صورة لغرامشي بعد اعتقاله.
هذه المختارات مستلّة من مؤلف لغرامشي غير معروف كثيراً، هو «ملاحظات حول النهضة القومية الإيطالية» (١٩٣٣)، وخصوصاً من الفصول الثاني والخامس والسادس. تتعلّق المختارات بمحاولة تنظير لتجارب الوحدة الإيطالية والألمانية والثورات الجمهورية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يقوم بها الذهن النقدي الإستثنائي لأنطونيو غرامشي، المفكر والقائد الشيوعي الإيطالي الكبير. القراءة مناسبة للتفكّر بالثورات العربية. ونقصد بالتفكّر الاستلهام لا التطبيق الآلي. فكل نص نظري - تاريخي نقطة انطلاق لا نهاية مطاف. المهم في تناول غرامشي لهذه التجارب، مقياسه المنهجي الأساس عن السيطرة والقيادة في ممارسة السلطة، وعدد من مفاهيمه المفتاحية مثل مفهوم «الثورات السلبية» ومفهومه عن حرب المواقع وحرب المناورة، واستخدامه الخلاق للتحليل الطبقي، ومقاربته المبتكرة لمسألة التمثيل السياسي للطبقات في الثورات كما في عملية التوحيد القومي، والعلاقة بين العسكري والسياسي في الثورات، وأخيراً ليس آخراً، إضاءاته الدائمة على أدوار المثقفين.
الفصل الثاني
القيادة والسيطرة
إن المقياس المنهجي الذي يتعين على دراستنا أن تعتمده هو الآتي: إن تفوّق فئة اجتماعية معينة يتجلى بطريقتين، بما هو «سيطرة» أو بما هو «قيادة فكرية وأخلاقية». إنّ فئة اجتماعية معينة تسيطر على الفئات المعادية، فتسعى إلى «تصفيتها» أو إلى إخضاعها، ما قد يضطرها إلى اللجوء إلى القوة المسلحة. إلا أنها تقود فئات مناصرة أو حليفة. وفي مقدور الفئة المعنية أن تمارس «القيادة» حتى قبل استيلائها على سلطة الدولة، لا بل يجب عليها ذلك؛ (لأن هذه القيادة شرط أساسي من شروط الاستيلاء على السلطة). ولن تحقق الفئة المعنية سيطرتها إلا عندما تباشر ممارسة السلطة. لكن مهما كانت سيطرتها مكينة على مقاليد السلطة، تبقى مضطرة إلى الاستمرار في ممارسة «القيادة» إلى جانب ممارستها «السيطرة».
المثقفون والطبقات
... هنا نكتشف الثبات المنهجي لمقياس من مقاييس البحث التاريخي - السياسي القائل بأنه لا توجد طبقة مستقلة من المثقفين، بل إن لكل طبقة شريحتها الخاصة من المثقفين، أو إنها تتجه نحو تشكيل مثل تلك الشريحة. إلا أنّ مثقفي الطبقة التقدمية تاريخياً (وعملياً) قد ينجحون في ظروف معينة في اجتذاب مثقفي الطبقات الاجتماعية الأخرى وإخضاعهم، في نهاية المطاف، فيؤسسون بالتالي نظاماً من التضامن يضم جميع المثقفين، تشدّه روابط ذات طابع نفساني (الاعتداد بالنفس، إلخ...)، وغالباً ما تشدّه عصبية المرتبة المغلقة (ذات الطابع الثقافي- الحقوقي أو التعاضدي، إلخ...).
وتتجلى هذه الظاهرة «عفوياً» إبان تلك الفترات التاريخية التي تؤدي فيها الطبقة المعنية دوراً تقدمياً فعلياً، أي عندما تدفع المجتمع ككل إلى أمام، فلا تكتفي بتلبية حاجاتها المعاشية، بل تعمل باستمرار على مضاعفة عدد كوادرها من أجل غزو مجالات متجددة أبداً من النشاط الاقتصادي والإنتاجي. ولكن، ما إن تستنفد الطبقة الاجتماعية المسيطرة وظيفتها، حتى تنحو هذه الكتلة الأيديولوجية منحى التفكك والانهيار، إذذاك تحلّ «العفوية» محلّ «الإرغام» الذي يزداد سفوراً وانكشافاً ليتوّج بالإجراءات البوليسية المباشرة وبالانقلابات العسكرية.
