ننشر في ما يأتي الجزء الثاني من قراءة وضاح شرارة لكتاب حنا بطاطو «العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية». فبعد تحليل أواليات تسلّم السلطة، يتناول الكاتب في هذا الجزء أواليات تثبيت السلطات في مصر الناصرية وفي العراق وسورية البعثيَّين، في ظل الأنظمة «الوطنية الديمقراطية»، الذي أُطلق على الأنظمة الصادرة عن حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث. ويناقش شرارة معارضاً انطباق هذا التوصيف على الأنظمة العربية المعنية
١
الاستيلاء والتثبيت والتوحيد
تعقبت حلقة أولى من سمات الدولة الوطنية العربية الناشئة في رعاية أو «قبضة» جهاز استيلاء عصبي ريعي وبيروقراطي في مرآة المثال العراقي، وصِفةَ حنا بطاطو إياه في عمله الجامع الذي انقضت عليه، في ٢٠١٣، ٣٥ سنة تامة (عطفاً على مقال الكاتب في «بدايات» العدد ٥، ربيع ٢٠١٣، ص ١٨٦-٢٠٧). والحق أنّ جهاز الاستيلاء هذا، وهو غالباً ما اختصر في اسم صاحبه ونسب إلى رأسه وجامع مقاليده، صدام حسين، بلور نظاماً بالغ الاضطراب والاختلال، استمد (من) عوامل اضطرابه واختلاله، وهي عصبيته وريعيته وبيروقراطيته، واستيلاؤه المتجدد، نازعَه إلى التأزم و«الراديكالية»، على ما مرّ القول، وإلى الاستقرار على حال الحرب والإقامة عليها داخلاً وخارجاً. وتناولت الحلقة الأولى الانقلاب أو الانتقال من المنافسة على الدولة العراقية، إلى التحكم المنفرد فيها، ومن شِلل عسكرية ضيقة، لحمتها عصبيةٌ محلية متحلقة حول فرد بارز المرتبة وتربصٌ بعصبية أخرى على مثالها وشاكلتها، إلى احتكار حزب منظم واحد وعريض القاعدة المنتفعة السيطرةَ المسلحة، ثم الإدارية والأهلية والسياسية والاقتصادية على الدولة والمجتمع وأبنيتهما.
وعلى رغم فظاظة الاستيلاء وفجاجته، ولباس حزب البعث العربي الاشتراكي في «القطر» العراقي في منافسته الأحزاب والكتل الأخرى التي تشبهه ويشبهها حلة العصابة المؤامِر بعضها بعضاً، انخرط الاستيلاء في سياقة تاريخية عريضة وموصوفة هي سياقة بناء الدولة الوطنية، وخروج المجتمعات المستعمَرة من سيطرة الإدارات الاستعمارية إلى الاستقلال والتدبير السياسي والذاتي والتصرف في عوائد الإنتاج والتوزيع، على وجوهها. فلم يخلُ الاستيلاء، وهذه حاله، من مسوغات ظاهرة وقوية. وبدا، في أعين كثيرة ليست كلها مغرضة، تمثيلاً قاسياً ولا شك على «مراحل» استواء الجماعات المستعمرة والتابعة المتخلفة دولاً (-أمماً) وطنية ناجزة، وعلى ضرورات الانتقال من حال التصدع الأولى والتعويل على الأجنبي إلى حال التماسك الذاتي المرجوة والآتية.
عسكر الاستيلاء وحزب الحكم
فوسع البعث العراقي - على نحو ما وسع «الناصرية» المصرية في الأعوام الخمس عشرة المنقضية بين ١٩٥٥ - ١٩٧٠، والجبهة الوطنية التقدمية في سورية في ١٩٥٤ - ١٩٦١، ثم البعث السوري في ١٩٦٣ - ١٩٧٠ وما بعدها، والحركات «الوطنية» أو الاستقلالية في الأردن ولبنان وبلدان شبه جزيرة العرب وفلسطين - السعي في اختصار المنازعات السياسية والأهلية الكثيرة والمتشعبة السابقة في التيارات العامية وحدها. واقتضى الأمر أو النجاح فيه إقصاء الجماعات المتربعة في سدة النسب والمكانة، وما يتفرع عليهما من أحلاف وعوائد وريوع، ومصادرتَها على مواردها ومكانتها ومعايير اجتماعها، قبل إطفاء جذوتها السياسية والاجتماعية. وجمعت المكانات والأحلاف هذه، في باب واحد هو النظام القديم أو البائد. وترتب على هذا شق المجتمعات (إلى) معسكرين اجتماعيين وأهليين متنازعين، أو متحاربين من غير وسيط أو وساطة، يقضي احترابهما بانتصار معسكر على آخر انتصاراً ناجزاً، ولا تقوم بعده قائمة للمعسكر «الطبقي» الأهلي المهزوم والمغلوب، وذلك على دعوى نشرها مثال سوفياتي شيوعي جمع، في صورة مركبة وواحدة، «منطق التاريخ» التطوري والغائي وطوبى الثورة المظفرة والحاسمة.
ومراحل الاستيلاء البعثي الصدامي على دولة العراق، وعلى شطر من أبنية مجتمع العراق وجماعاته، تعاقبت على رسم واضح تعقبه حنا بطاطو، وتقصى دقائقه من غير إغفال وقائعه المؤثرة. وتابع الجزء الأول من المقالة بطاطو على الرسم الذي اختطه. فالمرحلة الأولى ورثتها قيادة حزب البعث من الأعوام العشرة التي انقضت بين الانقلاب الأول، في ١٤ تموز ١٩٥٨، والانقلاب الثاني في ١٧ – ٣٠ تموز ١٩٦٨، وملأتها النزاعات العسكرية المتفاقمة على الحكم وقممه. وأدلت فيها القيادة البعثية بدلوها العاثر، ومن غير قعر، في ١٩٦٣.
وجددت بعض التجديد نهج الحكم الذي استقر، غداة ١٤ تموز ١٩٥٨، مع انفراد عبد الكريم قاسم بالزعامة أو الرئاسة، ثم مع عودة عبد السلام عارف والناصريين إلى الصدارة. فالانعطافات والانقلابات هذه غلبت عليها مبادرة الجيش والقوات المسلحة، ولم تلابسها المشاركة «الشعبية» أو الأهلية والجماهيرية إلا ملابسة عرضية، على رغم شراكة الحزب الشيوعي العراقي، الجماهيري قياساً على الأحزاب العراقية الأخرى، في بعض فصول المرحلة، وشراكة التيار «القومي»، البعثي والناصري، في الفصول نفسها وإنما على منقلبها الآخر. وعلى خلاف الحزب الشيوعي، وهو أوكل إلى عبد الكريم قاسم التصرف والتدبير الحكوميين ونزل عنهما حين ندب قاسم نفسه وحده إليهما، (وعلى خلاف) الشلل العسكرية الناصرية المتفرقة، وهي تصدرت تيارات جماهيرية مستقلة بنفسها ولا تربطها بقيادات مفترضة هياكل وشبكات منظمة ومتصلة، أرادت قيادة حزب البعث رفد الانقلاب العسكري التقني والمباشر بعمل «شعبي» جماهيري وقاعدي. وأوكلت إلى «حرس قومي»، حزبي، الاضطلاع بدور في الاستيلاء على «الشارع» وتخويف الأعداء والسيطرة على أجهزة الحكم، ثم في الإدارة السياسية والأمنية اليومية. وآذن إشراك «الحرس القومي» في الأمرين بتفشي العنف، في صورته الوبائية والأهلية، في النزاعات السياسية، وفي إجرائها اليومي والإداري.
