العام: ١٩٤١
اليوم: ٢٢ يونيو
لم يشتبك إيڤان مع أحد في حياته
(ولا حتى مع طيّب القلب ولكن الواخز جداً
الأرمني ساغامانيان)
ليس لأنه كان خائفاً
ولكن لأنه يحبّ السلام.
ولا يحمل أي سوء لأي أمة.
وكان لإيڤان نقطة ضعف واحدة:
كان يدهش بسهولة مثل طفل.
وكم كان مبلغ ألمه وكم كانت دهشته غريبة
عندما تسلّم هتلر الحكم في ألمانيا.
على رغم خيانة الاشتراكيين الديمقراطيين،
فإن أمة ماركس وأنغلز، وبيتهوڤن وشيللر،
والبروليتاريا، ورفاقنا الشيوعيين، وثالمان1،
سوف يسقطونه بالتأكيد،
فكر إيڤان.
لم يسقط هتلر.
عظيماً كان ذهول إيڤان وعظيمة كانت مرارته.
- ناظم حكمت، «مشاهد إنسانية من بلادي»، ( ١٩٦٦- ١٩٦٧)
على امتداد التاريخ البشري، ارتبك البعض منا من سؤال بذاته، طُرِحَ بلغات متباعدة جداً، أربَك البعضَ منا، إلى أن ينتهي الجنس البشري: «كيف يمكن للبشر ألّا يطالبوا بالعيش في مجتمع أكثر إنسانية؟». سوف يؤدّي هذا السؤال بالبعض منا إلى أن يفقد عقله..
على الصعيد الإنساني، الإنساني جداً، تسبّب هذا السؤال الصغير، بآلاف الموتى وبهدر ملايين من الحيوات: من الشيخ بدر الدين2 الى ماركس؛ من مصطفى صوفي، أول ضحية للجمهورية التركية على يد قاتل مجهول، إلى بركين ألڤان، ذي الأربع عشر ربيعا، الذي قُتِل في احتجاجات ساحة غازي بعد أن أصابته عبوةُ غازٍ مسيّل للدموع من قبل «ضابط شرطة مجهول». يبدو هذا السؤال كأنه سؤال طفولي: «كيف لبشر أن يؤثروا الانسحاق بدلاً من الاحتجاج؟» أو هذا السؤال: «لماذا يعبد بشرٌ ويخدمون الذين يسحقونهم؟». يتوقع البشر من البشر الآخرين السلوك الأفضل، والأصح، والأليق. خصوصاً في أزمنة الشدّة. ومع ذلك...
بناء الجّنة على الارض
عندما يعاني بشرٌ من فائض الظلم، وعندما يُضرب أطفالٌ مرّات أكثر من زائدة، فإنهم سوف يكفرون بالإنسانية. عندما يتعرضون لغلاظة فائض المرارة والتمييز والاستهتار تصير البشرية جسماً يدمّر نفسه بنفسه عندما يتلقّى إنسان ضربة، تكون ردة فعله كردة فعل أي مادة: الظلم كردّ فعل طبيعي معاكس. آه! أي حلم جميل كان هذا. إنه حلم إنساني، رحب الإنسانية. ولكن أجمل من أن يكون حقيقياً. على العكس من ذلك، المثقلون بالأسئلة المطروحة أعلاه عليهم مهمة ضخمة: أن يقنِعوا الناس بالفكرة التي لم تتحقق كلياً إلى الآن: أننا نستطيع أن نبني الجنة على الأرض! على امتداد التاريخ، تعرّض أثمن أبناء الجنس البشري للمجازر على أيدي أسفل أبناء الجنس البشري بسبب هذا الطموح. والذين يؤمنون بالإنسانية يُتَّهمون معظم الأحيان بأنهم «أعداء الإنسانية» من قبل الذين يعبدون السلطة. وقد أضحت هذه التهمة أكبر أكذوبة في العالم ولكنها أكذوبة تلقى أوسع قدر من التصديق.
منذ أن وُجِدت مفردة «سلطة» والبشر يجرّبون أساليب مختلفة للتعاطي معها. أراد البعض إيكالها للإلهة والاخرون للجماهير. وكل فئة، ولو بعد لأي، كانت لها فرصتها في أن تحكم. وفي النهاية، يعرف جميع أفراد البشرية الجدد – حتى ولو لم يدرسوا الفلسفة ! - هذه العبارة ، التي تتحول إلى قول مأثور على جدران بيوت الخلاء، إلى درجة أنها باتت مغروسة في جيناتهم: «إن السلطة تفسد حتى أكثر البشر إنسانية»!
