العدد السادس - صيف ٢٠١٣

سِكْسِي جبران

سيجارة وشاعرة أميركية

النسخة الورقية

عثر الشاعر المهجري شفيق معلوف، رئيس «رابطة العصبة الاندلسية»، بين أوراق أخيه الشاعر فوزي معلوف على نسخ لرسائل ثلاث كان قد بعث بها جبران خليل جبران إلى صديقه جميل معلوف. فنشرها في مجلة «العصبة» صوت «رابطة العصبة الاندلسية» التي كانت تضم ادباء المهجر الجنوب اميركي. وهذا نصّ واحدة منها.

أخي جميل

عندما أقرأ رسائلك أشعر بوجود روح سحرية تدبّ في جوانب هذه الغرفة. روح جميلة ومحزنة تفصل بتموجاتها ذاتي فأراك ذا أقنومين متباينين. أقنوم يرفّ فوق البشر والبشريّات بأجنحة عظيمة تشابه أجنحة الساروفيم التي رآها يوحنا واقفة أمام العرش بجانب المناثر السبع. وأقنومٌ مقيَّد بسلاسل قويّة بين الصخور الهائلة مثل «بروميس» الذي أنزل شعلة النار الأولى للبشر من السماء فغضبت عليه الآلهة وأوثقوا جثمانه بصخرة على شاطئ البحر. أقنوم يفرح قلبي ويضبط نفسي لأنه يتموج مع أشعة الشمس ونسيمات الفجر. وأقنوم يوجع عواطفي ويضغط على قلبي وأضلعي لأنه أسير صروف الليالي.. كنت ولن تزال قادراً على استحضار شعلات النار من السماء وتسليمها إلى البشر لتنيرهم ولكن أية شريعة بل أية قوة وضعتك في سان باولو وقيدت جثمانك بين الذين ماتوا منذ ولادتهم ولم يدفنوا بعد؟ هل لآلهة اليونان قوة في هذه الأجيال؟

سمعت بأن في نيتك الرجوع إلى باريس لتسكن فيها وأنا أيضاً أريد أن أذهب إليها فهل نلتقي في مدينة الفنون؟ هل نلتقي في قلب العالم ونسكن معاً ونذهب ليلاً إلى الأوبرا وإلى الملعب الفرنساوي ثم نعود لنتحدث عن روايات راسين وكورنيل وموليير وهوغو وساردو؟ أنلتقي هناك ونسير ببطء إلى حيث كان الباستيل ثم نعود إلى البيت شاعرين بملامس روح روسو وفولتير ونكتب. ونكتب. ونكتب عن الحرية والاستبداد لنكون من المساعدين على هدم الباستيل القائم في كل بلدةٍ في الشرق. أونذهب إلى اللوفر ونقف أمام رسوم رفائيل ودافنسي وكارو ثم نعود إلى البيت ونكتب ونكتب ونكتب عن الحب والجمال وتأثيرهما في خلايا القلب البشري؟ آه يا أخي، إنني أشعر بمجاعة عميقة إلى الاقتراب من الأعمال العظيمة الهائلة وبشوق مميت إلى الأقوال الكبيرة الخالدة وأشعر بأن هذه المجاعة وهذا الشوق هما نتيجة قوةٍ كائنة في أعماقي. قوّة تريد إعلان ذاتها بسرعة فلا تقدر لأن الوقت لم يجئ بعد ــ لأن الناس الذين ماتوا عند ولادتهم يقفون حجر عثرةٍ في سبيل الأحياء.

