العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦

بين التاريخ والاستكانة للقدر

أزمات العرب واستعماء العقل

النسخة الورقية

أودّ الابتداء بالإشارة إلى حالة عامّة من التأزّم وقلّة الحيلة في مجال الرصد والتفهم (إن كان لنا استثناء فذلكة المؤامرة والممانعة). هو تأزّم مضارع للأزمات متعدّدة المستويات والمواضيع التي تجتاح العالم العربي مشرقاً و«مغرباً»، مع تفاوتات بيّنة في الوتائر وفي مستويات العنف المعلن والمختزن المضمر معاً. ويتجلّى هذا التأزم في محطتين، الأولى منهما ترتبط بتوقّع ما حصل في السنوات الماضية وما زال حاصلاً اليوم، والثانية بتصور وتحليل وتمثّل ما حصل وما هو مستمرّ في المشرق ــ في الهلال الخصيب تحديداً ــ إلى اليوم، وما هو مرشّح للاستمرار: تبدو المُحصّلَة العامّة أزمة تطاول الدول العربيّة مجتمعة، رغم التمايزات البيّنة في أوضاعها. وليس متاحاً لنا تعميم الوضع السوري، العراقي، اللبناني، أو الليبي، أو اليمني، على مجموع الساحة العربية. إلّا أنّ هذه الأوضاع التي تبدو بالغة الخصوصية ــ لأنّها بالغة الحدّة ــ تنهل من روافد اقتصادية واجتماعية وإيديولوجية وثقافيّة تتواجد عناصرها على امتداد العالم العربي ولعلّ من أفضل الأمثلة على ذلك تواجد أعداد كبيرة جداً نسبيّاً من التوانسة في داعش.

الواقع والمحال في سورية

المحطّة الأولى أزمة التوقّع واستعصاء التصوّر. إنّ ما حدث في سورية على وجه الخصوص يشكّل جملة من الأمور التي كانت عصيّة على التصور، وكأنّنا نشهد فيها انقلاب المحال إلى أمر واقع. وفي تقديري، يتعيّن علينا في هذا المجال أن نضيف إلى عدم كفاية التنبّه والملاحظة التي وسمت مراقبتنا لهذا الأمر، مراقبتنا جميعاً دون استثناء تقريباً، عنصراً آخر آيلاً عن استفظاع ما أفصح عنه هذا الوضع من مظاهر بيّنة ليس للتخلّف فقط، بل للنكوص التاريخي ولإرادة النكوص، ممتزجاً بقدر من الوحشية والهمجيّة ليس ذوو الألباب على العموم متأكدين أنه وصل إلى منتهاه ــ كل ذلك مؤدياً إلى رؤية كابوسيّة نرى أنها ساهمت في تغذية اتجاهين في التعليق على ما دهَمنا وما زال يدْهمنا: الاستكثار في التعوّذ بالله مما حصل مع التأسّي والندب من جهة، ومن جهة ثانية ، الاستكانة إلى التحليل بالالتجاء إلى صياغة سوسيولوجية للقضاء والقدر.

إنّ الإحالة على القضاء والقدر شأن مألوف في العلوم الاجتماعية والإنسانية من تصوّر للحتميّة الثقافية والارتكاز على ثوابت في الطبائع الإثنولوجيّة للجماعات، وهي تصوّرات بالغة الشيوع في الفكر العربي، واتخذت في العقدين الأخيرين موقعاً مهيمنا في الفكر العربي، مؤازرة بذلك ــ عن وعي أو بدونه ــ التصوّرات التي تنشرها بيننا الهيئات الدينيّة والجماعات الأصوليّة. وعلى رأس ذلك الذهاب إلى أنّ لدينا ــ أو لدى المسلمين بيننا ــ نوازع طبيعية نحو الأصوليّة، وأنّ الإسلام بالولادة يفيد الإسلام بالسياسة ضرورة، وأنّ داعش نزوع متوطّن في خبايا قلوبنا.

يتضافر هذا الوضع مع إحدى خواص الأجهزة المفهوميّة للعلوم الاجتماعيّة، ألا وهي ارتكازها على مفاهيم تتناول الثبات والبناء والتهيكل والتَبَنْيُن، وغياب أوضاع التفكّك والتهتّك والانهيار على مجالات تصوّراتها، فضلاً عن المقدرة على استيعاب أوضاع الانهيار والتهتك الكارثي catastrophic collapse الذي حلَّ في سورية اليوم. وتزداد الرؤية اضطراباً واختلالاً إذا استذكرنا أنّ العلوم الاجتماعيّة، والتصوّرات السياسيّة أيضاً: ليست ملمّة بالمجالات اللارسمية من الفعل: الاقصاديّات المافيويّة، الفساد، الحركات السياسية العسكريّة المتمايزة عن الدولة non-state actors، التعاملات المصرفية والماليّة الافتراضيّة، وغيرها الكثير. يجري التعامل مع هذه الأمور وكأنّها مجرّد انحرافات عن السويّة، دون التمكّن منها والقدرة على اعتبارها على أنها عناصر بنيوية في هياكل قيد النشأة أو قيد التفكك، بغضّ النظر عن البشاعة وعن الازدراء للانحراف والإجرام و النطق بالأحكام الأخلاقيّة التي تبدو للبعض لازمة.

