هذه ليست دراسة عن «مدن الملح». إنها مطلع مشروع بحثي مستوحى من مبادرة عبد الرحمن منيف في روايته الملحمية التي استحضرت دور النفط في حياة العرب وتحولاتهم وموقع النفط من السلطة والثروة في التاريخ المعاصر لبلد نفطي واحد هو العربية السعودية. ألهمتني مبادرة عبد الرحمن مشروعاً بحثياً لم يستكمل عن موقع وأدوار النفط في المخيال العربي. أدوّن هنا مطلع البحث الذي يتعلّق بتعريفات النفط ودلالاته ومبادلاته بعدد من السوائل. وللسوائل دوماً دلالات رمزية بل سحرية أحياناً كما لا يخفى.
النفط هو السمة الرئيسية للمنطقة العربية حتى لا نقول إنه بات أحد مكوّنات الهوية العربية. منذ عقود ذكّرنا الاقتصادي شارل عيساوي بهذه المعادلة: «حيث يوجد عرب، يوجد نفط». كان عيساوي يتشبّه بمعادلة أوروبية تقول «حيث لا مال، لا سويسريون». لكن عيساوي أغفل ما بين المعادلتين من وشائج: حيث يوجد عرب، يوجد نفط، ويوجد مال». حتى لا نقول إن قسماً كبيراً من ذاك المال موجود لدى سويسريين.
الماء والنفط
لعل أول قرين للنفط وبديل له كان الماء. والنفط هو الصحراء والصحراء عطش دائم إلى الماء.
عندما جاء الميجور فرانك هولمز، المكنّى «أبو نفط»، إلى البحرين لتأسيس شركة تنقيب عن النفط، فوجئ بأنّ شيخ البحرين حينها، الشيخ عيسى بن علي بن خليفة، لم يُبدِ أي اهتمام بالنفط. كان همّه الطاغي هو التنقيب عن مصادر مياه الشفة. بدأ هولمز التنقيب عن الماء، وعثر على الماء. في مقابل ذلك منحه الحاكم امتياز تنقيب عن النفط العام ١٩٢٥. نقّب عن النفط، واستخرج النفط وحقق أرباحاً طائلة لشركته1. وهكذا بدأت قصة النفط في البحرين.
تكرر جدل الماء والنفط ذاته في العربية السعودية. كان عبد العزيز آل سعود يبحث عمن ينقْب له عن الماء عندما حاول المستعرب البريطاني عبدالله فيلبي إقناعه بمنحه امتياز تنقيب عن النفط. كان عبد العزيز يبحث عن مليون جنيه إسترليني لمصروف أسرته والمملكة. قال له فيلبي: لا سبيل لك إلى المليون إلا النفط. لكن الملك كان أكثر اهتماماً بالماء مما هو بالنفط. جاء بمن ينقّب له عن الماء. ولم يمنح الملك السعودي امتيازات تنقيب عن النفط إلا بعدما فشل التنقيب عن الماء.
ما إن عثر الملك السعودي على النفط، حتى حرص على أن يبادل النفط بالماء. في العام ١٩٢١ كانت شركة «ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا ـ SOCAN سوكان» بين الشركات الأميركية الساعية وراء موارد نفطية عبر البحار. وكانت قد اكتشفت النفط في البحرين في أيار/مايو ١٩٣٢ عن طريق فرعها «بحرين بتروليوم كومپاني- بابكو BAPCO». في ٢٩ أيار/مايو ١٩٣٣، منحت الحكومة السعودية لشركة سوكال امتياز التنقيب عن النفط في أراضيها وحرمت منه «شركة نفط العراق ـ الآي.پي.سي IPC» البريطانية. تنازلت «سوكال SOCAL» عن الامتياز الى شركة تابعة هي «كاسوك CASOC». وفي العام ١٩٣٦ عندما فشلت الشركة في اكتشاف النفط، اشترت شركة «تكساس أويل كومپاني ـ تكساكو TEXACO» ٥٠٪ من الامتياز. من هنا بدأت قصة النفط السعودي.
لن نسرد القصة. ما يهمنا منها أن شركة النفط «كاسوك» كانت أول شركة عنيت بتوفير المياه للمدن السعودية وتوزيعها مجاناً على رعايا المملكة. وكانت باخرة خديوية مصرية تجلب مياه النيل أسبوعياً للجالية الأجنبية في جدة.
النفط ـ البَول
تطوعتْ الطبيبة الفرنسية كلودي فايان للعمل في اليمن بناء على دعوة من الإمام. أغرمت ببلاد بلقيس وأروى وكتبت عنها عدة مؤلفات أولها الكتاب الذي ترجم الى العربية بعنوان «كنت طبيبة في اليمن» العام ١٩٥٧. ولها كتاب رائد عن حياة نساء اليمن صدر العام ١٩٩٠. تروي فايان في محاضرة لها عن يمن الخمسينيات قولة تستحق الذكر أدلى بها القاضي عبدالله الحجري عن النفط في بلد محروم من النفط في منطقة تعوم على النفط. قال لها «النفط بَول الشيطان»2.