صحتي كما تعهدها فهي مثل قيثارة في يد من لا يحسن الضرب عليها فتُسمِعه أنغاماً لا ترضيه. عواطفي كالبحر ذات مدّ وجزر ــ نفسي كالشحرور المكسور الجناح المختبئ بين الأغصان يتألم إذ يرى أسراب الطيور مرفرفة لأنه لا يقدر أن يجاريها ولكنه كالطيور يفرح بسكينة الليل ومجيء الفجر وشعاع الشمس وجمال الوادي. أُصوّر آونة وأكتب أخرى فأنا بين التصوير والكتابة مثل سفينة صغيرة بين بحر لا نهاية لأعماقه وسماء لا نهاية لأزرقاقها ــ أحلام غريبة وأماني سامية وآمال كبيرة وأفكار متصلة متقطّعة وبين هذه الأحلام وهذه الأماني وهذه الآمال وهذه الأفكار شيء يدعونه قنوطاً وأنا أُسميه جحيماً.

بالأمس بعثت إليك بنسخةٍ من كتيبٍ يُدعى «عرائس المروج» مؤلّفٌ من ثلاث حكايات صغيرة. الحكاية الأولى «رماد الأجيال والنار الخالدة» هي من نتيجة أحاديثنا عن النصف الحقيقي وقد كتبتها عندما كانت نفسك الجميلة تلامس عواطفي بأطراف وشاحها، وصدى صوتك يتموّج في مسامعي. والحكاية الثانية «مرتا البانية» هي دمعة محرقة أثارتها أوجاع الامرأة الساقطة التي تتبع الرجل قبل أن تسمع نداء قلبه وقبل أن تشعر نفسها باهتزازات الحب الإلهي التي تحدثها ملاقاة النصف الحقيقي. أما الحكاية الثالثة «يوحنا المحنون» فهي كلمة من رواية محزنة مستتبة على مسرح الليالي، رواية حية بحياة الخضوع الأعمى والاستبداد المميت، وقد نظرت فرأيت أن السبل التي اتخذها الكتاب فيما مضى لمقاتلة استبداد الإكليروس وإماتة الخضوع هي هي ذاتها مضرَّة بمبادئ أولئك الكتاب ونافعة لمبادئ أعداء الهيئة. الكتّاب كانوا يتخذون احتقار التقاليد الدينية سبيلاً لإسقاط الكهّان القائمين بتلك التقاليد وهذا هو الخطأ لأن العاطفة الدينية هي شيء طبيعي في الإنسان أما الاستبداد بواسطة التعاليم الدينية فليس من الأمور الطبيعية بل هو بعكسها. من أجل ذلك جعلت يوحنا محبّاً ليسوع مؤمناً بإنجيله أميناً على تعاليمه.

... التجاؤك إلى التدخين والقهوة يزيد محبتي لهما وقد كنت أتوهم أن الزيادة على تلك المحبة هي من الأمور المستحيلة لأني كما تعهدني أعيش على القهوة والسكاير. ها قد تذكرت حكاية صغيرة لا بد من سردها لأنها تتعلق بالقهوة والسكاير فاسمعها:

دعتني بالأمس سيدة أميركية إلى العشاء وهي شاعرة متفننة وجميلة قلباً وقالباً ولها ميل طبيعي إلى استدرار محاسن الحياة. وفي نفسها مجاعة إلى كل ما هو جميل ولذيذ. جلسنا إلى المائدة ولم يكن بيننا ثالث وكنا نأكل ونتحدث كيلا تحرم الآذان ما تتمتع به النواظر والأجواف، حتى إذا ما انتهينا إلى اللحوم وتوابعها وبلغنا الحلويات والقهوة أشعلت سيكارة وصرتُ أرشف فنجاني رشفة وأمص ثغر السيكارة مصة وصديقتي تتأمّلني بلذة فائقة وعلى ملامحها ابتسامة تشابه ابتسامة الحقول لمجيء الربيع، ثم ألحقت السيكارة بسيكارة أخرى وملأتُ فنجاني ثانية لأن المحيط والحديثَ جعلا للتبغ وللقهوة نكهة سحرية. وبعد سكينة فيها من الأقوال الخفية ما فيها حولت شاعرتنا عينيها نحو شيء غير منظور في فضاء الغرفة وقالت بهدوء «أتعلم يا جبران بأن هذه أول مرة تمنيت فيها أن أكون رجلاً» قلت: ولماذا؟ قالت «لأن الرجال يتمتعون بالحياة بلا خوف ولا وجل، ويصعدون إلى قمم اللذات ويهبطون إلى أعماقها غير ناظرين إلى ما يقال عنهم، أما نحن النساء فنراقب بعضنا بعضاً وننتقد بقساوة جارحة ما نفعله حسناً كان أو قبيحاً».