اليعقوبية والبرجوازية
(...) ينبغي إلقاء الأضواء الكاشفة على حقيقة أنّ اليعاقبة قد تسنّموا دور الحزب القائد باللجوء إلى الصراع الدموي وأنهم فرضوا أنفسهم فرضاً على البرجوازية الفرنسية بالمعنى الحرفي للكلمة وقادوها إلى موقع أكثر تقدماً بكثير من ذلك الذي كانت ترغب في احتلاله أصلب النوى البرجوازية لو أنها تُرِكت لخيارها العفوي. بل إنهم قادوها إلى موقع أكثر تقدماً من ذلك الذي كانت تسمح به المعطيات التاريخية. وقد أدى هذا إلى استثارة الرِدّات المضادة للثورة، على تنوّع أشكالها، ومهّد الطريق أمام الدور الذي أدّاه نابليون بونابارت. إن السمة المميزة لليعقوبية (وقبلها أيضاً لكرومويل وجنوده الملقبين بـ«مستديري الرؤوس») - وبالتالي السمة المميزة لمجمل الثورة الفرنسية - هو أنها قامت على دفع الوضع عنوة إلى الأمام، ظاهرياً على الأقل، وعلى فرض الأمر الواقع، وعلى مبادرة قبضة من الرجال البالغي النشاط والحزم يسوقون البرجوازية إلى أمام بركلها على قفاها.
يمكن توصيف ذلك على النحو الآتي: كانت «المرتبة الثالثة» أقلّ الطبقات الاجتماعية تمتعاً بالتماسك الداخلي، فنخبتها المثقفة شديدة التنوع والبعثرة، وهي على وجه الإجمال طبقة متقدمة جداً في الميدان الاقتصادي، لكنها ميّالة إلى الاعتدال سياسياً. غير أنّ تطور الأوضاع سيتخذ منحىً شديد الإثارة. في البدء، اكتفى ممثلو «المرتبة الثالثة» بطرح المسائل التي تهمّ الأفراد الذين تتكوّن منهم الطبقة فقط، أي المطالب التي تعبّر عن مصالحهم «الفئوية» فحسب (ونستخدم «فئوية» بالمعنى التقليدي، أي بمعنى المصالح الأنانية الضيقة والمباشرة لفئة معينة). والواقع أنّ رواد الثورة كانوا إصلاحيين معتدلين، أصواتهم مرتفعة، لكنّ مطالبهم متواضعة.
تدريجياً، نمت نخبة جديدة لا تقصر اهتمامها على الإصلاحات «الفئوية»، بل تنزع نحو فهم البرجوازية بصفتها الطبقة المهيمنة على سائر القوى الشعبية. وقد تم هذا الاصطفاء بفعل عاملين اثنين: مقاومة القوى الاجتماعية القديمة من جهة، والأخطار الخارجية من جهة ثانية. فقد رفضت قوى العهد القديم تقديم التنازلات. وحيث ارتضت التنازل عن النزر اليسير، تمّ ذلك من أجل كسب الوقت والتهيئة للهجمات المعاكسة.
وكان مقدَّراً لـ«المرتبة الثالثة» أن تسقط في هذه «المنزلقات» المتتالية لولا دأب اليعاقبة على معارضة أية «هدنة» في العملية الثورية، فأرسلوا إلى المقصلة ممثلي المجتمع القديم، ثم ألحقوهم بثوريي الأمس وقد باتوا رجعيين بمقاييس الحاضر. وهكذا كان اليعاقبة الحزب الوحيد للثورة الجارية، بالقدر الذي لم يكتفوا فيه بتمثيل الأفراد الحقيقيين الذين تتكون منهم البرجوازية الفرنسية، وإنما مثّلوا الحركة الثورية بعامة، بما هي سيرورة تاريخية متكاملة. وكانوا الحزب الوحيد للثورة الجارية أيضاً لأنهم مثّلوا أيضاً الحاجات المستقبلية، ليس فقط حاجات هؤلاء الأفراد الفعليين وحسب، بل أيضاً حاجات كافة المجموعات القومية التي كان يتعيّن استيعابها في إطار الطبقة الأساسية القائمة: البرجوازية.