جدير بالذكر أن القاضي الحجري هذا تحوّل بعد قيام الجمهورية العام ١٩٦٢ إلى أحد رجالات العربية السعودية في اليمن. وسوف يتبوأ منصب رئيس الحكومة في عهد القاضي الأرياني خلال الأعوام ١٩٧٢-١٩٧٤ وعرف بتشدده في تمثيل الردة الرجعية الملكية ضد الجمهورية اليمنية، وبانحيازه الكامل للعربية السعودية. وقد ذاق الحجري من بول الشيطان بجرعات كبيرة. وكان الانقلاب الذي نظمه المقدم ابراهيم الحمدي في ما عرف بحركة ١٣ يونيو ١٩٧٧ ردّ فعل على سياسات الأرياني والحجري المعادية للجمهورية والموالية للعربية السعودية. واغتيل الحجري وزوجته وأحد مرافقيه في لندن العام ١٩٧٧.
مهما يكن من أمر، يفتتح القاضي الحجري ما سوف يصير تقليداً في التخييل العربي عن النفط: لعنة النفط أو النفط - اللعنة. للمؤرخ اللبناني يوسف ابراهيم يزبك كتاب مبكر في تلك اللعنة بعنوان «النفط مستعبد الشعوب». وهاكم عيّنة من الشاعر نزار قبّاني كأنه ينظم فكرة يزبك شعراً: «هجم النفط مثل ذئب علينا/ فارتمينا قتلى على نعليهِ/وقطعنا صلاتنا...واقتنعنا/أن مجد الغنيّ في خصيتيه/ أمريكا تجرّب السوط فينا/ وتشدّ الكبيرَ من أذنيه/ وتبيع الإعراب أفلام فيديو/ وتبيع الكولا الى سيبويه/ وأميركا ربٌّ… وألف جبان/ بيننا، راكعٌ على ركبتيه». (من قصيدة «هجم النفط مثل ذئب علينا»، ألقيت في بيروت في ١٤ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٨٤).
لنلاحظ التماهي الذي يمارسه نزار بين النفط والثروة والجنس: «إن مجد الغنيّ في خصيتيه» والبدهي هنا أن الغنيّ هنا هو غنيّ النفط. وما دمنا على مقام السوائل، يجدر التنويه إلى العلاقة بين النفط والكوكا كولا.
النفط والدمع
من شرب الكوكا كولا إلى شرب النفط ومنه إلى شرب الدمع: تقاسيم إضافية على مقام السوائل: «أسماؤنا لا تشبه الأسماء»، يندب نزار قبّاني، «فلا الذين يشربون النفط يعرفوننا/ولا الذين يشربون الدمع والشقاء»
(نزار قباني، قصيدة «مسافرون»، ١٩٨٥).
النفط ـ المَنيّ
على الغرار ذاته من التداعي يشطح النفط في تحولاته ليصير منيّاً يُمنى: نفط - أمراء نفط - حريم - جنس ـ منيّ. يقارب نزار قباني البورنوغرافيا في هذه المماهاة بين النفط والمنيّ: «النفط مَنِيّ بين نهود الحريم/النفط هو الشيطان الرجيم» (من «قصائد مغضوب عليها»، ١٩٩٨). ولكننا قد عدنا هنا أيضاً الى شيطنة النفط التي افتتحها القاضي الحجري.
النفط ـ الرائحة
درج كثيراً في الاستعارات العربية استخدام رائحة النفط للتكنية على حضور المال النفطي. هذا نزار قبّاني مجدداً، يقول على لسان امرأة تنتفض لكرامتها في وجه إغراء مال النفط: «متى تفهم؟/بأنك لن تخدّرني بجاهك او إماراتك؟/ ولن تمتلك الدنيا/ بنفطك وامتيازاتك/ وبالبترول يعبق من عباءاتك/ وبالعربات تطرحها/على قدمي عشيقاتك/ بلا عدد، فأين ظهور ناقاتك/ وأين الوشمُ فوق يديك/ أين ثقوب خيماتك/ أيا متشقّق القدمَين/ يا عَبد إفعالاتك.» (قصيدة «الحب والبترول»)
ولعلها أول قصيدة يرد فيها ذكر النفط عند نزار قبّاني. وهي تعبّر عن كل حقد ابن المدينة على ابن الصحراء واستعلائه عليه في منظومة احتقار كاملة: الوشم (على اعتباره عادة بدوية)، الجدري، الناقة، الخيمة المثقوبة، القدمان الحافيتان، اللانفعال، الخ. وكما هو سائد، فالأدنى طبقياً عادة ما يعرّف بالمبالغة في طاقته الجنسية. على أن التعريف الشائع ينطوي على مزيج متنافر من طهرانية تدّعي الترفّع عن الدنيوية الحسّية ومن حسد تجاه طاقة ابن الصحراء الجنسية. لكن نزار، شاعر السكس، ليس يتناول بالهجاء بدويّ الصحراء الفقير. يتناول ابن الصحراء الذي أصاب الثروة. بل قل هو يعيّره بأصله الدوني وقد أصاب الثروة. فلا يخلو القول الشعري من جرعات قوية من الحسد الطبقي ايضاً، يصدر عن ابن العائلة الدمشقي ضد ثري النفط. هو الصراع إياه بين الجاه والمال. أو لعله، في حالة أخرى، بين المال القديم والمال الحديث.
