اقتصاد الحرب موضوع مقيت
قليلاً ما يُدرَس اقتصاد الحرب في الكتب. فالحروب تروى ويُنظر إليها على أنّها حوادث، بطولية في البداية، ثم مأساوية، ثم مؤسفة أو منسية، لكن باعتبارها حوادث. ولا يخرج الاقتصاديون عن قاعدة الصمت.
مع ذلك، شكّلت الحروب منعطفاتٍ رئيسة في حياة الدول الاقتصادية والاجتماعية: على مستوى السياسات الاجتماعية، ونظام الضرائب، وتوزيع الثروات والدخل، والاستثمارات والابتكارات التقنية... وإن كان الإقرار بذلك سهلاً بالنسبة إلى الدول «المهزومة» التي تُعَد دائماً مسؤولة عن الحروب وتخضع للتشوهات والإصلاحات، وحتى تُدمَّر، فهو ينطبق أيضاً على الدول «المنتصرة»، لأنّ الدول، حتى المنتصرة منها، لا تخرج من الحروب سالمة. فتوازناتها السياسية والاجتماعية الداخلية تتحوّل، على نحو مستدام عادة، كما أنّ تطوّر مسار العنف، أكثر من حصيلته، هو الذي يترك الآثار الأعمق. فالمنطق الثنائي الشمولي والاختزالي للمواجهة و«التعبئة» يُعلّق في مواجهة العدو مهما كانت النتيجة: الانتصار، أو الهزيمة، أو التسوية، لنكتشف غالباً بأسلوبٍ فظ ومفاجئ نوعاً ما تأثيراتها الداخلية. وبقدر ما نرفض أن نرى في الحروب شيئاً سوى تجليات الغرائز البدائية أو آثار الشر المتجسدة في هذا «الشعب» أو ذاك أو ببساطة أكبر، في هذا «القائد» أو ذاك، إلا أنّه من المنطقي البحث عن «السبب» المحدد للحروب في تأثيراتها الداخلية، وذلك لأنّ تأثيراتها الداخلية هي بديهياً أكثرغموضاً بكثير من تأثيرات المواجهة العسكرية الفعلية، وهي مواجهة يمكن غالباً (لكن ليس بالضرورة دائماً) توقّع نتيجتها في ضوء تقييم موضوعي لتوازنات القوة مقارنة بالمخاطر. وذلك من شأنه «منطقياً» أن يعفي الأقوى كما الأضعف من تحمّل كلفتها. أما الغموض في ما يتعلق بتأثيراتها الداخلية فمن شأنه منطقياً أن يبرر خوض المغامرة.
فضلاً عن ذلك، يحيط صمتٌ ثقيلٌ أيضاً بالحروب الأهلية التي لم تغب إطلاقاً خلال القرن العشرين: حرب أهلية في روسيا، ثم في إسبانيا، وأخيراً في يوغوسلافيا. هذا في ما يتعلق بأوروبا، لكنها كانت شائعة جداً في باقي أنحاء العالم، وبخاصةٍ في المنطقة العربية (حالة الاستعمار في الجزائر بشكلٍ خاص، وحالات كلاسيكية أكثر تتمثل في لبنان، والعراق، وليبيا، وسورية واليمن... وتطول اللائحة إلى ما لا نهاية).
ويُذكر أنّ عملية بناء الاتحاد الأوروبي تغذّت من الرغبة في إنهاء ثلاثة عقود من الحروب القومية بين الدول. حروب تجعلها هذه البنية بحد ذاتها تبدو اليوم وكأنّها حرب أهلية طويلة ومدمرة بشكلٍ رهيب، أدّت إلى وضع حد لهيمنة أوروبا على العالم.
حروب الدول والحروب الأهلية
يبقى أنّ أساليب تطوّر الحرب بين الدول تختلف بشكلٍ جوهري عن تلك المعتمدة في الحرب الأهلية. على سبيل المثال تترجم الحروب بين الدول بتعبئة موجّهة واستثنائية للموارد: الرجال، والنساء، والطاقات الإنتاجية، والرساميل (من خلال نظام الضرائب، والاستدانة، والمصادرات لأغراض عسكرية وخفض قيمة العملة). ومهما كان حجم الدمار المادي، والخسائر البشرية، والتغيّرات المؤسساتية التي تحفزها هذه الحروب، فهي لا تؤدي إلى الانهيار المستدام لبنى الإنتاج والنُخب.
خير دليل على ذلك الحالتان الصارختان لليابان وألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية. ففي كلتا الحالتين، اعتمدت الدول المنتصرة سياسة منهجية تقضي بتفكيك النظام السياسي والهرمي القائم؛ ومع ذلك شهدت هاتان الدولتان إعادة بناء هياكل الدعم الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بهما في غضون بضع سنوات: تم استبعاد الشخصيات الأكثر شهرة التي كانت في السلطة خلال الحرب، لكن غالبية هذه النخب عادت لتتسلم مقاليد الحكم إلى جانب معارضين سابقين أو منتقدين لهذه السلطة. ولا يسعنا إلا أن نبرز هذا التعارض الشديد مع ما حدث في العراق بعد الاجتياح الأميركي وتفكيك حزب البعث؛ ويعود السبب في هذا الاختلاف بشكلٍ أساسي إلى الحرب الأهلية التي حصلت في العراق خلال سنوات الحصار الـ١٢ والتي استمرت حتى في ظل الاحتلال الأميركي، وبشكلٍ صارخ أكثر، بعد انسحاب القوات الغربية.
