ماذا يعني أن تكون عالم اجتماع في العالم العربي اليوم؟ بصياغة مختلفة: كيف يمكن علماءَ الاجتماع أن يفكروا في المجتمع العربي نقدياً وسط انتفاضات السنوات الماضية؟ إن أسئلة كهذه لا تستلزم أجوبة علاجية، علماً بأنّ مثل هذه الأجوبة ليست ممكنة أصلاً. الأحرى أن تخدم الأسئلة في فتح حقل للتأمل يسمح لعلماء اجتماع متنوعين بأن يكونوا نقديين، كلاً على طريقته، إزاء الحالات العينية التي يحللون. وإني أريد أن أسهم في حقل التأمل هذا في مساهمتي الحالية.
النقدي ليس هو الجذري
لعلّ من المفيد أن أبدأ بتوضيح. إنّ «النقدي» لا يعادل «الجذري». النقد ميزة فكرية، فيما الجذرية/الراديكالية ميزة سياسية. يمكن أن يوجد، وقد وجد تاريخياً، تقارب حميم بين الفكر النقدي والسياسات الجذرية. ومع ذلك، لا يجوز الخلط بين الاثنين. يهمّ التشديد على هذا في البيئة العالية التسييس التي أطلقتها الانتفاضات العربية حيث المسألة لم تعد مسألة هذا الوجه من السياسة أو ذاك، بل هي مسألة «السياسة بعامة»، السياسة التي تشتغل بما هي آلة استحواذ جبّارة كلية الحضور. أنْ تكون عالم اجتماع نقدياً لا يعني أن تكون لامبالياً في السياسة، لكنه يعني أن تكون قادراً على إنتاج سياسات أكاديمية مميزة. أي أن تكون قادراً على حفر مجال متحرّر مما يسمّيه الفرنسيون «السياسة السياسوية»، سياسة السياسيين المحترفين. ليست سياسة علماء الاجتماع «معادية» لهذا النوع من السياسة، لكنها ترفض أن تُستعبد لها، ترفض مثلاً أن تطيع منطق الصديق/العدو الذي تفرضه تلك السياسة. يجب على عالِم الاجتماع النقدي أن يتساءل: بأي طريقة يتمايز علم الاجتماع؟ وكيف له أن يقدم شيئاً جديداً، شيئاً يُحرِج السياسيين ويجعلهم يترددون عن الترويج لنمط الحقائق التي يروّجون، أكانوا من سياسيي اليمين أم اليسار، محترفين أم ناشطين.
هنا ينفصل النقدي عن الجذري. ذلك أن عالِم اجتماع نقدياً يمكنه أن يوفر أدوات وتبريرات لسياسات جذرية دون أن يفرض على تلك السياسات أن تتردد وأن تتفكر في نفسها. أريد في ما يأتي أن أستكشف تقليدين فكريين وفّرا أدوات فعالة/مهمة للتفكير بمثل هذا الموقف السوسيولوجي النقدي. سأسميهما التقليد السوسيولوجي والتقليد الأنثروبولوجي. ولكن غرضي ليس التمييز بين المذاهب بقدر ما هو التمييز بين مراحل تحليلية نقدية. وبالتأكيد، فالمفكران اللذان ارتبطا مع اللحظة الأنثروبولوجية واللحظة السوسيولوجية، برونو لاتور وپيير بورديو، معروف كل منهما على أنه سوسيولوجي وأنثروبولوجي في آن واحد.
بورديو والعنف الرمزي
تُعَدّ سيوسيولوجيا بورديو في أيامنا هذه حجرَ الزاوية لتقليد نقدي مهم موضوعه علاقات السلطة والهيمنة في المجتمع. إنّ أنماط الهيمنة عند بورديو تهدف دوماً إلى الوصول إلى حالة يسميها «العنف الرمزي». وهذه هي النقطة حيث أولياء السلطة يتدبرون فيها لجعل مصلحتهم تبدو على أنها مصلحة الجميع. وحين تتحول هذه المصلحة بما هي عقيدة، أي عندما تصير بديهية وليس فيها ما يقال، بما يشبه ما يسمّيه غرامشي «الحس العام»، ومثال على ذلك عندما يقول الناس إنّ من الطبيعي أن يكون المرء تنافسياً وساعياً إلى أغراضه الخاصة، أو أنّ من الطبيعي للرجال أن يسيطروا على النساء، أو أنّ المغايرة الجنسية هي الأمر الطبيعي بالمقارنة مع الِمثْلية، أو أنّ «العرب يحبّون أن يسيطِر عليهم دكتاتوريون أقوياء». تدخل السوسيولوجيا النقدية إلى الميدان لتظهر أن ما يبدو أنه «طبيعي» أو «قدري» يولد من ضمن مسار الهيمنة. هذا ما يسمّيه بورديو وظيفة «التحرر من الطبيعية » و«التحرر من القدرية» في مجال العلوم الاجتماعية.