والآن، يحلم الجيل الجديد من أبناء المجتمع بحياة دون حاكمية وبالتالي دون قائد سياسي، لأنه على امتداد التاريخ، سقطت كل فلسفة، وكل ايديولوجية، قائمة على السلطة، في امتحان الإنسانية الكبير – عن حق او عن غير وجه حق. حتى الإيديولوجيات الإنسانوية، والجذرية في إنسانويتها، سطّرت الصفحات الأشد ظلامية ودموية في سجلّ العالم الحقيقي. ومنذ اليوم الذي أعلن فيه عن نهاية الشعارات الكبرى، اذا الذين يعتقدون بضرورة وجود سبيل اكثر انسانية للعيش أخذوا يطاردون الكلمات الصغيرة. ذلك أن كل كلمة ـ بغضّ النظر عن درجة الاحتجاج التي تنطوي عليها ـ تفقد فاعليها بمجرد أن تكبُر. وكل شخص ـ بغضّ النظر عن مدى التزامه أو التزامها بالمعارضة ـ يتلاشي عندما يصير شخصية عمومية. وكل حركة ـ بغض النظر عن مدى إجادتها التعبير عن روح العصر ـ تتعفن لحظة تسمّي نفسها بنفسها. يبحث الناس عن الصادق والصغير والحيوي على مستويات تكاد أن تكون بلا رحمة.
سؤال الإنسانية الجديد
هذا هو السؤال الجديد للإنسانية: كيف يمكن بناء حركة اجتماعية تهدف إلى قيام دولة إنسانية لا يوجد فيها قائد أو مطالب سلطوية، وذلك دون بناء تراتبية، بما يترافق مع الاستمرار في حماية الوحدة العاطفية؟ والأهم من ذلك: كيف يمكن الحفاظ على تلك الحركة الاجتماعية؟ منذ مطلع هذا القرن الذي وجدنا أنفسنا فيه، والمحتجّون يتجمعون في أمكنة متنوعة على امتداد العالم لمناقشة هذا الموضوع. تراكمت الكلمات، ولكن من أسف أننا لم نتمكن بعد من إحراز تقدّم في الإجابة عن السؤال الذي طرحناه في البداية: نعم، يمكن بناء عالم آخر بالتأكيد! ولكن ماذا لو أن أكثرية الناس لا تريد هذا العالم الآخر؟ وهكذا نجدنا قد عدنا إلى «الذهول المرير». ولكن لماذا لا يهبّ الناس لمناصرة بناء نظام اجتماعي أكثر إنسانية؟
في العام الماضي، كثُر الحديث عن تركيا وبكل اللغات تقريباً. وفي حالات عديدة، احتلّت قصتنا المرْتبة الأولى بين القصص في نشرات أخبار العالم. والسبب في ذلك أنّ الأمّة بكاملها كانت مأخوذة بتلك الانتفاضة. ذلك أنّ سلسلة الأحداث - التي بدت عفوية وفريدة في روحها - والمسمّاة انتفاضة ساحة غازي أو احتجاجات ساحة غازي أو حتى تمرّد ساحة غازي، حملت عن تركيا وجهاً غير مألوف إلى شاشات التلفزة والكومبيوترات. ثم إن تلك الاحتجاجات، التي واجهة العنف البوليسي دون أن تفقد فرحها أو السخرية، لم تفتن الأتراك وحدهم وإنما العالم أجمع. حاول كثير من الكتّاب والمثقفين وعلماء الاجتماع والسياسيين والأكاديميين، وأنا بينهم، أن يفسّروا كيف حصل ذلك. لماذا نزل الناس فجأة إلى الشوارع؟ هل سوف يعيدون الكرّة؟ كيف أمكن هذا العدد الضخم من الناس أن يخلقوا هذا الاحتجاج المنظّم، على الرغم من أنه لم تكن لديهم أي بنية تنظيمية ظاهرة؟ حاول كل منّا الإجابة عن هذا السؤال وعن أسئلة مشابهة. ولكن إذا سئلت، أجيب أنه في صميم أحداث العام الماضي كان يكمن هذا الشعور الحميم الصغير المسمّى «الذهول المرير».