ولا بد من أن نشدّد، في وجه تيار فكري منحاز ولاتاريخي، على أنّ اليعاقبة كانوا واقعيين على طريقة ماكيافللي، ولم يكونوا حالمين مجرّدين. كانوا مقتنعين كل الاقتناع بالحقيقة المطلقة التي تنطوي عليها شعاراتهم عن المساواة والأخوة والحرية، والأهم من ذلك أنّ الجماهير الشعبية العريضة التي عبّأها اليعاقبة وزجّوها في الصراع كانت مقتنعة هي أيضاً بتلك الحقيقة. ولقد عبّر اليعاقبة في لغتهم وأيديولوجيتهم وأساليب عملهم تعبيراً أصيلاً عن متطلبات حقبتهم التاريخية، وإن كانوا يبدون «تجريديين» و«مهووسين» بمقاييس «الزمن الحاضر»، أي في وضع مختلف، وبعد انقضاء أكثر من قرن من التطور الثقافي.
بالطبع، عبّر اليعاقبة عن تلك المتطلبات وفقاً للتقليد الثقافي الفرنسي. وأحد الأمثلة على ذلك هو تحليل الخطاب اليعقوبي كما تلقاه في «العائلة المقدسة». ومثال آخر هو اعتراف هيغل نفسه بأنّ الخطاب الحقوقي - السياسي اليعقوبي ومفاهيم الفلسفة الكلاسيكية الألمانية - المعترف بها اليوم بأنها تحوي الحد الأقصى من التحديد، والتي شكلت منبع التاريخانية الحديثة - متوازيان موازاة تامة وقابل واحدهما لأن يترجم إلى لغة الآخر.
كانت الضرورة الأولى (التي استشعرتها اليعقوبية) هي ضرورة إبادة القوى المعادية أو شلّ حركتها إلى درجة تنعدم معها إمكانية قيام ردّة مضادة للثورة. أما الضرورة الثانية، فهي توسيع الإطارات التي تتكون منها البرجوازية بحد ذاتها ووضعها في الموقع القيادي لسائر قوى الأمة.
استقطاب الفلاحين
وكان هذا يعني استنباط المصالح والمتطلبات المشتركة بين كافة تلك القوى لتحريكها وقيادتها في الصراع بما يحقق نتيجتين اثنتين: أولاهما جَبْه الضربات التي يكيلها العدو بواسطة أوسع هدف ممكن، أي إيجاد توازن قوى سياسي - عسكري لمصلحة الثورة. وثانيتهما، حرمان ذاك العدو أية منطقة آمنة يستطيع فيها تجنيد الجيوش من نمط جيش «الڤانديه».
ولولا السياسة الزراعية التي اعتمدها اليعاقبة، لكانت «الڤانديه» قد وصلت إلى أبواب باريس. والواقع أنّ مقاومة منطقة «الڤانديه» بحدّ ذاتها وثيقة الصلة بالمسألة القومية التي احتدمت بين شعوب منطقة «بريتانيا» وبشكل عام بين جميع المناوئين لشعار «الجمهورية الواحدة التامة غير القابلة للتجزئة» وبين السياسة المركزية الإدارية - العسكرية، وهما شعارٌ ونهج سياسي لم يكن لليعاقبة أن يتخلوا عنهما دون أن يسوقهم ذلك إلى الانتحار السياسي.
حاول «الجيرونديون» استغلال شعار الفيدرالية لكي يسحقوا باريس اليعقوبية، غير أنّ الجيوش الريفية التي احتشدت للزحف على العاصمة ما لبثت أن انضمت إلى صفوف الثوار. وخلا بعض المناطق الهامشية - حيث التمايزات القومية واللغوية الفاقعة - تبيّن أن المسألة الزراعية أقوى من نزعات الاستقلال الذاتي. فارتضت فرنسا الريفية هيمنة باريس، أي إنها أدركت أن التصفية النهائية للعهد القديم كانت تقتضي التحالف مع العناصر الأكثر تقدماً من «المرتبة الثالثة» لا التحالف مع «الجيرونديين». صحيح أنّ اليعاقبة أرغموها على ذلك إرغاماً، لكن الصحيح أيضاً أن عملية الإرغام هذه كانت تحصل دوماً في اتجاه منسجم واتجاه التطور التاريخي الحقيقي.
ولم يكتفِ اليعاقبة بتنظيم حكومة برجوازية، أي تحويل البرجوازية إلى طبقة مهيمنة. فعلوا أكثر من ذلك: أسسوا الدولة البرجوازية وجعلوا البرجوازية الطبقة القائدة والمهيمنة في الأمة. بعبارة أخرى، أرسوا الدولة الجديدة على قاعدة راسخة وبنوا الأمة الفرنسية الحديثة المرصوصة البنيان.
