العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

بحثاً عن بطل «مدن الملح»

في لقائي الأول به، وكان ذلك في باريس عام ١٩٨٥ على ما أذكر، اختلطت الأمور في رأسي. كان منيف قد أصدر الجزء الأول من خماسية «مدن الملح»، حيث سحرتني حكاية اختفاء متعب الهذال، بعدما تحولت «وادي العيون» حطاماً وتم تدميرها بشكل كامل. كنت على يقين بأن عبد الرحمن منيف بدأ رحلة البحث عن غرابة الواقع في زمن النفط والملح. أذكر أنّني لسبب أجهله أطلقت على عبدالرحمن اسم هادي، وأنا أسأله عن المصائر المختلفة لمتعب في الأجزاء الأربعة المنتظرة من روايته.
وعندما صحح لي اسمه، اعتذرت قائلاً إنني لسبب أجهله، أطلقت عليه اسم هادي العلوي. ورويت له عن إعجابي بهذا العراقي المتقشف الذي فتح للغة العربية آفاقاً كبرى، وخرج عبر كتابيه عن التعذيب والسجون في الاسلام، عن الترسيمة الثابتة، التي صنعها الفكر القومي، عبر تقديسه للماضي العربي، والعمل على «بعثه» من جديد.
لا أذكر ماذا حكى منيف عن هادي العلوي، لكن ذلك اللقاء الباريسي القصير مع مؤلف «الأشجار واغتيال مرزوق»، كان فاتحة صداقة مديدة، جعلتني أكتشف هذا الإنسان النبيل والمتقشف والمتواضع.
كنت على يقين بأن طيف متعب أو شبحه سوف يحتلّ مساحة الخماسية، وأن هذا البدوي الذي يعيش في ظلال النخيل في واحة «وادي العيون»، التي تفيض ماء، والذي امتطى ناقته واختفى في الصحراء، سوف يعود من جديد ليبني قريته على أنقاض مدن الملح التي أنشأها النفط.
لم أقل لعبد الرحمن إن مهمته سوف تكون صعبة، كنت أشعر بتهيّب التلميذ أمام أستاذه، لكنني في قرارة نفسي خفت على الكاتب، لأنّ استعادة متعب من شبحه سوف تكون مهمة شبه مستحيلة.
لكن متعب الهذال اختفى. اكتفى البطل من الرواية بجزئها الأول ولم يعد. بينما ذهب الروائي في الأجزاء الأربعة التالية من روايته الى استكشاف تاريخ نجد والحجاز من خلال التأريخ للعائلة السعودية التي أعطت صحراء العرب اسمها.
رواية «مدن الملح»، هي الوثيقة الأدبية الأولى والوحيدة عن حكاية العلاقة بين البداوة والنفط، وعن سرطان القهر الذي سيتوالد في المشرق من خلال زواج النفط بالسياسات العربية، في «الحقبة السعودية»، بحسب تعبير صادق جلال العظم، التي بدأت بعد حرب تشرين ١٩٧٣، ولا تزال مستمرة الى يومنا هذا.
في هذه الرواية الفريدة نعثر على أول الكلام عن تلك البلاد، وهي تعيش الانتقال من بداوة العلاقة الحميمة بالمكان، الى بداوة تقتل المكان وتعيد رسمه على شكل مدن من القهر والسبات النفطي.
ولأن منيف عثر على أول الكلام، فإنه استطاع أن يبلور أفقاً روائياً يمزج الواقعية بالتراجيديا، قبل أن يقوم بتفكيك البنيان السلطوي، الذي تحوّل مع النفط، الى أداة قهر وتبعية مطلقتين.
من هو متعب هذا؟
متعب ليس مثقفاً كي ينقل لنا الخيبة التي صنعتها الرواية العربية المعاصرة، من خلال شخصيات أبطالها من المثقفين المحبطين.
إنه رجل عادي، يعيش في قريته المظللة بالنخيل، والتي تخترقها مأساة الهجرات المتتالية لشبابها الباحثين عن مستقبلهم خارج دائرة الفقر، وانتظار القوافل التي تقف في الوادي قبل أن تتابع سيرها.
ولأن متعب ليس مثقفاً فإنه ينتقل بنا من البطل الخائب الى بطل تراجيدي غير مكتمل الملامح. هذا التحول الى التراجيدي هو من سمات أدب المراحل الانتقالية، فالانتقال من زمن الى زمن، ومن قيَم قديمة الى قيم جديدة، هو الذي يصنع المأساة، ليس بمعناها الإغريقي القديم، الذي يتجسد في الصراع مع القدر، ولكن بمعناها الحديث بصفتها صراعاً في التاريخ وعليه، أي مع عوامل نستطيع اكتشاف أسبابها المادية والاجتماعية، ولكنها قد تتخذ شكل القدر الذي لا يردّ.