طوال احتجاجات غازي، واجه عدد مدهش من الناس في تركيا هذا «الذهول المرير». تساءلوا «كيف يمكن أن يلتزم الناس بالصمت في وجه مثل هذه القسوة؟ لماذا لا تنطلق صرخة عامة عندما يموت طفل في الرابعة عشرة من عمره بعد أن يصاب في رأسه بعبوة غاز مسيل للدموع؟ لماذا لا يتظاهر الناس في الشوارع عندما يضرَب شاب في التاسعة عشرة من العمر حتى الموت؟» وما إلى ذلك.
لو أن النزعة الثورية موجودة، ولو كان لنا أن نعرّفها، ولو كنتم على فضول لمعرفة رأيي المتواضع في الأمر، يجب أن يبدأ التعريف من هنا: «الذهول المرير». إنه الشعور الذي ينتابك لحظة تثير السؤال: «كيف يمكن؟» فينسحق قلبك، ويطير منك العقل، فتنزل إلى الشارع ليلًاً، وتصمد، مع إخوتك وأخواتك، في وجه الغاز المسيل للدموع الذي يرشّه عليك البوليس، وأنت على استعداد لأن تضحّي بنفسك، بل لأن تهب حياتك كاملة كأنها أضحية نافلة، وكل ذلك من أجل بناء الجنّة على الأرض. على أنّ المهمّ هي اللحظة التي ينتابك فيها هذا الشعور. لحظة الإدراك. لقد انضممنا جميعاً إلى من سبقنا من أعضاء المجتمع الثمينين وعانوا معاناة عظيمة ـ فإذا بنا، في تلك اللحظة، ننضمّ إلى فرحهم اللامتناهي وقدرهم العسير. إنّ الاحتجاجات، والمقاومات، سمّها ما شئت، على أهبة أن تبدأ. والمسار الذي أصف ليس صوفياً قدر ما يبدو؛ هذه اللحظة أكثر ما يمكن أن تكون حقيقية. وهي هي اللحظة التي تقول: عظّمْ من شعورك، وآمن بالشعب.
من أجل رغيف خبز
كان بركين ألڤان في الرابعة عشرة من عمره عندما غادر منزله ليشتري الخبز فأصابته في الرأس عبوة غاز مسيل للدموع. بعدما رقد في الكوما لما يقارب السنة، توفي في الخامسة عشرة من عمره. في ذلك اليوم، رجل واحد في أنقرة، امرأة واحدة في اسطنبول، وكثيرون غيرهما في مدن مختلفة نزلوا إلى الشوارع، كلٌ بمفرده. حمل كل واحد منهم رغيف خبز. الخبز في تركيا رمز مقدّس قدر قداسة القرآن، لا يجوز أن يلامِس الأرض أبداً. إنه ظاهر وجوهر الحياة. وفي ما صور هؤلاء الناس حاملين بأيديهم أقدس شيء في ثقافتنا تبلغ الإنترنت، لاحظت تعبيراً متشابهاً على وجه كل واحد منهم. كانت عيونهم تقول بوضوح: «لست أبالي إن لم يأت أحد، أنا نازل للشارع!» بعد ساعة، كانت كل تركيا في الشوارع. تخطر في بال كل واحد منهم الفكرة ذاتها «لست أبالي إن لم ينزل أحد إلى الشارع». الذين نزلوا إلى الشارع لم يفكّروا بهذه الطريقة «إن لم أتكلم معترضاً على موت بركين فلن أستطيع أن أواجه ضميري». لست أعتقد أنهم كانوا مضطرين إلى أن يفكّروا تلك الفكرة على الإطلاق، لأنه لم يكن لهم خيار آخر غير الصراخ في الشوارع. توجد لحظات مثل هذه في تاريخ الإنسانية. لحظات يكون فيها الاحتجاج مثل التنفّس. ليس لديك أي خيار آخر! إنه هذا «الذهول المرير» يحرق لك قلبك.