وعلى الرغم من هذا كله، نقول إن اليعاقبة لم يغادروا أرض البرجوازية قط، كما يتبين من الأحداث التي أعلنت نهايتهم كحزب مقولب في قالب جامد وضيق إلى ابعد حدود الضيق، كما يتبين من حالهم بعد مصرع روبسبيير. فقد تمسكوا بقانون «لُ شاپلييه» ورفضوا تقديم أي تنازل للعمال حول حق التنظيم. فاضطروا بالتالي إلى إصدار القانون المعروف بـ«قانون الحد الأقصى»، فقسّموا بذلك الجبهة الباريسية. وإذا بقواهم الهجومية، المجمّعة في «عامة باريس» تتفرق خائبة الأمل وينتصر «الثرميدور».
بذلك كانت الثورة قد بلغت حدها الطبقي الأقصى. وأفضت سياسة التحالفات والثورة المستمرة إلى طرح قضايا جديدة لم تكن قادرة على حلها آنذاك، وهي التي أطلقت العنان لقوى بدائية لا يمكن احتواؤها إلا بواسطة دكتاتورية عسكرية.
في اختلاف طرائق
تسلّم البرجوازية للسلطة
في فرنسا كان المسار هو الأغنى من حيث التطورات، ومن حيث احتواؤه على العناصر السياسية الحية والإيجابية. أما في ألمانيا، فقد أخذ منحى يشبه، في بعض جوانبه، ما حصل في إيطاليا، مثلما يشبه ما حصل في إنكلترا في جوانبه الأخرى.
لقد فشلت حركة ١٨٤٨ في ألمانيا نتيجة ضعف التمركز البرجوازي (حيث كان أقصى اليسار الديمقراطي هو الذي طرح شعاراً من الطراز اليعقوبي: الثورة المستمرة) ولأن مسألة تجديد الدولة كانت متشابكة مع المسألة القومية. والواقع أن حروب ١٨٦٤ و ١٨٦٦ و ١٨٧٠ قد حلت المسألة القومية كما حلت المسألة الطبقية انتقالياً. ففازت البرجوازية بالسلطة الاقتصادية الصناعية، غير أن الطبقات الإقطاعية القديمة ظلت هي الفئة السياسية الحاكمة في الدولة تحظى بامتيازات فئوية واسعة النطاق في الجيش والإدارة والملكية العقارية.
وإذا كانت هذه الطبقات القديمة قد حافظت على ذاك القدر من الأهمية في ألمانيا وتمتعت بمثل تلك الامتيازات، فلأنها مارست وظيفة قومية، لأن أفرادها أدوا دور «مثقفي» البرجوازية الذين يملكون مزاجاً خاصاً بهم تمحضهم إياه أصولهم الفئوية والتقاليد. في إنكلترا، التي سبقت فرنسا في ثورتها البرجوازية، نلقى ظاهرة شبيهة بالظاهرة الألمانية، هي ظاهرة الاندماج بين القديم والجديد، على الرغم من النشاط الكثيف الذي بذله «اليعاقبة» البريطانيون - أي كرومويل و«مستديرو الرؤوس». فقد ظلت الأرستقراطية القديمة تؤدي دورها كفئة حاكمة، وتتمتع بعدد من الامتيازات، فتحولت هي أيضاً إلى الشريحة المثقفة للبرجوازية الإنكليزية (لا بد من أن نضيف هنا أن للأرستقراطية الإنكليزية بُنية مفتوحة وأنها كانت تتجدد باستمرار بولوج عناصر إليها وفدت من أوساط المثقفين والبرجوازية).
أما التفسير الذي يعطيه أنطونيو لابريولا عن كون «اليونكرز» والقيصرية قد استمروا في حكم ألمانيا على الرغم من التطور الرأسمالي الكبير الذي عرفته، فتفسير يجانب التفسير الصحيح: أنّ العلاقات الطبقية التي ولّدها التطور الصناعي، ضمن حدود الهيمنة التي بلغتها البرجوازية ونظراً إلى الانقلاب في موقف الطبقات التقدمية، حَدَت البرجوازية إلى عدم الإلقاء بكل ثقلها في النضال ضد النظام القديم. فحافظت على جزء من واجهة ذاك النظام كي تستطيع أن تتوارى خلفه وتخفي بواسطته سيطرتها الفعلية.