تُنتِج الحرب الأهلية تأثيرات معاكسة لتأثيرات الحروب بين الدول. تستند الحرب بين الدول إلى توسيع نفوذ الدولة على الاقتصاد والمجتمع، في المقابل تستند الحرب الأهلية إلى تضييق هذا النفوذ على المستويين المكاني والمؤسساتي. وبذلك تترجم بداية من خلال تسريح ضخم للموارد: حل الإدارات، وانقطاع حلقات التبادل الداخلية، وخسائر تجارية، وبطالة، وإقامة دوائر مالية وأدوات ضريبية بديلة من قبل الميليشيات، وتهجير السكان، ونهب الممتلكات الخاصة والموارد العامة، إلخ. ولا بد من التذكير بأنّ الحرب الأهليّة الطويلة لا يمكن أن تحدث إلا إذا ساهمت تدخلات خارجية في نشوبها، ولو كان ذلك لمجرد تغذية الضعف المادي لأطراف النزاع، وهو ضعفٌ ناتج عن الحرب الأهلية بحد ذاتها لكنه يساهم أيضاً في استمراريتها، فكلما وجد السكان أنفسهم معوزين، باتوا مستعدين لأن يتجندوا مع أطراف النزاع التي يكلفونها أقل والتي تجعلهم يأملون بجني الغنائم.
بين الطرفين النموذجيين، لا يمكننا أن نتجاهل الحالات الوسطية، ذات التأثيرات المختلطة أو المتباعدة، وبخاصةٍ في الحالات حيث تحافظ الحكومة المركزية، على الرغم من أنّها تواجه معارضة في الداخل، على قدراتها الإدارية (وينطبق ذلك بشكلٍ كبير على سورية) أو في الحالات التي تمتزج فيها حربٌ أهلية مع حربٍ بين الدول (مرحلة التحرير في فرنسا على سبيل المثال).
في النهاية، علينا أن نضع جانباً، ضمن فئة ثالثة، النزاعات الداخلية القصيرة الأجل التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات مؤسساتية واسعة النطاق، ودائمة ربما، لكنها لضيق الوقت لا تنتِج بشكلٍ عفوي انهيار هياكل الإنتاج والنخب؛ ولا تتجاوز التغييرات في الوقت الراهن حالات الإطاحة (الانقلابات العسكرية)، وقد تحدث لاحقاً، مع الوقت وبأسلوب موجّه («ثورة الضباط الأحرار» في مصر أو انهيار الاتحاد السوفياتي وظهور الأنظمة الأوليغارشيّة من خلال حالات الانشقاق وانقلاب المسؤولين السابقين أو حتى «المراحل الانتقالية» في أوروبا الشرقية، باستثناء ألمانيا، حيث ترافقت هذه الظاهرة عينها مع ظهور النخب المهاجرة).
فضلاً عن ذلك، بفعل منطقها بحد ذاته، تفترض الحروب بين الدول التحكم بالمعلومات، وبذلك لا نرى إلا الصور التي تقرر السلطة نشرها: إما الصمت (مثال منطق تصفير عدد الإصابات المساعد، أو أقله ما هو جليّ في هذا المنطق)، وإما الثنائية الكلاسيكية بين فظائع العدو وبسالة الجنود والشعب الذي يدعمهم. لكن ذلك لا ينطبق على الحروب الأهلية إذ إنّ وسائل الإعلام تعرض نوعين من الصور: صور المعارك، المبهمة والقبيحة، وصور معاناة المدنيين. لكن في كلتا الحالتين الصور هي مجرد وهم، سواء كانت من صنع الدولة أو قادة الحرب الأهلية، أو حتى مناصرين ومعارضين خارجيين. هي تخفي حقيقة أنّه خلال الحروب تستمر الحياة، سواء كانت الحروب حروباً بين الدول أو حروباً أهلية، ويستمر الاقتصاد بطابعه التشاؤمي إنما باتباع قواعد خاصة تجعله أكثر تشاؤماً.
تمويل الحرب
الحرب مكلفة جداً ولا بدّ من تمويلها. تعتبر الحروب بين الدول أكثر تكلفةً من الحروب الأهلية لأنّها تحشد موارد أضخم بكثير، إلا أنّ تمويلها أسهل لأنّ الدولة المحاربة تمتلك وسائل الإكراه والشرعية المؤسساتية. من خلال الإكراه المشروع، تستطيع القيام بالتعبئة، والمصادرة لأغراض عسكرية، وفرض الضرائب، والإستدانة، وبالتالي تؤجَّل المشاكل المالية. ونتذكر في هذا السياق السجالات التي جرت عقب الحرب العالمية الأولى فضلاً عن تعويضات الحرب المتوجبة على ألمانيا، والإنتقادات الموجّهة إلى كينز، والمساعي الفاشلة لتحسين معيار الذهب وأزمة عام ١٩٢٩. أمّا الحروب الأهلية فهي «حروب صغيرة»1 لكن تمويلها أصعب، لأنّ الاقتطاعات الضريبية لا يمكن أن تتم تحت غطاء الشرعية المؤسساتية والاقتراض محظور، فضلاً عن أنها تتخذ مباشرةً شكل عملية سرقة ونهب. والحال كذلك لا غنى عن المساعدة الخارجية التي تكون دوماً متاحة، سواء بأدنى أشكالها للسماح بتمرير الأسلحة والمؤنة أو كلوازم وتجهيزات ومساعدة مباشرة. لكن في كلتا الحالتين، لا تخلو هذه المساعدة من المصلحة، ونظراً إلى انعدام التوازن في القوى بين كل من طرفي الحرب الأهلية وداعميه الخارجيين، تُستَخدم المساعدة كرهن لصالح هؤلاء لتقييد حرية تصرّف الأطراف الداخليين، سواء على صعيد سير المواجهة أو بشكلٍ خاص التفاوض على مخارج للحرب. فضلاً عن ذلك، يسعى الأطراف الداخليون إلى ضمان أكبر قدر من السلطة الذاتية والأمان عبر مضاعفة مواردهما «الخاصة» إلى أقصى الحدود.