لأن جعل مصلحتهم تبدو «طبيعية» هو جزء من الطريقة التي بها يسيطر المسيطرون، فإنّ السوسيولوجيا النقدية، التي تكشف تلك المسارات، هي بطبيعتها إلى جانب ضحايا السيطرة. ومع ذلك، فالمجتمع ليس مكوناً من فئة واحدة من المسيطرين، ولا هو مكوّن من فئة واحدة من ضحايا السيطرة. بين المسيطِرين والمسيطَر عليهم، في علاقة مخصوصة، يوجد أيضاً مسيطِرون ومسيطَر عليهم. يوجد مسيطِرون ومسيطَر عليهم إلى ما لا نهاية، إذا جاز التعبير، ويجب أن يكون علماء الاجتماع جاهزين للاستمرار في اكتشاف مسارات السيطرة، إلى ما لا نهاية أيضاً. وخلافاً للذين يريدون إنهاء السيطرة باسم جماعة أو أخرى فيُسقِطون نقدهم للسيطرة عندما يتعلق الأمر بسيطرة جماعتهم ذاتها، فإن عالِم الاجتماع النقدي ليس يعلّق نقده للسيطرة عموماً. ولكي يستطيع أن يكونوا هذه «الآلة النقدية» اللامتناهية، من الحيوي لعلماء الاجتماع تأسيس استقلالهم، ليس فقط تجاه سياسات جماعة مسيطرة واحدة، بل استقلالهم عن السياسة برمّتها، عن الإعلام وعن الدولة، وبالتأكيد عن مختلف المصالح الاقتصادية أيضاً. لهذا يرى بورديو، أنّ مثل هذه السوسيولوجيا النقدية هي ذاتها معتمدة على السوسيولوجيا الارتدادية لعلماء الاجتماع أنفسهم، بما هم فئة اجتماعية، وعلى موقعهم في البنى السلطوية.
«حقل القوة»
لكي يتحاشى بورديو فرض التماثل على القوى الاجتماعية المسيطرة في المجتمع، انتقل تدريجاً من استخدام مقولة «السيطرة» إلى الحديث عن «حقل القوة» داخل المجتمعات المخصوصة. إن حقل القوة هو وصف، لكنه أيضاً دعوة لمشاهدة الذين في السلطة بناءً على انقسامهم وفق كمية ونوعية رأس المال الذي يملكونه (اقتصادي، اجتماعي، ثقافي، إلخ...) وانخراطهم، بناءً عليه، في نضالات في ما بينهم لاحتلال موقع السيطرة في حقل القوة. إن النظر إلى السيطرة من هذا المنظار يتحاشى المفاهيم السهلة أو الفارضة للتجانس التي يجري اللجوء إليها كبديل من الأبحاث التجريبية. ولا بدّ من أن نلاحظ هنا أن «النيوليبرالية» تستخدم بهذه الطريقة في أيامنا وتخدم بما هي مبدأ تفسيري تبسيطي للعديد من الظواهر.
