لا تخلو صورة جوية لمدينة بيروت من الغرب من الحزام الأبيض الممتد من جنوب منطقة الروشة المعروفة بالرملة البيضاء، تيمناً برمالها البيضاء مقابل الرمال الحمراء المحيطة بها، حتى منطقة خلدة جنوباً. هذا الحزام الذي كان يمتد تاريخياً لأكثر من عشرة كيلومترات متواصلة تقطعها بعض الصخور الرسوبية وغيرها في بعض الأمكنة. بكل تأكيد مصدر هذه الرمول التي يختلف عمقها من مكان إلى آخر في تلك المنطقة هو الصحاري الأفريقية وربما مما كان يجلبه نهر النيل من أتربة تتحرك مع التيارات البحرية. في كتابها الصادر عام ١٩٩٧، تقول نينا جدجيان إن محطة الرمال هذه هي حزام من عشرة كيلومترات من الشاطئ والتلال الرملية تمتد من الرملة البيضاء حتى خلدة، هي أكثر المواقع العائدة للعصر الحجري امتداداً وأهمية، وتغزوها المباني الحديثة تدريجياً. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت عملية رمي بقايا البناء والردميات على المساحات غير المبنية من هذه المنطقة، لتوسعة مدارج المطار والطرقات في تدمير هذه المعالم. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فإن مواقع العصر الحجري في لبنان مهددة بالزوال. إلى هذا، كانت الرملة البيضاء مصدراً من المصادر السهلة لرمول البناء خصوصاً لدى الطبقات الأقل يسراً.
تظهر صورة مأخوذة من الجو في العام ١٩٣٩، أن الرمال كانت تصل إلى ما يعرف اليوم بمنطقة الأونيسكو، ويخترقها رأس من بعض الأراضي الزراعية والمنشآت من منطقة المزرعة - وطى المصيطبة، لتمتد الرمول خلفها من جديد وصولاً إلى أطراف حيّ قصقص وحرج الصنوبر. ويروي بعض كبار السن أن منطقة الرملة البيضاء والجناح وبئر حسن كانت خلال تلك الفترة تعتبر موحشة ومسرحاً «للواوية». ويقال إن بعض أهالي بيروت من الملاكين كانوا يورثون بناتهم في تلك المناطق بينما يعطى الذكور من الأولاد حصتهم في المناطق الأغلى ثمناً من رأس بيروت، البسطة، عين المريسة والمزرعة.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبدايات الخمسينيات، بدأت ملامح تحوّل كبير للحياة في بيروت والتمدد العمراني جنوباً وبدأت أسعار الأراضي بالارتفاع، بل أضحت من أرقى مناطق العاصمة. وقد تم شق كورنيش بحري في منتصف الخمسينيات يستكمل الكورنيش البحري الممتد من عين المريسة حتى الروشة. هذا الكورنيش هو الذي حدد المنطقة العاشرة من بيروت التي تضم غالبية الأملاك العامة البحرية بعدما قضم هو أجزاء كبيرة منها.
طبيعة الشاطئ واستخداماته
يتشكل شاطئ الرملة البيضاء من الرمال البحرية المترسبة قرب أو على قاعدة صخرية كما هو واضح على الجهتين الشمالية والجنوبية، التي يختلف عمقها من مكان إلى آخر. وتشير بعض الصور المأخوذة من الجو منذ عشرات السنين إلى أن شاطئ الرملة البيضاء كان غير مستقر لناحية مساحته وكمية الرمال الموجودة فيه، وهذا الأمر يظهر بوضوح حتى خلال ثمانينيات القرن العشرين وتحديداً العام ١٩٨٢ حيث كانت مساحة الشاطئ أقل بكثير مما هي عليه اليوم في العديد من النقاط، وذلك أن المنطقة كانت معرّضة للكثير من التيارات البحرية التي تُدخل الرمال وتخرجها، ونعتقد أن هذا الأمر هو ما خلق بعض اللغط حول الواقع القانوني العقاري للمنطقة والذي سوف نتحدث عنه لاحقاً.
بيئياً، تشكل هذه المنطقة نظاماً متكاملاً للكثير من الكائنات البحرية، وأهمها السلحفاة البحرية التي بإمكانها وضع بيوضها في هذه الرمال التي أصبحت نادرة الوجود على طول الشاطئ اللبناني، كما هي مهددة بالانقراض نتيجة التدمير الممنهج لبيئتها وبسبب التلوث البحري. كذلك يسكن فيها السرطان الرملي، إضافة إلى كونها مكاناً لتكاثر بعض الأصداف.
