحدّ الأدنى، أدّى إلى فقدان «الدعم الشعبي» وتحوّل في موقف قطاعات انتخبت الجماعة، ومن ثمّ انفجار الثورة الثانية. ولأن الوضع كان مشابهاً في تونس، أدّى ما حدث في مصر إلى تراجع حركة النهضة، وقبول تشكيل حكومة تكنوقراط (أتت لتفرض شروط صندوق النقد الدولي)، والذهاب إلى الانتخابات، التي أدّت إلى نجاح نداء تونس (الذي هو خليط من بنية أساسية من الحزب الدستوري، وقطاعات من اليسار السابق والليبراليين) وحصولها على المرتبة الثانية، ومن ثم تشكيل تحالف بينهما يقوم على تكريس السياسة الاقتصادية ذاتها، والإمعان في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، التي طاولت رفع الأسعار في سلع أساسية (الغاز والبنزين والكهرباء) وخصخصة التعليم والصحة، إضافة إلى ما تبقّى من قطاعات خدمية (وهو ما قام به نظام السيسي).
إذا كان هدف الثورات المركزي هو حل مشكلات البطالة والفقر والتهميش، وانهيار التعليم والصحة والبنية التحتية، وهو الأمر الذي يفرض بالضرورة تغيير النمط الاقتصادي الريعي لمصلحة نمط منتج من خلال بناء الصناعة وتطوير الزراعة بالأساس، فإن المصالح الطبقيّة للإسلام السياسي تتناقض مع ذلك، بل إنها توغل في تكريس النمط الاقتصادي القائم بطابعه الريعي نتيجة تموضعها الطبقي الذي أشرت إليه قبلاً.
إذن، الإسلام السياسي لا يحمل الأمل في الحرية، ويعتبر الديمقراطية ممراً للسيطرة على السلطة وإقامة دولة الخلافة التي تفرض الشريعة، ربما بشكل «مرن» لكنها تفرضها. وهي هنا في تضادّ مع مطمح فئات مجتمعية كبيرة تريد الحرية وترفض الدولة الدينية، وجزء مهمّ منها يريد العلمنة. وظهر ذلك واضحاً في مشاركة قطاعات شعبية من الفئات الوسطى لم تشارك في ثورة 25 يناير سنة 2011 ضد مرسي في 30 يونيو، رغم أنّ من شارك في الثورة الأولى كان أساساً يطالب بالحرية، حيث كان الشعار: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. إنّ المنظور الفقهي يفرض أن تكون «الشورى» هي أساس الحكم وليس الديمقراطية التي تعتبر «كفراً»، أو ستعتبر بعد السيطرة كفراً، أو يقود إلى تشكيل نظام دكتاتوري كما فعلت الجبهة الإسلامية في السودان (فرع الجماعة). فالنظام سيكون أداة فئة رأسمالية «تجارية» (لكنها مافياوية)، الفئة التي تريد النهب وضبط تمرّد الشعب، ككل الفئات الرأسمالية التي تشكّلت في السنوات التالية للانفتاح الاقتصادي. وكما أشرت، سوف تزيد في الاستبداد نتيجة «تكليفها» بتحقيق «العدالة الإلهية»، حيث تعمّم الاستبداد إلى الشأن الشخصي من خلال التركيز على «الأخلاق»، أي السلوك الشخصي. ولا شك في أنّ نظم السعودية وإيران وما شابه (رغم اختلاف المذهب) هي المثال «الأنقى» لطبيعة النظم الممكنة لسيطرة الإسلام السياسي.
بالتالي، إذا كانت الجماعة قد لهجت بخطاب ديمقراطيّ في سياق معارضتها للنظم، وتحالفت على هذا الأساس مع أحزاب ديمقراطية ويساريّة، فإنّ طبيعة النظام السياسي الذي تحمله نتيجة التزامها الفقهي يؤسس لنظام ثيوقراطي بالتحديد. وهذا ما يناقض مطالب الثورة بالحرية والديمقراطية.
في مستوى المطالب الطبقية، لا تتضمّن مصالح الإسلام السياسي بما هو التعبير عن مصالح فئات رأسمالية تقليديّة أيّ تناول لمشكلات البطالة والفقر والتهميش. فسياستها الاقتصادية هي استمرار للسياسة الاقتصادية القائمة، ولقد أشار قادة فيه إلى أنّ الجماعة لم تختلف مع حسني مبارك في الاقتصاد (ولقد أشرت إلى دعم سياسته في الخصخصة وإعادة الأرض للملاك السابقين)، وكذلك قال قادة في حركة النهضة في ما يتعلّق بالسياسة الاقتصادية لبن علي. ولأنّ الثورة نشبت نتيجة هذه السياسة، التي أدّت إلى البطالة المرتفعة (30%، وخصوصاً بين الشباب)، والأجر المتدنّي، وانهيار نظام التعليم (الذي نتج من سياسة الخصخصة بالتحديد) والصحة (التي هي ضرورة من أجل موت البشر)، والبنية التحتية (لأن مداخيل الدولة التي تعتمد نهب المجتمع من خلال الضرائب، باتت تذهب إلى نهب الفئة المسيطرة وتسديد أقساط الديون وفوائدها، والتي هي توظيف ماليّ)، لأنّ الثورة نشبت نتيجة كل ذلك، فإنّ ما يطرحه الإسلام السياسي يعزّز من انهيار وضع الطبقات الشعبية، ويزيد من فقرها وتهميشها.