يعّين بورديو للأكاديميين، ولعلماء الاجتماع تحديداً، موقعهم في صف ضحايا السيطرة داخل حقل القوة. فبفضل امتلاكهم رأسمال اجتماعياً وثقافياً كبيراً، فهم يشكلون جزءاً من حقل القوة في معظم المجتمعات. ولكن بسبب امتلاكهم رأسمال اقتصادياً زهيداً، ونظراً إلى أنّ رأس المال الاقتصادي هو صاحب القيمة الأكبر في حقل القوة، ينتهي الأمر بهم إلى موقع ضحايا السيطرة في هذا الحقل. ويحاجج بورديو بأنه فيما يستطيع علماء الاجتماع إنتاج المعرفة على نحو غير ارتكاسي يشارك في مسارات السيطرة الاجتماعية، فإن علماء الاجتماع النقديين قادرون أيضاً على تنمية غير ارتكاسية للتعاطف مع الفئات المخضعة من خلال عملية تماثل بنيوي معها، أي تحويل موقعهم المسيطِر في حقل القوة إلى تعاطف مع ضحايا السيطرة في ذاك الحقل. بيد أنّ المشكلة بالنسبة إلى بورديو ليست هي التعاطف بقدر ما هو الاعتقاد السائد بين من يسمّيهم نقلاً عن ماكس ڤيبر «المثقفين شبه البروليتاريين» بأنّ التعاطف هو مقياس من مقاييس الاحترافية في علم الاجتماع. وكما يردد بورديو في غير مناسبة، السياسة الجيدة ليست تصدر بالضرورة عن علم اجتماع جيّد. والمفارقة المؤكدة هنا أنّ علماء الاجتماع يستطيعون الوصول إلى أوج الأثر السياسي في كتاباتهم بالسعي إلى الاستقلال في الحقل السياسي.
الاستقلالية الذاتية
وتتضمن الاستقلالية الذاتية فوق أي شيء آخر إعطاء الأولوية لمصلحة علم الاجتماع بالتمييز عن المصالح السياسية والإعلامية أو الاقتصادية. ونظراً إلى اتكال العلوم الاجتماعية على التمويل من مصادر حكومية أو من القطاع الخاص، فهذا يستلزم النضال لتأمين احترام مصادر التمويل هذه الاستقلالية الذاتية للعلوم الاجتماعية. ومن خصائص المؤسسات الديمقراطية قدرتها على تمويل أعمال نقدية موجهة ضدها هي نفسها، ولعلماء الاجتماع مصلحة في النضال من أجل الحفاظ على هذه القيمة الديمقراطية ضد القوى السياسية والاقتصادية التي ترى في التمويل وسيلة لإلزام عالِم الاجتماع بإيلاء الأولوية لنمط من البحث على آخر، وتأكيداً ضد أولئك الذين يستخدمون التمويل للتأثير على نتائج البحث العلمي.
إلا أنّ الاستقلالية الذاتية ليست مجرد استقلالية ذاتية بنيوية. إنها استقلالية ذاتية ثقافية أيضاً تتضمن النضال من أجل حماية العقل العلمي الاجتماعي من العقل السياسي والإعلامي. فمن أجل تفادي أنماط المحاججة السياسية في البرلمان، مثلاً، ألّف جيريمي بنثام كتابه الصغير والمغمور «دليل المغالطات السياسية» (١٨٢٤). ويسمّي أولى المغالطات «مغالطة السلطة (بما فيها مغالطات الشخصيات الممدوحة) ومادتها السلطة في أشكالها المختلفة - والغرض المباشر لها هو قمع كل ممارسة لملكة العقل تحت ضغط هذه السلطة». وثانية المغالطات هي «مغالطات الخطر (بما فيها مغالطات الشخصيات المذمومة) وموضوعها الإيحاء بوجود خطر ما بطرق مختلفة، والغرض هنا القمع الحاسم لاقتراح الخوض في أي نقاش مباشر، بحجة وجود مثل هذا الخطر». إن إدخال طرق النقاش هذه إلى علم الاجتماعي هو في نظر بروديو إضعاف لاستقلالية العقل العلمي الاجتماعي ولخصوصيته.
والاستقلالية الذاتية تعني أيضاً الاستقلالية الذاتية للأسلوب. وقد لاحظتُ أحياناً كثيرة بين علماء الاجتماع العرب أسلوباً ذُكورياً مميزاً في فرض السلطة الفكرية، يتضمن طريقة معينة في «ممارسة الجدّية» تنتمي إلى الحقل الديني الطهراني أكثر من انتمائها إلى الحقل الأكاديمي. وإن نقد تيري إيغلطُن لهذا الشكل من أشكال الجدّية في كتابة «بعد النظرية» مفيد بنوع خاص هنا، إذ يقول: «إن الطهراني يخلط بين المتعة والطيش، لأنه يخلط بين الجدّية والوقار».