رغم بيئته الفريدة، يعتبر شاطئ الرملة البيضاء من أكثر الشواطئ تلوثاً على مستوى كل الشاطئ اللبناني، وذلك نتيجة الإهمال الرسمي المتمثل بوجود ثلاثة منافذ لمياه الصرف الصحي تصب فيه.
مع تشييد المنتجعات البحرية على شاطئ منطقة الجناح بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي، إلى ازدهارها في الخمسينيات منه، بقي شاطئ الرملة البيضاء بعيداً عن هذا النوع من الاستعمال. ولكنه كان قبلة لأهالي بيروت الذي ينصبون فيه الخيام و«العرازيل» صيفاً للتمتع بالبحر، كما كانوا يعقدون فيه مناسباتهم الشهيرة «أربعة أيوب» احتفاء بشفاء النبي أيوب من مرضه على هذا الشاطئ وفق الروايات. هذه العادات خفت مع اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥. في العام ١٩٨٣، اتخذت الحكومة اللبنانية قراراً بإنشاء مسبح شعبي على الرملة البيضاء ضمن عدة مسابح على طول الشاطئ، وتحت سلطة وزارة الأشغال العامة.
كذلك انتشرت خلال الحرب وبعدها خدمات «الإكسبرس» التي تقدم القهوة والشاي وغيرها لرواد الكورنيش البحري الذي كان يتحول ليلاً إلى ملتقىً للعشاق؛ خصوصاً الجهة الجنوبية منه التي كانت قيد الإنجاز، قبل وقف الأعمال وإزالة المنشآت، وهذا ما سنعود إليه لاحقاً. مع نهاية الحرب الأهلية عام ١٩٩١، بقي الشاطئ يستخدم من عامة الناس صيفاً، واستمر استخدامه كمتنفس للفقراء ومحدودي الدخل، إضافة إلى بعض النخب.
في نهاية القرن الماضي، بدأت الأخبار تتوارد عن وجود نية لإقفال الشاطئ والشروع في إقامة مشروع سياحي على كل منطقة الرملة البيضاء حتى ما يعرف اليوم بمنطقة الإيدن روك. إلا أن الضغوط الكبيرة التي مارستها منظمات غير حكومية حتى عام ٢٠٠٣ وعلى رأسها جمعية «الخط الأخضر» و«اللقاء الأهلي لحماية الشاطئ»، من خلال نشر تفاصيل المشروع إلى الضغط الإعلامي والاجتماعي، دفعت بصاحب المشروع آنذاك، رفيق الحريري إلى سحبه وابتكار طريقة لإعادة تفعيله كشاطئ شعبي بالتعاون مع وزارة الأشغال العامة.
قامت الجمعية المسؤولة عن إدارة المسبح الشعبي بجهود كبيرة، ما عزز ارتياده من قبل مجموعات كبيرة من الناس. إلا أن أسباباً أخرى، منها محدودية قدرات الجمعية والتلوث الكبير الناجم عن مياه الصرف الصحي لأكثر من نصف العاصمة والتي تصب فيه، شكلت إعاقة كبيرة لتقدمه.
مثال للتلاعب بالأملاك العامة
في منتصف عام ٢٠١٤، وفي خضم الأحداث المرتبطة بدالية الروشة وإغلاقها، بدأت الأخبار بالتوارد عن بيع الشركتين العقاريتين اللتين تملكان ثلاثة عقارات أساسية تشكل أساس المسبح الشعبي، المملوكتين من ورثة رفيق الحريري إلى وسام عاشور وهم صاحب مكتب هندسي وشركات عقارية الحديثة العهد مثل «بيروت مارينا غيت»، و«بي أم غيت»، و«عاشور هولدنغ». وقد تقدم عاشور بطلب من بلدية بيروت لوضع سياج على حدود هذه العقارات ليمنع الناس من دخولها. إلا أن الطلب هذا لم يبت نتيجة حملة ضغط كبيرة قام بها الإعلام ومنظمات غير حكومية، رغم أن عاشور صرح بانه يريد تطوير المسبح الشعبي وإعادة فتحه للعموم برسم دخول مقداره ما بين خمسة وثمانية آلاف ليرة لبنانية للفرد، في سابقة غير جدية خاصة أن القيمة المصرح عنها للصفقة بلغت ١٢٠ مليون دولار، الذي يدحض فكرة تطوير مسبح شعبي ويعزز فرضية طرد الناس تدريجياً منه.