عند توافر موارد قابلة للتصدير بسهولة، لا سيما الأحجار الكريمة والمعادن الثمينة، يصبح تمويل الحروب الأهلية عملية سهلة، رغم أنّه يشجع المشترين في الخارج على شرائها بسعرٍ بخس، فيغدو هؤلاء الحليف الراعي والداعم. تلك هي حال الحروب الأهلية المتكرّرة في عددٍ من الدول الأفريقية. في سورية على سبيل المثال، نشهد عملية تطوّر غير متوقعة للصادرات النفطية، ولو أنّها لم تعد تخفى على أحد. يُذكر أنّ السوق السوداء (المنتشرة على نطاق واسع والتي يتم التغاضي عنها إلى حد كبير) للنفط أنشئت في زمن الحصار الذي فُرِض على العراق. في ظل غياب الموارد الطبيعية، تموّل الفصائل المحلية نفسها عبر اللجوء بطيب خاطر إلى زراعة أنواع المخدرات كافة وتصديرها (سواء في أفغانستان أو في مختلف دول أميركا اللاتينية). أمّا في لبنان، فقد أدّى نهب مستودعات مرفأ بيروت عام ١٩٧٦ إلى تأجيج موجة من الصراعات القاتلة، وتغذية صناديق الميليشيات الناشئة. أضف إلى ذلك عمليات الاختطاف مقابل فدية.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ نهب خزنات البنوك كانت من العمليات الأقل شيوعاً. في هذا الإطار، تم تسجيل حالة واحدة في لبنان خلال سنوات الحرب الخمس عشرة. فالبنوك محصّنة لأنّها تستطيع بسهولة دفع المال إلى الميليشيات لقاء تأمين «الحماية» لها، إنما أيضاً لأنّه لا غنى عنها لتمويل الحرب الأهلية بمجملها، إن بالنسبة إلى الميليشيات أو إلى السكّان.
الممرات والحصار وأغنياء الحرب
عند نشوب حروبٍ بين الدول، تسدّ قنوات التبادل والإمداد بفعل تحوّل الحدود إلى خطوط «مواجهة». ومع تطوّر السفن الحربية، أصبح إغلاق القنوات التجارية سلاحاً بحد ذاته، إذ إنّه يولّد لدى الدول المحاربة التي تملك هذه القدرة، الرغبة في تضييق الخناق على أعدائها الذين يضطرون إلى توجيه جزءٍ من جهودهم العسكرية للسيطرة على مصادر الإمداد «الاستراتيجي» أو حتى لفرض الحصار أو لاتخاذ إجراءات حصار متبادلة؛ وخير دليل على ذلك الحرب العالمية الأولى، وبدرجة أكبر الحرب العالمية الثانية.
بالمقابل، خلال الحروب الأهلية، تُقطع الممرات الداخلية، بدايةً بشكلٍ عفوي بسبب أعمال العنف، ثم بطريقة منظّمة على يد الميليشيات التي تجد في نهب السلع الداخلية مصدراً رئيسياً لإيراداتها. وغني بالذكر أنّ الميليشيات تسعى منذ البدء إلى مراقبة نقاط العبور إلى الخارج (كالمرافئ، والمطارات والنقاط الحدودية) بهدف تأمين إمداداتها الخاصة من جهة، وضبط إمدادات المناطق الخارجة عن سيطرتها من جهة أخرى. والأمر سيان في ما يتعلق بالسيطرة على المنشآت المركزية للخدمات (كمعامل الكهرباء، ومصافي التكرير، وخزّانات الوقود، والسدود، والآبار وخزّانات مياه الشفة). لقد صوّرت الحرب اللبنانية بشكلٍ كبير هذه المنافسة، كما أنّ ردود الفعل التي ولّدتها ما زالت تتحكم بالسياسات المتعلّقة بتوزيع أماكن هذه المنشآت، تحت غطاء ما يسمّى «الإنماء المتوازن». وهذا ما يحصل في سورية أيضاً.