وحقيقة الأمر أنه ليس يكفي أن نربط تجلي عملية تاريخية واحدة في بلدان مختلفة باختلاف تركيبات العلاقات الداخلية للأمم المختلفة وحسب، بل ينبغي ربطها أيضاً بالاختلاف في العلاقات الدولية (وهي غالباً ما يجري التقليل من أهميتها في مثل هذه الأبحاث). يوجد بالتأكيد رابط بين الروح اليعقوبية، المقدامة والجريئة، وبين الهيمنة التي مارستها فرنسا لفترة طويلة على سائر بلدان أوروبا، مثلما يوجد رابط بين تلك النزعة اليعقوبية وبين وجود مركز مديني مثل باريس والدرجة العالية من المركزية التي بلغتها فرنسا بفضل النظام الملكي. ومن جهة ثانية، إن الحروب التي أدت دوراً فكرياً مخصباً بالنسبة إلى نهضة أوروبا، أدت على عكس ذلك، إلى استنزاف الحيوية السياسية النضالية لفرنسا كما لسائر الأمم، لما سببته من تدمير هائل للطاقات البشرية التي كانت تضم أكثر الرجال جرأة ونشاطاً.
القيادة العسكرية
والقيادة السياسية
ثم إنّ الجيش هو أيضاً «أداة» لتحقيق هدف معين. غير أنه يتألف من بشر فاكرون لا من آلات يجري استخدامها إلى حد انهيار تماسكها الآلي والجسدي. وحتى لو استطعنا، بل وجب علينا، الحديث هنا عمّا هو ملائم للهدف ومستعجل في تحقيقه، فلا بد من أن نشرط تلك الشروط جميعاً بما يتوافق وطبيعة الأداة ذاتها. إن الضرب على مسمار بواسطة مطرقة خشبية بالقوة ذاتها التي يضرب فيها عليه بواسطة مطرقة فولاذية يؤدي إلى انغراز المسمار في المطرقة الخشبية بدل أن ينغرز في الجدار. إن القيادة العسكرية الصائبة ضرورية حتى بالنسبة إلى جيش من المرتزقة (حتى أفواج المرتزقة تتطلب حداً أدنى من القيادة السياسية إضافة إلى القيادة الفنية - العسكرية) فكيف بنا إذا كان الأمر يتعلق بجيش قومي من المجندين؟
وتزداد المسألة تعقيداً وصعوبة في حروب المواقع التي تخوضها جماهير عريضة ليست تقوى على احتمال المجهودات العضلية والعصيبة والنفسانية الجبارة إلا إذا توافر لها مخزون وافر من القوة المعنوية. وحدها القيادة السياسية الحاذقة، القادرة على تمثُّل أعماق المشاعر والتطلعات الجماهيرية قادرة على الحيلولة دون التفكك والهزيمة.
ينبغي إخضاع القيادة العسكرية للقيادة السياسية على الدوام. بعبارة أخرى، ينبغي أن تكون الخطة الاستراتيجية هي الترجمة العسكرية لسياسة شاملة معينة. بالطبع، قد يكون السياسيون عديمي الكفاءة، في حالة معينة، فيما يملك الجيش قادة يجمعون الكفاءة العسكرية إلى الجدارة السياسية. هكذا كان الأمر بالنسبة إلى يوليوس قيصر ونابليون. غير أننا رأينا كيف أن تغيير النهج السياسي، في حالة نابليون، والافتراض أنه يملك أداة عسكرية (لم تكن عسكرية إلا بالمعنى المجرد) أديا إلى انهيار الرجل.
وحتى في الحالات التي تندمج فيها القيادة العسكرية والسياسية في شخص واحد، ينبغي أن تكون الغلبة للنصاب السياسي على النصاب العسكري. إن [كتاب] «ملاحظات وشروح» ليوليوس قيصر مثال كلاسيكي على الدمج الذكي بين الفن السياسي والفن العسكري. لم يكن الجنود يكتفون بالنظر إلى القيصر على أنه مجرد قائد عسكري عظيم، بل نظروا إليه أيضاً، وبنوع خاص، على أنه زعيمهم السياسي، زعيم الديمقراطية. كذلك ينبغي أن نستحضر هنا كيف حافظ بسمارك، مستلهماً كلاوزفتس، على غلبة اللحظة السياسية على اللحظة العسكرية، في حين أن غليوم الثاني - حسب رواية لودفيغ - كان يكتفي بتدوين الملاحظات الغاضبة على هوامش الصحيفة التي كانت تنقل تصريحات بسمارك. وهكذا كسب الألمان كل المعارك ببراعة، غير أنهم خسروا الحرب.