يستلزم التمكّن من هذا الأمر المقدرة على الإلمام المباشر والمقصود بالعلاقة الفعليّة بين المراكز والأطراف، والصورة التي جرت عليها إعادة ترتيب هذه العلاقة في بلد مثل سورية، وعلى كل مستويات السياسة والمجتمع والثقافة والقانون، والنحو الذي يمكن به فهم فاعليات حركة مثل داعش والديناميّات الاقتصادية التي تتيح لها النشاط بالمقارنة مع حركات مماثلة، عسكريّة وسياسيّة بل وفي بعض الأحيان دينيّة أيضاً (جيش الرب في أوغندا مثلاً) متمايزة عن الدولة وقادرة على السيطرة على مساحات جغرافيّة واسعة: من نظائر داعش في هذا المجال مليشيات التعدين في الكونغو، مليشيات المخدّرات في كولومبيا والمكسيك، جيش المثلّث الذهبي في جنوب شرق آسيا. تتيح مقارنة كهذه الإلمام بما يُدعى لدى رجال الأعمال وكليّات إدارة الأعمال Business Model والتوصّل إلى عنصر من عناصر فهم ما هو حاصل في ضوء ضمور وانحسار دور الدولة في العالم النيولبرالي.

العلاقة بين المجتمع والسلطة والدين

سأترك هذا الاستطراد الموجز الضروري جانباً، وأعود إلى لبّ الموضوع الذي أتناول، إلى الثانية من المحطّتين، وهو محاولة تفهّم العلاقة بين المجتمع والسلطة والدين في القرن الواحد والعشرين في العالم العربي. أشرت بإيجاز إلى تأزّم في الفهم متأتٍّ عن تضافر النفور والصدمة من جهة، وقصور الأجهزة المفهوميّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة من جهة أخرى.

ما أودّ الانتقال إليه والتركيز عليه على وجه التحديد الآن، هو شأن أشرت إليه باختصار وسمّيته الاستكانة إلى القدَر والميل الإيديولوجي إلى نظرة جبريّة حتميّة إلى التاريخ، ترى فيه مسارات لجماعات قائمة على أطباع وسجايا قارّة. يطلق على هذه الوحدة الإثنولوجيّة في العالم الدارويني ــ الاجتماعي الحاضن لهذا المفهوم وأخواته تسمية «المجتمع الإسلامي». وأنّ هذا الأمر لهو شأن أصبح مألوفاً في التعليقات والتحليلات المرصّعة بالأفكار المُسبقة والقوالب الجامدة حول الإسلام والعرب والأصوليّة والتطرّف مع التبجّح بالحياد والموضوعيّة، وهو الأمر المفضي ــ نتيجة التكرار ــ إلى ترسيخ العديد من اليقينيّات الكاذبة حول تلك القضايا. وإنني أرى أنّ تأزّم النظر والتفكّر في حاضر ومستقبل العلاقة بين المجتمع والسلطة والدين، يشكّل أحد العوائق المركزيّة أمام نشوء وتطوّر وانتشار لغة جديدة للتعامل مع وقائع جديدة، وهو يكمن في الركون الكسول والمترهّل إلى النظرة المستسهلة والعجول التي ترى حاضر العرب وفي التاريخ البشريّ على نحو أعمّ أسيراً للعبة قوّة خارقة هي القدر الإثنولوجي للمسلمين ــ وفي عين السياق المفهومي والتصوّري، القدر الإثنولوجي الذي يعَرَّف طائفياً.

إنّ هذه نظرة يعضدها نظام عالميّ وبنية تحتيّة للانتشار على امتداد العالم، أي ما يعرف بنظريّة الاستثناء الإسلامي التي تفيد إعفاء المسلمين في الشروط التي تحكم التاريخ والفعل الاجتماعي والجنس البشري على العموم، واستثناءهم في سلّم الرقيّ، فإن صير إلى الإقرار ــ على العكس من ذلك ــ بأنّ المجتمعات قابلة للتحوّل، وأنّ التحوّل سنّة التاريخ وفحواه ومعناه، نجدهم يذهبون إلى أنّ هذا لا ينسحب على من يحلو لأهل وأصحاب هذه النظرة، وهم قد أضحوا أكثريّة مهيمنة ثقافيّاً بل وأكاديميّاً، على تسميتهم بالمسلمين ووسمهم بسمة الإسلام ودمغهم بإشارته. إنّ العلاقة الفارقة لهذه الدمغة إنّما هي الذهاب إلى أنّ مستقبل هؤلاء لا يمكن أن يكون إلّا استعادتهم لماضيهم، وبقاءهم أسرى هذا الماضي، وأنّ قدرهم بالتالي ما هو إلّا النظم الإسلامية، هذا بعد أن تبيّن زيف تاريخهم الحديث وانكشاف المكبوت التاريخيّ الإثنولوجيّ و ظهوره إلى العيان بعد قرن ونصف القرن من مخادعة الذات، وفي وقت آنَ فيه أوان إعادة الاندماج في الحضارة الإسلامية متمايزةً عن الحضارة الغربية تمايز التباين. ونجد في الكلام حول الطائفية خطاباً مضارعاً لهذا.