لكن لا بدّ من التذكير بأنّ الحروب الأهلية، التي تنطوي دائماً على تدخّلات خارجية، تستدعي فرض حصار أو حظر من قبل بعض الدول الخارجية النافذة. وقد أصبح هذا الأسلوب شائعاً جداً لدرجة أنّ «القوى العظمى»، وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، وبدرجةٍ أقل، الدول الأوروبية، باتت تستسيغها وتستخدمها ضد الدول التي لا تروق لها في إطار ما يسمى «عقوبات»، غالباً خارج الأطر الرسمية للشرعية الدولية الموروثة من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي تضررت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
في السياق نفسه، تنتج من قطع الممرات الداخلية أو فرض حظر أو حصار على الممرات الخارجية تأثيرات مماثلة تتمثل في ارتفاع سعر السلع لا سيما المستوردة منها، وإنشاء قنوات موازية للإمداد، واستحواذ أصحاب النفوذ على المخازن. يترجم ذلك كله بظهور «الأثرياء الجدد»، وإفقار السكان، وخسارة الوظائف التي لا تستطيع أنشطة السوق السوداء تحويل مسار حركة السلع والأشخاص، فضلاً عن التطوير المستحث للمراكز البديلة، أن تعوّضها إلا بشكلٍ موضعي. كذلك، ينبغي عدم إهمال هذه الظواهر «الثانوية» التي قد تتحول إلى معطيات دائمة. بالمقابل، تعاني بعض المناطق غبناً مزدوجاً نتيجة الإفقار العام واستحواذ أقطاب جديدة على وظائفها الاقتصادية. هذه بشكلٍ خاص حال طرابلس في لبنان التي قطعت أوصالها عن بيروت طوال فترة الحرب، وشهدت تحوّل المناطق ذات الغالبية المسيحية الواقعة ضمن منطقة نفوذها عنها (مثال البترون، والكورة، وبشري، وزغرتا) بعد السيطرة الوجيزة على المدينة من قبل الميليشيات الإسلامية المدعومة من ياسر عرفات عام ١٩٨٣ لتجد أنّها تدور في فلك مدينة جبيل، لا سيما مع بناء طرقات جديدة تحيط بطرابلس؛ وذلك فيما كانت مفتوحة بشكلٍ كبير على سورية. ويمكن بسهولة أن نجد في هذه العملية جذور الوضع الذي تعيشه طرابلس حالياً، إذ إنّها مدينة مهمّشة مقارنةً بباقي المناطق اللبنانية وهي تتأثر مباشرة بتطوّرات الوضع في سورية.
يمثّل تراجع إنتاج السلع والخدمات «المدنية» ظاهرة متكررة في الحروب جميعها، سواء كان ذلك نتيجة تعبئة الموارد بما يخدم مساعي الحرب في حالة الحروب بين الدول أو نتيجة اختلال الاقتصاد المحلي (الذي تفاقمه حالات الحصار والحظر المحتملة) في الحروب الأهلية. في لبنان على سبيل المثال، بين عامي ١٩٨٤ و١٩٨٧، اختفت عملياً العملة الوطنية من التداول لصالح الدولار الأميركي. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي التضخّم إلى إعادة توزيع شاملة للثروات والمداخيل. وهو أمرٌ يستفيد منه المقترضون (ومن بينهم الدولة أو بوجهٍ أدق من ينتفعون منها) وحمَلة الأسهم، بينما يدفع ثمنه المدّخرون والأشخاص ذوو الدخل الثابت (الأجراء عامة، والموظفون والمتقاعدون على وجه الخصوص). في هذه الحالة، غالباً ما تقوم الدول بتجميد العقود، لا سيما الإيجارات التي يطرح تحريرها مشكلة لفترة طويلة بعد انتهاء النزاعات (ما زالت مشكلة تجميد الإيجارات، التي طرِحَت خلال الحرب العالمية الثانية والتي تفاقمت تأثيراتها بشكلٍ كبير خلال الحرب الأهلية، بدون حل حتى يومنا هذا).
حركات السكّان
خلال حربٍ أهلية، يستمر السواد الأعظم من الناس بالعيش، مع الموارد التي في متناوله، ويتأقلم من خلال الحد من متطلباته ومعاييره الاستهلاكية إلى أبعد مما يمكن تخيّله. وعلى الرغم من أنّ المقاتلين الفعليين مرئيون بشكلٍ واضح، إلا أنّ عددهم صغير. كذلك، تعتبر التحركات السكانية ميزة للحروب الأهلية وهي تُعزى إلى أسباب عدّة.
يتمثل السبب الأول في المخاطر المرتبطة بالقتال. وينطبق هذا الخطر أيضاً على الحروب بين الدول. في حالة لبنان، تم احتواء هذا الخطر بسرعة لأنّ إرساء قبضة الميليشيات جعل المعارك تقتصر على الخطوط الثابتة التي كان محيطها إما غير مأهول (بما في ذلك وبشكلٍ خاص وسط المدينة) وإما تم إخلاؤه بسرعة؛ ويبقى جنوب لبنان الاستثناء الأساسي فهو يتعرّض بانتظام للاعتداءات وعمليات التوغل الإسرائيلية. بالمقابل، في حالة سورية، يغطي هذا الخطر مناطق أوسع بسبب عدم استقرار جبهات القتال بين الجيش والمعارضة وبين فصائل مختلفة من هذه الأخيرة، إنما أيضاً بسبب القصف المدمّر الذي ينفذه الجيش السوري. وفي معظم الحالات، تكون هذه التحركات السكانية مؤقتة.
ويتمثل السبب الثاني في القمع أو الخوف من القمع الذي تمارسه القوات التي تسيطر في منطقة معينة على فئة من السكان تعتبرها معادية أو على الأقل غير مرغوبٍ فيها. في حالة لبنان، كانت التحركات السكانية التي أفضت إلى إنشاء أراضي مشاع ضخمة، وتبيّن أنّها بمعظمها نهائية، بعد خمسة وعشرين عاماً على انتهاء الحرب؛ لقد أثّرت على الفلسطينيين واللبنانيين الذين يسكنون «المخيمات» في ضاحية بيروت، والمسيحيين من سكان «الأحياء الغربية» في بيروت وطرابلس فضلاً عن مناطق الشوف وعاليه، والمسلمين من سكان «الأحياء الشرقية». وفي سورية (كما هي الحال في العراق أيضاً)، فاقمت التجاوزات الفظيعة التي ارتكبتها الميليشيات «الإسلامية» هذه الظاهرة، لا سيما في ما يخص الأقليات غير السنية.