مساحات خارج حقول القوة
أسمح لنفسي بالانتقال الآن إلى التقليد النقدي الثاني الذي أودّ التشديد عليه، وأبرز وآخر مظاهر هذا التقليد هو كتاب برونو لاتور عن تعددية أنماط العيش. وقد جرى تطوير هذا التقليد أيضاً في العمل المهمّ للأنثروبولوجي البرازيلي إدواردو ڤيڤييروس دي كاسترو. أخيراً، لا بد من الملاحظة أنّ هذا التقليد النقدي يستلهم سلالات فلسفية تقود إلى جيل دُلوز. ينطلق هذا التقليد بنقد، مضمر حيناً وسافر أحياناً، للتقليد «السوسيولوجي» المحدد أعلاه. فيحاجج أنّ التقليد النقدي السوسيولوجي، لفرط التركيز على الأضاليل والهجس بها وهَتْك الحُجُب عن العلاقات المستورة للسيطرة والاستغلال، ينتهي إلى إعطاء الأولوية الوجودية لهذه العلاقات والمقاومات التي تستدعيها. بل إنّ الأمر قد يقود إلى اعتبار تلك العلاقات على أنها الواقع الاجتماعي الوحيد وكل ما عداها ثانوي، ينتمي إلى البنية الفوقية وإلى الإيديولوجيا أو هو نافل لا أكثر. ومع أنّ هذا التقليد النقدي الثاني لا يضع موضع التساؤل أهمية علاقات السيطرة، إلا أنه يشدد على أهمية الكشف عن مساحات أخرى متفلّتة منها: مساحات تقع خارج طائلة السلطة، خارج المحكومية، خارج المقاومة، بل حتى خارج الحداثة. فإلى جانب مضمار السلطة الُمَمأسسة، المحكومة بالبحث السوسيولوجي عن السببية، وبالتالي عمّا هو مكرر ومتوقّع وموجود وراهن، يهدف هذا التقليد الثاني إلى الكشف أيضاً عن وقائع أخرى موسومة بما هو هلامي وطارئ ومفاجئ وغير محسوب، والكشف أيضاً عن الممكن والكامن. فيرى هذا التقليد النقدي أنّ تلك الظواهر تؤّشر إلى وقائع موجودة، وهي مع ذلك محجوبة بفضل سيطرة وقائع موسومة بعلاقات القوة. أي إنه يرى، إلى جانب رؤيته مسارات السيطرة في واقع مخصوص، يرى أيضاً مسارات سيطرة حيث واقع يسيطر على واقع آخر.
إذا كان الفكر السياسي الراديكالي منبثّاً في «لحظة «ضد» ولحظة «بديل»، أي في رغبة مجابهة القمع والسيطرة والاستغلال القائمة ورغبة موازية لخلق عالم أفضل، يمكن القول إنّ التقليد السوسيولوجي الأول مناسب أكثر لسياسة «ضد»، فيما التقليد الثاني يوفّر ذخيرة لسياسات «بديلة». بهذا المعنى، أشعرُ بأنّ التقليدين مهمان لمخاطبة علماء الاجتماع العرب، وهم يواجهون أنماطاً من السيطرة الكولونيالية القديمة في فلسطين وأنظمة الاستغلال الرأسمالية الجديدة على امتداد المنطقة العربية ومساحات الإمكان الجديدة التي بشّرت بها الانتفاضات والتحولات في السنوات القليلة الماضية. يقدّم التقليدان دعوة لعلماء الاجتماع العرب، حيث النضال من أجل الاستقلالية حجر أساس للمعرفة النقدية، وحيث مخاطبة السياسي لا تتطلب مجرد الانتباه إلى مساحات السيطرة والمقاومة، بل إلى إيلاء الأهمية ذاتها للبحث عن مساحات تقع خارج دورات القوة، وحيث يمكن توطين إمكانات أنظمة اجتماعية بديلة.
