تصفن جاهدة وهبي أمام الحب، ثم لا تلبث أن تعالج غياب الحب بالأحابيل. فات الأسلاف المحبّون في الصباحات والمساءات الكثيرة الماضية. كلما بزغت شموسهم، ساد المطربة الظلام. لا توشك جاهدة وهبي على أمر، حتى تهدهد الأمر بالتعثر، ما يعيد المحاولة والأخرى إلى المربع الأول. لا شيء سوى صلوات الخوف. لا تنفكّ الأخيرة تتكرر، بتأثرات ثقافية واضحة، غير أنها لا تقوم على أنظمة موسيقية. لأن «شهد» جاهدة وهبي مبني على منطقة صوت المغنية. تخضع المغنية من جراء ذلك الأغاني في الشريط الممغنط الجديد «شهد»، إلى أداء، يقوم على لعبة تنتظم حضوراً من كثرة الشغل عليها. التمويج الصوتي على جاذبية الأصوات الموسيقية. تمويج أشبه بوتر مهتزّ، يكشف التفاوت في فهم المقادير الوازنة، بين الأداء بالتمويج، وبين اختلاف سرعة العزف.
هنا، تطرح الإشكالية الأولى في «شهد»، حيث تبدو المحاولة، عودة إلى مرحلة ما قبل الريادات الأولى. الرحابنة، بطليعة هؤلاء، حين حرروا الموسيقى من المرافقة الغثة لمحاكاة المغني. ترافق الموسيقى صوت المغنية، إذ تظهر على وشك، دائماً على وشك، لأنها تبقى على وشك باستمرار. لا تخرج على الوشك هذه، وهي تضرب على الأسلوب ذاته. استعارة الأشكال التقليدية، في مناورات، تحيلها إلى انفجارات مترمّدة. كأنها في ما تفعله، تعيد اكتشاف الموسيقى بالصوت، في دور شيخ الطائفة. المرهب، أن دور الموسيقى التوزيعي لا يثري الحضور الموسيقي بقدر ما يُقنِّع حضور الصوت بالموسيقى. لأن لا أغنية، دوماً، حين تميل المحاولات إلى التلاوة والإنشاد والتوشيح، كالصهبجية في عصر محمد علي. طبقة من عامة الشعب، تغني الموشحات بأسلوب الإنشاد في المقاهي.
لا يخفى جذر المحاولات، الديني، في الشريط. التراتيل الكنسية، ونبرات من الغناء الصوفي وتلاوة الأشعار على الخلفية الموسيقية. ثمة شغف بمسرحة أداء الأغنية. مرجع ذلك تجربة جاهدة وهبي مع نضال الأشقر في أمسيات التلاوة الشعرية على خلفيات موسيقية حية. هنا، تتحرر وهبي من سطوة نضال الأشقر وحضورها، لتقدم علامات الشيء «الجديد» باعتبارها شيخ الطائفة البديل، لا شيخ الطائفة الأصيل. تثبيت المقادير الصوتية بالأداء الأسلوبي هذا يحدد النمط على الدرجات المقامية. التثبيت يقود الأغنيات إلى التشابه، سواء جاءت الأغنية على القصيدة بالفصحى أو بالعامية. لا فرق بين الأذكار في أغنية والابتهال في أغنية أخرى، لأن النتائج، نتائج الأثر المؤدي إلى الأثر الراهن. لن يرد جاهدة وهبي شيء عن تلبيس قصيدة أنسي الحاج «يا ليل يا ليل» بناء ترتيلة، بشكل الترتيلة الصافي، بدون تطوير، لأن الكنسيات لا تتطور على الصعيد البنائي حين تتجدد بالصوت المدوزن على درجة ارتكاز الصوت.