أما السبب الثالث فهو الفرار في مواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن الحرب. وبخلاف السببين الأولين، ليس هذا الأخير محدداً مكانياً إنما اجتماعياً، وهو يدفع بشكلٍ أساسي إلى الهجرة. كذلك، قد يحدث حتى بغياب المعارك، وهذا ما تشهد عليه هجرة شريحة من النخب العراقية خلال فترة الحصار و«العقوبات». فالضغوط الاقتصادية تؤثّر على الجميع تقريباً، غير أنّ شدة تأثيراتها ترتبط بشكلٍ أساسي بالفرص التي تقدّم إلى المرشحين أو تلك التي يعتبرونها كذلك. بالإضافة إلى ذلك، هي تطال أولاً الأجانب، ثم الشباب، وأصحاب الكفاءة المهنية، وسكان الحدود، والأشخاص الذين لديهم عائلة في الخارج. وقد كانت مكثفة بشكلٍ كبير خلال الحرب الأهلية في لبنان واستمرت منذ ذلك الحين، ولم تُحدِث مرحلة إعادة الإعمار إلا موجة عودة صغيرة وسريعة الزوال. وقد اتخذت ضخامة استثنائية في سورية.
النزوح والمساعدات الإنسانية
من دون التقليل من تأثيرات السببين الأولين، يمكننا أن نتصور، أمام ضخامة التحركات السكانية لا سيما نحو الخارج، أنّ السبب الثالث هو المسيطر في حالة سورية. وقد تضخّم بفعل السياسة المتبعة حيال النازحين السوريين من قبل البلدان المجاورة والدول الغربية. فبالنسبة إلى الجانب التركي، كان تدخّل الدولة في الصراع السوري ضد النظام مباشراً منذ بداياته. وفي ما يتعلق بالنازحين، أقيمت مخيمات على طول الحدود، وقد أدّت السيطرة السياسية وحاجز اللغة إلى الحد من اندماج النازحين في الاقتصاد التركي. وفي الأردن، بقي موقف الحكومة أكثر تحفظاً بشكلٍ واضح. أقيمت المخيمات لكن لم تكن مراقبة الشرطة كافية لاحتواء انتشار النازحين السوريين بين السكان.
أما على الجانب اللبناني، فكان الوضع مختلفاً. منذ البداية، شلّت المواقفُ العدائية التي اتخذتها الأطراف اللبنانية حيال الصراع الداخلي السوري بشكلٍ كامل قرار الدولة، مما أدى إلى فتح الحدود بفعل الواقع، وذلك باستهتارٍ كبير، إذ إنّ كل واحد من الطرفين كان واثقاً بالانتصار الوشيك لحلفائه السوريين ويرى أنّ إقامة النازحين ستكون قصيرة الأمد. ويتميز لبنان أيضاً بفعل أنّ مئات آلاف العمال السوريين يتواجدون هناك أو يأتون بانتظام بصفتهم عمالاً موسميين منذ ما قبل الحرب الأهلية. وعلى صعيد الجغرافيا الطبيعية والبشرية، هو يمثل النقطة الأقرب والأكثر جاذبية بالنسبة إلى السوريين. بالتالي، من الطبيعي لهذه الأسباب جميعها أن يمثّل الوجهة المفضلة بالنسبة إليهم.
يُذكر أنّ ظروف حياة معظم اللاجئين دراماتيكية. وتعتبر المساعدات الإنسانية مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى الكثير منهم. لكن هذه المساعدة لا تمرّ بدون تأثيرات سلبية. فحالما تُعطى صفة نازح بفعل وجود الشخص في منطقة محددة، بطبيعة وجوده خارج البلد المتنازع عليه، يستدعي ذلك ميكانيكياً الاستفادة من المساعدة الإنسانية. ليس من المستغرب أنّ يحوّل سوء الأحوال المعيشية في الوطن مقارنة بتلك التي في البلد المضيف، ومن بابٍ أولى، تدهورها بسبب الحرب والخوف من أعمال العنف، المساعدات الإنسانية إلى آلية لجذب فائضٍ من النازحين.
ولعل صورة «اللاجئين» الذين يحظون بالدعم الكامل بفعل المساعدة الدولية في إطار مخيمات ستبقى مغلقة بالنسبة إلى البيئة الوطنية (كيف ننسى مأساة الفلسطينيين وحقهم في العودة، مع حصولهم على الدعم من قبل الأونروا بانتظار ذلك)، كما يروق لبعض «العاملين في الحقل الانساني» تصوير الوقائع، تماماً كصورة بلدٍ تحوّل بالكامل وبشكلٍ دائم إلى «ساحة حرب»، كما يروق لوسائل الإعلام أن تصف ذلك، عبارة عن وهمين تتم المحافظة عليهما.
إعادة الإعمار وتجميع الثروات
تحظى فترات إعادة الإعمار بدراسة أقل من فترات الحرب. ولا عجب في ذلك لأنّها نتيجة منطقية لها. كذلك، تقدَّم باعتبارها فترات نمو بفعل الأساليب الإحصائية التي تجعل الناتج المحلي الإجمالي يلحظ التدفقات ويغفل التغيرات في المخزون، أي الدمار الذي يشكّل جوهر الحرب.