تلك أفكارٌ مملّة وساذجة، إلّا أنها في هذا التكرار وعلى تلك البساطة والسذاجة، تحمل كل السمات التي تهيّئها لتصدر مجلات شعبوية عامية كسولة، ولتصبح كليشيهات تستمدّ، كما سنرى، دعماً من السياسات الثقافيّة المحافظة عربيّاً، والنظام الثقافي المعولم والمتضمّن في الهيئات الدولية والمنظّمات غير الحكومية القائمة على مديح الخصوصية والغزارة الحضارية والعفاف الثقافي، والحركات السياسيّة الإسلامية بعبارة أخرى. يترتب على القول باستمرار حضارة إسلامية ــ وهي في الواقع ذكرى كُتبيّة لا وجود فعلياً لها، كالحضارة اليونانيّة أو البابليّة أو الرومانيّة: هذه ذاكرة كتبيّة توطنة لدينا في الوهم والتمنّي في التباعد عن الواقع المتعيّن وفي تباعد قد يقارب أفق الهلوسة، ــ يترتب على هذه النظرة إلى الحضارة الإسلاميّة استنتاجٌ سياسيّ، هو استنتاج ليس ضرويّاً بحدّ ذاته ضرورة منطقيّة. ولكن يُستنتج بقدرة سياسيّة، وهو أنّ النظام السياسي القائم على قيادة أو استبداد حزب إسلاميّ هو الصيغة المثلى والطبيعية لدولة عربية ما. يسري عين التصور على برمجة أنظمة ما محاصصة طائفية. وهذا تصوّر سائر وفاعل في دوائر المفاوضات العلنية والسرية وفي دوائر صنع القرار العالمية.

ذلك أنّه إذا كان العرب أسرى الماضي، فإنّ الاستعادة السياسيّة والاجتماعية لهذا الماضي المتخيّل إنما هي الدولة الإسلامية حسب الإمكانيّات المختلفة لتصوّرها، ذلك أنّ المسلم بالولادة مفطور على الهوى الإسلامي في السياسة، وإلّا شذّ، أو استلب أو تغرّب. من هنا استسهال القول بأنّ لداعش في بادية العراق وسورية بيئة حاضنة وكأنّ ذلك من تحصيل الحاصل ومما يستفاد بداهة: الصحّ الذهاب إلى أنّ ما تبقّى من الأهل والموارد في دولة داعش يشكّل بيئات غير ممانعة، وبيئات غير ممانعة وانتهازية ومتواطئة في أحسن الأحوال، ومشاركة بدرجات متفاوتة في استغلال الموارد المحليّة من نفط وآثار وأتاوات، فضلاً عن كون داعش كالعصابات الأخرى، العسكريّة ــ الاقتصادية ــ رب عمل كبير، منظمة فاعلة في بيئة وجهاز دفاع إيديولوجيّ في مواجهة مفردات الكثير منها أليف. ومن هنا أيضاَ انتشار تصوّر مبهم التفصيل ولكنّه أكيد الأثر حول اقتران الديمقراطية بالإسلام ضرورة في مجتمعاتنا، والاعتقاد بأنّ الكلام حول الشعوب العربيّة هو في الوجه الأساسي من وجوهه كلام حول الإسلام.

عندي أنّ هذه المقالات ومقالات كثيرة من أخواتها والمتعلّقات بها ليست فقط مقالات انطباعيّة وسطحيّة، ولا هي فقط مقالات كانت سعة انتشارها واعتبارها على أنها من بديهيّات الحس المشترك تطوّراً جديداً طارئاً على الساحة العربية منذ ما لا يزيد على ربع قرن. إنّها ليست تقريرات تتناول حقائق المجتمع بموضوعيّة. إنّها بالأحرى نتيجة تحوّلات طرأت على علاقة المجتمع والسلطة والدين بفعل ديناميّات اجتماعية وسياسيّة وثقافيّة كانت وما زالت نتيجة نظام سيطرة على الحقيقة جديد ــ وأذكر بأنّ الحقيقة الاجتماعية والسياسيّة هي لمن كانت له أو آلت إليه سلطة القول وسلطة السيطرة على سبل ومجالات انتشار وتداول الخطاب في المجال العام ــ وأعني بالتحديد وسائل الإعلام والبُنى التحتيّة للخطاب النكوصي والظلامي وتواطؤ خطابات الدول العربيّة مع خطابات الجهات السياسيّة الدينيّة. ذلك ما يجعل الكلام حول الماضي القريب يكتسي حلّّة اليوم وصورته.

الأسلمة وإعادة صياغة الدين

معنى ذلك هو أنّ مناط الكلام، إن ابتغيت الموضوعيّة والدقّة، هو الأسلمة بصيغة مستجدّة وليس الإسلام. وإن كان لنا رسم وتوصيف تصوّرات دقيقة ومقنعة لعلاقة الدين بالسلطة والمجتمع في العالم العربي في القرن الواحد والعشرين، يتعيّن علينا إعادة الموضوع إلى سويّته، والابتداء بالأرض بدلاً من الهبوط من السماء، والانطلاق من حقائق التحوّل بدلاً من وهْم الثبات. وإن كان لنا الاستقرار على هذا المنهج في التناول، فسيتبدّى لنا حتماً أنّ الرأي السائد والذاهب إلى أنّ العالم العربيّ شهد في العقود الأخيرة «عودة» إلى الإسلام، وإفصاحاً عن المكبوت التاريخيّ مع عبارات رنّانة أخرى، لهو مقالة واهية، لا تؤدّي وظيفة معرفيّة بقدر ما تؤدّي وظيفة إيديولوجيّة وسياسيّة في نهاية المطاف. تنطبق الاعتبارات عينها على اللغو الذي ما زال مستمراً حتى بعد حكم المرشد في مصر حول «الإسلام والديمقراطية »، وهو كلام وكأنّه نظير لما عبّر عنه كارل ماركس بـ «اللوغارثم الأصفر»: المقايسة بين عنصرين لا تجوز المقايسة بينهما. لا يجوز المقايسة إلّا لمن تواطأ على الافتراض بأنّ «الإسلام» كيان ثابت عصيّ على التاريخ واضح المعالم دون لبس، وأنّه الممكن بالتالي أن تتمّ مقايسته مع كل شيء، على افتراض أنّه نظام كلّيّ شموليّ أو توتاليتاريّ في جوهره، وهذا بالطبع أمر مغاير لطبائع الأحوال في العمران لا يستقيم إن تناولناه بالنظر السليم. فضلاً عن ذلك، فإنّ ما حصل ليس عودة إلى الدين بعد غياب، فليس ثمّة غياب الدين لا في مجتمعاتنا ولا في غيرها. الواقع أنّ الجديد هو إعادة صياغة الدين ــ أي تفكيك الصلة بينه وبين بعض المظاهر الاجتماعيّة، وإعادة صياغته وكأنه نصابٌ مغاير للمجتمع ومتمايز عنه، على نحو يسهّل اعتباره على أنه الحكم في أمور المجتمع والسياسة وسلوك الأفراد، وبذلك يُجْعَل ــ وهو جعِل، وهذا لبَّ كل تديّن أصولي سلفيّ مسلماً كان أم مسيحياً أم يهودياً أم بوذياً ــ نموذجاً ليس فقط للاقتداء، وللاستخدام في تقويم المجتمع، بل يصبح بديلاً عن المجتمع ومحارباً له.