هل هذه العفوية وذاك الانعدام للخيار يناقضان ما قلته سابقاً عن أن الناس ليسوا ميّالين بالطبيعة إلى الاحتجاج؟ ليته كان كذلك، لكن الجواب هو بالنفي. ولهذا السبب بالذات وجبأان نقول ذلك. إنّ «راهنية» الاحتجاجات على مقتل بركين ألڤان قد تأخرت عملياً ٣٤ سنة. إن رفع الصوت بالصراخ، والمقاومة والاحتجاج، والأهم من ذلك تذكّر أنه «لا يوجد أي خيار آخر» غير فعل كل هذه الأمور، جاء متأخراً ٣٤ سنة. ذلك أنه كان علينا أن نخفي ذلك «الذهول المرير» لـ٣٤ سنة، بل كان علينا أن ننساه. هل يستطيع امرؤٌ أن ينسى هذا الشعور بـ«الذهول المرير» الذي يجعل منه إنساناً؟ أو يخدّره؟ هل يستطيع امرؤ أن يمرض فيه العضو الذي يسمح له بالإحساس؟ نعم.
أن تنظر دون أن ترى
تشتقّ مفردة «الاحتجاج» باللغة الإنكليزية من الجذر اللاتيني protestari. إنها مزيج من مفردتي pro وtestari وتعني أن تشهد علناً. هل يعني ذلك أننا نحتجّ في كل مرة نشهد فيها حدثاً؟ أم أنّ شيئاً إضافياً يجب أن يتوافر لكي تتحوّل الشهادة إلى احتجاج؟ أم أن الشهادة ذاتها تتطّلب شعوراً فاعلاً؟ بلى، إنها تتطلّب ذلك، لأنّ تركيا «شاهدت» الانقلاب العسكري في العام ١٩٨٠، وقد اعتُبر أحد أعنف الانقلابات العسكرية وأشدّها وحشية في التاريخ الحديث، مثلما «شاهدت» عواقبه. فقد أجبِر آلاف المواطنين على مغادرة البلد، وقضى آلاف آخرون تحت التعذيب، وشنِق العشرات، وزُجّ بالآلاف في السجون. «نظرت» تركيا. نظرت، عاينت، قشعت، ولكن لم يكن رد الفعل الجماهيري قد وصل الى درجة الاحتجاجات في ساحة غازي. (في محاجّتي هنا، استثنيتُ الانتفاضة الكردية ـ وهي أهمّ حركة عرَفها تاريخ تركيا السياسي في الثلاثين سنة الأخيرة ـ نظراً إلى طابعها القومي والجهوي.) بعبارة أخرى، في العام ١٩٨٠، تخلّت تركيا عن أن تكون «شاهداً عاماً». وإذا ما عدنا إلى مفهوم ناقشته سابقاً، كانت تركيا قد خَدّرت ذلك «الذهول المرير» وشلّته، وعطّلت ذلك الجزء من جسدها الذي يمكّنها من الشعور بالتعاطف. فقد ولد «جيل غير مسيّس» تماماً كما توقع الجنرال كنان إڤرين وأمل. في ما يتعدى القتل والضرب والترهيب والقمع، كان «النسيان» هو الهدف ذا الأولوية عند جماعة الانقلاب العسكري والموضوع الذي حظي بأكبر قدر من الاهتمام. فقد أحرز الانقلاب والحكومات التي دعمها في جعل الناس تنسى الماضي إلى درجة أن الشباب في التسعينيات والأطفال الذين وُلدوا في مطلع القرن الواحد والعشرين حسبوا كنان إڤرين، المسؤول عن أعمال تعذيب واغتيال لا حصر لها، هو «جدٌّ ورسام بريء» بسبب هواية الرسم التي مارسها في الصبا. وكان متوقعاًً من هؤلاء الناس أن يخدموا في الأقسام المعيّنة لهم في التاريخ التركي بالاستمرار في «المعاينة» و«النظر» باستكانة. لم يُفترَض فيهم أن يشهدوا، وعندما كانوا يشعرون بـ«الذهول المرير» في وجه الظلم والتمييز واللإانسانية، كان يجب النظر إلى ذاك الشعور على أنه علامة ضعف. في هذه البنية التي تأسست عشيّة الانقلاب وبعده، كان كل واحد متروكاً لحاله، وكان التضامن فعلاً غير شرعي، وفي مطلع الثمانينيات، حتى مفردة «مقاومة» كانت ممنوعة من التداول في محطات التلفزة الوطنية. لقد أصاب المرضُ ذلك العضو في أجسام الناس الذي يمكّنهم من الشعور بالتعاطف.