فضلاً عن ذلك، تشكّل إعادة الإعمار في آن واحد فترة تجميع متسارع للثروات وفترة تبادلٍ ثقافي وتكريس للنخب المنبثقة عن الحرب. وقد تختلف هذه الأوضاع لأنّها تعكس نتيجة المواجهات: «مصالحة»، أو تقسيم بحكم القانون أو بحكم الواقع، أو انتصار أحد الأطراف، مثلما تعكس أيضاً مصالح الأطراف الخارجية. وهي تنذر بالمرحلة التاريخية المقبلة.
في حال الحرب الأهلية، يسمح مجرد وقف أعمال العنف للناس بالعمل وللسلع بالانتشار، مما يجعل الناتج المحلي الإجمالي ينتعش مجدداً. لكن في نهاية الحرب (لا سيما الحرب الأهلية)، تتراجع الأسعار النسبية للأصول المحلية (العقارات وسندات ملكية الشركات) مقارنة بالخارج، مما يعزز عادة القدرات التصديرية للاقتصاد حتى مع تزايد الطلب المحلي من حيث الاستهلاك والاستثمار إنما من دون التصرف بالموارد المالية اللازمة. بيد أنّ هذه الأصول تصبح فريسة سهلة للرساميل التي تأتي من الخارج خلال مرحلة ما بعد النزاع أو تلك التي كدّسها أمراء الحرب، مما يتسبب بموجة ثانية من إعادة التوزيع غير المتوقعة للثروات٢.
يترتب عن ذلك مجموعة من الخيارات المعقدة التي نادراً ما يقدر على المجتمع المرتبك، اتخاذها بهدوء. بالمقابل، قد يتبين أنّ الخسائر في «الرأسمال البشري» هي أكثر فداحة نسبياً من الخسائر في الرأسمال المادي.
بالتالي تنطلق آليتان: إعادة تعبئة الموارد في عملية الإنتاج، وتسريع المعاملات في الأصول والعوامل (امتلاك الأصول، والنزوح والهجرة). وتتداخل هاتان الآليتان من حيث السعر، وإعادة توزيع المداخيل والثروات والمحفزات السلوكية. وبما أنّ عملية الإنتاج وإعادة الإعمار تتميز باستثمارات ضخمة، تتأثر فاعلية هذه الاستثمارات، وفترة استعادة الخسائر التي تم تكبدها، والتعويض عن العوامل الناتجة من ذلك (الرأسمال، والعمالة الماهرة، والعمالة غير الماهرة) بشكلٍ مباشر من جهة بالتوفيق بين تقييم الأضرار النسبية الناجمة عن الحرب على كلٍ من العوامل وسياسات إعادة الإعمار وأجزاء من مكوناتها المادية والجسدية، ومن جهة أخرى بتأثيرات السياسة الضريبية والنقدية على تعبئة الموارد المالية وعلى الأسعار.
ويُعرض مثالان مرجعيان في هذا الشأن: كان الدمار المادي في ألمانيا ما بعد الحرب هائلاً فيما كانت الخسائر في الرأسمال البشري، وخصوصاً نتيجة هجرة السكان الألمان من الأراضي المفقودة ومن الجزء الشرقي نحو جمهورية ألمانيا الاتحادية، أقل نسبياً على الرغم من ثقلها، وظل هيكل القوى العاملة، بحسب مستويات المهارة، مستقراً نسبياً. واقترنت سياسة الاستقرار النقدي بالحوافز في مشروع مارشال وفتح الأسواق (الجماعة الأوروبية للفحم والصلب ثم المسار الأوروبي) على الصادرات الألمانية. وقد نجم عن ذلك إعادة إعمار وُصفت بأنّها «معجزة».
في لبنان، أدى تزامن الحرب الأهلية مع الازدهار النفطي إلى هجرة هائلة، لا سيما للمهنيين والشبان من أصحاب الإجازات من جهة، وإلى تسهيل تمويل الحرب وإطالة أمدها، فضلاً عن تكديس رساميل ضخمة من قبل المهاجرين اللبنانيين وبخاصةٍ في دول الخليج من جهة أخرى. وبعد مرحلة أولى طبعتها أزمة نقدية تدفع مؤشرات كثيرة إلى الاعتقاد بأنها مفتعلة، وسخاء في استخدام الأموال العامة لصالح زعماء الميليشيات («الثمن السياسي للسلام»)، هدفت السياسات النقدية والمالية إلى الحفاظ على تدفقات الرساميل (المسجلة على شكل ودائع مصرفية وديون محلية، عامة وخاصة٣ وإلى استخدمها لدعم الاستهلاك والواردات، مما أدى إلى ارتفاع دراماتيكي ومتواصل لسعر الصرف وتسبب بـ«المرض الهولندي»، الذي دفع بدوره إلى استمرار هجرة اللبنانيين من أصحاب الإجازات واستيراد ضخم للعمالة الأجنبية ذات الكفاءة المتدنية. وبعد ٢٥ عاماً على نهاية المعارك، لا تعمل أي من الخدمات الأساسية بصورة طبيعية (الكهرباء، والمياه، والنقل، والاتصالات، إلخ).
ما زالت نتيجة الحرب الأهلية في سورية غير مؤكدة وهي لا تبدو قريبة. ونحن لا نعرف إلا القليل عن حجم مشاركة المهنيين في الهجرة السورية مقارنة بعددهم ضمن السكان الذين يتواجدون في الخارج في إطار انتقال ديمغرافي كامل. تبدو الأضرار المادية كبيرة لكننا لا نملك أي تقديرات موثوقة. وستعتمد التدفقات المالية المتوقعة خلال فترة ما بعد النزاع مباشرة على نتائجه السياسية. بالتالي تجازف سورية بأن تجد نفسها وقد تحولت إما إلى دولة فقيرة مصدّرة لليد العاملة (كاليمن) وإما إلى مجموعة متنافرة من المناطق التي تعتمد على التأثيرات والأسواق الخارجية.