لكن من الغرابة بمكان أن يصدر عن نزار هذا التعيير الجنسي لثريّ النفط: أنه «يكدّس النساء بالعشرات فوق فراش لذّاته» ونزار نفسه هو من تفاخر، بل تفاحل، بقوله «فَصّلتُ من جِلد النساء عباءةً / وبَنيتُ أهراماً من الحَلَمات،» ليست تكفي الإشارة الواجبة الى مدى الاحتقار الذي ينمّ عنه سلخ جلد النساء للمرأة. ينبغي التذكير أيضاً بأن العباءة التي كانت في قصيدة نزار السابقة علامة على دونية ابن الصحراء، تنتقل الآن إلى كتفَي الشاعر يتدثّر بها لتصير علامة على فحولته.
النفط ـ الدم
على عكس الانتقال من النفط الى المنيّ، ليس الانتقال من المنيّ إلى الدم بأمر عسير أو مستغرب في كيمياء السوائل. الصلة قديمة العهد. يعلمنا أبو الطب، أبقراط، أن قذفة مني واحدة تعادل خسارة ٤٠ ضعفها من الدم، كما يرد في كتاب پييرّو كامپوريزي، اللامع «عصير الحياة»3. وفي استطراد عن هذا التماهي الحميم بين المنيّ والدم أفتى أبو التاريخ الايطالي جيوڤان باتيستا ڤيكو بأنه يجوز تسمية المني «دماً» على اعتبار أن المني هو «زهرة الدم وزُبدته»4.
ولكن التماهي بين النفط والدم أقل بدهية. يحتاج الأمر إلى كيمياء حركات التحرر الوطني لتتم الخلطة.
اكتشف النفط في الصحراء الجزائرية عام ١٩٥٦، وكان سبباً إضافياً لتمسك فرنسا باستعمارها الاستيطاني الاندماجي للجزائر تحت شعار «الجزائر فرنسية». بعد أشهر من اكتشاف النفط في الصحراء، سارعت جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى اعتبار الصحراء جزءاً من التراب الوطني الجزائري. وجّه «مؤتمر الصمام»، العام ١٩٥٦ نداءه الاستقلالي من أجل ما سمّاه «حرمة التراب الوطني كاملاً... بما فيه الصحراء الجزائرية». وعمّدت الصحراء «الولاية السادسة»، لتكون سادسة خمس ولايات يمارس فيها «جيش التحرير الشعبي» نشاطه ضد جيش الاحتلال الفرنسي.
استطالت مفاوضات الاستقلال بين الحكومة الفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية عندما اصطدمت بعقبة الصحراء. تمسّكت الحكومة الفرنسية باقتطاع الصحراء من الجزائر المستقلة بضغط من شركات النفط والغاز الفرنسية العاملة فيها. تصلّب الجنرال شارل ديغول، رئيس الجمهورية الفرنسية، بهذا المطلب، إلا أنه ما لبث أن رضخ في النهاية. وفي العام ١٩٦٠ دعت جبهة التحرير، في ما عرف بـ«برنامج طرابلس»، ذي الميل اليساري، إلى تأميم النفط «بما هو هدف بعيد المدى».
عن العلاقة بين النفط والدم قال هواري بومدين، رئيس الجمهورية الجزائرية، في خطاب له في ١٦ تموز/يوليو ١٩٧٠: «لو قيّض لنا أن نحلّل نفط الجزائر، لاكتشفنا أن دم شهدائنا يشكل أحد عناصره، لأن امتلاك تلك الثروة قد دُفع ثمنه بواسطة دمنا».
لم يبقَ تأميم النفط «هدفاً بعيد المدى» لمدة طويلة بعد ذلك الخطاب. في أقل من عام أعلنت الحكومة الجزائرية تأميم صناعة النفط والغاز في شباط/فبراير ١٩٧١.
نفط، نفط، نفط
حريّ بالمرء أن يسأل مع محمود درويش: «مع من أنت بالضبط/ مع الحرية أم مع النفط؟».
كم أن هذا التخيير مناسب بل لازم في زماننا هذا، زمن الثورات والردّات. ولعلنا نستطيع أن نضيف إليه من محمود أيضاً ما يناسب زمن التكفير الجهادي: «أسألُ آخر الإسلام/ هل في البدء كان النفط/ أم في البدء كان السخط ؟»
لكنّنا بذلك نكون قد خرجنا من السوائل إلى الأسئلة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.