وإذا أفضى هذا التجديد في العاجل، إلى خسارة قيادة البعث السلطة وتأليب التيار القومي والجماعات العراقوية وبعض الجماعات «القديمة» عليه، رسخ التجديد «الشعبي» والحرسي آجلاً قدم الحزب، في ١٩٦٨، في الحكم. وخلص الحزب، أي قيادته الضيقة، من الاستيلاء الأول، الفوقي والعلوي، إلى ضعف مثل هذا الاستيلاء وهشاشته، وإلى حاجته، إذا شاء حكماً مديداً وراسخاً في دولة ومجتمع عربيين ومعاصرين، إلى غشيان حزب جماهيري عريض ومنضبط ومتعصب، جسم الدولة وأجهزتها، من وجه، وإلى السيطرة على أبنية المجتمع واستتباعها أو إلحاقها بجهاز السيطرة ودمجها في إوالياته. فمن طريق الحزب العصبي فالجماهيري المنضبط، وعلى خلاف اقتصار الشلل العسكرية على تكتيل اصحاب المواقع العملانية النافذة، ولكن على الضد من التعويل الايديولوجي على ترجيح عوامل اجتماعية وسياسية ضرورية غلبةَ قوى «تاريخية» موصوفة على قوى أخرى (على ما نسب الشيوعيون إلى أنفسهم) – تغلبت قيادة حزب البعث على القوى المنافسة الكثيرة الأخرى، وتجاوزت الاستيلاء الانقلابي الظرفي إلى إنشاء «نظامها» وتثبيته. وفي حالي أو فصلي الاستيلاء والتثبيت، مهدت الأداة الأمنية الطريق إلى بناء «النظام» على أركانه الإدارية والاجتماعية المتينة والمديدة.
فقدّم الانقلاب الخاطف والملتبس، والخادع أو المراوغ، لإجراءات قلبت رأساً على عقب موازين علاقة الدولة، أو جهاز السيطرة والتوحيد والإدارة، بالجماعات الوطنية وبـ«الشعب» و«المجتمع» أي بما خُلِّص من الجماعات وانقطع عنها، وائتلف في الكيانين الناشئين. فاستعجلت القيادة الحزبية قصر القوات المسلحة على أنصارها، أي على نفسها، وإقصاء «المخالفين» من غير تمييز. وسلطت عليها، وعلى أطرها الجديدة، معايير ولاء حزبي وشخصي صارمة وقاطعة. وعضدت هذه المعايير ببنية «طبقة منتخبة» ومتنفذة، وأخرى أوسع من الأولى، ولكنها تشاركها معايير الانتساب والمنبت والمصلحة المفترضة. فمالت كتلة الحزب بكليتها نحو الجسم السُّني والعربي، الوسطي والغربي والشمالي جغرافيةً وبلداناً، و«البدوي» الريفي عمراناً واجتماعاً وسياسة. والسمات العصبية والأهلية هذه نجمت عن انقلاب حزب البعث من منظمة ناشطين دعاة، ومحرضين «فكريين»، ومعترضين على سيطرة مصالح تقليدية ضيقة، إلى حركة سياسية مبادرة جعلت نصب جهدها وسعيها الدولة والسلطة، والاستحواذ عليهما، وإلحاقهما بقيادتها وخططها. وهي انتهجت نهجها الجديد، على نحو إعدادها لانقلابها في صيف ١٩٦٨، على ما تقدم، في ضوء منافستها «الحركة» أو التيارات الناصرية القومية العربية، من وجه، والحزب الشيوعي العراقي، من وجه آخر، والحلف الحاكم العسكري المضطرب أخيراً. وميدان المنافسة هو «مجتمع» الجماعات العراقية الأهلية وعصبياتها و«الدولة» التي أنشأتها الحقبة الاستعمارية البريطانية في أثناء العقود الأربعة المنصرمة (١٩١٨ – ١٩٥٨). وانتهت القيادة في هذا الأمر إلى مبدأين أو أصلين: الكتلة العسكرية والأمنية ضرورة للاستيلاء على السلطة، والجسم الحزبي الجماهيري والأهلي المرصوص وحده يضمن البقاء فيها.
برنامج «المرحلة الوطنية الديمقراطية»
و«المنطق» المتماسك والظاهر على هذه المقالات لم يكن وليداً منطقياً لأفكار أولى موجبة، بل هو تبلور في معرض حوادث ووقائع تعقبها «دليلنا» الدؤوب. ودلالته لا تقتصر على روايته. وبعضها يصدر عن إغضائه أو عن ترتيبه العوامل التي يُعملها في الرواية. فيلاحظ القارئ، على سبيل المثل، أنّ صاحبنا لم يفرد للصفة المذهبية أو الطائفية التي صبغت الشطر الأعظم من البعثيين في المرحلة الثالثة من تاريخ حزبهم (بعد الإعداد للانقلاب، ثم الاستيلاء الأول) معالجة خاصة. وذلك أنّ الكاتب اقتصّ مراحل غلبة هذه الصفة من طرق أخرى هي أزمة المواصلات النهرية وصناعة مراكبها، في أحواض الأنهر جراء تسلط المواصلات البخارية، وانهيار الأرياف في عهدة ملاكين رؤساء عشائر وأعيان وموظفين ووكلاء («سراكيل») غائبين أو مُقْوِين تحت أعباء روابط قرابة وولاء ثقيلة ومقيدة، وخسارة التجارة الداخلية بعض دوائرها المحلية والإقليمية، ووفرة اليد العاملة «الحرة» ومنافستها بعضها بعضاً وتردي أجورها، إلخ. وهذه السياقات البنيوية، وهي أصابت الكتل الأهلية السنية وأولها كتلة سكان البلاد الشمالية الغربية، ما كان لها ربما أن ترجح كفة الشطر السُّني من الجمهور البعثي لولا «هزيمة» علي صالح السعدي، الشيعي، وانفراط عقد الحزب وجمهوره وقيادته وخطه، تحت وطأة مراجعة حادة تطاولت إلى أركانه ومبانيه كلها. فالتوجه الاجتماعي على «الدولة» وإليها، وقيام الاستيلاء عليها بالقوة ثم غشيانها وملابستها مقام قطب الرحى من العمل السياسي البعثي، تضافر الأمران على إنزال الجمهور السُّني وكتلته منزلة سياسية واجتماعية (سوسيولوجية) متصدرة.
ولكن هذه الصدارة «الموضوعية»، الإحصائية إذا جازت العبارة، لم تَحمِل على صيغة إيديولوجية أو جهازية (علمائية، على قول إيراني وخميني رائج)، ولم تصبُ إلى مثل هذه الصيغة. فلم يترتب عليها تفريق مذهبي فجّ ومنهجي يفوق قوةً وأثراً الحواجز التلقائية الناجمة عن الإقامة والقرابة والأعراف المتفرعة عنهما وعليهما. وربما غلب الانقسام القومي والتاريخي، العربي و«الإيراني» الإقليمي والداخلي الوطني، وبعض إرثه الحربي والدامي، على الانقسام المذهبي، وغلفه بغلافه. وهذا الانقسام القومي والتاريخي، في حال العرب والكرد، لم تكسر الوحدة المذهبية حدته. ولم يؤدّ، من وجه آخر، إلى جبهة قوميات: «عربية» على الكرد، ولا كردية و«إيرانية» على العرب.
ويقود ترتيب الرواية العواملَ الاجتماعية المؤثرة في بناء السياقات البنوية، على النحو الذي مثَّلت عليه الفقرة السابقة، وهي تناولت «الطائفية» وعصبيتها وتقدم وظائفها العملية والظرفية على تحجرها العصبي والمعلن، أو هو قاد فعلاً إلى الفحص عن ملابسة نهج أثمر إنجازات «الثورة الوطنية الديمقراطية»، على ما سمى ماركسيون وشيوعيون جهازيون كثر رزمة إجراءات عرفت جملتها الدولة الوطنية في العالم الثالث وهي، بعد الاستقلال: التأميم وانتزاع مرافق إنتاج المواد الخام من الشركات الغربية، والإصلاحات الزراعية، وتولي إدارات الدولة مرافق المواصلات والبنى التحتية والاتصالات والتجارة الخارجية والصحة والتعليم إلى السلطة النقدية، وجهر إرادة توحيد وطني أو «قومي» صارمة وسوس الجماعات الأهلية والسياسية بموجبها، والانحياز إلى السياسات السوفياتية والحركات الاستقلالية الوطنية معاً في السياسة الخارجية والتنديد بسياسات «الغرب» ونظمه الاجتماعية و«الرأسمالية» عموماً، وضبط العلاقات السياسية الداخلية على مثال قريب من الحزب (الواحد) - الدولة ويتخطاه فعلاً إلى «المجتمع». وحملت هذه السياسة في الشرق الأوسط العربي على «الناصرية»، ونسبت إلى مصر في قيادة جمال عبد الناصر، في أثناء هيمنة سياساته الإقليمية على السياسات الوطنية (وأنكر سياسيون بارزون مثل السوري خالد العظم سبق عبد الناصر وريادته، إلى إنكارهم الحاد صدق انتهاجه هذه السياسة ونشدانه فعلاً غاياتها).