لقد تعلّم السوريون الكثير من الوصفات السيئة من خلال تورطهم في الحرب الأهلية في لبنان وهيمنتهم خلال حقبة ما بعد الحرب؛ ويُرجَّح أن يكرروا ذلك في وطنهم. وفيما تستمر المأساة، تبدأ بوادر استغلال الظروف لتحقيق مآرب شخصية بالظهور استعداداً لفترة ما بعد الحرب.
«متى سيتوقف العنف؟»، هذا هو السؤال الأساسي، يليه مباشرة: «بموجب أي اتفاق؟»، لأنّ أساليب الخروج من النزاع هي التي تحكم مستقبل سورية، وإلى حد كبير مستقبل لبنان، وهي التي ستحدد هامش الخيارات المتاحة خلال فترة ما بعد الحرب فضلاً عن دوافع الساسة وكفاءتهم٤. وكلما زادت فرص التوصل إلى اتفاق، انزلقت الرهانات من الصراعات الواضحة التي يخوضها طرفا النزاع إلى صراعات، أكثر سرية، داخل كل معسكر وفي محيطه، لإبراز أنصار هذا الاتفاق وقادة ما بعد الحرب.
تفكيك المؤسسات وإعادة بنائها
الحرب فاجرة تلتهم «الجزء الملعون» من المجتمع والسلطة. تنجز الحرب بين الدول هذا الدمار بطريقة منظّمة؛ فهي تهدف إلى تعزيز التنظيم الاجتماعي الذي يحكمها والإشادة به، إنما مع مخاطر يمكن أن تكون كبيرة (لا تزال الثورة البلشفية عام ١٩١٧ خلال الحرب العالمية الأولى المثال الأوضح على ذلك، لكن تأثيرات الحرب التي شنّها العراق على إيران تصبّ في الخانة نفسها). أما الحرب الأهلية فتنطلق من دحض التنظيم الاجتماعي القائم، وتنشئ تنظيمات جديدة متنافسة، سيحل أحدها في حال الفوز، أو بعضها في حال حدوث تقسيم، محله في نهاية المطاف.
مع أن الحرب بين الدول عبارة عن دمار مادي منظّم (لأنّها متبادلة)، يندرج في إطار تعزيز التنظيم المؤسساتي ويهدف إلى تحقيقه، فالحرب الأهلية عبارة عن دمار مادي أصغر حجماً ضمن عملية تفكيك وإعادة بناء مؤسساتية. الحرب الأهلية في سورية، دون أن تخرج عن القاعدة، إلا أن مساحات الدمار فيها أوسع من العادة بسبب استدامة القدرات العسكرية للجيش النظامي. بالمقابل، ظلت الذكرى التي حفظتها شعوب البلاد التي عايشت الحربين العالميتين متمثلة في أنّ بلادها استعانت بالأمم المتحدة وبالردع النووي، آملة أن تكفي هاتان الآليتان لإبعاد هذه الذكرى وتفادي تكرارها، أقله «على المستوى المحلي».
خلال الحرب الأهلية، تسبب فقدان سيطرة الدولة على المجتمع وعلى الأراضي في بروز التنظيمات المجتمعية والمكانية البدائية، التي سبقت تأثيرات نشاطها الاندماجي. وقد أدت الحرب الأهلية اللبنانية، من خلال فك قبضة بيروت عن باقي البلاد إلى تقريب طرابلس من حمص والبقاع من دمشق (من خلال تكثيف الأحجام القانونية أو غير القانونية لتبادل السلع، بالاتجاهين، أو أيضاً من خلال تضخيم تدفقات السكان). أما الحرب الأهلية في سورية فقد أدّت، أقله مؤقتاً، إلى إلغاء تأثيرات النشاطات المركزية والاندماجية للسياسات التي اتبعتها الأنظمة المتعاقبة منذ عهد الاستقلال: تطويق لبنان من خلال بناء موانئ اللاذقية وطرطوس وربطها عبر الطرق البرية والسكك الحديدية بدمشق وحلب، وتبعية حلب لدمشق وإدماج الشمال الشرقي والمنطقة البدوية من خلال شبكات النقل والري وآليات الدعم.
مرة أخرى باتت بيروت المرفأ والمسرح التنفيذي لدمشق. استقلّت حلب عن قبضة دمشق وفقدت وظيفتها الصناعية في المجال السوري؛ بعد أن فقدت، من خلال ترسيم الحدود عام ١٩٢٠ والتنازل عن الإسكندرونة عام ١٩٣٩، المساحة الأكبر من أراضيها التاريخية لصالح تركيا، وها هي تجد نفسها اليوم، مع منطقتها، تابعة لتركيا. وربما تعتبر المساحة البدوية الأكثر تضرراً: فقد ولّد وقف سياسات دعم المناطق الريفية في الشرق والشمال الشرقي من جهة هجرة كبيرة نحو مدن الغرب، مما أنشأ مناطق شاسعة تضم مساكن غير رسمية (في هذه المناطق نفسها دارت المعارك الأعنف)، وأدى إلى تجدد الروابط القبلية مع امتداداتها نحو العراق، والصحراء الأردنية السعودية (المحور الثاني الرئيسي للاشتباكات). ورداً على هذا التفكك، أقامت المناطق المأهولة بالسكان الأكراد، على طول الحدود الشمالية للبلاد، منطقة حكمٍ ذاتي بين المنطقة البدوية من جهة وتركيا من جهة أخرى. وتدعو التطورات الأخيرة في المنطقة الجنوبية (الجولان، وحوران وجبل الدروز) إلى القلق حيال حدوث ظاهرة مماثلة مع خليط السكان البدو، والريفيين الدروز وقرب الدولة من إسرائيل. وقد طاولت امتدادات الحرب الأهلية السورية في لبنان بشكلٍ خاص المناطق (المقيدة في حالة لبنان) حيث ظلت الملامح البدوية راسخة (عرسال في البقاع ووادي خالد في عكار).