الفصل الخامس
في النهضة القومية الإيطالية، أدت [مملكة] پييدمونت دور «الطبقة الحاكمة». فالواقع أن إيطاليا لم تشهد ظاهرة نشوء أنوية لطبقة حاكمة على امتداد شبه الجزيرة تحكّمت نزعتها الوحدوية الكاسحة بتكوّن الدولة القومية الإيطالية الجديدة. بالتأكيد كانت تلك الأنوية موجودة. إلا أن نزعتها الوحدوية كان يلفّها إشكال كبير. والأهم من ذلك أن أياً منها لم يضطلع بأداء الدور «القيادي» في نطاقه الخاص.
ولما كان وجود «القائد» يفترض وجود «المقود»، فمن هم الذين «قادتهم» تلك النوى؟ الواقع أنها لم تكن ترغب في قيادة أحد، أي إنها لم تكن ترغب في ربط مصالحها وتطلعاتها بمصالح وتطلعات أي من الفئات الأخرى. كانت ترغب في ممارسة «الاستتباع» لا «القيادة». ثم إنّ هذه الأنوية كانت ترغب في تغليب مصالحها لا أشخاصها، أي إنها كانت تطمح إلى قيام قوة جديدة منزّهة عن كل مساومة أو شرط، لتؤدي دور الحكم بالنسبة إلى الأمة بأسرها. وكانت پييدمونت تلك القوة، ومن هنا استمد النظام الملكي وظيفته.
هكذا أدت پييدمونت دوراً يمكن تشبيهه، من بعض جوانبه على الأقل، بدور الحزب، أي بالدور الذي يؤديه الجهاز القيادي بالنسبة إلى فئة اجتماعية معينة. بالفعل، كان الناس يتكلمون دوماً على «حزب پييدمونت». وكان لپييدمونت ميزة إضافية، هي أنها دولة تملك جيشها وجهازها الدبلوماسي، إلخ.
إنّ لهذه الواقعة أهمية بالغة بالنسبة إلى مفهوم «الثورة السلبية»؛ فنحن لم نكن في إزاء فئة اجتماعية «تقود» فئات اجتماعية أخرى، بل أمام دولة، على الرغم من القيود التي تكبّل سلطتها، «تقود» الطبقة التي كانت تمارس «القيادة» وتضع في تصرفها جيشاً وإمكانات سياسية - دبلوماسية.
الفصل السادس
مفهوم الثورة السلبية
يجب استخلاص مفهوم «الثورة السلبية» استخلاصاً صارماً من مبدأين أساسيين من مبادئ علم السياسة: [يقول] المبدأ الأول: إن ما من تشكيلة اجتماعية تختفي ما دامت قوى الإنتاج التي نمت داخلها تجد متسعاً للنمو. [ويقول] المبدأ الثاني: إن المجتمع لا يطرح على نفسه من المهمات إلا تلك التي نضجت الظروف الضرورية لحلّها.
غنيٌّ عن القول أنّ هذه المبادئ لا بد من بلورتها نقدياً بكل مترتباتها، ولا بدّ من تطهيرها من كل ترسّب من ترسبات النزعتين الآلية والقَدَرية. من هنا يجب إرجاعها إلى وصف اللحظات الثلاث الأساسية التي تميّز «وضعاً» من الأوضاع أو توازن قوى معيّنة، مع التشديد الكبير على اللحظة الثانية (توازن القوى السياسي) وخصوصاً على اللحظة الثالثة (التوازن السياسي - العسكري).
