تتشكل المسألة النظرية حين الإشارة إلى الثورة والتغيير، والنشاط العملي عموماً، أي حين ننتقل من الممارسة إلى ما هو مجرّد، إلى «التنظير» الذي يعني البحث في «أفكار»، والإغراق في الكتب، وفي «الكلام». باختصار يبدو أننا ننغلق في تعقيدات الفلسفة والفكر بالتحديد، بعيداً عن حركة الواقع وتعقيداته. لهذا، غالباً ما تكون الدعوة حين تُطرح مسألة الثورة هي إلى الممارسة وليس إلى التنظير، والى النشاط العملي وليس إلى القراءة والبحث في النظرية. فالعمل هو ما يسيطر على الأذهان، وهو ما يعتبر أساس أي نشاط حزبي أو نشاط ثوري. وهو كل شيء تقريباً.
يبدو هنا أن لا علاقة بين النظرية والنشاط بهذا المعنى، وأنهما ربما كانا متناقضين، وبالتالي فإن الأساس هو النشاط، العمل، الفعل. إن العفوية وحدها هي التي توجد هذه العلاقة بين النظرية والعمل، أو تفترض التناقض بين النظرية والعمل. إذ يبدو الفعل سابقاً على التفكير، وبالتالي دون تفكير. وتكون الممارسة عشوائية، انفعالية، ودون أسس تسمح بتحقيق تراكم يطورها. هنا «حركة اليد» تسبق حركة العقل. والمشكلة هي أنّ هذه «الفكرة» تعتبر أساس النشاط الثوري.
هل تسبق الدراسة العمل؟ أو هل من ضرورة لأن تسبق الدراسة العمل؟ وهل من ضرورة لأن يكون العمل مدروساً؟ هذه المسألة التي تحتاج إلى فكر وتفكير تبدو خارج البحث، لأنّ العمل هو الأساس. ولهذا، كما أشرت فإنّ العمل هنا هو عمل عفوي، عشوائي، وانفعالي، لأنّه لا يخضع لفعل العقل. وهو الأمر الذي يفضي لأن يضيع كل النشاط الثوري هباء في لحظة، لأن الانفعالية والعفوية والعشوائية لا تسمح بمراكمة التجارب، وبالتالي الوعي، لأنّها تنطلق من اللاوعي، من العفوية، وتصبّ في اللاوعي، في العفوية.
دور النظرية عملي
هذا الأمر يطرح السؤال حول معنى النظرية، وهل ان هذه المقابلة بين النظر والعمل تنطلق من فهم صحيح لمعنى كل منهما؟ أم أن منطقاً شكلياً يحكمهما؟
النظرية تُربط عادة بـ«الكلام»، وأيضاً بالعزلة. لهذا تبدو الإشارة إلى النظرية كابتعاد عن النشاط، عن العمل، وغرق في تجريدات مستمدة من الكتب، بغض النظر عن ماهية هذه الكتب. هي كتب تتناول كل شيء إلا الواقع. لكن هل يؤسس ذلك نظرية؟ وبالتالي ما هي النظرية في الماركسية؟
لا شك في أن وعي الماركسية ضرورة حاسمة، لأن المطلوب من الماركسي أن يتجاوز وعيه «التقليدي» المتوارث، عبر استيعاب وتمثل الماركسية بالتحديد. نحن نشير هنا إلى منطق الماركسية الذي هو أساس الانتقال نحو تمثل الماركسية وتجاوز الوعي «التقليدي»، لأن تقليدية الوعي تكمن بالأساس في «منطق التفكير»، في المنهجية التي يتناول العقل من خلالها المسائل. وهنا لابد من وعي «فلسفي» تحديداً. أبعد من ذلك، تكون هناك حاجة لمعرفة أفكار ومفاهيم وقوانين وتحليلات الماركسية. وليس ضرورة أن يتخصص كل مناضل ماركسي في تاريخ الماركسية وقوانينها والخلافات فيها، وفي صحة أو خطأ أفكار ماركس أو إنجلز أو لينين أو كل الآخرين. هذه مهمة بعض من الماركسيين في أي حزب ماركسي إضافة إلى نشاطهم العام فيه. لكن ليس من الضرورة أن يغرق فيها كل الحزب، وكل ماركسي. وهذا ما يبدو عادة أنّه «ترف»، واضافة للنشاط الثوري، ومشتِّت للفعل.