أعود وأكرّر حتى يتمّ الربط بين جملة من العناصر الني طرحت في ما سبق: أنّ التلهّف على الأصول والجذور، والقول بالحتميّة الثقافيّة القائمة على افتراض استمرار لكيان تاريخيّ متجانس غير منقطع اسمه الإسلام، وبأنّ المجتمعات العربيّة يمكن النظر إليها جمعاً ومنعاً بمنظار الدين، وأنّ العفّة الثقافيّة في نهاية المطاف عفة دينيّة، وأنّ طبائع الشعوب العربية القارّة يحويها الإسلام، وأنّ الإسلام الذي نشهد اليوم مكبوت جرى الكشف عنه، وأنّ الأحزاب الإسلاميّة خير ممثّل للشعب: كل هذا من باب العزوف عن التناول العينيّ للديناميّات والممارسات الاجتماعيّة.

لكنّ القضية معرفيّة فحسب، قضية مفاهيم قاصرة أو دوغمائيّة، أو قضية توكيد قائم على الانطباعيّة بدلاً من التقصّي والتفكّر. يقوم هذا الخطاب على اعتماد نظرة عضوانيّة في التاريخ، أي نظرة ترى أنّ الجماعات البشريّة مبرمجة ثقافياً وحضارياً كما أنّ الفصائل الحيوانيّة مبرمجة غريزياً، وتستخدم مجازات بيولوجية في مجال التاريخ كالطهارة والعدوى والاعتلال والعافية والتمدّد السرطانيّ والتلوث وغير تلك من المستلزمات المفهومية للعقيدة الرومانسية العضوانية في التاريخ. ليست غريبة هذه النظرة في التاريخ الحديث لدينا ولدى غيرنا، فهي قد طبعت الاتجاهات القوميّة، خصوصاً المحافظة منها، في أوروبا حيث تمّت صياغتها على أكمل وجه في الفكر السياسيّ الرومانتيكي الألماني، وهي نظرة كانت لها الصدارة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية حين حاولت الدول الأوروبية جاهدة التخلّص من تركتها الإيديولوجية التي تمثّلت في أكثر أشكالها حدّة في الأحزاب القوميّة ــ الاجتماعية في ألمانيا وغيرها، والفاشيّة والكتائبيّة في إيطاليا وإسبانيا. أما لدينا، فقد اقترنت هذه القوالب الإيديولوجية بقوميّة حزب البعث لدى اتجاهات كانت غالبة فيه في فترات معيّنة، وهي ــ أي القوالب ــ قد تقوّت عندما اقترنت بالإسلام السياسي الإخواني أوّلاً، والمتمثّل في «حماس» وغيرها، كما نراها ذات حضور وفاعلية أساسيّة في الإسلام السياسي الإيرانيّ وفي ملحقاته العربية كحزب الله اللبناني. كما تمثّلت لدينا أيضاً في أحزاب قوميّة محليّة، كمصر الفتاة والحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعض تيارات حركة القوميين العرب.

في جميع الأحوال، يجري تخيّل تاريخ مستمرّ رغم توقّفه عند لحظة معيّنة سابقة للانحطاط سمته سمة عصر ذهبيّ ــ البادية العربية الجاهلية عند زكي الأرسوزي، الإسلام الأول أو الفترة المحمّديّة والخلافة الراشدة عند الإخوان المسلمين، أو داعش أو الإسلام المحمّدي العلويّ الحسيني الإماميّ لدى أحزاب الله ــ عصر ذهبي ينبغي أن تكون استعادته برنامجاً اجتماعيّاً وسياسيّاً وقانونيّاً وحياتيّاً شاملاً. والملاحظ في العقود الأخيرة التي رأت تسمى عقيدة عالمية، في ارتباط مع صيغة سياسيّة للعالم العربي ــ أو مشرقه على الأقلّ ــ لا ترى فيه إلّا فسيفساء من الجماعات والطوائف والأديان والإثنيات والعشائر، الملاحظ أنّ هذه العقيدة في التاريخ قد جرى سحبها على الجماعات الأهليّة كافّة كما ذكرت سابقاً، في برنامج سياسيّ واجتماعيّ، عماده ومنطلقه الاحتلال الأميركي للعراق، يروم تحويل واقع اجتماعيّ قديم هو تعدّد الأديان والطوائف والجماعات الأهلية لبُنى القرابة والجوار والاستزلام الزبائنيّة، إلى وضع يتمّ فيه استحالة هذه الجماعات إلى أحزاب سياسيّة في العالم دارويني ــ اجتماعيّ بنيته الرئيسيّة السلم الأهلي البارد أو الحروب الأهليّة المستعرة. يضاف إلى هذه التطوّرات التقنيّة المعلوماتيّة إلى درجة نرى فيها نشوء جماعات أهليّة افتراضيّة تستثني ضوابط المكان من صلاتها، جماعات أهليّة ــ سياسيّة ربما كان داعش النموذج الأصفى لنشوئه وتحويله علاقات اللامكان إلى مكان معيّن يكثَّف، وكأنّه عدسة، جملة الأوضاع والبواعث غير المرتبطة بعضها ببعض، ويخلق منها جماعة جديدة.