أنسي الحاج مُرَتَلاً
تكشط جاهدة وهبي الحداثة عن قصيدة أنسي الحاج، بتنظيمها على الشكل الموسيقي الأقدم. هنا، يضحي القديم بشكله المتداول الأسهل والنص الجديد في فصل واحد، فقط لأن القصيدة تنتهي بالكلام على الميلاد «أحرس نجوم عينيها، فتحتها الميلاد». هذا دأب وهبي، ترجمة أجزاء القصائد المختارة من شعراء، لا نقاش حول أشكال قصائدهم الثابتة ولا اعتراض. لمحة من لمحات، تؤدي الغاية والغرض من ترنيم القصائد. لا تعديل للأنظمة اللحنية بغياب الأنظمة هذه، حتى أن ثمّة غياب الدرجات المقامية. يُغيَّبُ بالخفر والإخفاء والأغواء. يتكرر حضور الأخير، بحيث يقرب من الاستعراض والتفاخر (أهبط فيَّ/ أنهد فيك/ نرتقي سلم الغواية/ غب فيَّ/ لي فيك أكثر من ذروة/ خذني/ جسدي طين حب/ وأسلمت نفسي إليك؛ من «لك عطر» لأدونيس). تكرار شخصي لا يعمم الرغائب في طريق الحلم. ثم إن القصيدة هذه، لا تطرح ما يقلّد أو ما يشيع لأنها لا تمتلك من المواصفات السلوكية والخلقية، سوى ما يطرح الأسئلة حول الإتقان لا الثراء النوعي، بعد التضمين القائم على البحث عن الضالة عبر الأدوار الكمية. ذلك أن الأعمال هنا تنفرط بين أعمال صوت وأعمال موسيقى، ما يؤكد الترف في الوظيفة لا الوظيفة ذاتها، فيما لا يجاوز الحدود أو يتجاوزها. لا إبداع متجدداً ولا إدهاش، بما يغري باستعادة القديم في ثوب جديد أو بابتكار لا يقلد الآخرين؛ ذلك أن لا ثقافة هنا، إلا ثقافة إختزان العاطفة والإنفعال، بما لا يخلق لذة ولا متعة ولا بما لا يدفع إلى التحريض على شيء.
هذه أغنية نموذجية. نموذج الإنقطاع بين الموسيقى والنص، بين الموسيقى والصوت. الصوت هنا والموسيقى هناك. الموسيقى هنا والصوت هناك. لا تجديدات ولا حوافز تدعو إلى التجديد. صوت الأكورديون مثلاً يغري الصوت ببناء الجسر بينه وبين الميلوديات، بيد أنه لا ينجح. الصوت ثم الآلة، الآلة ثم الصوت. غرابة واقع لا يغنيها الخيال مع تكرار اللعبة هذه مع الآلات الأخرى. إذ بعد الأكورديون يأتي القانون باللعبة ذاتها، قبل أن يطغى المظهر الفردي للصوت على المجال الموسيقي الواحد حين يترك القانون الصوت للرق. هنا، يقترب الإبداع الأصيل، المتوهم، من تقويم الموقف على الروح الصوفية أو التعامل الدرويشي (درويش، لا محمود درويش). تقويم بلا خلفيات ثقافية أو اجتماعية أو حقوقية توصل إلى الصوفية من خلال التعامل مع طبائعها. لا دقّة هنا ولا رقّة ولو لم تغب الأناقة، لأن الصوفية لا في ما تراه العين أو تتفوه به الشفتان أو تسمعه الأذن، بل في كرم الحضور بالمعنى وتراث الكرم هذا.
بين الضيافة والشراكة
لا شراكة بين الصوت والموسيقى. بالعكس، الضيافة هي السائدة. ضيافة الصوت للموسيقى وضيافة الموسيقى للصوت. لا وصال بينهما على ما تطلب النصوص من وصال. فيض النفس والمشاعر يدّخر معناه في هذه الثنائية المدمرة الجسور والمفترضة بين العنصرين الهامين. المحافظة على التركيبة الواحدة واضحة (أكابيلا غالباً) لا من إدراج حضور الآلات إياها بالكتابة الموسيقية، بل من دوران الصوت على الموسيقى ودوران الموسيقى على الصوت. تُقنّع جاهدة وهبي ذلك في أغنيات وتشهره في أغنيات أخرى (نص الشاعرة الإيرانية فروغ زاد «وصال»، كمثال) حيث تسهل المغنية حضورالقصيدة بالصوت على خلفية موسيقية مدبرة. أمر يشبه العملية الموسيقية المخفضة الوترين الأخيرين بالعود درجة كاملة بحجة تسهيل العزف، ما قاد إلى تسهيل قتل صوت الآلة الأكثر مقدرة على التعبير بأحاسيس لا حصر لها. يطوف الجزر وبيده الصنج يتلو على صوته الأشعار والمعلقات أو يلويها على صوت الصنج، مع الفروق الكبرى بين ميمون بن قيس وبين ما يحتويه «شهد» من تلاوات وقراءات إيقاعية أو قراءات موقّعة على هذه الآلة أو تلك.