فنظرتُ إليها مستفهماً مستزيداً فقالت: «لو كنت رجلاً الآن لتمتعت معك يا جبران بلذة التدخين لأن رائحة هذه السكائر التركية وكيفية إحراقك لها قد ولد في نفسي شهيّة عميقة» فقمتُ من مكاني إذ ذاك وفتحت علبة السكاير ووضعتها أمامها على المائدة وقلت مرمزاً بطريقة معنوية إلى أشياء كثيرة «خلقنا لنفرح ونتمتع بكل شيء في هذه الحياة على قدر ما ترسم الحكمة الكائنة في أعماقنا فإذا ما امتنع الإنسان عن استخلاص اللذة من الكائنات كان هو الجاني على نفسه، تعالي ندخّن معاً ونتشبَّه بالأيام التي تتخذ لها من أعمارنا سكاير وتدخنها في السكينة».

فأخذت شاعرتي سيكارة ووضعتها بين أصابعها اللطيفة البيضاء وأشعلت رأسها وأخذت تمصُّها بلهفة وتتأمّل دخانها المتصاعد كالخيوط الفضية ولكنها ما بلغت آخرها حتى اصفرَّ وجهها قليلاً فأسندت رأسها بمعصمها وبقيت شفتاها مبتسمتين فقلت: ماذا أصابك؟ فأجابت بهدوء سحري: «إن رأسي ثقيل قليلاً ولكن نفسي مملوءة بالخيالات الشرقية الجميلة».

تركنا المائدة وذهبنا إلى المكتبة وهناك جلست على مقعد بين المساند الناعمة وأنا أحدثها وبعد ساعة مدّت يدها الحريرية ولمست زراً كهربائيّاً بجانبها فجاءت إحدى الخادمات فقالت لها: «اعملي لنا إبريقاً من القهوة القوية يا جوزفين».

فذهبتْ الخادمة وبعد هنيهة عادت بالقهوة، وإذ هَمّتْ بالرجوع أوقفتها شاعرتنا وقالت لها: «إن جاء أحد ليزورني قولي له إني متغيّبة». ثم صبَّت من القهوة فنجانين وقالت مبتسمة: «أعطني سيكارةً يا جبران»، فقلتُ: «قد يضرك الإكثارُ بادئ بدء» فأجابت بهذه الكلمات البديعة: «إن اللذة الحقيقية في هذه الحياة لا تصل إلينا إلَّا عن سبيل الألم».

وهكذا يا عزيزي صرفنا تلك الليلة بين السكاير والقهوة والشعر وما جانسه، وفي اليوم التالي كتبت إليَّ تقول «إبعث إليَّ بهديةٍ من سكايرك» ففعلتُ مسرعاً وقد أهدت إليَّ لقاء ذلك قصيدة جميلة نَظَمتها في السكاير التركية.

...

اصبع الساعة تومئ إلى الثانية بعد نصف الليل. والنوم العميق يتلاعب بأرواح البشر والثلج يتساقط بهدوء وقد ألبس المدينة حلّة بيضاء، وجبران ما برح ساهراً يناجيك. وقد دحرت الظُلمَة والثلوج أبناءَ آدم إلى الأوكار وامتلكت السكينة أنفاسَ المخلوقات ولم أعد أسمع غير تنهدات الأرباح الطويلة المخزنة، ما أجمل الليل! فهو يهب النفوس أجنحة معنوية لتطير وتحلِّق فوق الغيوم وما وراء الغيوم...

العدد السادس - صيف ٢٠١٣
سيجارة وشاعرة أميركية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.