هذا هو العنصر الأساسي الذي بدأت ملامحه تتشكل في أدب مقاومة الكولونيالية، ولكنه اتخذ سماته في ما يعرف باسم الأدب ما بعد الكولونيالي.
النيجيري غينيوا اتشيبي في روايته «الأشياء تتداعى» يشكّل أحد علامات هذا البطل التراجيدي: عالم قديم يتداعى ودين قبلي يتلاشى أمام الغزاة الذين جاءوا بالوصايا العشر، وأب يقتل الطفل الرهينة الذي صار بمثابة ابنه، ثم ينتحر. هذا العالم القدري اليوناني سرعان ما سوف يتلاشى في أدب ما بعد الكولونيالية، لمصلحة مجموعة من العوامل، أهمها الصراع الثقافي الذي يشقق العالم الثقافي للبلاد المستعمرة أو الخارجة حديثاً من الاستعمار. بطل الطيب صالح في «موسم الهجرة الى الشمال»، هو نموذج هذا التشقق الذي يصل الى حافة الميلودراما من دون السقوط فيها، لكنه لا يستطيع بناء عالم تراجيدي، لأنه بقي أسير ترسيمة البطل المثقف الخائب. عبقرية هذه الرواية تكمن في قدرتها على اختراع الالتباس، بحيث يمحي الفرق بين مصطفى سعيد وراوي حكايته، ويصبح سؤال الكتابة ومن يكتب وثنائية الراوي البطل هو سؤال الرواية الكبير. (وهذه مسألة سوف تتوالى أصداؤها وأشكالها في أعمال العديد من الروائيين كأنطون شماس وأورهان باموق وإميل حبيبي... إلى أن تصل إلى المثنى كبنية متكاملة، لكن هذه مسألة تحتاج إلى بحث خاص).
عبدالرحمن منيف بعد تجربتيه الكبريين مع ترسيمة البطل المثقف/الخائب، في «الأشجار واغتيال مرزوق» و«شرق المتوسط»، يتخلى عن هذا المقترب، ويذهب في رحلة لم يسبقه اليها أحد، فيولد بين يديه بطل مأسوي، في الرواية ما بعد الكولونيالية، لكنه بطل ناقص، أي أن مأسويته تتلاشى في ضباب الأفق الذي يبتلعه.
بدل أن يذهب البطل إلى الغرب كي يطرح أسئلة هويته كطالب ومنتقم، فإن الغرب يأتي إليه ولكن ليس بالشكل الكولونيالي القديم، أي كقوة احتلال، ولكن على شكل شركات نفطية وآلات حفر وتدمير يستخدمها رجال «أجسامهم تشبه الخراف المذبوحة، وعيونهم زرق». (المسافة بين هذا الشكل ما بعد الكولونيالي وبين الاحتلال المباشر قد تضيق في بعض الأحيان بحيث تنعدم، مثلما حدث مرات عديدة من استعادة الحرم المكي من المهدي المنتظر عام ١٩٧٩، الى «عاصفة الصحراء»، إلى القواعد العسكرية الأميركية والأوروبية في بلدان الخليج اليوم)... لا تحفر هذه الآلات الأرض فقط، بل تحفر الوعي أيضاً، وتدمّر علاقة الإنسان بالقيم الاجتماعية والأخلاقية. لكن مأزق متعب لا يكمن هنا، بل يكمن في انسداد أفق القيم بشكل شامل. فآلات الحفر لم تأتِ بقيم رأسمالية جديدة، بل أتت بنظام اقتصادي ريعي قائم على الزبائنية، قام بترسيخ منظومة القيم القديمة عبر تحويلها الى فولكور للاستبداد الوهابي والنظام الملكي.
لم يجد متعب ملجأ وسط بلبلة القيم التي نجمت عن تدمير «وادي العيون». انهار عالمه القديم من دون بدائل، وجاء العالم الجديد ليدعم الاستبداد، ويحيل منظومة «الحرية» النسبية التي كان يتمتع بها أهل الوادي إلى حطام.
مجزرة الأشجار سوف تترك متعب صامتاً وباكياً، الأشجار صرخت أمّا متعب فبكى بصمت:
«كانت الأشجار وهي تميل وتترنح، قبل أن تسقط، تصرخ، تستغيث، تولول، تجنّ، تنادي نداء أخيراً موجعاً، حتى إذا اقتربت من الأرض هوَت بتضرع، وكأنها تحتجّ أو تريد الالتحام بالتراب من جديد، في محاولة لأن تنبثق، لأن تنفجر مرة أخرى».
ومتعب يقف صامتاً: «قالوا إنهم لأول مرة في حياتهم يشهدون رجلاً مثل متعب الهذال يبكي. كانت دموعه تتساقط بغزارة، لكن وبصمت أيضاً».