ثم كان أن قطعوا تلك الشجرات [في ساحة غازي باسطنبول] فحدث أمر غاية في الغرابة. عندما هاجم البوليس الناس النائمين في الساحة ليلاً لحماية تلك الشجرات الثلاث، أمسكت شابة ترتدي ثوباً أحمر، بحقيبتها بقوة، وسارت صوبهم. وفي اليوم التالي كانت إسطنبول تنتفض، وتبعتها المدن الأخرى في اليوم التالي. «كيف يمكنهم أن يفعلوا فعلة كهذه؟»، سألوا، وإذا الشعور الهش الجديد بـ«الذهول المرير» يطلق هذه العملية الاحتجاجية برمّتها. وماذا بعد؟
من خلال محادثاتي مع قدامى المحاربين والمغاوير تعلّمت أنّ دينامية القتال الأهم والأساس ليست إرادة القتال لقضية معيّنة ولا هي أن تحمل هدفاً نبيلاً في قلبك. لا يقاتل الناس من أجل الانتصار في حرب؛ يقاتلون بالدرجة الأولى من أجل الأصدقاء الذين يقفون إلى جانبهم. وهذا هو ما حدث في ساحة غازي. كان كل واحد من الذين قاتلوا في الشوارع يحارب من أجل الشخص الذي يقف إلى جانبه. «بأي حق يضربون هذه الفتاة؟» «ما الذي يسمح لهم بأن يضربوا هذا الطفل؟»
وأنا كنت هناك ورأيت
صعّد البوليس وحشيته فتصاعد «الذهول المرير». وإذ تجاهل الناطقون باسم الحكومة هذا العنف، تفاقم هذا «الذهول المرير» ليبلغ أحجاماً كاسحة.
«كيف لهم أن يُنكروا تصرفهم الوحشي تجاهنا؟»، «كيف لهم أن يضطهدونا وأن يُلقوا الخطابات المتعالية كأنهم هم أصحاب الفضيلة؟» وهكذا دواليك. وبهذه الطريقة، كما أسلفت، فيما عدد غير متوقع من الناس في تركيا يألف هذا الشعور الإنساني بـ«الذهول المرير» بدأ جيل بأكمله يدرك معنى مفردة «الاحتجاج».
وأنا كنتُ هناك. ورأيت. كان وحشية وكان اضطهاداً. شاهدت ذلك. وشعرت بـ«ذهول مرير» في وجه تلك الوحشية، وصرخت محتجّة!
بهذه الطريقة يقاتل الناس من أجل أصدقائهم في الحرب، وينمو هذا «الذهول المرير» في كل واحد بسبب الإخوة والأصدقاء الواقفين جنبه. لا يأتي ذاك الشعور تلقائياً، عفويا، أو فرديا – الأحرى أنه ينمو بواسطة العلائق بين الأشخاص. هكذا ولد الاحتجاج وهكذا نما. بدأ شعوراً صغيراً وإنسانياً حميماً، ثم اجتاح الشوارع. وعلى الرغم من فائض إهدار الدماء وصرخات الوجع والوحشية الزاحفة، كانت الشوارع ملأى بفرح مستبعد التصديق منذ الليلة الأولى. وعلى الرغم من العنف والخطر، أراهن أن كل من شارك في احتجاجات ساحة غازي قال «إنها أفضل أيام حياتي قاطبة» لأنها كانت بمثابة العلاج النفساني بالنسبة إليهم، فقد حازوا حق الملكية على قلوب قادرة على أن تشعر بذلك «الذهول المرير» وأنهم مكّنوا ذاك الشعور لدى بعضهم البعض. ذلك أنه حتى في مواجهة خطر الموت، يبقى الإنسان راغباً في أن يبقى إنساناً. والاحتجاج يعني خيار أن يبقى الإنسان إنساناً. وما إن يذق المرء هذا الشعور بالانتماء إلى جماعة والسلام الداخلي المكربل بالغضب الذي يتأتى عن محاربة الظلم، يدرك بعمق سلوك سبارتاكوس الذي كان يعتبر سلوكاً جنونياً من قبل. بهذه الطريقة ينضمّ إلى آخرين في التاريخ وقد آثر أن يبقى إنسانياً بدل أن يبقى على قيد الحياة. إن ذلك الإحساس الشاعري الخفي، الذي يربط حلقات تلك السلسلة واحدتها بالاخرى، هو ما جعل العالم يستحق أن نعيش فيه عبر الأزمنة. وهو الشعور الذي أتى ناظم حكمت على ذكره باقتضاب على أنه «الذهول المرير».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.