اسئلة، اسئلة، اسئلة

ما الذي جعل هذا النموذج الإيديولوجي في التصوّر نموذجاً غالباً بل مهيمناً؟ ما الذي أتاح انتقال برنامج سياسيّ إرادويّ عماده تضافُر الإسلام السياسي والسياسات الغربية في المنطقة على امتداد عقود طويلة إلى محطّة أصبح فيها ليس متحققّاً جزئيّاً هنا وهناك، بل إلى اكتساب طابع البداهة التصوّرية والمعرفيّة لدى قطاعات واسعة في العوام والخواص معا؟ ما الذي بعث على هذه الاستكانة للتخلّف والنكوص ونقله من مصاف المشكلة إلى مصاف الطبيعة والخلاص، مداواة للداء بالداء؟ ما الذي أدّى إلى تهميش قضايا الرقيّ والتقدّم وإيداعها ــ في أحسن الأحوال ــ في مقامات المعالجة التقنيّة ومعدّلات النموّ الاقتصاديّ وغير ذلك من المؤشرات النيوليبراليّة؟ ما الذي همّش اعتبار التاريخ والديناميّات الاجتماعيّة لمصلحة خطابات هي إمّا عضوانيّة المآل، وإمّا رخوة المفاهيم، جانحة للخطابيّة التوفيقيّة العاجزة عن التوصّل إلى اليقين المعرفيّ المنضبط؟ ما الذي جعل من مفكّر منضبط وعالم كعبد الله العروي على الهامش، ومفكّر دائب الانشغال ضعيف التكوين والثقافة العامة عاميّ الذائقة رخو المفاهيم قليل الدراية بتقنيّات البحث كمحمد عابد الجابري أقرب إلى المركز؟ لماذا تغيب العلمانية ويستعاض عنها بعبارة قليلة المعنى والدلالة والإلزام كـ«المدنيّة»؟ لماذا سيوسيولوجيا القضاء والقدر، ولماذا يبدو للبعض جعل عبارة «متنوّرة» بين علامتي اقتباس أمراً مناسباً أو بديهيّاً، آيلين بالتقدّم والتنوّر إلى موضع الشك واللايقين، وبالمقابل، بالظلام والظلاميّة إلى مقام الطبيعة واليقين؟ ما الباعث على طغيان الاستكانة للفوات، واستقبال الإيديولوجيّة العضوانيّة في التاريخ والمجتمع والسياسة، والتفكير باستخدام القوالب الميتافزيقيّة لهذه الإيديولوجيا: مفهوم الانبثاق أو الفيض، بحيث يفيض المجتمع والإسلام عن بعضهما البعض، وتفيض الدولة ويفيض القانون والدستور على الإسلام والمجتمع المتماهيين في هذه النظرة، بحيث يتطابق المجتمع مع الدولة، ثمّ يوصم من اعترض على هذا بالاستلاب والشواذ وقلّة الفهم؟

لماذا أصبحت الأكثرية بيننا متواطئة مع افتعال قضيّة الشريعة في نظمنا الدستوريّة والقانونيّة، ولماذا أُخِذَ الكثير منا بفكرة تماهي الدين مع الممارسة الاجتماعية، وفكرة سياسيّة وإيديولوجية أساساً تفصح عن تمنيّ بصيغة التوكيد على مقالة ــ مقالة التطابق بين الدين والمجتمع والشريعة والممارسة الاجتماعيّة ــ منافية لواقع مجتمعاتنا: بديهيّ أنّ درجة العنف التي تضطر الحركات الإسلاميّة والدول الموسومة بالإسلامية ممارستها هي متناسبة مع التنافر الفعلي بين ما يُدَّعى في هذا السياق، والواقع المتعيّن للممارسات المجتمعيّة حتى ولو وجد فيها ثقافات فرعية سلفيّة. إنّ الانتقال من التوكيد على أنّ لداعش بيئات حاضنة ــ وقد سبق أن قلت شيئاً عن هذا الأمر ــ إلى القول بأنّ دواخل المسلمين دواعشيّة بالاستعداد الغريزيّ من هذا الباب أيضاً، ولو كان في لغة داعش ما هو مألوف، وفي الوقت نفسه ما هو بالغ الاغتراب عن التجربة الاجتماعيّة المعيشة ولا تصريف لهذه اللغة إلّا الأمر والنهي دون وعاء المعنى. وما هذه المواقف إلّا من باب الانكباب شبه القهري لدينا، والهلوسي غير الإرادي أحياناً لدى العديد من مثقّفينا، إلى تخيّل ثمّ تقصّي مواضع الاختلال الخلقي فينا. أخيراً لماذا جرى الإقلاع عن التساؤل حول أصول التخلّف، وهذا ما شغل الفكر العربي على امتداد قرن ونصف القرن، والانصراف إلى تبشيرنا بحتميّته بل وإلى التغنّي به باسم الأصالة، ولماذا حلّت النرجسيّة الجماعيّة في تعليل ذلك كلّه محلّ الطموح إلى الأفضل والاستكانة محلّ التفكّر؟