حرب المواقع، حرب المناورة
هل يمكن إقامة الصلة بين مفهوم «الثورة السلبية» - بالمعنى الذي يعطيه فينسنزو كووكو للمرحلة الأولى من النهضة القومية الإيطالية - وبين مفهوم «حرب المواقع» بالمقارنة مع «حرب المناورة»؟ بعبارة أخرى، هل بقي لهذين المفهومين من معنى بعد قيام الثورة الفرنسية، وهل يمكن تفسير/فهم شخصيتي پرودون وجيوبرتي التوأمين بناءً على الذعر الذي أثاره «عهد الإرهاب » سنة ١٧٩٣ مثلما نفسر/نفهم «السوريلية» بناءً على الذعر الذي أعقب مجازر باريس سنة ١٨٧١؟ أعني: هل يوجد تطابق تام بين «حرب المواقع» وبين «الثورة السلبية»؟ أم هل يوجد، أقلّه، حقبة تاريخية كاملة، فعلية كانت أو محتملة، يتطابق فيها المفهومان، إلى أن تتحول حرب المواقع مجدداً إلى حرب مناورة؟
يجب الحكم على فترات «الردة» حكماً «دينامياً» بما هي «مراوغة القَدَر» كما يسمّيها فيكو. إلا أنّ المسألة هنا هي: في النزاع بين كافور وماتزيني - حيث كان كافور يدعو للثورة السلبية/حرب المواقع، فيما ماتزيني داعية المبادرة الشعبية/حرب المناورة - ألم يكن كلاهما واجب الوجود لا يستغنى عنه بنفس القدر من الأهمية؟ ولكن يجب الأخذ في الحسبان أنه فيما كان كافور واعياً لدوره (إلى حد ما، أقله) بمقدار ما كان واعياً لدور ماتزيني، لا يبدو أن هذا الأخير كان واعياً لدوره هو أو لدور كافور. ولو أنّ ماتزيني، على عكس ذلك، امتلك مثل هذا الوعي - بعبارة أخرى، لو أنه كان سياسياً واقعياً لا رسولاً رؤيوياً (أي، لو أنّ ماتزيني لم يكن ماتزيني) - لاختلف التوازن الحاصل عن نشاط الرجلين، ولرجح رجحانا بيّناً لمصلحة ماتزيني وتياره. بعبارة أخرى، لكانت الدولة الإيطالية قد انبنت على قاعدة أقل تخلفاً وأكثر حداثة.
دور التعبئة الشعبية
ولا بد هنا من وقفة للنظر في مسألة تحوّل الصراع السياسي من «حرب مناورة» إلى «حرب مواقع». حدث مثل هذا التحوّل في أوروبا بعد ١٨٤٨، وهذا ما لم يستوعبه ماتزيني وأتباعه، على عكس ما فعله آخرون، وقد تكرر التحول نفسه بعد ١٨٧١، إلخ. إذذاك َصعُب على أمثال ماتزيني استيعاب المسألة، نظراً إلى أنّ الحروب العسكرية لم تكن قد وفّرت النموذج لذلك - والحال أنّ النظرية العسكرية كانت تنحو منحى حرب المناورة. وعلينا هنا أن نبحث عمّا إذا كان من تلميحات دالة لهذا الموضوع عند پيساكاني الذي كان المنظّر العسكري لماتزيني.
ويمكن دراسة أوجه أخرى للعلاقة بين «الثورة السلبية» و«حرب المواقع» في النهضة القومية الإيطالية. وأهمها الوجه المتعلق بـ«العنصر البشري» و«التعبئة الثورية». يمكن مقارنة الوجه المتعلق بـ«العنصر البشري» بدقة مع ما جرى في الحرب العالمية الأولى من حيث العلاقة بين الضباط المحترفين وبين ضباط الاحتياط من جهة والعلاقة بين المجندين والمتطوعين/الفدائيين من جهة أخرى. إن المعادل للضباط المحترفين في النهضة القومية الإيطالية هو الأحزاب السياسية النظامية، العضوية، التقليدية، إلخ... التي ما إن دقت ساعة الفعل (سنة ١٨٤٨) حتى تكشفت عن عجزها، أو ما يشبه العجز، فجرفتها أمواج المدّ الشعبي - الماتزيني - الديمقراطي العاتي. كانت تلك الأمواج فوضوية، هلامية، إذا جاز التعبير، ومهما يكن، فقد حققت، في ظل قيادة مرتجلة... نجاحات كانت دون أدنى شك أعظم من تلك التي حققها المعتدلون: إذ أظهرت الجمهورية الرومانية والبندقية طاقة مقاومة عظيمة، وفي فترة ما بعد ١٨٤٨، انتظمت العلاقة بين القوتين، القوة النظامية والقوة «الكارِزميّة»، حول شخصي كافور وغاريبالدي وأنتجت أعظم النتائج (على الرغم من أن كافور هو الذي صادر النتائج).