لكن المسألة لا تتعلق بهذا المستوى فقط، أي بوعي الماركسية، فهذه مقدمة ليس أكثر، ويمكن أن تكون أساس تشكيل «نخبة من المثقفين» وستكون الماركسية هنا نظرية كغيرها من النظريات. وهذا ما يجري نقده عادة، كونه يحوّل الماركسية إلى ترف نخبوي أو نشاط أكاديمي. إن أهمية القبض على منهجية الماركسية تكمن في الدور العملي الذي يجب أن تؤديه. وهنا نلمس أهم ما فيها بالتحديد، أي الجدل المادي، المنهجية التي تجعل وعينا للواقع أفضل، وأكثر علمية، وبالتالي يكون ممكناً أن نحدد خطوات عملية أدق، وبناء تراكم يفضي إلى تحقيق الأهداف. فالنشاط العملي يجب أن ينحكم لـ«عقل» قادر على فهم الخطوات الضرورية انطلاقاً من فهم الواقع، وفي ضوء رؤية استراتيجية واضحة. إنّ الممارسات التقنية هي أيضاً بحاجة إلى «عقل». والتكتيك والتحالفات، والتحريض والدعاية، والترابط مع العمال والفلاحين الفقراء، كلها بحاجة إلى «عقل» ماركسي، إذ إنّ «العقل العلمي» يستطيع أن يحدد السياسات بشكل أدق في ضوء وعي أعمق للواقع.
هنا، يجب أن نلحظ بأن الوعي الماركسي هو أمر جوهري في الممارسة لكي نستطيع تجاوز العفوية والعشوائية، والممارسة الانفعالية. وبالتالي فإن وضع الفكر في مواجهة الممارسة هو أمر منافٍ للماركسية ذاتها التي توجد ترابطاً عميقاً بينهما. فهي «وعي الضرورة»، ضرورة التغيير الذي يخدم العمال والفلاحين الفقراء. إنها «عقل» هؤلاء الذي يجب أن يفكروا عبره وهم يعملون من أجل تغيير واقعهم. وهذا الربط بين الماركسية وهؤلاء هو الذي جعل الاشتراكية ممكنة التحقق، ويفتح على تحقيق انتقال مجتمعي هائل. كراس إنجلز «الاشتراكية: الطوباوية والعلم» هدف إلى توضيح هذه المسألة.
إن كل محاولة لتجاوز العفوية تفترض الوعي حتماً، وهو ما يضيفه الحزب الذي يوحّد بين الوعي، بين الماركسية، والممارسة الثورية، لكي يستطيع تحويل الصراع الطبقي العفوي والمطلبي إلى صراع طبقي يفضي إلى الانتصار. إن النشاط الثوري هو عمل تقني يحتاج إلى الوعي، إلا إذا أراد الحزب أن يظل في حدود النشاط العفوي للطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. وهو هنا لا يضيف سوى التشويش على نشاط الطبقة، ويكرس عفويتها بدل أن يطوّر آلياتها، وينظمها في صيرورة تراكمية، وبالتالي يطوّر من قوتها.
الفكر بما هو ممارسة عملية
نحن هنا نشير إلى الوعي بالماركسية، خصوصاً كمنهجية تساعد على وعي الواقع وتحديد السياسات المطابقة، لكن وعي الواقع يعني التنظير أيضاً وليس وعي «تقنية الممارسة» فقط، التي يمكن أن تكتسب بالتجربة. وهنا يتحدد معنى النظرية، حيث «لا حركة ثورية دون نظرية ثورية» كما أشار لينين. الأمر يتعلق بالانتقال من المجرّد النظري (أي الماركسية، وخصوصاً منهجيتها) إلى النظري «الملموس»، الذي يتعلق برؤية الواقع، بوعي الواقع. النظرية هنا هي وعي الواقع، وما تقدمه الماركسية هو الأدوات المنهجية التي تساعد على ذلك. وهنا الفكر يصبح شكلاً من أشكال الممارسة العملية، وهو شكل حاسم في تحقيق الانتقال من العفوية إلى العمل المنظم المتراكم، وبالتالي الذي يحقق نقلة نوعية في الصراع الطبقي، ليتحول من صراع عفوي إلى صراع هادف لأنه يقوم على الوعي، أو لأنه يكون قد اعطى الطبقة المضطهَدة وعيها المطابق، ومن ثم حوّل الصراع من نضال مطلبي فقط إلى صراع سياسي (وهنا يجب ملاحظة أن تعبير سياسي لا يتطابق مع ما هو رائج). اي حوّل الصراع من مطالب خاصة لهذه الفئة أو تلك من العمال إلى مشروع طبقي يهدف إلى تسلم السلطة من أجل تحقيق مصالح هؤلاء عبر تغيير النمط الاقتصادي.