قيل الكثير حول انحسار الفكر التقدمي والحركات التقدميّة وشلل المشاريع القوميّة العربية، ويقال الكثير مما لا مبرّر كبيراً له حول فشل التحديث والعلمنة، وذلك في سياق كلام إطلاقيّ يرى في التأزّم وعدم الاكتمال وعدم التمام غياباً صرفاً، وفي تعقّد الديناميّات الاجتماعيّة محالاً، وفي ازدياد معدّلات التديّن بل وممارسة الدين استعراضاً و تبجّحاً و تحوّل التديّن عند الكثيرين إلى ما هو بمثابة الوسواس القهريّ عبارة عن شأن طبيعي في المجتمع النابذ للعلمانيّة بالسليقة وبحكم إسار التاريخ القاهر. أمّا الواقع فهو مباين لما يُدَّعى: ذلك أنّنا لسنا بصدد جوهر مفصِحٍ عن نفسه للعيان بقدرة قادر أو بانحسار القمع المتأتّي عن نخب متغرّبة، ولسنا بصدد استعادة الإسلام أو عودته، إنّما قد يذكر بعضكم أنّنا ما سمعنا بهذا الأمر إلّا مع ابتداء الحملة الواسعة على العلمانية/الماسونية/الشيوعية في فترة الحرب الباردة.

أسلمة من نمط جديد

إنّنا بصدد أسلمة تستدخل على مجتمعاتنا وعقولنا ضرباً من الإسلام ما كان مألوفاً، إسلام سلفيّ ــ على سعة هذا التيار واتجاهاته ومآلاته المختلفة ــ ذي طابع وهّابيّ عقيدياً واجتماعياً، تضافر على استدخاله الإسلام السياسيّ بمختلف تياراته، والبنية التحتيّة العالميّة التربويّة والإعلاميّة للإسلام السلفيّ، وأغلب الدول العربية التي ارتأت في العقود الأخيرة التمظهر بمظهر الورع والتقوى وتنشيط ورعاية المؤسسات الدينيّة الأهلية، بدءاً من التقوى النابية لأنور السادات.

وفي الوقت ذاته تهتّكت فيها البنى التربوية وانحسرت فيها الوظائف الثقافيّة والتمدينيّة للدولة في ظل الضغوط النيولبرالية، وما استتبع ذلك من خصخصة لمجال الثقافة في سياق عالميّ يطلب ذلك وينتصر للفاعلين الثقافيّين المحليّين والتقليديّين وفي كلّ الأحوال المتمايزين عن الدولة.

bid14-p109.jpg


مقاتل في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)

أمّا المسار الحالي الذي تمّت الإشارة إليه للتوّ، فهو يتمثّل في التحوّل الذي شهدناه يطرأ على الحركات السياسيّة والاجتماعيّة الإسلاميّة في السنوات الأربع الأخيرة. تتمثّل هذه في اتساع مجال وجاذبيّة الإسلام الراديكالي بشكلَيه الحركي الجهادي الأكثر توحّشاً والورعي الاجتماعي الأكثر تزمّتاً وتطلّباً من جهة، وفي الانحسار النسبي لمقدرة الفعل والتنظيم المتاحة للأحزاب الأصوليّة التقليديّة كجماعة الإخوان المسلمين، ولو بقيت هذه فاعلة في دول دخلت فيها في صلة مع الدولة تحت شروط الدولة (المغرب تحديداً والواردة سابقاً).

نشهد إذاً وضعاً استقرّت فيه الأفكار والتصوّرات والكثير من السلوكيّات التابعة للإخوان المسلمين في فترتهم الأخيرة، والمتقاطعة مع الفكر الاجتماعي السلفي الوهابي إلى حدّ كبير والورع السلفي أيضاً، لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية إلى درجة أصبحت فيها بمثابة الثقافة الاجتماعيّة والعقليّة ــ المعرفيّة العامة ــ أو لنقل إنّها بمثابة الحسّ المشترك العامّي لعلاقة الدين بالمجتمع، وعلاقة الدين بالسلطة إلى حدّ كبير أيضاً. ونشهد بموازاة ذلك وضعاً انحسرت فيه إمكانات العمل السياسي بهذا الموجب، ولصالح قوى جهادية أو مليشياوية طائفية داعشية أو قاعدية التوجه أو خمينيّة. في هذا الوضع تبدو السلطات السياسيّة الرسميّة وكأنّها منقطعة إلى حدّ كبير ــ في الوضع الذي تتفاوت حقائقه ويتفاوت وقعه واتساعه بين بلد عربي وآخر ــ تتّخذ فيه السلطة ويتّخذ فيه الدين والمجتمع مسارات متمايزة بل ومتناقرة في أحايين كثيرة. وتبدو السلطات السياسيّة الرسمية وكأنّها منقطعة عن محاولات إعادة التَبَنْيُن والهيكلية سياسيّاً واجتماعيّاً في محاولة تحقيق تطابق ــ هو متخيَّل إذ هو ممتنع سوسيولوجياً وسياسياً ــ بين هذه العناصر جميعاً على صورة تطابق عضوانيّ بين الدين والمجتمع والسلطة، أكان ذلك في كنف داعش أم في مناطق سيطرة جبهة النصرة أم جيش الإسلام أم في مناطق سيطرة المليشيات الشيعية في العراق ولبنان، مع محاولات ما تمَّ لها النجاح في اليمن والبحرين.