اليوم، يبقى هذا الموضوع مكان اشتباك بين الناشطين والجمعيات من جهة؛ والسلطة الممثلة بالبلدية والتنظيم المدني ووزارة الأشغال العامة والنقل.
عقارياً، تشكل الرملة البيضاء مثالاً فاقعاً لعمليات التلاعب بالأملاك العامة البحرية والتي يحددها القرار ١٤٤/ أ س الصادر عام ١٩٢٥ والذي يحدد الأملاك العامة البحرية بأقصى نقطة تصلها الأمواج في الشتاء، وشطوط الرمل والحصى.
قبل ذلك يجب طرح سؤال أساسي يتعلق بكيفية التملك وحصوله على أراضٍ كان الناس يتهيبون الذهاب إليها وغير منتجة زراعياً. وهذا حصل على كامل الأراضي اللبنانية وليس فقط على الشاطئ. كما أننا نشهد اليوم مشهداً جديداً من مشاهد التعدي على الأملاك العامة، المجهول منها أكثر بكثير مما هو معلوم.
يتشكل شاطئ الرملة البيضاء اليوم من تسعة عقارات هي من الشمال إلى الجنوب ٥٠٧٠ و ٥٠٦٩ وتملكهما بلدية بيروت، بعدها يأتي العقار ٢٣٦٩ الأكبر مساحة بحوالي ١٨ ألف متر مربع والمملوك حالياً لشركة البحر العقارية الثانية، ثم العقاران ٤٠٢٦ و ٤٠٢٧، ملك عقارية البحر االمتوسط بمساحة حوالي عشرة آلاف متر مربع معاً. تشكل هذه العقارات عماد المسبح الشعبي الذي أعلنته الحكومة اللبنانية عام ١٩٨٣ ومن ثم وزارة الاشغال العامة عام ٢٠٠٣، وهذه الشركات ملك آل الحريري منذ تسعينات القرن الماضي حتى منتصف العام الحالي حين انتقلت ملكية غالبية الأسهم إلى وسام عاشور، وهو تاجر عقارات.
فصول السيطرة والتلاعب
والجدير ذكره أن ٤٠٢٦ و ٤٠٢٧ مرتفقة بعدة إشارات منذ حوالي خمسين عاماً وهي: أن البحر قد طغى عليها، أي أنها وفق القرار ١٤٤/ أ س تدخل كلياً أو جزئياً ضمن الأملاك العامة البحرية. كما هي مرتفقة بعدم البناء من أي نوع كان، وبعدم الإشغال لأي جهة استعمال كانت وبعدم الإشغال لأي غرض كان؛ وهي لا تزال قيد الدرس وفق المرسوم ٢٤٨٧ للعام ١٩٦٥.
أما العقار فله قصة أغرب. فقد تم تملكه لأول مرة من قبل جان موسى فريج، والد النائب والوزير الحالي نبيل فريج، بتاريخ ١١ أيار ١٩٣١. وقد تغيرت مساحته نتيجة الضم والفرز لترسو على وضعه الحالي في العام ١٩٥٨. وقد كان هذا العقار موضع نزاع قضائي حول حدوده بين فريج ولجنة تحديد الأملاك البحرية واستئناف بواسطة موكله بشارة الخوري الذي أصبح رئيساً للجمهورية في العام ١٩٤٣. ولا تظهر على الصحيفة العقارية أي آثار لرفع القيد الاحتياطي الموضوع على العقار عام ١٩٣٥. ولكن تظهر إشارة ارتفاق وتخطيط لمصلحة الأملاك العامة البلدية بتاريخ ٢ حزيران ١٩٣٥ أنها تحولت بتاريخ ٢١ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٥٨ إلى ارتفاق بعدم البناء من أي نوع كان وبعدم التأجير لأية جهة استعمال كانت وبعدم الإشغال لأي غرض كان. وقد تم تأكيد هذا الارتفاق بإضافة «من أي تغيير للوجه الطبيعي للأرض» بعد صدور المرسوم ٤٨١٠ في ٢٥ حزيران/يونيو ١٩٦٦، عبر إدخاله في القسم الخامس من المنظقة العاشرة الخاضعة لهذا النظام. وهنا يبدأ الشك وطرح الأسئلة حول كيفية تداول هذا العقار بأسعار خيالية رغم أن قيمته العقارية هي صفر، ما يشير إلى وجود نوايا لتعديل القانون ورفع عامل الاستثمار.