بالتالي يراودنا انطباعٌ بأننا نرى، بفعل تمزّق حجاب الدولة، استعادة تاريخٍ طويل لهذه الأراضي، مع تذكيرٍ بحدود الدول الزائلة في المشرق العربي والتي أقامتها فرنسا بين عامي ١٩٢٠ و١٩٢٥. ونكتشف مجدداً أهمية حمص باعتبارها مدينة محور بالنسبة إلى مجمل المجال السوري. خلف منطق الحرب، يُعاد تشكيل المنطق الاقتصادي ومنطق الأراضي.
الحرب وما بعدها في سورية ولبنان
منذ عهد الاستقلال، لم يسعَ لبنان يوماً إلى تأكيد أي رؤية في ما يتعلق بعلاقاته مع سورية ولا أي تطور على صعيد مصالحهما المشتركة في المنطقة. لكن هذا الموقف لا يرتبط بأي فترة أو نظامٍ كان، في لبنان أو في سورية. واليوم لا يسمح الوضع الذي نشأ عن الحرب الأهلية بالاستمرار في هذا الطريق، فمستقبل لبنان وسورية رهن بذلك.
وقد تُرجم موقف التمنع والرفض هذا، على مدى أشهرٍ طويلة، بوهم التوصل إلى حلٍ سريع للنزاع السوري (لصالح النظام أو المعارضة، لا يهم) ثم، خلال عام ٢٠١٤، وأمام حجم المخاوف الأمنية والتوترات الاجتماعية والاقتصادية، بالوهم المستمر بالعودة إلى زمن المواجهات (مع أنّ ذلك يؤجَّل باستمرار)، مع عودة النازحين. ومن دون هذا الموقف الرافض، لا يمكننا أن نفهم دخول مليون ونصف نازح سوري تقريباً إلى لبنان، ولا تفرّد وكالات الأمم المتحدة والدول الأجنبية في إدارة وضعهم.
وعندما نتحدث في لبنان عن النازحين السوريين، المقصود بذلك السوريون الفقراء وحسب. فالسوريون الأغنياء، تماماً كالفلسطينيين الأغنياء، يتميّزون بسماتهم الطبقية أكثر من سماتهم الوطنية أو السياسية. بالمقابل، بدأ السوريون الفقراء يثيرون ردوداً رافضة مقلقة ضمن السكان اللبنانيين، وذلك بغض النظر عن الاعتبارات المرتبطة بالتعاطف أو العداء المجتمعي أو «السياسي».
كذلك، بتنا نستشعر ونعبّر أكثر فأكثر عن التأثيرات السلبية للعمل الإنساني، الذي يعتبر رغم ذلك ضرورياً في مواجهة المأساة الحاصلة: فالمساعدات تجتذب عدداً أكبر من النازحين، وتُفاقم الضغوط على وظائف اللبنانيين، وأجورهم ومداخيلهم، لا سيما الأكثر فقراً في ما بينهم، كما أنّها تثير الغيرة والتوترات حتى في ما بين الأولاد الذين يرتادون المدارس.
فضلاً عن ذلك لا بد من الاعتراف بأنّ سورية، إنما لبنان أيضاً، لن يعودا إلى سابق عهدهما وبأنّ ديناميكية الحرب الأهلية قد أنتجت وقائع لا رجوع عنها وهي تحدد كل يوم معطى اجتماعياً واقتصادياً ومكانياً جديداً بالنسبة إلى كلا البلدين. وبفعل الحرب الأهلية السورية، يفرض الفائض في القوى العاملة السورية في سورية كما في لبنان، اتخاذ تدابير فورية لاحتوائه وتوجيهه من خلال إرساء الأسس لعلاقات اجتماعية واقتصادية مستقرة بين البلدين كما داخل كل منهما.
بالإضافة إلى ذلك، إذا اعترفنا بأنّ استقرار الوضع الاجتماعي في سورية يعني الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية المتورطة، بطريقة أو بأخرى، في النزاع والتي ستتأثر بعواقبه، من غير المقبول تحميل لبنان وحده العبء الذي ألقي على كاهله.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ ثنائية العمل الإنساني والأمني لم تكن يوماَ على مستوى التحديات؛ كما أنها تصبح أكثر عدم استقرار وخطورة. بالتالي تبرز الحاجة إلى مقاربة هيكلية. من هذا المنطلق يمكن أن يرتكز العمل٥ على محورين:
في المحصلة، من شأن هذا العمل أن يساهم، من جهة، في دعم الإنتاج في سورية كما في لبنان ويمهّد، من جهة أخرى، لتكاملٍ إيجابي بين لبنان وسورية وإزاء باقي العالم العربي والبحر المتوسط، لفترة ما بعد الحرب.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.