دعوني أُعطي مثلاً سريعاً عن الكيفية التي يمكن بها أن يلتقي عِلم اجتماع ملتزم كشفَ علاقات القوة وعِلم اجتماع ملتزم كشفَ وقائع أخرى، وعن التوترات التحليلية التي يمكن أن تنشأ عن هذا اللقاء، والإمكانات التي تتفتح أيضاً عند العمل مع التقليدين معاً. ثم أنتقل إلى مثال آخر أكثر قرباً إلى السياسة للتمثيل على طريقة مخاطبة التقليدين لمخيلتي الضد/البديل من مخيلات السياسة الراديكالية.
الأخوّة الملتبسة
لننتقل إلى شمال لبنان ونستكشف تفاعلاً اجتماعياً روتينياً لا يزال يقابله المرء في بعض القرى. يرتسم الانقسام الطبقي في تلك القرى بواسطة الانتماءات العائلية. أي إنه توجد عائلات ثرية وعائلات فقيرة كل على حاله منذ العهد العثماني. ومنذ مطلع العهد العثماني، يعمل أبناء العائلات الفقيرة عند العائلات الثرية بما هم خدم وعمال زراعيون ورعاة وسواقون. وعلى الرغم من هذا الانقسام الذي يمتد عبر الأجيال، فإن زرتَ القرية فلا تزال تشاهد أبناء العائلات الثرية جالسين يتناولون القهوة مع أبناء العائلات الفقيرة العاملين في خدمتهم. وقد شاهدت ذلك في واحدة من القرى حيث كنت أجرى أبحاثي الميدانية. أذكر جيداً أني خلال تجوالي في القرية، شاهدت رجلاً يدعى ميشال من العائلة الحاكمة، وقد تعرّفت إليه مطلع ذلك الأسبوع، جالساً على المصطبة أمام بيته يتناول القهوة مع رجل آخر كنت قد عاينته بما هو سائقه، مع أني لم أتعرّف إليه من قبل. عندما ألقيت التحية على ميشال، انتصب واقفاً وعرّفني إلى سائقه: «هذا جريس، إنه يعمل هنا. وهو من هنا أيضاً (من القرية) وبيته في أسفل الطريق». ثم أضاف: «أنا وجريس ربينا معاً، ونحن مثل إخوة، وعائلتي وعائلته حال واحد منذ ما أستطيع أن أتذكر». قد يبدو هذا غريباً، أو مصطنعاً، أو حتى منافقاً، لشخص ليس معتاداً ثقافة القرية، وخصوصاً عندما تكتشف أنّ جريس هو أكثر من مجرد سائق. إنه في الواقع خادم لميشال، ينفّذ أي شيء وكل شيء يريده منه في البيت والحقل أو في أي مكان آخر.
إنه وضع مثير جداً يرمي الاضطراب بين الاستعدادات السوسيولوجية النقدية والاستعدادات الأنثروبولوجية النقدية لعالِم الاجتماع التي تحدث عنها أعلاه. والسبب أنّ ما يحدث، من وجهة نظر سوسيولوجية نقدية، قد يبدو بديهياً: إن هذا الرجل يستخدم مصطلحات القرابة لإخفاء علاقات السيطرة. إنّ رغبة السوسيولوجي في كشف التضليل الذي تنطوي عليه علاقات القوة يطفو إلى السطح فوراً، فيقول أو تقول: «أكيد. «مثل الإخوة» بالتأكيد. ها ها ها. من يظن أنه يخدع؟ إني أستطيع أن أنفذ من خلال لغة الأخوّة هذه وأتعرّف إلى ما تبطنه من علاقة سيطرة. ما من أحد يستطيع أن يضحك عليّ بهذا التخليط عن الأخوّة». وقد يقول الماركسي: «لدينا هنا وضع تشتغل فيه مصطلحات القرابة بما هي ايديولوجيا للتغطية على علاقات الاستغلال القائمة بين سيّد وخادمه». ثم إني علمت إضافة إلى ذلك أن جدّ جريس كان أيضاً خادماً عند جدّ ميشال. فيمكن المرء أن يقول باستهتار: يكفينا قصة «عائلتي وعائلته حال واحد» إنْ هذا إلا تمويه لعلاقات قوة.