أشرت إلى ازدياد التديّن الاستعراضي لكثير من الدول العربية بل والكثير من الأفراد أيضاً. تمّ ذلك في مواجهة قوى يسارية وتقدميّة على العموم (في عهود السادات، الأسد، إلخ.) وكان في البداية أحد أطوار صراع فكري وإيديولوجي مديد على المستقبل. ومعلوم أنّ خطاب النرجسية والفرادة التاريخيّين غير منفصل عن مناهضة التقدّم فكراً وممارسة، في جميع محطات بروزه: في أوروبا حوالي العام 1789، بعد 1848، وبعد العام 1871 في أوروبا ولدينا أيضاً (عند الأفغاني وعبده) بعد 1917 ــ 1920 وهي فترة بوادر الفاشيّة العالميّة ونشوء جمعيّة الإخوان المسلمين ومصر الفتاة ونظائرها في الهند وخلافها، ثمّ فترة ما بعد الحداثة المقترنة بنهاية الحرب الباردة والكتلة الاشتراكيّة والانقضاض على أفكار التنوير والحداثة والازدراء بها شرقاً وغرباً.

تحوّلات الحداثة والعلمنة

وفي هذا الاتصال تكمن أسلمة مجتمعاتنا، فإنّ هذا كان ولا يزال ديناميّة سياسيّة واجتماعية وثقافية ما كانت ممكنة لولا العلمنة التي سادت في مساراتها مجتمعاتنا بوتائر مختلفة وبسعة اجتماعية متفاوتة بين المناطق والفئات الاجتماعيّة، بيد أنّها كانت السمة الغالبة على الديناميّات الاجتماعيّة، رغم كل الخطابات السجاليّة ما بعد الحديثة أو الإسلامية التي لا ترى في تاريخنا الحديث إلّا سراباً.

أمّا الواقع، فهو يشي بأنّ العلمنة كانت أوّلاً ــ كالحداثة ــ عملية تحوّل اجتماعي موضوعية، وما كانت بالضرورة مقصودة بذاتها أو مستخدمة كمشروع إيديولوجي للهندسة الاجتماعية كما في فرنسا أو تركيا أو الدول الاشتراكية. كانت العلمانية عملية تحوّل موضوعية استعاضت عن الكتاتيب بالمدارس وعن دور الحديث بالجامعات وعن بيعة السلطان بالانتخاب أو الانقلاب. وعن قضاة الشرع بالقضاة المدنيين (حتى في مجال الأحوال الشخصية) وعن الشريعة بالقوانين المدنية، وعن جبل قاف بالجغرافيا، إلى آخر ذلك مما حصل كونيّاً. ترتّب على هذا تحوّل بالغ الأهمية في تنشئة المثقفين وتكوينهم وتوصيفهم: انتقال من رجال الدين والفقهاء، إلى القضاة والأساتذة والمحامين والمعلمين. كان هذا انتقالاً من وضع امتزجت فيه المفاهيم والمعايير الدينيّة، وسلك رجال الدين، مع نسيج الحياتين اليوميّة والعامة، إلى وضع تهمّش ثم تمايز فيه الدين فكراً وممارسة وسلوكاً عن مجاري الحياة الرئيسية. أي أن الدين ورجال الدين أخضعاها لعمليّة تهميش موضوعيّة.

إنّ هذا هو ما سمح للدين بأن يعرّف نفسه، أو بالأحرى أن يعيد تعريف نفسه فكراً وممارسة وقيَماً وسلوكاً، على أنّه وحدة متمايزة وظيفيّاً، وأن يغدو كياناً مستقلّا بذاته متمايزاً عن ديناميّات المجتمع والسلطة، مع إصراره على أنّه يمثّل حقيقتها المطموسة والمكبوتة. وكان أن سمح هذا الوضع للدين بأن يعيد تعريف نفسه على أنه برنامج اجتماعي وسياسي (دعونا لا ننسى أنّه لم تكن في التراث الديني الإسلامي سوابق لاستخدام القرآن مصدراً أساسياً يكاد يكون وحيداً لصياغة العقيدة السياسية، كما فعل سيّد قطب وكما فعل قبله بقرون عدّة بوسويه Bossuet في فرنسا في بناء عقيدة سياسيّة على الأناجيل). وقد أتاح هذا للدين أن يميّز نفسه على أنّه فاعل مستقلّ ابتدأ مع بدايات السلفيّة بالعمل على إصلاح فساد الإسلام المعاش، حتى الطور الذي نعاصره اليوم حين انتقل من محاولة الإصلاح إلى وصم المجتمع المحيط بالجاهلية وبالكفر والاحتياج إلى التقويم والضبط التأمين، ومن ذلك رعاية التديّن المتبجح، وعلامته الانتقال من الاحتشام في اللباس النسائي التقليدي إلى ما يدعى بالحجاب الشرعي أو بالامتناع عن المصافحة بين الجنسين ممّا يشي بنمط من التديّن يفصح عن الابتعاد عن التأنّس وعن حسن الأدب.