إذن، يمكن القول إن الإسلام السياسي يشكّل البديل المحافظ للطبقة الرأسمالية ذاتها، ولا يحمل مطالب الشعب. وهو كذلك مدخل لتعزيز سيطرة الرأسمال الخليجي على الاقتصاد العربي، ولا يؤسس لبناء اقتصاد منتج هو وحده يحمل الحلول لمشكلات الطبقات الشعبية. بالتالي لا بد من التأكيد أنّ الإسلام السياسي ليس من الطبقات الشعبية التي تريد التغيير وتحقيق مطالبها، بل إنه يعبّر عن فئة رأسمالية تقليدية لم تكن، ولا هي، على توافق مع الرأسمالية المافياوية المسيطرة، وكانت تحاول التوافق لكنّ «طمع» الرأسمالية المافياوية وميلها لتحقيق تراكم متسارع عبر النهب والتجارة، أي عبر الريع، كان يدفعها إلى تصفية الفئات الأخرى، ومنها القطاع التجاري التقليدي.
خاتمة
ليس الإسلام السياسي من يعبّر عن الثورة لأنّه لا يحمل مطالبها، لكنّه سعى لأن يستغلّها لكي يعزّز من سيطرة الفئة الطبقية التي يمثّلها من خلال الهيمنة على الدولة. لهذا كان اهتمامه بتعزيز سيطرة رجال الأعمال المرتبطين به، أو بالأدقّ، الذين يعبّر عنهم، وزيادة هيمنتهم على السوق المحلي، وعلى تعزيز الترابط مع رأس المال الخارجي. بينما استمرّ يمارس السياسة ذاتها في كل المجالات، في السياسة الخارجية حيث ظلّ على علاقة وثيقة مع أميركا، وأبقى على العلاقات مع الدولة الصهيونية. وفي الاقتصاد، رفض «المطالب الفئوية»، وعمل على الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي، وأبقى الاقتصاد كما كان. أمّا على صعيد الديمقراطية فقد انفرد في مصر، وكان يعمل على تعزيز سيطرته ضمن سياسة التمكين. وفي تونس اتخذ من أحزاب صغيرة واجهة له، لكنه كان يعزّز سيطرته. وربما كانت التناقضات بين النظام القديم وبينه في مسار التمكين تسمح بأن يظل هناك هامش واسع للحريات. ولهذا حين تحقّق التحالف بين الطرفين سارت الأمور في تونس نحو تقليص مساحة الحريات تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» (كما فعلت مصر السيسي، مع شمول الجماعة في الحملة).
إذن، الإسلام السياسي عمل على استغلال الثورات لكي يعزّز من سيطرته، ومن قدرة قاعدته الطبقية، ولم يكن معنياً بمطالب الشعب، سواء تعلق الأمر بالحرية والديمقراطية، أو تعلق بمطالب البطالة والفقر والتهميش، أي مجمل مطالب الثورة. هو يريد السلطة من أجل مصالح فئات طبقيّة من الطبقة الرأسمالية المسيطرة ذاتها. ولقد فتحت الثورات لهذه الفئة المجال كي تستفيد من كل رمزيتها التي اكتسبتها قبل الثورات، والتي لم تكن في غالبيتها نتاج رؤيته ومصالحه بل نتاج ظروف أخرى، منها موقف النظم ذاتها، أو هدف أميركا بشيطنة الإسلام، أو الدور التكتيكي لحماس، أو براغماتية جعلته أمام ضغط النظم يلهج بخطاب ديمقراطي. هكذا استفادت هذه الحركات من هذه الرمزية كي تدّعي أنها الثورة رغم عدم مشاركتها فيها (تونس)، أو انخراطها فيها متأخرة، وانسحابها منها بعد التوافق مع النظام (مصر). وقام إعلام النظم والإعلام الإمبريالي بتعميم هذه الفكرة في سياق الشغل على دمجها في «النظام الجديد».
الإسلام السياسي لم يشارك فعلياً في الثورات (وكان التيار السلفي ضدها)، لكن كان مطلوباً أن يظهروا القوة المحرّكة لها لأسباب متعدّدة، منها سياسة النظم لشيطنة الثورات، ومن الدول الرأسمالية التي كانت تريد دمجهم في النظم الجديدة، ومنها أنفسهم لكي يصبحوا هم النظام الجديد. وحين حكمت هذه الاحزاب والحركات أوضح حكمها أنها لا تحمل مطالب الثورة بل تكرر سياسة النظام القديم. وبهذا يجب وضعها في موضعها الطبقي، أي كجزء من الرأسمالية المافياوية المسيطرة، الذي يحمل المنظور الأيديولوجي الأكثر محافظة وتخلفاً وتعصباً، ومعاداة للمرأة والتحرر، وهو المنظور الذي تريده الطبقة المسيطرة، رغم الاختلافات التي تظهر نتيجة التنافس في المصالح. ولهذا بات «النظام الجديد» في تونس كما في مصر (رغم اختلاف وضعها في الحالين) يكرّر خطابها. وهو الخطاب الذي يعمّمه الإعلام الخليجي كتعبير عن مصالح الرأسمالية الخليجية التي تغزو كل البلدان العربية عبر قدرتها المالية.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.