لا تضع جاهدة وهبي نفسها في مصاف الملحنين والملحنات إلا في مكان قصيّ على غلاف الشريط، في كعب الصفحة الأخيرة وبخط صغير نقرأ «ألحان وإنتاج جاهدة وهبي». فهي أدرى بحدود المحاولة حتى على مستوى الدور التوزيعي غير الفاعل دائماً. الأمثلة كثيرة على ذلك، أحدها في «النوم يداعب عيون حبيبي» حين يخرج الأكورديون قبل «نم يا حبيبي» في جملة اعتراض لا مبرر لها، قبل أن يسلم القانون المهمة في لعبة بدل لا مبرر لها. الأغنية هذه واحدة من المآزق في «شهد» لأنها تتجرأ على منجز الثلاثي أحمد رامي ورياض السنباطي وأم كلثوم. هذا اختبار مجنون للخطو على هرم بأقدام عارية وسط سعير شمس أفريقية. كل من يؤدي الأغنية بعد أدائها بصوت «السيدة» يصل إلى شحوب الأداء، لأنه يضع المحاولات على خيطان القمصان القديمة. سادرة، يوقظها الصوت بحيث ينتبه من يمتلك الأسباب إلى اللعبة الخطيرة القائمة على تعبئة الأغنية بقياسات الصوت على قياسات الأغنية، لا على تهيئة عرس الأغنية باختلاج الصوت على النغمات. نوستالجيا أو فانتازيا: الأولى من المحاولات الأولى مع سمر كموج وغيرها في فرقة تراث عربي، والثانية من لعب البهلوان على حبال أغنية مكرسة، منذ أدّيتْ للمرة الأولى عام ١٩٣٨.
أراجيح للكبار، وهو العنوان الآخر للشريط الممغنط، لا يترك شيئاً لا من الدهشة ولا من الآثار بعد صمت من تقطع الأوصال. عشرون يوماً من السماع لم تترك بقعة ماء في مجرة السماع. ذلك أنه ما أن تنتهي الأغنية حتى تنتهي. لا يربط الأمر بصعوبة الكتابة على نقاط البداية والنهاية في هذه الأغنية أو تلك، بل يربط بتوتر الأغنية نفسها من نفسها، وتوتيرها سامعها من تأويلاتها المسبقة وهي تمضي خلف غبطة العثور على أول الأغنية في نهاية القصيدة وأول القصيدة في نهاية الأغنية، إذ إن الأغنية تؤلف على أكثر من منزل، بدون القدرة على جمع المنزل بالمنزل بسبب سيادة التوتر القائم بين الصوت والمعنى. الحب هو الفرح، الاشتهاء، الوصال، والرغبات بكل حي متناسق بالإنسان. هنا يسمع اللحن، وتتابع الأغنية كما تتابع نقطة ماء، ويتكرر سقوطها في تشابه عظيم. إنها المونوتونية من جهة، ومغادرة المقالة في الأغنية حيث تبدو الأغنية نواحة بدون تبرير أو تعزيز نظرية خاصة بذلك. هناك اهتمام بالمطالع الموسيقية ثم تشابهات مكشوفة بلا مباحث ولا دراسات. تزول الأغنية وتتلاشى بعد سماعها، ذلك أن السيمياء بدون دلالة هي هوّة تسطيح الفكرة وتقود الفكرة إلى الهوة. لا كائن لكن فقط أجزاء، ولا عضوية سوى على الصعيد التخييلي. كسر التجزيء التناسق والهارمونيا، والروح المبدع بالصوت الأسود. الصوت أبيض في « شهد» لأنه يخصب تربة الأغنية بالدوران والمناورة لا على التماس بالفنون.
بين درويش وحيدر
مديح الكآبة بالصوت بعيداً من المفردات، واستحالة التطابق بين العناصر هي من التمثل المبالغ به بالمسرحة. وجدت جاهدة وهبي السمة السحرية للجزء المختار من قصيدة محمود درويش «يطير الحمام» لا بالقصيدة، بل بإضافة صوت الشاعر في النهاية. رأت آية الأغنية بالأفق هذا، في حين بدا صوت الشاعر كقميص المجانين على القصيدة وهو يتردد مجروحاً في النهاية كقيمة مطلقة. لم يحل الصوت على ما سبقه، إذ انتثرت القصيدة فيه بدل أن ينتثر بها. عطالة روحية هو تلخيص للغاية الذاتية من «شهد». صوت محمود درويش حوَّل الغناء إلى زينة، لا إلى وظيفة أو أداة استثمار وظيفي بالقصيدة.