ولقد كان هذا انتقالاً للدين من الهامش إلى المركز. الدين على الصورة التي تمّ توصيفها قد أضحى ظاهرة هامشيّة في المجتمع، دون أن يعني ذلك علمنة تامّة للفرد المؤمن المستمرّ على إسلامه التقليديّ غير الإيديولوجي والذي نادراً ما كان متزمتاً أو معتدياً على جاره المخالف له. والذي نجح إلى حد كبير في حماية إيمانه من العلمانيّة الموضوعية وحماية حياته المعلمنة من الدين. أضحى الدين بعبارة أخرى ثقافة فرعيّة متمايزة عن ثقافة الدولة والمثقّفين في انتقاله من مداخلة المجتمع دون علامة فارقة إلى تمايزه عنه، ولو احتوت هذه على إحالات رمزيّة دينيّة لم تكن غالية على أي اتجاه من الاتجاهات، وكانت موضعيّة ومجهولة لهذه المناسبة أو تلك، مثل الخطب في مناسبة المولد النبوي ــ لدى ميشيل عفلق وقسطنطين زريق مثلاً.

بدأ الدين وأجهزته السلوكيّة والعقليّة والتنظيميّة بالانتقال من الهوامش إلى المركز في الخمسينيات والسيتنيات من القرن الماضي بمعيّة الحرب الباردة وكمكوّن ثقافيّ في تلك الحرب في مواجهة البعث والناصرية والشيوعيّة وبرعاية الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وتنامت هذه الهجمة بعد حرب 1967 في قران بين استمرار الخطاب ضدّ العلمانيّة التي قرنت بالشيوعيّة والماسونيّة والصهيونيّة، وتشجيع الحركات الأصوليّة (الإخوان في الأردن والسعودية وغيرها، وفي مصر بعد سنة 1973)، وتمدّد الجهاز الإعلامي والتربوي والدعوي والسلفي عالمياً ــ يضاف إلى هذا الأجهزة بعد ذلك التي رعتها ليبيا وإيران وغيرها بعد 1979. وتنامت هذه الديناميّة مع نهاية الحرب الباردة وبروز خطاب ساذج، طلسميّ الطابع، حول الديمقراطيّة استنفد الكثير من الطاقة الفكريّة التي كانت متّجهة نحو تطوير أفكار التقدّم، ممّا شكّل محطّة أساسيّة في استسلام الأنتلجنسيا العربية، كاستسلام الكثير من الدول العربية، إلى تيارات النكوص، استسلام مفهوميّ تكلّمنا عنه، واستسلام سياسيّ تال لهزيمة 1967 ونهاية الحرب الباردة.

وبذلك فقد شكّل الكثير من المثقفين العرب وفي أسماء وتيارات غالبة رديفاً من ردائف السياسات الإسلامية وأسلمة المجتمع في تواطؤ موضوعيّ مع السلفية وتحت مسمّيات كثيرة، ولعلّ أهمّها العزوف عن استخدام عبارة «العلمانية» وجلاً وتقية وفي أحايين كثيرة كضرب من الفهلوة السياسيّة وطموحاً الى الديماغوجية التي تفترض في الشعوب العربية جوهراً إسلاميّاً تعمل على مجاراته وتطمح إلى قيادته من الخلف، على اعتبار أنها مماشية للقدر. هذا موقف شعبوي بامتياز، إذ إن الشعوبيّة بمعناها التاريخي الفعلي هي تصوّرُ مثقفين للشعب على صورة معيّنة وبخصائص وسجايا أبدية معيّنة وتصوير الذات على صورة قائد هذا الشعب إلى تحقيق هويته وذاته وقدره مع نبذ للديناميّات الواقعيّة والعينيّة والفعلية للمجتمع وللتاريخ معاً. في هذا الانجراف نحو الخطاب الشعبوي ومستلزماته الإيديولوجية والمفهوميّة، وعلى رأسها مفهوم أعوج للتمثيل السياسي قائم على الافتراض ضرورة المطابقة بين المجتمع / الإسلام وبين السلطة وأشكالها ومقوّماتها وفي توكيد سياسة الهوية، انصراف عن النظر في أمر التقدّم إلى هاجس النرجسيّة التاريخيّة وكأنه وسواس قهري. وما من شأن ذلك إلّا الإمعان في المساهمة في النكوص الثقافي والعقليّ والقيَمي الذي نعيش، والذي يساهم مساهمة أساسيّة في رعاية الأصوليّة الجهادية: ذلك أنّ هذا الشكل من أشكال السلفيّة هو الشاغل الآنيّ بعد ضمور الحضور السياسي للقوى الإخوانية، وامتناع هذا وذاك أيضاً على أيّة محاولة جدّية للإصلاح الديني الإسلامي. والحال أن الإصلاح الإسلامي يبدو أنه استنفد قواه وَلاً في العقود الأخيرة، وما له أن يستعيدها إلّا إذا التزم بقيادة وإرشاد هذا النظام الدولاني أو ذاك، وإذا التزم هذا النظام، في المغرب أو في مصر مثلاً، بأداء الدعم السياسي واللوجستي الحاسم لهذا الاتجاه الإصلاحي، دون مواربة، وعلى الأرجح بالتعاون مع قوى إسلامية إصلاحية أوروبيّة وعالميّة، غير عربيّة.

العدد ١٤ - ربيع/صيف ٢٠١٦
أزمات العرب واستعماء العقل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.