حلقات السلطة المتماسكة
وفي مرآة رواية بطاطو المعللة تترتب إجراءات بعث صدام حسين (أو أحمد حسن البكر- صدام حسين)، الإجراء بعد الآخر، على منطق عملي متضايف فيستدعي الإجراء الإجراء على سبيل التلازم، ولا يستقيم الإجراء الأول ولا يدوم إذا لم يتبع بالإجراء الآخر أو الثاني. وعلى هذا، فالاستيلاء على الحكم من طريق الجيش، ورعاية الحزب وحمايته ووصايته، وقطعاً لدابر الاضطراب والمنازعة في صفوف القوات المسلحة، ما دامت هذه ميدان المنافسة الوحيد على السلطة ومقاليد الأمر، «اقتضى» أو «أوجب» بعض الإجراءات المتماسكة: تكوين الجيش ومراتبه تكويناً جديداً في عهدة الجهاز الحزبي وأمنه و«بوليسه» واستخباراته؛ والتكوين الجديد هذا «اقتضى» بدوره إغراق القوات المسلحة بالحزبيين، ومضاعفة عديدها أضعافاً، وقصر التجنيد على دوائر أهلية وسكنية وولاءات معروفة ومختبرة تضويها مراتب لا يتطرق شك إلى انخراط أصحابها في الولاء الاضطراري والمقيد بقيود المصلحة الحيوية للقيادة.
وكان قد سبق هذا الفصل من السياسة توسيع أو تعظيمُ الجسم الحزبي، واحتراف المحازبين، وترتيبه على مرتبتي الأمر والانقياد، ورفد لحمته بعوامل مُسكة قوية مثل تمجيد الفصل «الثوري» والعنيف من مسير الحزب وتاريخه، وهو فصل خلف ضغائن قوية وتربصاً ثأرياً في صفوف الأحزاب والجماعات المنافسة والخصم، وانتخاب الحزبيين الجدد وترقيتهم على هذا المعيار. واستمدت القيادة بعض اللحمة (من) عصبيات منابت الحزبيين، العشائرية والمحلية والمذهبية والعمرية. وما أعمل أو أجري في الجيش والحزب أعمل في إدارة الدولة التي ألحقت بالحزب وقيادته. فانتفخ معاً في بعض الأحيان، وتباعاً في أوقات أخرى، عديد المعتالين على «الدولة» وأجهزتها ومرافقها. وتمويل العديد المتعاظم حاجة حيوية لا يستقيم بغير تلبيتها «الكريمة» دوام الحزب الحاكم في «قيادة الدولة والمجتمع»، على ما نصت مادة في الدستور البعثي السوري السابق هي نسخة مخففة ومهذبة من أصل أو مبدأ «ديكتاتورية البروليتاريا» في العقيدة اللينينية – الستالينية. وسبيل التمويل المفترض مضموناً ومألوفاً، إذا عز أو امتنع سبيل تنمية موارد الإنتاج الذي تتولاه القوى الاجتماعية نفسها (في إطار ليبرالي أو شبه ليبرالي)، هو سيطرة «الدولة» على الموارد والفوائض والاقتطاع والتوزيع والاستهلاك. والتأميم هو صورة السيطرة الإدارية المباشرة. ولا ريب في أنّ تأميم المواد الأولية التي سبقت الإدارات الاستعمارية إلى استغلالها، وإلحاقها بدورة إنتاجها واستهلاكها، هو رأس النهج الوطني والاستقلالي الاقتصادي والاجتماعي، ويجمع قيمة رمزية عظيمة إلى تلبيته حاجة تمويلية ملحة. والإنفاق السريع من عوائد مرفق تسيطر عليه القيادة الجديدة سيطرة تامة وتجعل من السيطرة التامة محور نضال سياسي طويل، إذا ضمنته القيادة وانتزعته من الشركات الأجنبية وحراستها السياسية والأمنية، إنجاز في وسع القيادة الإدلال به، وإحكام قبضتها بواسطته على مرافق القوة والسلطة والإدارة والمجتمع جميعاً.
فالمرفق النفطي، في حال العراق وغيره من الدول المنتجة، ليس رافعة تصنيع، ولا لبنة أولى في أسس الرسملة ودورتها. ولا هو قاطرة عربات أو حلقات تصنيعية أخرى. فبقي، إلى اليوم، عقداً كاملاً من السنين بعد سقوط صدام حسين، شأنه في بلدان أخرى مثل العراق، مصدر ريوع نقدية تسدد ثمن مشتريات البلد، ومرتبات موظفي إدارته المتورمة، ونفقات الإنشاءات التحتية الضرورية، إلى النفقات الفاخرة التي «تجزي» المتربعين في قمة الهرم السياسي الإداري والأهلي على سبيل الجرايات العباسية والمملوكية. والقرينة على الأمر أنّ تعاظم العوائد، بعد كسر احتكار الشركة «العراقية»، الأنغلو- أميركية، ثم بعد تأميم الحقول والعمليات كلها، قاد إلى تعاظم احتكار الحياة السياسية الوطنية، وفاقم نزاعاتها الحزبية، وأطلق يد الحزب الحاكم فيها، وضمن لها موقعاً حصيناً لا ينازع، ولا ينافس، ولا قيد عليه. وكانت الحملات العسكرية على الكرد، والإرهابية على الشيوعيين والأنصار، والإقصائية على المنافسين البعثيين والمتحفظين عن القيادة «التكريتية» الضيقة، من تظاهرات سياسة وصفت بالوطنية التحررية، وبالتقدمية الاشتراكية، وبالقومية الوحدوية. والحروب الخارجية، على إيران وعلى الكويت، و(تهديد) بلدان الخليج العربية، توجت الحملات الكثيرة الوجوه هذه، وترتبت على المنطق الإمبراطوري أو السلطاني نفسه، القاضي بتعظيم الريوع وتلبية احتياجات الإنفاق. وتذرعُ صدام حسين إما بـ«استعادة» الأحواز وحقول عبادان، أو بردع سعي الكويت في «تركيع» العراق من طريق خفض سعر برميل النفط وإغراق سوقه، أو بتلكؤ بلدان شبه جزيرة العرب عن تعويض العراق المحارب خسائره الباهظة، وهو يقاتل «الشعوبية» الفارسية وتوسعها المذهبي- تَصْدر وجوه التذرع المتفرقة والمتضافرة كلها عن اضطرار الحزب – «الدولة» - («المجتمع») إلى الوفاء بأعباء الاستيلاء والولاء. وهي أعباء إنشاء الدولة الوطنية (العربية) على المثال العصبي الريعي والبيروقراطي الذي أنشأتها عليه أجهزة عسكرية وحزبية في الربع الثالث من القرن العشرين. ولم تنفك هذه الذرائع، في أحوالها كلها، عن ربطها ربطاً وثيقاً بالمسألة الفلسطينية، وبإسرائيل: فمرّت «الطريق إلى القدس» بعبادان، وتهديد الكويت كان الوجه الآخر للتهديد بحرق إسرائيل أو قصفها بـ«الكيماوي المثلث»... وقد ينبغي استشراف صورة الدولة القومية والكبيرة، دولة الأمة الواحدة و«المملكة» المترامية الأطراف والمركزية معاً، وراء سياسات صدام حسين، وفي ثناياها. وهذه الصورة ليست من النوافل التي لا يليق بـ«الباحث العلمي» الالتفات إليها والوقوف عندها وتفحصها، أو رميها في سلة «الايديولوجيا» على أحد المعاني السائرة. و«الفولكلور» المَلَكي الصدامي اللاحق، في أثناء سنوات الحصار، لا يغمط الصورة قوتها. فهي رسم تاريخي ألهم حركات سياسية و«شعبية» فاعلة، ولا جدوى من «التخفف» منها وإدارة الظهر لها.