ماتت أم الخيش في انتظار ابنها، ونجمة المثقال أعلنت نبوءتها: «من وادي الجناح حتى الضالع، ومن السارحة حتى المطالق، النار تلتهم النار، والصغير يموت قبل الكبير، أولها عدّ وآخرها مدّ، الولد لا يعرف أباه والأخ لا يعرف أخاه». أما متعب الهذال فيمتطي ناقته التي ارتفعت به إلى الأعلى: «وبدا متعب الهذال وهو يرتفع مثل خيمة كبيرة، ثم بدا مثل غيمة، أما حين بدأت حركته السريعة فقد أصبح مثل طير أبيض... وبدأ يبتعد ويبتعد حتى تلاشى... واختفى»!
اختفى متعب، وصارت ظهوراته تأتي وسط خراب الروح، الكل كان في انتظار عودته، لكنه لن يعود. صار أشبه بصوت نبوي يعبر فوق السيول، ويمتد على مساحة الصحراء، كأنه ضمير أخير، أو صرخة استغاثة لا تغيث منتظريها.
في أحد ظهوراته سوف يصرخ: «لا تخافوا... لا تخافوا من اللي تشوفوه هالحين... الخوف من الجايات».
يختفي متعب لكنه يبقى كطيف يظلل الحكاية بأسرها، يقال إنه ظهر مع هاجم وخاله اللذين يريدان الثأر لموت مزيان، ويروى أنه ظهر خلال إضراب العمال، ثم يتقمص في فواز الهذال وشقيقه مقبل الذي قال الناس «إنهم رأوهما يطيران فوق الرؤوس»...
كل هذه الحكايات تأتي لتصبّ في حكاية الاختفاء الأسطورية التي جعلت من متعب طيفاً يحوّم فوق خرائب الروح.
هل كان متعب بطلاً رومانسياً لا حول له، هل هو مجرد رافض للحداثة التي أتى بها النفط؟ لو كان الأمر كذلك لما بقي متعب في إطاره الرومانسي، بل لتحوّل إلى بطل تراجيدي يقيم على حافة الانتقال من قيَم البداوة الى القيم الرأسمالية الحديثة.
غير أن مشكلة هذا البطل هي أن النفط لم يأتِ بقيم اجتماعية وسياسية وأخلاقية جديدة، بل أتى ليرسّخ القيم التقليدية من جهة، ويدمّر احتمالات ولادة القيم الحديثة، من جهة ثانية.
من هنا يأتي مأزق متعب، فهو بطل تراجيدي ناقص، يدافع عن قيم لم يندثر منها سوى معناها الأخلاقي الإنساني العميق، لكنها بقيت وصار النفط عنصر لحمة الاستبداد بالوهابية الدينية من جديد، وأداة تدمير القيم الجديدة في المشرق العربي أي قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية.
ورثةُ متعب على الحلبة التاريخية قليلون، جهمان العتيبي الذي احتل الحرم المكي في 20 تشرين الثاني عام ١٩٧٩ معلناً ظهور المهدي المنتظر بشخص محمد عبدالله القحطاني ليس وريثاً، لأنه وجميع من جاء بعده من «مجاهدي» السلفية الجهادية كانوا وسيبقون جزءاً من ترسيمة الاستبداد، التي أطاحت القيم الأخلاقية لتستبدل بها همجية لا أخلاق لها تستند إلى تفسير مقفل للدين.
اختفى متعب ولم تكتمل فيه البنية التراجيدية لأنه واجه عالماً جديداً بلا قيم جديدة، هذه هي حكاية علاقة العرب بالنفط، إنها حكاية الفراغ الروحي الذي تزيده السلفية فراغاً على فراغ.
لا أدري لماذا تتناسى الثقافة العربية شخصية تشبه في مأسويتها الناقصة شخصية متعب. فناصر السعيد، المعارض السعودي، خُطف في بيروت في ١٨ كانون الأول ١٩٧٩، على يد ضابط فلسطيني تدور حوله الشبهات، وسُلّم الى السلطات السعودية التي قامت بإعدامه عبر رميه حياً من الطائرة في صحراء الربع الخالي.
أذكر أنني التقيت بهادي العلوي في بيروت بعد خطف صديقه ناصر السعيد، كان هادي حزيناً ومحبطاً ولا يجد الكلمات، روى عن خطف ناصر السعيد، وقال لي كلاماً قاسياً عن الخاطف النذل الذي يسيء الى الثورة الفلسطينية ويخونها، ثم دخل في صمت يشبه صمت الدموع لدى متعب الهذال.
أريد في النهاية أن أقول لصديقي عبدالرحمن منيف إنني لم أكتب هذا المقال كي أعتذر منه لأنني أطلقت عليه اسم هادي العلوي في لقائنا الباريسي الأول، بل كي أروي له كيف تترابط حكايات مآسي العرب الناقصة، وكيف أننا لا نزال في انتظار أن ينهض ورثة متعب الفقراء من تحت الركام كي يصنعوا للعرب تاريخهم الجديد.

العدد العاشر - شتاء ٢٠١٥

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.