تلي هذه العقارات أربعة عقارات (٤٢٨٥، ٢٢٣٣، ٤٠١١، ٢٢٣١) بمساحة حوالي ٣٨ الف متر مربع تملكها «الشركة الوطنية للأراضي والأبنية» (الأولى والثانية) المملكة لورثة رفيق الحريري. هذه العقارات مرتفقة بإشارة تقول «إن البحر طغى عليها» ما يضع جزءاً منها على الأقل ضمن الأملاك العامة البحرية. وقد جُمعت العقارات الأربعة في وحدة عقارية متكاملة لكي يتفادى المالكون المشاكل القانونية التي قد ترتبها عملية ضم العقارات. ولهذه العقارات قصتها مع سوء استعمال السلطة الذي مورس بعد العام ١٩٩١.
فكورنيش الرملة البيضاء كان مخططاً ليمر بهذه العقارات ويأخذ جزءاً كبيراً منها فتصبح مثل العقارات ٢٣٦٩ و ٤٠٢٦ و ٤٠٢٧ وينشأ فاصل بين الأجزاء التي طغى البحر عليها والأجزاء الأخرى التي سيصبح بعض منها غير قابل للبناء. وقد قام رفيق الحريري بإلغاء هذا التخطيط المصدق بالمرسوم ٤٨١١ (١٩٦٦) من خلال المرسوم ٧٥٠٥ تاريخ ١٠ تشرين الثاني/أكتوبر ١٩٩٥ في جلسة استصدر فيها مرسوم لتعديل الواجهة البحرية في صيدا والسماح بعمليات ردم للبحر. وقد قامت الجرافات سريعاً بإزالة كافة ما تم إنشاؤه على الجزء الملغى من الكونيش وبناء جدار مرتفع يمنع الناس من الدخول.
والفصل ما قبل الأخير من إنهاء السيطرة على شاطئ الرملة البيضاء نشهده اليوم مع مشروع «منتجع أيدن روك» الذي يسوّق له وسام عاشور ووضع حجره الأساس وزير السياحة الحالي ميشال فرعون قبل الاستحصال على أي ترخيص للعمل. ويتضمن المشروع استخدام أكثر من ٤٠ ألف متر من الأملاك العامة البحرية إضافة إلى تجاوز عوامل الاستثمار في المنطقة بشكل فاضح. ويضمّ هذا المشروع الاستثماري فندقاً ذا خمس نجوم، برجاً سكنياً من 22 طبقة، شاليهات، كابينات، وألعاباً ترفيهية ضمن مساحة تتعدى ٢٢ ألف متر مربّع. ويستثمر المشروع رجل الأعمال وسام عاشور بقيمة ٥٠٠ مليون دولار أميركي، حيث افتتح منذ نحو سنة فندق «لانكستر» ذا الخمس نجوم في منطقة الروشة، لإيمانه بأهمية الاستثمار في لبنان في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة. وتؤكد مديرة العلاقات العامة في شركة «عاشور» منال الدنا أن «المسبح الشعبي الذي يقع بالقرب من المشروع، سيبقى في تصرّف عامة الناس، لكن بعد إدخال التحسينات عليه وإضافة نشاطات ترفيهية ليكون مقبولاً من المواطنين».
اما الفصل الأخير فهو المنطقة الواقعة بين الأيدن روك وفندق سمرلاند-كمبنسكي والمملوكة لشركة يملك الحصص الأبرز فيها محمد الصفدي وعدنان وعادل القصار ويرأس مجلس إدارتها ناظم الخوري، وزير البيئة السابق، مع أن ملكيته من الأسهم زهيدة جداً؛ وهذا يضع علامات استفهام حول ما إذا كان قد قدم خدمات للشركة إبان وجوده في السلطة. ولهذا المشروع بالإضافة إلى ما قامت به الحكومات منذ عام ٢٠٠٦ لتسهيل وتمرير مشروع كمبنسكي الضخم، قصة سنسردها لاحقاً.
ومن كل ما سبق يتبين كيف أن نهب شاطئ بيروت تم عبر عملية نهب منظّمة قام بها أشخاص في السلطة وأساؤوا استخدامها عبر تمرير مراسيم وقوانين تسلب الناس أملاكهم العامة وجزءاً كبيراً من ذاكرتهم وهويتهم.
ناشط بيئي،
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.