الحَمْل على تقنية سوفياتية متوطنة
وعلى غرار الناصرية ومنوالها، وسورية البعثية في أطوارها وعهودها المتعاقبة من الفريق أمين الحافظ فاللواء صلاح جديد فالفريق حافظ الأسد، برزت في صدد البعث العراقي ونظامه مسألة عريضة تناولت، حقيقةً، تعريف الأنظمة السياسية والاجتماعية التي تخلفت عن تصفية السيطرة الاستعمارية المباشرة على أجزاء واسعة من آسيا وأفريقيا كلها وبعض أميركا الجنوبية الهندية واللاتينية. وقاد التعريف شطراً من السياسات الدولية في العقود الأربعة التي أعقبت الحرب الثانية، ولابس ملابسة مؤثرة العلاقات السوفياتية – الأطلسية، ومنافسة «الكتلتين» على «حكومة العالم»، وعلى مسالكه وممالكه، أو بشره وموارده. وغلبة اللغة السوفياتية ومصطلحاتها على مناقشة تعريف الأنظمة السياسية والاجتماعية وترتيبها على مراتب التقدم والتخلف والتحديث وأنحاء الثورة الوطنية والديمقراطية والنمو وتوزيع الثروة وعدالته، هي أثر من آثار ميزان العلاقات الدولية في العالم الجديد، «العالم الثالث». واستجابت هذه اللغة أحوالاً وعلاقات داخلية افتقرت، فيما افتقرت إليه، إلى لغتها ومفهوماتها التاريخية المتعارفة. ولكن دوام المسألة بعد انصرام الحرب الباردة وانحسار اللغة السوفياتية، مع تجدد حظوة الديمقراطية (على قول أحدهم) في أنحاء متفرقة من العالم وأوقات متباينة ومتباعدة، قرينة على اضطراب الفعل السياسي والتاريخي الذي صنع هذا الضرب من الأنظمة من غير أن يدري ما صنع. وهذه الأنظمة، أو ذُرِّيتها البعيدة والقريبة التي حفظت منها في حلل مختلفة بعض الأبنية الفقرية، تتخبط اليوم، وربما إلى عقود من الزمن، في معضلات التصدع تحت وطأة غلبة السلطان «الكينونية» (روح الله خميني) على طبائع الاجتماع والعمران، واستتباعه أهلهما من غير بقية.
فغداة تآكل السيطرة الاستعمارية على «الشرق»، وهو شرق على سبيل الاستعارة والمجاز، ثم انهيارها، برزت مسألة قيادة المجتمعات القديمة والجديدة معاً، وعلى معنيين متباينين. وفي معية مسألة القيادة أو السيطرة، برزت مسألة «مهمات» القيادة وبرنامجها. ولا غرو إذا تصدرت اللغة السوفياتية المناقشة، وهي تسلطت على المفهومات الاجتماعية والتاريخية العامة التي تدرك من طريقها، بذريعة «الماركسية»، بعض أبرز العوامل في أطوار الرأسمالية وثوراتها الإنتاجية والتقنية والاجتماعية والعسكرية.
وحملُ حوادث التاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث على مراحل ومهمات (برنامج) وقيادات (طبقات وأجهزة)، على ما صنعت الماركسية السوفياتية أو «المتسفيتة»، على تعريب أحد اصحابنا، بدا مرشداً أميناً ولا غنى عنه فعلاً في دوامة العاصفة التاريخية التي هبّت على مسرح مجتمعات مشتبهة الرسوم والعلاقات، وأسلمت إلى أهلها ومباني اجتماعهم الولاية على أنفسهم وعمرانهم. وفي مرآة هذا الحمل، اتفق النظر والعمل، أي توحد فهمُ الوقائع والحوادث والمبادرةُ إلى إجرائها على مجرى بعينه دون غيره. وما استخلصته الحركات الاجتماعية العمالية والنقابية والديمقراطية البرلمانية (الأوروبية) من تاريخ المنازعات السياسية والاقتصادية، فصاغته منهاجاً تاريخياً متجاذباً ومتناقضاً، قدمت الجهاز الحزبي والايديولوجي السوفياتي إلى قيادات الحركات الاستقلالية والوطنية في المستعمرات أو المحميات أو القطائع السابقة في صورة تقنية استيلاء على أجهزة سيطرة خالصة تتربع في سدة جماعات منقادة من غير شرط. وهجمت قيادات الحركات الاستقلالية والوطنية الأهلية على هذه التقنية، وعلى بعض مفهوماتها المضمرة، فأعملتها على وجهها التقني والذرائعي في بناء حركات أو منظمات، الباعث الأول والدائب على بنائها على المثال العام الهرمي والإنفاذي الذي بنيت عليه هو الاستيلاء على السلطة غير المقيدة، والإقامة بها، وجني ريعها وقطفها من طريق بيروقراطية متداعية.
ولعل بدايات الأمر كانت، في الشرق (الأدنى) الأوسط العربي، حين سبقت الأجهزة العسكرية الوطنية الحركات السياسية العامة بأشواط، وخَلَفتْ كتلةً متشابكة من الأعيان وشيوخ العشائر والأصناف والطرق وقمم القضاء والفتوى وموظفي الإدارة العثمانية ومتمولي فروع المصارف وشركات النقل الأجنبية وتجار المحاصيل والزراعات الصناعية، على السلطة أو الحكم. فألْفت الحركات السياسية العامية المحلية نفسها، وهي كانت جزءاً من الحركات الاستقلالية وبمنزلة جناحها الحركي والميداني، في موقع حرج ومرتبك. فهي أهل لوراثة كتلة «الطبقات» المسيطرة أو الحاكمة، القديمة، و«دورها» يلي مباشرة اضطلاع الكتلة بالحكم وظهور تقصيرها. ولكن هذه الأهلية تنقصها شروط حيوية: فالحركات العامية المحلية منقسمة على نفسها انقسامات اجتماعية وإيديولوجية وثقافية عميقة وجارحة. وتتطاول انقساماتها إلى تشخيصها أحوال المجتمعات التي تتقلب بين أظهرها، وإلى هوية هذه المجتمعات الوطنية أو القومية والدينية، وعوامل التغيير فيها، وغايات التغيير، وعلاقات الأجزاء أو الجماعات بعضها ببعض أو بالكل السياسي والحقوقي.
والخلافات أو الفروق والانقسامات هذه لا ترتدي معاني واحدة أو مشتركة، ولا تترتب على معانيها مناهج سياسية واحدة. والوقت الذي قضته هذه الحركات معارضةً السلطات الحاكمة والمسيطرة، في أثناء الاحتلال الأجنبي أو الانتداب والوصاية القريبة والبعيدة المباشرة، لم يتح لها ما يتعدى تمرساً شكلياً بالحكم والسياسة عموماً. وقد تكون المسألة الحاسمة التي أفضت إلى الانعطاف الحاد اللاحق هي اضطرار البلدان المستقلة - والخارجة من تدبير استعماري براني ومتخفف من التحكيم السياسي في الخلافات والموازنات والموارد ووجوه الانخراط في أجسام وكيانات قومية أو دينية متنازعة ومحتملة - اضطرارها فجأة، وهي خالية الوفاض من أبنية إدارية وعسكرية واقتصادية متماسكة، إلى الاضطلاع باختيارات مصيرية في المسائل والمجالات كلها.