ومسألة «العنصر البشري» هذه وثيقة الصلة بمسألة «التعبئة». وتجدر الإشارة إلى أن الصعوبة التقنية التي أحبطت مبادرات ماتزيني على الدوام كانت «التعبئة الثورية». وإنه لمثير في هذا المنظار أن ندرس محاولة رامورينو احتلال ساڤوا، جنباً إلى جنب مع محاولات الإخوة باندييرا وپيساكاني، إلخ. وإجراء المقارنة في ما بينها وبين الوضع الذي واجهه ماتزيني في ميلانو عام ١٨٤٨ وفي روما عام ١٨٤٩، وهي أوضاع لم يملك ماتزيني القدرة على ضبطها، وكان محكوماً على تلك المحاولات التي اقتصرت على قبضة من الأفراد أن يقضى عليها في المهد. إن معجزة كانت مطلوبة للحيلولة دون أن تتولى القوى الرجعية، الممركزة والمالكة لحرية الحركة (لأنها لم تكن تواجه أية حركة شعبية عريضة) سحق مبادرات من نمط تلك التي قام بها رامورينو وپيساكاني وباندييرا، حتى لو حظيت تلك المحاولات بإعداد أفضل مما حصل. أما في الفترة الثانية (١٨٦٠-١٨٥٩)، فقد أمكن تحقيق «تعبئة ثورية» (وهذا ما كانه «جيش الألف» الذي قاده غاريبالدي) أولاً؛ لأن غاريبالدي نجح في أن يتمفصل على القوى القومية الپييدمونتية، وثانياً لأن البحرية البريطانية وفرت حماية فعلية للإنزال في مارسالا ولاحتلال پالِرمو وشلّت قدرات بحرية آل بوربون. والواقع أنّ الفرصة سنحت لماتزيني - في ميلانو بعد «انتفاضة الأيام الخمسة»، كما في روما الجمهورية - لكي يقيم مراكز تطوّع من أجل تعبئة قتالية عضوية، لكنه لم تكن لديه أية نية للقيام بذلك. وكان هذا مصدر نزاعه مع غاريبالدي في روما وسبب عدم فاعلية مساعيه في ميلانو بالمقارنة مع كاتانيو والمجموعة الديمقراطية الميلانية.
دور الحركات الشعبية «العفوية»
ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من أن أحداث النهضة القومية أظهرت الأهمية الكبرى للحركات الشعبية «الغوغائية» التي يقودها قادة ارتجاليون رمت بهم الأقدار على رأسها، إلا أنّ حقيقة الأمر أنّ القوى التقليدية العضوية هي التي سيطرت على تلك الحركات، بعبارة أخرى، سيطرت عليها الأحزاب العريقة، ذات القادة المتكونين على نحو عقلاني. والحال أنّ أحداثاً سياسية مماثلة قد ولدت نتائج متطابقة. (ومن الأمثلة على ذلك، غلبة الأورليانيين على القوى الشعبية الديمقراطية الجذرية في فرنسا عام ١٨٣٠، بل إن الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩ هي مثال على ذلك أيضاً، حيث مثّل نابليون، في نهاية المطاف، انتصار القوى البرجوازية العضوية على القوى البرجوازية الصغيرة اليعقوبية). والأمر ذاته يتكرر مع انتصار قدامى الضباط المحترفين على ضباط الاحتياط في الحرب العالمية الأولى، إلخ. وفي أي حال، إنّ غياب أي إدراك لدور الطرف الآخر لدى القوى الشعبية الراديكالية منعها من أن تدرك دورها هي، الإدراك الكامل، وحرمها بالتالي أن يكون لها وزنها في ميزان القوى النهائي بنسبة قوة تدخلها الفعلية [فيه]، وبالتالي من أن تفرض نتيجة أكثر تقدماً ترتكز على أسس أكثر تقدمية وأكثر حداثة.
الظروف الموضوعة والذاتية
وأيضاً بصدد مفهوم «الثورة السلبية» أو «الثورة/الردة» في النهضة القومية الإيطالية، تجدر الملاحظة أنه يجب طرح عظيم الدقة للمسألة التي تسميها بعض مدارس كتابة التاريخ مسألة العلاقة بين الظروف الموضوعية والظروف الذاتية في صنع الحدث التاريخي. ويبدو بديهياً أنّ ما يسمى الظروف الذاتية لا يمكن أن تكون مفقودة عندما تتوافر الظروف الموضوعية، إلا بمقدار ما يكون التمييز مجرد تمييز ذي طابع تعليمي. وبالتالي، إنّ النقاش إنما يطاول حجم القوى الذاتية ودرجة تمركزها، وبالتالي العلاقة الجدلية في ما بين قوى ذاتية متصارعة.
يجب الكفّ عن طرح المسألة على أسس «مثقفاتية» بدلاً من طرحها على أسس تاريخية - سياسية. لا أحد يجادل في أنّ «البصيرة» الفكرية لظروف الصراع أمر لا غنى عنه. إلا أنّ هذه البصيرة تصير قيمة سياسية بمقدار ما تصير هوى موزعاً وبمقدار ما تشكل ركيزة لإرادة صلبة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.