إلا أنّ الجانب الأنثروبولوجي مني، إذ يوافق النقد السوسيولوجي في مستوى ما، يريد أن يفهم أيضاً معنى هذا الوصف «نحن مثل الإخوة» من وجهة نظر جريس، وهنا يظهر أمر آخر. فأول شيء لاحظتُه بعد وقت من التعرّف إلى جريس أنه ليس مضلَّلا على الإطلاق بلغة الأخوّة. إنه يعرف جيداً جداً أنه خادم لرجل ثري وأنّ عائلته كانت ولا تزال تحت سيطرة عائلة ميشال. وعلى الرغم من ذلك، فجريس يقدّر فعلياً أنه وسيّده الثري «مثل الإخوة». وقد استمتع بذلك عندما قاله ميشال وكرره في مناسبة أخرى. هنا بدأتُ أدرك أنه على الرغم من حقيقة أنّ ميشال يستخدم فعلاً استعارات القرابة لإعادة إنتاج علاقة الاستغلال التي تربطه بجريس، يبقى أنّ المصطلحات القرابية تؤدي وظيفة تتعدى تلك الوظيفة: إنها تحفر مساحة يستمتع بها كل من ميشال وجريس حيث يرتبط واحدهما بالآخر خارج علاقة السيطرة. عندما تبالغ النظرة السوسيولوجية النقدية في توظيف جهد كبير في كشف علاقات القوة، فإنها غالباً ما تعجز عن أن ترى أشكالاً أخرى من العلائقية، أو أن تعجز عن التفكير بإمكان وجود مثل تلك الأشكال الأخرى، أو أن تفكر في أنّ علاقة قوة قد لا تكون أكثر من مجرد علاقة قوة. بيد أنّ العلاقة بين شخصين أعقد ومتعددة الأبعاد لكي يمكن القبض عليها في نسق تعريفي واحد، مهما تكن قيمته. قد تكون علاقة القوة هي البُعد الأهم في العلاقة بين ميشال وجريس على أنها ليست هي البعد الأوحد. تشير لغة القرابة إلى هذا الشكل الآخر للعلائقية. وفي لغة القرية اللبنانية، غالباً ما تكون المساحة التي تحفرها لغة القرابة المجازية هي مساحةَ تكريم.
وهكذا فإن النظرة السوسيولوجية لن تشاهد هذه المساحة إلا وفق مصطلحات الكيفية التي تشتغل بها لإعادة إنتاج علاقات القوة. بالتأكيد، قد تخدم تلك المساحة لإعادة إنتاج علاقات القوة، بل إنها تفعل ذلك فعلاً. ولكن إذا كان هذا كل ما يشاهده عالِم الاجتماع، فإنه يتغافل عن مورد مهمّ يملكه الناس، وخصوصاً الناس المخضعين، لكي يبنوا شخصياتهم بما هم بشر يستحقون الحياة. القول إن هذه المساحة تساعد على إعادة إنتاج علاقات السيطرة قد يكون صحيحاً، لكنه ليس يعني أنّ ذلك هو السبب الوحيد لوجودها. إن من يكتب تاريخ العلاقات الطبقية، وخصوصاً علاقات المحسبوية، في القرى اللبنانية، ولا يرى إلا علاقات السيطرة والأشكال الأدواتية للاستغلال، يتغافل عن تاريخ مهمّ آخر، هو تاريخ تدهور مساحة متحررة من تلك العلاقات الوظائفية حيث البشر يرتبط واحدهم بالآخر بما هم إخوان وأخوات. إن النظرة السوسيولوجية النقدية التي تلتقط علاقات استغلال نظرة قيّمة، لكن النظرة الأنثروبولوجية النقدية التي تلتقط وجود مساحات أو وقائع أخرى لا تقل عنها قيمة.