قصيدة طلال حيدر تلوح بحضور القصيدة، وتبلغ منتهاها ببداياتها. ليس من المفيد هنا الإشارة إلى المفردات المتكررة في قصائده (النوم، العرب، بنات الجزيرة، الغزلان، نجمة الصبح، قرص العسل...) لأن القصيدة ليست أفضل قصائده. هي قصيدة غناء جاهز، لا تمتلك المعادلات الثنائية القائدة إلى ألعاب الجناس والطباق، لا بين المفردات، أو بين المفردات والمقامات. قصيدة سردية بمقام واحد، سهل، خفيف ومنذور للبدائه التقليدية (طلّوا بنات الجزيرة/ متل النخل ...بس يعلى/ جايي معهن الهلال / قاطع هالسما كلا...). نسبة الكتابة إلى النفس القديمة لا النفس الجديدة، والمقايسة ليست في صالحها على صنائع طلال حيدر القديمة والثمينة.
لا نستطيع افتراض وجود قوانين فنية بشهد جاهدة وهبي. تلحّن بعض المقاطع ولا تلحن مقاطع أخرى. الموسيقى لا تخضع لشروط المطابخ حتى تفوح من أجزائها مطالع الصياغات. ثم إن الملحن هنا أشبه بالإفادة الممنوحة من الآخرين. لا عمليات توصل ولا عمليات تواصل. ذلك أن كل ما في المنتج الجديد يشغِّل الغناء ويوقفه بهدف ربطه بالدراما. تصوغ المأساة الأغنية بعيداً من مبالغ الجمال بالأغنية ذات الطابع الشرقي المطرب. لا مرح البتة. لا من غياب تام له من حتمية البناء المتكرر المفروضة على الخيارات الشعرية ذات النوعيات الإسمية. هذه نقطة للنقاش إذا اعتبرنا خيارات وهبي على هذا الصعيد خيارات انتهازية. خيارات تدفع إلى تقاسم مسؤوليات الفشل بين اسم الشاعر المكرس وبين من اختار القصائد وغنّاها، أو تضاعف نجاح من اختارها لأنه اختارها قبل النجاح. إنها «أغنية» تواجه التناقض في تأثيرها على السامع بين أن تضحي وسيلة مساعدة على التحليل والتفكير والاستنتاج الفني، ضمن إطار فكري عام لا يتداول هنا، وبين أن تقوم على مفاهيم الترف والبهرجة، التي تنتزع المستمع من الإطار الفكري هذا. أضف إلى ذلك عمليات خاطئة وغير مجدية من الارتجالات الكثيرة بالأغنيات. الارتجال منهج يحتذى. الارتجال بنت بياعة للورد الاصطناعي هنا. لا إغناء للمضامين لأنّ لا هدف سوى عدم وقف الغناء، بكافة الطرق. لا نظرية متكاملة، لا نظرية بالأحرى.
المرعب أنّ جاهدة وهبي تقرأ أغنية واحدة منذ سنوات. ربط أغانيها بالقرص الجديد ببعض الأغاني القديمة يصوّر أغانيها الجديدة خاوية معلّقة بالفراغ. ذلك أن الأغنية على مقربة من الأغنية الأخرى على الدوام بحجة التعبير والمستوى التعبيري بدون إدراك للأفضليات. هكذا قيض لي، بالصدفة، أن أسمع أغنية لحنتها جاهدة وهبي عن نص لزاهي وهبي خلال عدوان العام ٢٠٠٨ على غزة. أذاعتها قناة الميادين على صور من دراما الموت بالقفص الغزاوي. أكثر الأغاني الجديدة أخوات للأغنية المنتجة بالعام ٢٠٠٨. ست سنوات لم تحرض المطربة والملحنة على تحسس أوعيتها اللحنية والبحث بالأشكال الموسيقية. ذلك أن القالب بات جاهزاً، ولا يكسر قالب في هذا الشرق الحزين. تصبّ النصوص بالقوالب بدون وعي لأبعاد العلاقة بين النص الأدبي والموسيقى. كل صبّة بتمثال. لن تتحقق الشروط الأفضل للتجربة من جراء ذلك. أغنية أرض محددة ونفس محدود لا تتطلب لغة مبتكرة. لغة لم يعد مقبولاً أن تبقى ساكنة أو تقريرية. اللغة أبعد عن موقف من عالم الغناء يرفدها بالامتلاء الروحي والحداثة. اغتناء الذاكرة يغيب ما يعزز حضور الطريقة الشخصية الحاسمة. هي أشبه بنشاط ثقافي من دون أسس، لأن الشغل بقي في حقل مزروع بالمادة الواحدة. مادة غنية بالشعر غير أنها مبعثرة أو متكررة بالموسيقى. إنها الأكابيلا بامتداداتها الصوتية وبغير محلها من عدم شعور الملحن بتتابع المعنى وروحية اللفظ. شغل على أكمام الساحر، لا السحر.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.