فنزلت المسألة الاجتماعية – الاقتصادية على وجه الخصوص، وعلى ما أعرض لاحقاً في تفصيل، على الحركات العامية المحلية، وحال ظهور عجز «الطبقات» القديمة عن معالجة المسألة، نزول الصدمة. واتفق استيلاء الأجهزة العسكرية على السلطة مع أمرين: اشتداد النزاع الدولي على السيطرة العالمية في إطار الحرب الباردة، وتعاظم النزاعات الداخلية السياسية (المركبة) والاجتماعية على الدولة الوطنية وعلى ملكية الموارد وتوزيعها. واستمال القطبان الدوليان قوى النزاعات الداخلية. فمال معظم قوى كتلة «الطبقات» المسيطرة، إلى القطب الأطلسي، الأميركي – الأوروبي، ومال معظم قوى الحركات العامية إذا استثنيت قوى الإسلام الاجتماعي والسياسي الناشئ، إلى القطب السوفياتي أو «الشرقي». وتولى الجهاز العسكري المستولي التحكيم «القيصري» أو «البونابرتي» في الخلافين، واستولى على الحكم أو سيطر على الحياة السياسية من وراء الستارة (وهي حال سورية منذ ١٩٥٤ إلى حين تولي عبد الحميد السراج نيابة رئاسة الجمهورية العربية المتحدة، ثم ١٩٦١). وقضت ملابسات النزاعات الإقليمية والدولية، العسكرية في المرتبة الأولى، في دائرة عربية تتوسطها جغرافياً واستراتيجياً المسألة الفلسطينية؛ وقضت كذلك ملابسات المنازعات السياسية والاجتماعية في دول وبلدان تستقوي جماعاتها الأهلية على دولها؛ قضى الأمران بغلبة نازع «سوفياتي» قوي، جهازي متحزب واحتكاري، على سيرورة بناء الدولة وشد قوامها في هذه البلدان.
٢
«البرنامج» من غير السيرورات
وأراد الجهاز العسكري المستولي استمالة الحركات العامية المحلية، ومعظم عديد الجهاز تحدر من أهل هذه الحركات و«طبقاتها»، وهو نشأ في موازاة نشأتها وفي سياقة هذه النشأة. فهي سنده الاجتماعي، ربما المفترض المثالي فوق ما هي سنده الناشط والعملي. وهي خصم خصمه، أي كتلة «الطبقات» القديمة وبعض الطبقات الجديدة. وعلى رغم غلبة هاجس وطني جامع، أو توحيدي داخلي استقلالي، على الحركات العسكرية الانقلابية في مصر وسورية والعراق واليمن (وفي الجزائر، ١٩٦٢ – ١٩٦٥، وليبيا، ١٩٦٩، استطراداً من طرق مختلفة)، وهي حركات اتصلت على وجه أو آخر، لم تلبث أن حملت حملاً على التصدي لما عرف بمسألة التنمية، أو الخروج من «التخلف»، أو «الإقلاع» الاقتصادي والاجتماعي. وقصد بالتنمية سياسات بناء أبنية تحتية تقود التصنيع والإصلاح الزراعي، وتعميم التعليم والعناية الصحية والسكن، وإنشاء سوق داخلية متوازنة وعملة مستقرة... وهو «برنامج» وطني ديمقراطي أو ديمقراطي بورجوازي، نزولاً على رسم «المراحل» الشائع والمتعارَف، والمشترك بين أجنحة الحركات العامية على ما تصورت في مصر عشية ١٩٥٢: الجناح الليبرالي وإلى يساره أو «يمينه» الجناح الشعبي، والجناح الإسلامي وإلى «يساره» الجناح السلفي (على تبويب أو ترتيب أنور عبد الملك).
وتضافرت على هذا الحمل عوامل داخلية ودولية، على ما مرّ، وجَمعت مصالح الطاقم العسكري إلى مصالح الحركات العامية و«طبقاتها». وتعهد الطاقم العسكري المتحدر فكراً ومصالح وأفقاً من الحركات العامية، والجامع في خليط مبهم منازع توحيدية جمعية وإدارية أمرية ورسالية اصطفائية، رعاية المصالح «الواحدة» هذه والمتناغمة، على ما افترض الطاقم، لقاء التسليم له بالقيادة والريادة. ولم يكن التسليم المرتجى عسيراً إلا على التيار الإسلامي المنظم أو الدعوي. وبايع التيار أو الجناح التقدمي واليساري الاجتماعي، أو معظمه، الطاقم العسكري الوطني على برنامج «ديمقراطي بورجوازي» بدا ديمقراطياً وطنياً وشعبياً اجتماعياً، قياساً على حال بورجوازية وطنية أسالت من الحبر والمناقشة فوق ما أقامت قرائن على حقيقتها أو وجودها السياسي أو حتى الاجتماعي.
وتوسطت القيادة الشيوعية السوفياتية في حل مسألة التسليم أو المبايعة والولاء. والحل لم يكن معضلاً، لا في ضوء موازين القوى السياسية الداخلية، وهي لم تكن واحدة ولا متجانسة العوامل، ولا في ضوء علاقة مراتب الحركة «الأممية» بعضها ببعض، ورجحان المركز على الأطراف الإقليمية والوطنية ساحق. والحق أنّ حل الجماعات اليسارية والتقدمية «الليبرالية»، أي ذوبانها في تيار وطني جَمْع أو «إجماعي» واجتماعي شعبوي وعامي، كان مسألة أجهزة فوق ما كان مسألة عمومية، وطنية وشعبية، فعلاً. ومكاسب الطاقم العسكري والغالب، وهو تدريجاً في الأثناء انقلب عصبيةَ دولة ريعية وبيروقراطية ولم ينفك مستولياً على المكاسب، من ذوبان الجماعات اليسارية والتقدمية «الليبرالية» لم تكن عظيمة. فهذه الجماعات لم تستو قوة فاعلة أو راجحة، لا سياسياً، في إطار مجتمعات تحظى فيها السلطة و«طبقاتها» بأرجحية ساحقة، ولا اجتماعياً، حيث تتقدم اللحمةُ الأهلية ومراتبُها وجهاز الحكم، حتى في الجماعات المدينية المختلطة المصادر، قيامَ الأفراد بأنفسهم وروابطهم الطوعية والتلقائية. وعلى هذا، فما جنته الطواقم العسكرية الغالبة من اندماج بعض جماعات اليسار التقدمي في الإدارات والمنظمات «الجماهيرية» ومنابر الإعلام أو أجهزته تفوق قيمته المعنوية ثقله السياسي العملي بما لا يقاس (تناول أنور عبد الملك هذا الفصل من علاقة جمال عبد الناصر باليسار المصري في كتابه: مصر مجتمعاً عسكرياً، ١٩٦٢، باريس، ص ٧٨-١٣٢، وعاد إليه إريك رولو بعد ٥٠ سنة في مذكراته «العربية والفلسطينية»: في كواليس الشرق الأدنى – مذكرات صحافي ديبلوماسي» ١٩٥٢- ٢٠١٢، باريس، ص ٢٩-٨٠، ونقلت «بدايات» في عددها الثاني بعض صفحات من مذكرات رولو هذه).
فالاندماج أقر للطواقم العسكرية الغالبة، ومن تحلق حولها من إداريين ومهنيين ووسطاء بأمر حاسم وجوهري، هو مشروعيتها التاريخية الكاملة - ومصدر الإقرار جماعات «المثقفين» من المتعلمين والمهنيين والتقنيين والمنظمين العموميين، على هذا القدر أو ذاك. وهم متولو التفكير في السيرورات والسياقات واللحمات والفروق التاريخية والاجتماعية والثقافية الحضارية، وفي الأدوار التي تضطلع بها هذه، أي رواياتها، وتسويغها وتصديقها وإبطالها وجَرْحها والنظر فيها ومراجعتها في ميزان معايير مقترحة تسعى الجماعات المتفرقة في عموميتها والإجماع عليها. وهو (الاندماج) أقر لبرنامج الطواقم العسكرية بحقيقته وصدوره عن موجبات وإلزامات موضوعية تتخطى الطبقات الاجتماعية ورسومها الصلبة أو المائعة، والنظم السياسية والوطنية. وتتخطى، قبل ذلك أو فوقه، السيرورات والسياقات المتنازعة، السياسية أولاً التي تقود إليها الموجبات واللازمات وتفضي. وفي القسم الأول من هذه المقالة، نبهتَ الصفحات الأخيرة إلى انقطاع الإجراءات البارزة، من تأميم نفطي وإصلاح زراعي وتعليم عام ومشاركة نسوية عريضة في سوق العمل وتقييد قانوني لأعراف الأحوال الشخصية، إلى الإقرار بالمسألة الكردية وبالتعدد السياسي (في إطار «جبهة وطنية»)، من نتائجها ومترتباتها.