وهذا مثال آخر يشدد على الكيفية التي تمكِّن ثنائية «المساحات المتشرّبة بالقوة/المساحات الأخرى» من أن تعقد علاقةً مميزة بثنائية «سياسات الضد/سياسات البديل» المذكورة أعلاه. بالنسبة إلى علماء الاجتماع المهتمين بالحياة الاجتماعية الفلسطينية وباستمرارها في وجه توسع الاستعمار الصهيوني، ووحشيته، تبدو قضية المقاومة، ومكونات ثقافة المقاومة، عظيمة الأهمية. ولقد فصّل العديد من علماء الاجتماع القديرين في تلك العلاقة. ولكن إلى أي مدى يَسمح لنا محورُ «الاستعمار الاستيطاني/مقاومة الاستعمار الاستيطاني» بفهم السياسة الفلسطينية وتوفير الذخيرة النقدية لها. هنا أيضاً، بناءً على مثال القرية الوارد أعلاه، يوجد غالباً انزياح من الأولوية الوجودية إلى الواقعية الوجودية الأحدية: أي الانزياح من اعتبار علاقات السيطرة الاستعمارية ومقاومة تلك السيطرة على أنها أهم واقع سياسي فلسطيني إلى اعتبارها الواقع الفلسطيني الوحيد.
إنّ المقاومة، على أهميتها لأسباب سياسية ولاعتبارات القيمة الذاتية الفردية، مسعى متطلب نفسانياً يمكن أن يُنهِك البشر حتى عندما ينجحون في مقاومتهم. إن نظرة أنثروبولوجية لن تكتفي بتفحص مختلف الأشكال والأبعاد لوجود علاقات قوة وعلاقات مقاومة فقط، بل تتطلب تفحص كيفية اهتمام الناس بحماية أنفسهم من السيطرة ومن مقاومة السيطرة في آن واحد. هنا يمكن اعتبار مفهوم الصمود والواقع، والممارسات والثقافة التي تحددها الممارسات، مفهوماً على القدر ذاته من الأهمية. إن الصمود في علم الفيزياء، كما عندما نتحدث عن صمود مادة ما، له تعريف مثير: إنه يتحدث عن طاقة تلك المادة على أن تتعرّض لقوة تشويهية دون أن تتشوّه بها. يبدو لي هذا بعداً حاسماً من أبعاد «ممارسات الصمود». ذلك أنه مهما فكرنا في أهمية المقاومة وقدسيتها، لا يمكننا أن ننكر أنها تستدعي مضارّ مستدامة على البشر وعلى النسيج الاجتماعي، اللذين يخوضونهما. بل يمكن القول بالتأكيد إن هذا هو البعد المأسوي للمقاومة. إنها بطولية ولا غنى عنها. وإن حياة تستحق أن نعيشها يستحيل التفكير بها دون مقاومة، ومع ذلك فالمقاومة تضرّ بجدوى الحياة. ليس على المرء أن يفكر بالمقاومة وبالصمود على أن واحدهما نقيض للآخر. يمكن النظر المفيد إليهما على أنهما بعدٌ من أبعاد المقاومة من قبل شخص يصنّف المقاومة من الخارج. ومهما يكن من أمر، فبالنسبة إلى الذين يمارسون الصمود، يجب تمييزه بعناية عن المقاومة بما هي واقع.
رغم خشيتي التبسيط المفرط للمسألة، دعوني أقدم مثلاً توضيحياً على ما أقول. في منزل شهيد فلسطيني استشهد حديثاً، كان على أرملته أن تتخذ خيارات تتعلق بمدى ما تتذكره عنه وما تريد أن يتذكره أطفاله، وهي ذكريات تتغير مع الوقت، طبعاً. إن تعليق صورته على الحائط فِعل تذكّر، لكنه أيضاً احتفال بمقاومته وفِعل مقاومة بذاته. وقد تقيم الأرملة مزاراً لزوجها الشهيد في البيت لضمان أن يتذكر الأولاد بطولة أبيهم على الدوام، ويرثوها، ويشاركوا في ثقافة المقاومة التي كان أبوهم جزءاً منها. ولكن لنفترض أن المرأة قررت أنها ستقرأ كل ليلة لأطفالها قصص أطفال غير مسيّسة ثم تتمنى لهم ليلة سعيدة وهي تطبع قبلة دافئة على خدودهم تسمح لهم باختبار شعور بالوجود ليس محكوماً ذاتياً بموت أبيهم، شعوراً بالوجود لا يحكمه الاستعمار ولا مقاومة الاستعمار. بعبارة أخرى، ها هي أُم تجعل أطفالها يختبرون بنوع من العادية التي يختبرها أيضاً أطفال ليسوا معرّضين لسيطرة الاستعمار وليسوا أيتام شهيد. هذا ما أسمّيه فعل صمود. وبديهي أنه يستبطن عنصر مقاومة. ولكن إذا ما انخرطت الأم في ممارسات تهدف إلى تحاشي واقع الاستعمار - على افتراض أنّ ذلك التحاشي ممكن - فسوف ينظر من يريد الاستمرار في الاحتفال بشهادة الأب إلى ذلك على أنه ضرب من الخيانة. ومع ذلك، فإن استغراق العائلة الكلي في الاحتفال بأفعال المقاومة وحرمان النفس مساحات العادية تلك، إنما هي ظاهرة مَرَضية ليس إلا.