النظرية هنا هي وعي الواقع، وعي تكوينه (طبقاته وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأيديولوجية)، ووعي التناقضات المتعددة فيه، وبالتالي الدور الذي يلعبه الحزب في تحقيق التراكم في وعي ونشاط الطبقة التي هو جزء منها لكي تخوض هي الصراع الطبقي. وأيضاً المسك بالصيرورة التي تحكمه، وتحديد التكتيكات والسياسات الضرورية في كل لحظة لكي تفضي إلى التقدم في الصراع على طريق حسمه. وكذلك وعي العالم، ومدى الترابط الذي يحكم الواقع المحلي به، ووعي التناقضات العالمية، وطبيعة الصراعات والتمحورات. فهذا هو «كل» الواقع الذي يجب أن «يمسك» لكي تنشأ إمكانية تغييره، هذا التغيير الذي يحتاج أيضاً إلى وعي الآليات التي توصل إلى ذلك.
إن مسألة الكيفية التي يبنى من خلالها الحزب في الواقع هي مسألة نظرية، لأن الإجابة تفترض وعي الطبقات، ووضع الطبقة التي يطرح الحزب ذاته كجزء منها، وتموضعها العياني، والمشكلات التي تعيشها، ومطالبها، وحدود «صراعها» مع الطبقة المستغِلة، أو مع السلطة التي تمثلها. وبالتالي كيف يمكن دفعها إلى النشاط المطلبي، ومن ثم النقابي، وصولاً إلى تحويلها إلى طبقة لها رؤية وبرنامج، وتطرح ذاتها كبديل، الأمر الذي يجعل صراعها يتمحور حول كيفية انتصارها من خلال وصولها إلى السلطة. هذه موضوعات نظرية، وتحتاج إلى وعي عميق، ومعرفة علمية، لكي تتبلور في شكل صحيح.
أيضاً، يمكن القول بأن مسألة تطوير صراع الطبقة هي مسألة نظرية كذلك، حيث يصبح السؤال كيف يتطور صراعها، ومتى يصبح عليها أن تضرب أو أن تحتج أو أن تتظاهر. أي هنا يكمن المسك باللحظة الضرورية لذلك، حيث يمكن أن يقوم تحليل خاطئ لظرف معين إلى انتكاسة كبيرة نتيجة عدم فهم الظرف وبالتالي الاقدام على خطوة ليست في أوانها.
الصراع مع السلطة وكيف يتطور هو أيضاً جزء من الرؤية التي تحكم النشاط، إذ يجب تحديد شكل الصراع والأولويات فيه، وما هي قوة السلطة وكيف يجري تفكيكها، ومن ثم متى يجري التقدم وتطوير الصراع ومتى يجب التراجع. دراسة التجربة العملية والإفادة منها ترتبط بمسألة التنظير، إذ يجب تقييم الخطط وفهم المشكلات الناتجة من الممارسة، من أجل صوغ تصورات أدق.
وبالتالي فإذا كان البرنامج هو الأهداف التي يسعى الحزب لتحقيقها، وهي غالباً تكون محدَّدة ومختصرة وبسيطة، فإنه يجب أن يحاط في إطار نظري هو الرؤية التي تحكم النشاط وتوحد بين القوى الواقعية والأهداف، أو تؤسس القوى الواقعية التي تستطيع تحقيق الأهداف. هذه الرؤية هي «النظرية الثورية» التي اشار إليها لينين، والتي كانت بالأساس في صلب مجهود ماركس وإنجلز لفهم الواقع الرأسمالي الذي كان يتشكل وتحديد الأشكال الممكنة لتغييره، والهدف الذي يسعون إلى تحقيقه، أي الاشتراكية. إن كتابات ماركس وإنجلز هي ما يمكن أن يسمى: «تنظير الواقع» في سياق السعي إلى تغييره. ولهذا فهي خاضعة لكونها تعبيراً عن ذاك الواقع بالتحديد، وما يمكن الإفادة منه هو خلاصات عامة يمكن أن تساعد كمؤشرات ليس أكثر. طبعاً هذا بمعزل عن المنهجية التي هي جوهرية فيها، التي هي أساس البحث في الواقع. وما قدّمه لينين هو كذلك، وأيضاً ماو وكل الماركسيين الذين عملوا على تحقيق التغيير لمصلحة العمال. فقد «نظّروا» واقعهم على طريق تغييره، وكل أتى في واقع يختلف عن الآخر لهذا أتى بما هو «جديد»، ومختلف، وربما مخالف.