فالحزب الحاكم يؤمم النفط الوطني، ويدخل في ملك ثروة وطنية عظيمة في وسعه إعمالها واستثمارها في تصنيع محلي، وإنشاء أبنية تحتية حيوية، وإعالة انتقال الزراعة من البعثرة العشوائية والبدائية إلى نظام سوقي وتعاوني متوازن... ولكن ما يترتب على حلقات هذا النهج المتماسكة والمتلازمة أمور اجتماعية جوهرية مثل نشوء طبقة عاملة كثيفة ومرصوصة وعالية التأهيل في المواضع المركزية من النسيج المتنامي. ويترتب عليه، وعلى مثاله، توسع هذه النواة في دائرة أعرض بكثير، تخلط مراتب الكثافة والرص والتأهيل على مقادير متفاوتة. وهذه الطبقة، والحال هذه، كيان أو فاعل اجتماعي تدعوه أحواله ومصالحه واختباراته، وعلاقاته بكيانات اجتماعية أخرى، إلى بلورة آراء أو أحكام و«وجهات نظر» في هذه المسائل كلها: مصالحه وعلاقاته بكيانات اجتماعية أخرى وعلى الخصوص بالدولة وبالإدارات العمومية الموكلة إليها. ويفترض هذا، من طرف غير خفي، قيام الكيان الاجتماعي بإزاء الدولة، وسياساتها العامة، رقيباً وحسيباً، وفي الأحوال كلها انفصاله عن الدولة. واكتمال سيرورة التأميم، وتتويجها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، رهن تبلور هذا الكيان، واستقلاله بنفسه، وانخراطه في حياة سياسية عامة ومشتركة. ولا تصدق فيها الصفتان، العموم والاشتراك، ما لم تستوِ كثيرة الأقطاب ومتنازعة.
بوتمكين...
والاستيلاء الريعي والبيروقراطي المركزي على النفط المؤمم وعوائده، والتصرف به في خدمة الجماعة أو القيادة المستولية وعلى خلاف بعض مصالح الجماعات القومية والمذهبية والدينية والبلدانية والسياسية الأخرى أو المنافسة، واستعمال العوائد في وجوه عسكرية وإدارية من غير مناقشة، هذا النهج حال عمداً بين بند التأميم، من البرنامج «الديمقراطي البورجوازي» المفترض، وبين مترتباته التاريخية العامة على المجتمع العراقي والدولة العراقية. فالتصنيع المرتجى، وهو أجازته نظرياً عوائد النفط في سوق غلب عليها الطلب – في ١٩٧٣، إبان حرب تشرين (أوكتوبر/رمضان)، ثم في ١٩٧٨- لم يثمر «طبقة عاملة» مضمرة في ثنايا «تشكيلة اجتماعية» مختلفة، أو رازخة تحت مخلّفات علاقات انتاج استعمارية، ثم استعمارية جديدة وأخيراً «نيوليبرالية». وكذلك حال «طبقة المزارعين» والفلاحين المستقلين، وطبقة العمال الزراعيين في معيتهم، اللتين كان يفترض في الإصلاح الزراعي، وإعمال أصل «الأرض لمن يفلحها» أن يتفتق عنهما.
وارتد عمل النساء المتعلمات والعاملات في مرافق المهن الحرة، أو في العمل المأجور عموماً، عليهن، وعلى «صيتهن» و«شرفهن» و«عفافهن» حين انفجرت «قادسية صدام» في أيلول ١٩٨٠، وطالت ثمانية أعوام، وقتلت مئات الآلاف من الرجال. واستثمر المرشد الإيراني أعوامها المتطاولة في «وعي (الشعب) أكثر» وفي اعتياد الموت، على قوله. وشردت مئات آلاف أخرى من الناس على جهتي الحدود (طبعاً). فالمرأة العاملة والراشدة ومعيلة الأولاد في غيبة الرجل الطويلة، وبعد مصرعه بالأحرى، «خراجة ولاجة»، على قول أهل بغداد، وربما غيرها في القرن الثالث (هجري). وهي محل تهمة سهلة، وذريعة تحريض نذل ووضيع، حين ينتصر «الفارس» المهزوم لفحولة لم يَكلِمْها، على زعمه، سوء التدبير والارتجال العسكريان، إلى التمييز المذهبي والحزبي وشق العراقييين طبقتين، بل انتهكتها «خيانة» النساء، وتحررهن الاجتماعي والشخصي النِّسْبي. فلم يتردد الحزب الحاكم وذَرَى أدراج الرياح حصاد تعلم الفتيات، وعمل النساء، ودعا إلى قتلهن على التهمة، وبدد الحصاد الثمين الذي كان هو بادر إلى بذاره.
وهذه المسائل، منفردة ومجتمعة، قرينة على أن البرنامج العملي الذي تولت الأنظمة العصبية والريعية البيروقراطية العربية، المتفرقة، إنفاذه منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين لم يكن «وطنياً ديمقراطياً»، ولا «ديمقراطياً بورجوازياً» على رغم مطابقة بنوده، شكلاً، بنود البرنامج في حلته السوفياتية والجهازية. فما أغفلته هذه الحلة، وأبرمت الحركات أو التيارات اليسارية والتقدمية إغفاله من دون تردد أو إلحاف، هو دور المنازعة والانقسامات الراجح في صياغات بنود البرنامج العملية. فهذه البنود هي «رؤوس» سيرورات وسياقات. فإما تلد السيرورات والسياقات كيانات اجتماعية وسياسية تاريخية وفاعلة، في مخاضات وضع أليمة ويتربص بها الإجهاض، وإما تلد طروحاً مكتملة الخلقات والقسمات للوهلة الأولى ولكنها آلية الحركة، ولا روح فيها إلا ما تنفخه فيها قيادات عُظامية وطيفية. وهذه، بدورها، دمى تحركها خيوط النزاعات الدولية ومحاكاة المراحل التاريخية المدرسية وقواها المستعارة. وعليه، سبحت هذه الأنظمة وبلدانها ومجتمعاتها في عوالم ودنى مسحورة. فأنجزت بناء الدولة الوطنية المستقلة، وجسدت إرادة الشعب الواحد والمتماسك، وأممت مرافق الإنتاج، ووزعت الأرض على الفلاحين، وقطعت دابر الطفيليات والطفيليين، وأرست أركان قوة عسكرية وطنية حصينة، ولقنت الشعب ثقافة وطنية أو قومية ناصعة، وبعثت تراث الإسلام في حلله البهية وأسمائه المدوية، ولم تفوت دورة انتخابية واحدة إلى مجلس الشعب أو الهيئة التشريعية، وإلى البلديات ومجالس المحافظات، ودبجت دستوراً نص على فصل السلطات وتعاونها...
تمثال برونزي للرئيس العراقي السابق صدام حسين في القصر الرئاسي في بغداد.
وبعض هذه الأنظمة انقلب على التأميمات، وجدد خصخصة الأرض فاشتراها رجال المال والأعمال والوسطاء، وقلص دعم السلع الضرورية والخدمات العامة، من غير أن يشعر الناس بانقلاب الأحوال، على ما ينبغي. وذلك لأن بنية النظام النواتية، أو قلبه المسحور، هي في الحالين واحدة: عصبية ريعية وبيروقراطية تطرح السيرورات والسياقات ومخاضاتها المتنازعة، وتزهق الكيانات الفاعلة والكثيرة المولودة منها. ولا مناص من أن يرسو عمل النظام، أو تجددُ سيطرته، على قسمة الداخل والخارج المتنابذين والمتناحرين على مثال أهلي وعصبي ضمني أو معلن. وغلبة «البنيوية» على هذه الحال، وعلى سياساتها هي ثمرة إخراج التاريخ و«تربيته».