وكما قلت أعلاه، إذا كان المرء يريد تسمية الصمود بُعداً آخر من أبعاد المقاومة أو فعلاً آخر مختلفاً عن أفعال المقاومة، فليس بذاك القدر من الأهمية من منظار تحليلي قدر ما هو من المنظور السياسي للذين يخوضون المقاومة والذين قد يصيبهم الاضطراب من طاقة الاستيعاب التي تنطوي عليها أفعال الصمود. الحاسم هنا بالنسبة إلى عالِم الاجتماع النقدي هو أن الصمود مساحة أخرى غير مساحة السيطرة الاستعمارية وللمقاومة النشطة للسيطرة. ليست مساحة تحكمها الأولوية المعطاة للسلطة الاستعمارية التي يحتاج المرء إلى أن يقاومها. يمكن المرء أن يسمّي الصمود مساحة للعادية البطولية. وبسبب ذلك، فهو مساحة أكثر ملاءمة لتوطين «السياسات البديلة»: سياسات معنية بمأسسة نوع من العادية لمرحلة ما بعد المقاومة. المقاومة، من ناحية أخرى، مهجوسة تعريفاً بما تسعى إلى مقاومته، فهي بالتالي أرض لـ«سياسات الضد». والحاسم دوماً أن لا نفكر أبداً بالضد والبديل، وبالمقاومة والصمود، بمنطق «إما هذا أو ذاك» ولكن بالكيفية التي يمكن أن نفكر بالاثنين معاً. وحريّ بعالِم الاجتماع النقدي، الذي تحدوه قيم السوسيولوجيا النقدية والأنثروبولوجيا النقدية، أن يقدّم مساهمة ما لمهمة التفكير هذه.
أودّ أن أختم بإثارة بُعدٍ هام آخر من أبعاد النقد «الأنثروبولوجي» أو «الثقافي» للعلوم الاجتماعية. إنه يتعلق بمسائل نمط الكتابة في مقابل مضمون الكتابة. إنّ هذا النقد مستلهم فلسفياً من أعمال ديريدا، لكنه يتغذى أيضاً من تقليد عريق في العلوم الاجتماعية النسوية. والمسألة هنا هي مسألة طرائق علم الاجتماع في تفصيل الواقع وتصنيفه، وتشديدها على ما تشير إليه لغتُها على أنه «قبض على واقع». إنّ مثل هذه اللغة تجعل العلوم الاجتماعية متواطئة مع أشكال السيطرة البطريركية السائدة والمرتبطة بترويض الآخر، أو الأخروية، والتحكم بها والسيطرة عليها واستغلالها. إن البحث عن وقائع أخرى لا تسودها مثل هذا العلاقة يدعونا أيضاً إلى التفكير في أسلوب كتابة لا يتعلق بإلقاء القبض، أسلوب كتابة «مع الناس» أكثر مما هو أسلوب «كتابة عن الناس». فمن الصعب أن نتصوّر نمطاً من المعرفة العلمية لا يترافق مع منطق التدجين. ومع ذلك يمكن التخفيف منه اقله بواسطة رغبة في عدم الكشف وعدم هتك الأستار، التي غالباً ما تعرّض الشيء لإلقاء القبض السلطوي عليه حتى عندما لا يكون قد أُلقي القبض عليه أصلاً. إنّ «الكتابة مع» هي كتابة «مع» الناس بالطريقة ذاتها التي نتمنى فيها لأحدهم «الله معك». إنها معيّة تخدم كقوة دفع في حياة الناس، وهذا ما يعجز عنه أفضل علم اجتماعي نقدي، أكان يستلهم السوسيولوجيا أم الأنثروبولوجيا.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.