لقد صارع لينين على «خطتي الثورة الديمقراطية» في روسيا، الأمر الذي فتح النقاش حول الواقع الطبقي ومهمات الثورة ودور الماركسية. كما نشط من أجل بلورة رؤية للحزب الذي يستطيع أن يكون مناسباً لطبيعة صراع العمال والفلاحين القفراء. وبحث في التكوين العالمي الذي يجري الصراع الطبقي في روسيا ضمنه. وبحث في تجربة ثورة سنة ١٩٠٥ والدروس التي يمكن استخلاصها منها. وأيضاً بدأ بالبحث في مهام الماركسيين وكيف يمكنهم أن يشكلوا حزباً حقيقياً. كل هذه المسائل التي نقرأ عنها اليوم ونعتبر أنها قضايا نظرية، كانت في صلب النضال الثوري للماركسي الروسي آنئذ ولم تكن تجريدات نظرية. ولأنها كذلك فقد أصبحت جزءاً من كلاسيكيات الماركسية ولم تلقَ في سلة المهملات كما ألقي الكثير مما كتب من قبل الشيوعيين في الوطن العربي.
المنطق الصوري والمنطق الجدلي
النظرية هنا هي وعي مشكلات الثورة في كل لحظة، وتحديد الأولويات في الممارسة، وبلورة الخطاب الضروري لتثقيف العمال والفلاحين الفقراء. مثلاً، إن تطوير الصراع الأيديولوجي ليس ضد الطبقات المسيطرة فقط بل وفي مواجهة الفئات الوسطى. وهو أمر حاسم من أجل تعزيز وعي العمال والفلاحين الفقراء، لأنه كشف للمصالح التي تكمن خلف الأفكار التي تطرحها، وبالتالي فهو تعزيز لتماسك هؤلاء العمال وتوضيح لرؤيتهم في هذا الصراع الذي لا يفترض فقط الصراع مع الطبقة المسيطرة بل وأيضاً كشف تشوش وخطأ البدائل الأخرى التي تطرحها الفئات الوسطى بمختلف تلاوينها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الطبقة المسيطرة التي يجب كشف خطابها والأوهام التي يقدمها، والتضليل الذي تسعى إليه. وهنا نشير إلى الصراع «الأيديولوجي» مع تعبيرات الطبقات الأخرى في إطار الصراع الطبقي ضد الطبقة المسيطرة. وتأكيد أن تعدد التناقضات يفرض تعدداً في الصراع، منه الصراع النظري.
وإذا كان المنطق الصوري (الذي يحكمنا إذا لم نستطع تمثل المنهجية الماركسية، بالضبط لأنه متوارث) يشير إلى ما هو ظاهر في سكونه، فإن الجدل المادي يفترض الغوص إلى أعمق من الظاهر، وفهم الأساس الذي تقوم عليه الأفكار والسياسات. وكذلك فهم صيرورة التحولات التي تحدث في كل لحظة وممكناتها المستقبلية. فهو هو الأمر الذي يؤسس لاستراتيجية صحيحة، ويقود إلى تحديد تكتيكات دقيقة. وهذا مجهود نظري كبير ليس من الممكن بلورة القوة الفاعلة التي تحقق التغيير بدونه.
إذن، التنظير هنا هو جزء من العمل، هو جزء عضوي في العمل، وليس مقحماً عليه ولا يمكن أن يكون العمل ناجحاً من دونه. فالعمل من أجل الثورة والتغيير هو عمل واعٍ. النظرية هنا هي نصف الانتصار، حيث لا بد من بلورة رؤية لـ«صيرورة الواقع» من أجل فهم الخطوات العملية لكي يصبح الصراع الطبقة واعياً، وينتظم في آليات تجعل الطبقة قوة منظمة. فهذا هو ما يضيفه الحزب في الصراع الطبقي لكي يقود إلى انتصار العمال والفلاحين الفقراء.
النظرية ليست لغواً، وليست بحثاً أكاديمياً، ولا هي بحث في التاريخ النظري وفي الصراعات التي شهدها، وليست درساً في الفلسفة التي هي ضرورة كمدخل، بل النظرية بحث في الواقع وفي صيرورة تطور الصراع الطبقي من أجل تسلم السلطة، ومن ثم لتأسيس مجتمع بديل.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.