فإذا استفاق «الجمهور»، جمهور المحكومين، من السحر ألفى عالمه أو دنياه صوراً ورسوماً مزوقة، وديكور أنقاض من الكرتون والخشب، على شاكلة قرى بوتمكين الروسي محظي كاترين الثانية. وهي (الصور) شبهت على القيصرة الزائرة والمسرعة وجود قرى عامرة ومزدهرة، وفلاحين سعداء، فإذا انتقلت الزائرة الجليلة إلى قرية قريبة، سبقها بوتمكين و«رفع» هياكل عمارتها المصورة والمشبهة، وأمر فلاحيها بالسعادة، وألبسهم الثياب النظيفة بضع ساعات... وكان بوغاتشيف، «الموجيك» الثائر والدموي، وانتفاضات الفلاحين المدمرة، «المرحلة» التالية والمتربصة في «السَّفر» الروسي. والفلاحون المزارعون، اليوم، و«طبقتهم» بالأحرى، أمسوا قلة قليلة حيث لم يذووا ويتبددوا، وانقلبوا شركات صناعية ضخمة تجني معظم أرباحها من توسيع شطرها الممكنن، ومن بيع محاصيلها بأسعار محمية استحال الاتفاق على توحيد معايير احتسابها. وعمال القطاع الصناعي الغذائي أرستوقراطية عمالية لا تذكر لا ببوغاتشيف بوشكين ولا بمارينا سولجنتسين. والأرياف، أو ما بقي منها، في بلدان «العالم الثالث»، بعد انقسام هذا منذ السبعينيات المنصرمة عوالم، هي إما مخزن احتياطات هجرة إلى مدن الداخل أو إلى المهاجر الغريبة البعيدة وإما قطاع تصدير سلع غذائية نصف مصنعة، أو هي غالباً الاثنان معاً.
في حوادث الموصل ١٩٥٩ «تضافر الوجهان أو البابان، الوجه العصبي الأهلي والوجه الاجتماعي الطبقي والسياسي (السلطوي)، على صوغ الانفجار والنزاعات أو إخراجه على النحو الذي خرج عليه وتصوّر»
ولم تشغل هذه المصائر صاحبنا ودليلنا، حنا بطاطو. فهي لم تتصور في هذه الصور، وعلى هذه الأنحاء المضطربة والمتقلبة، إلا غداة استواء «سيادة نائب الرئيس»، صدام حسين، «قائداً» لا راد لكلمته، و«زعيماً أوحد» يستحق لقب القاسمي (نسبة إلى عبد الكريم قاسم) فوق استحقاقات سلفه البعيد والشاحب هذا اللقب بما لا يقاس. وصرف الخَلَف اللقب، والمكانة أو الصلاحيات نظير اللقب، إلى حروب مقيمة مع الجوار، الإيراني والخليجي والعربي الأوسطي، دارت كلها من غير استثناء على غاية واحدة هي الاستيلاء على عوائد النفط الريعية، وضم بلاد الريوع وأهلها إلى عرش «القائد» الأوحد وتاجه. فاتصل عنف الداخل العراقي، أو الدواخل العراقية، بحروب الخارج الباهظة. وأفضت كثرة العراق المتنافرة، غداة ضبطها ظاهراً في أبنية «أمر» مختصرة وراجحة الثقل والكلفة على نحو قاطع، إلى سلسلة حروب طاحنة، لم تطوها حرب «التحالف» الغربي في ٢٠٠٣. فأسْلمتها، أو أسلمت فصلها الأخير، الغربي، إلى فصولٍ أو ذيولِ حربِ إرهابٍ هي ترددات الزلزال «الأميركي» لا إلى غاية ولا إلى نهاية. ولكنها كذلك، على نحو جلي، ترددات السلطان الذي أرساه صدام حسين، وقيادته، على «الدولة» والمجتمع العراقيين. فالمسرح البلداني (الجغرافي) والسكاني الاجتماعي والسياسي الذي ذرعته، جيئة وذهاباً، جماعات «القاعدة» الإرهابية وجماعات مقاومة الاحتلال و«عملائه» المسلحة - والصنفان متمايزان ومتصلان على وجوه من العسير إحصاؤها - هو المسرح العروبي «البدوي» والسُّني. ولم يفتأ بطاطو يصف هذا المسرح وإنزواءه إلى الهوامش العراقية المستجدة، الصحراوية والريفية والتجارية، وانقطاعه من دوائره الأهلية القومية والمذهبية، وانقلابه من التربع في مكانة سلطانية مهيمنة إلى المنازعة على مرتبة ثانية مضطربة ولا ضامن لها. والمسرح والقوى والدواعي هي «حواضن» حركات المعارضة السياسية والمقاومة الإرهابية، العراقيتين، اليوم. وهي من مخلفات العهد البعثي الصدامي الطويل، ومن ذيول الأبنية السياسية والاجتماعية الأهلية التي جرى عليها «الزعيم الأوحد» وحزبه الواحد... وتتداعى أسباب الارتدادات وعنفها من ملابسات استيلاء البعث على العراق في ١٩٦٨، إلى ملابسات استيلاء ١٩٥٨ والمنازعات الأهلية الحزبية الدامية التي أعقبته، فإلى عنف الحكم الهاشمي ووزيره الأول نوري السعيد على الخصوص، فإلى حروب العشائر في ما بينها وحروبها الداخلية «والتناقض البنيوي» بين المدن النهرية الكبيرة وبين بلدات البوادي والأرياف والوديان، على ما لا يمل الكاتب من الإحصاء والعود على بدء.
٣
«الدولة» رغم المجتمع
وشاغل الدليل إلى العراق الحديث والمعاصر، هو شاغل قارئه، وينبغي أن يكون شاغله على زعمي. ويخامر هذا القارئ بعض الشك في أنّ صاحب الكتاب حَسِب في آخر فصول كتابه العراقي الكبير، أن جمع أحمد حسن البكر (الجيش) - صدام حسين (الأمن والحزب) مقاليد السلطة و«الدولة» في أيديهما، وإذعان القوى السياسية الأخرى والجماعات الأهلية لهما، طوى (أو طويا: الجمع والإذعان) الفصل المضطرب والمتنازع من تاريخ العراق الحديث. وكلامه على «تراكم أولي» متاح، بعد التحكم في مِلك النفط واستخراجه وتسويقه، يشي بذلك أو ينم به. فيرى أن النظام بهذه الحال «لا يحتاج إلى مصادرة الفائض الاقتصادي الذي تستدعيه التنمية» (ص ٤٤٨ من الكتاب أو الجزء الاخير، الثالث، الفصل ٢٤).
ولكن حنا بطاطو بعيد من قصر النزاعات، وعلى الأخص عواملها ومقوماتها، على مصادرة الفوائض واستثمارها، على رغم مكانة مسألة الريوع وبنود البرنامج «الديموقراطي الوطني» تالياً، ومحلها من مسائل الاختلاف والاشتباك. فهو يلاحظ أن البعث أبقى على قوة الروابط المحلية، وأن «جماهير العراق (بقيت) خارج الدائرة السياسية» أو التقرير في حلول المشكلات الوطنية العامة أو التحكيم في المسائل الجزئية. وهذا يُقْدِرُ تيارات تفتقر إلى قاعدة اجتماعية عريضة، أو أشخاصاً، على التأثير في مجرى الحوادث وإخراج هذه من سوية التفاوض والنزاع إلى الانفجار، على ما حصل مرات في ١٩٥٩ بالموصل وكركوك على سبيل المثل... ودوامُ الولاءات القديمة، وأفكارها ومشاعرها ودواعيها، يفوق قوةً أثرَ الانشقاق بين السُّنة والشيعة أو دورَ تقسيم العمل الاجتماعي والمذهبي الذي يرجح كفة السُّنة في الدولة وكفة شيعة بغداد والبصرة في التجارة. وهو يسد المسالك إلى تنمية الطبقات الوسطى «مشاعر» مشتركة ومختلطة تتخطى دوائر المذاهب والطوائف إلى «دائرة» العراق الوطنية والمجتمعة، على رغم تعاظم الإنفاق الحكومي المركزي ومفاعيله في «حياة الناس»، دخلاً وتوزيعاً واستثماراً وعمالة وتعليماً، وعلى رغم عموم الطفيلية جراء الإنفاق، كان يسع الكاتب لو عالج أحوال العراق غداة ١٩٧٨، وهي السنة التي علق فيها سياقة اقتصاصه اخباره، أن يلاحظ ضعف أثر الحرب «الوطنية» الكبرى (على تسمية سوفياتية مأثورة للحرب الألمانية – السوفياتية على جبهتها الروسية والأوكرانية) في ضوي العراقيين تحت لواء دولة واحدة.
«الواقع» من طريق الدمار
ولكن التوحيد الوطني العراقي، شأن بنود البرنامج «الوطني الديمقراطي» أو «الديمقراطي البورجوازي» المفترض «أنجزه» النظام العصبي والريعي البيروقراطي على نحو إنجازه البنود الأخرى: جرد بند التوحيد من فعل أصحابه وجماعاته وجرد أصحابه وجماعاته منه ومن مباشرته وصنعه، وافترضه من اختصاصه وحده بمنأى من متناول الجماعات واختلافاتها وخلافاتها ونزاعاتها. وحسب أنه فوق هذه حين هو ثمرتها الفجة والمرة. وأوكل إلى تخييل طاغٍ وهزيل معاً رفع البند الوطني، أو «القومي» في مصطلحه ولغته، على الراحات والجباه، وخلطه بالدم والأنفس. وأوجب على العراقيين المتفرقين والمشرذمين والمتنازعين حمل أنفسهم ووجداناتهم علناً على هوية واحدة، وطنية وربما شخصية وقردية كاذبة ومتوهمة، أو يغلب وجهها المتوهم والمفترض وجهها الفعلي. فإذا أرادوا الخروج منها، أو اضطروا إلى هذا الخروج، لم يسعهم ذلك إلا من طريق إعمال تدمير ذاتي وعام، معنوي أدبي ومادي، والخبط على غير هدى أو بصيرة، على نحو ما صنع العراقيون في العهد الصدامي الطويل.
فمن طريق التدمير والخبط هذين، وعلى هذه الشاكلة، وسعهم بلوغ «الواقع» المنكر والمستبعد والمنفي والتماسه وراء أقنعة البرنامج «الديمقراطي البورجوازي» وبنوده «الثورية» و«الإصلاحية» و«الإنمائية» و«الوحدوية». وكلها تؤدي إلى تقوية الجهاز الحزبي البيروقراطي وتضعف القوى الاجتماعية. وهذا قريب مما فعله السوريون ويفعلونه اليوم في «ظل» سلطان عصبي وريعي بيروقراطي أمني وعسكري أعماهم عن واقعهم، ليس وراء «شعارات» زائفة على ما جرى القول، بل تحت ركام ثقيل وصفيق من الأبنية الاجتماعية والعلاقات السياسية ومن نظم المعاملات، ومسالك القول والتصوير والتعبير. فإذا أرادوا تكسير القشرة السميكة من الأبنية والعلاقات والنظم والمسالك ليبلغوا، تحتها، حقيقة ما هم (عليه) في أعقاب قرابة نصف قرن من سلاطة «العصابة» ونظامها، وحقيقة من يكونون فعلاً وراء الكرتون الوحدوي والتحرري والفلسطيني والمقاوم والاجتماعي المزوق والأسدي – لم يجدوا بداً من تحطيم بلدهم (مجتمع جماعاتهم و«دولتهم») وقد استحال كله قرية بوتمكين عميقة، إذا جاز القول، وراسخة.
ولو عمد قارئ العراق الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية إلى إحصاء محاولات صاحب الكتاب المتواترة في جمع «التناقضات» العراقية، واستنتاجاتها في سياقة «مترابطة» يتوسطها أو يتوجها تناقض رئيس(ي) أو «بنيوي» – على قوله في نزاعات أهل المدن النهرية، وهم نواة العراق الجديد في ١٩٢٠، وأهل شريط البداوة على ضفتي دجلة بين سامراء والكوت (ص ٤٣، من ج١، فصل ١) وأهل عشائر الأراضي السهلية على ضفاف النهرين (ص ٤٢ من الجزء أو الكتاب نفسه) - لوقع على سجلات كثيرة تعصى على التبويب المتصل والمتماسك. وإحجام حنا بطاطو عن افتعال دمج النزاعات، أو استيلاد بعضها من بعض قسراً، وتركه العنان لنازع الخلافات في أوقات التأزم والانفجار إلى كثرة مركبة ومرسلة، هو (الإحجام) من دواعي قراءته اليوم والعود على ابتداء معالجته. ولكن معالجته وقفت عند منعطف بدا له يومها، على ما بدا لمعظم المراقبين والمعنيين، إيذاناً بمرحلة استقرار طويلة تتوج الإنجازات «الوطنية» و«الديمقراطية» منذ ١٩٥٨، وتسْلِمُها إلى حكم ثابت أخرج العراق، قبل عقد، من الانقلابات والانتفاضات والانشقاقات، وبلور عقيدة سياسية واضحة و«مقبولة»، وبنى جهاز دولة مركزية متينة، خلو من التجاذبات التي أودت بالأبنية السابقة. وهذه المعايير هي وليدة وقت سبق أزمة الاتحاد السوفياتي و«مثاله»، عند منعطف السبعينيات إلى الثمانينيات، وظهور أمارات الإعياء والقصور الفادحين على الأنموذج «التاريخي» المفترض. وامتحنت أعقابُ ١٩٧٨، وأولها الحرب العراقية – الإيرانية المتخلفة عن الثورة الإيرانية الخمينية ثم احتلال الجيش العراقي الكويت طمعاً في الاستيلاء على الريع الذي ضيعه الإخفاق في إيران...، البناء العراقي البعثي، الصدامي حقيقة. وأخرجت إلى العلن والملأ المنطق المضمر في المثال «الوطني الديمقراطي»، ودعواه إنجاز برنامج المرحلة بقوة الحزب المستولي والقائد وحده، هو وجيشه وأمنه وبيروقراطيته وريوعه وقاعدته الأهلية والعصبية، بعد إقصائه القوى الاجتماعية الأخرى، وخصيها، وإدارة الاستيلاء على اطراحها ونبذها وقهرها.
فتحقق ما لم يكن ظاهراً، وربما ما لم يكن موجوداً أو قائماً، وهو أنّ التأميمات والإصلاح الزراعي وإنشاء الأبنية التحتية وتوحيد السوق ونشر التعليم والعناية الصحية... لم تكن خطوات على طريق إنشاء جسم وطني مستقل متماسك ومتنازع، يحكم نفسه بنفسه ويقيّد تفرقُ مصالحه وجماعاته المشروع منزعَ حكومته إلى التسلط عليه ومنزع جماعاته إلى الشرذمة. فبنود البرنامج «الوطني الديمقراطي» المعلنة كانت السُّلَّم إلى استيلاء عصبي ريعي وبيروقراطي، سائقه حال الاستيلاء هذه والتوسع فيها على صورة دائرة مفرغة: يقود الاستيلاء إلى تعظيم السلطان وعوائده، وإلى رص صفوف عصبيته وتعميق الفجوة بينه وبين رعيته، وبين رعيته وبين الجماعات الأخرى المحرومة والمعادية، فيحتاج السلطان إلى تعظيم ريوعه وتوسيع مصادرها، لا إلى غاية. ولا ريب في أنّ كثرة الجماعات «الأساسية»، وتفرق مبانيها القومية، والنسبية الأهلية، والاعتقادية المذهبية، والمعاشية، والبلدانية البيئية، وجوارها ومراجعها التاريخية - ويستفيض بطاطو في إحصائها كلما سنحت الفرصة، أو دعا الحال إلى المقال، في ما يشبه الانتشاء الذهني والقصصي – (هذه الكثرة) عثرة في طريق بلورة سلطة لا تحكم بالقهر والتغلب وحدهما، بل تشرك الرضوخ والقبول في إرساء دالتها. وهي قياساً على عمل دولة وطنية، حديثة ومركزية وإدارية، حكماً، معوق قوي بوجه صوغ إجماعات لا غنى للدولة الوطنية عنها.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.