الاطروحة الاولى
تظهر تيارات ما بعد الماركسية بانتظام في اللحظات ذاتها التي يطرأ فيها تحوّل بنيوي على الرأسمالية.
ان الماركسية هي عِلم الرأسمالية. ولمزيد من التعمّق في المصطلحَين، نقول انها علم التناقضات الكامنة في صلب الرأسمالية. هذا يعني انه لا معنى للاحتفال بـ«موت الماركسية » في الوقت الذي يعلن فيه الانتصار النهائي للرأسمالية وللسوق. فالاحرى القول ان هذه الاخيرة [الرأسمالية] تضمن مستقبلا مضمونا للاولى [الماركسية] بغض النظر عن مدى «نهائية» انتصارها. هذا من جهة. اما من جهة اخرى، فان «تناقضات» الرأسمالية ليست عملية انحلال داخلي هلامية، انما هي عملية شرعية ومنتظِمة قابلة لأن يجري تنظيرها بعد وقوعها. فمثلا، في كل لحظة معينة من لحظات نموها، فإن المدى الذي تسيطر عليه الرأسمالية بواسطة السلع التي هي قادرة تقنيا على انتاجها، يزدحم الى درجة ما فوق الإشباع. من هنا ان هذه الازمة ازمة بنيوية.
على ان الرأسمالية ليست مجرد نظام انتاج او نمط انتاج، انها نمط الانتاج الاكثر مرونة والاوفر قابلية للتكيّف الذي عرفه التاريخ الانساني الى الآن. وقد سبق له ان تغلّب على مثل تلك الازمات الدورية. تحقق له ذلك بواسطة استراتيجيتين اثنتين اساسيتين: توسيع النظام، وانتاج انواع من السلع مختلفة جذريا عن سابقاتها.
توسيع النظام
للرأسمالية دوما مركز. كان المركز السابق هو المركز الانكليزي وهو الآن مركز الهيمنة الاميركي. وكان كل مركز جديد أوسع مدى واكثر احاطة من المراكز التي سبقته. وبهذا تنفتح مجالات أرحب للتسليع عموما، ولقيام الاسواق وإنتاج المنتجات الجديدة. وفاقا لصيغة مختلفة نوعا ما من صيغ السرد التاريخي، نستطيع الحديث عن حقبة قومية من لحظات تطور الرأسمالية انبثقت من الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. وتلك هي الحقبة التي خبرها ماركس نفسه ونظّر لها، وإن يكن بصورة نبوئية. وقد أعقبتها في نهاية القرن التاسع عشر حقبة الامبريالية، حيث انخرقت حدود الاسواق القومية وتأسس نظام كولونيالي شامل للعالم بأسره. اخيرا، بعد الحرب العالمية الثانية وفي عصرنا الحالي، تفكّك النظام الامبريالي القديم وحلّ محلّه «نظام عالمي» جديد تسيطر عليه الشركات المتعدية الجنسية. ان الحقبة الحالية من الرأسمالية، الرأسمالية «العابرة للقوميات»، تعيش توازنا قلقا، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بين ثلاثة مراكز هي اوروبا والولايات الاميركية المتحدة واليابان، لكل مركز ملحقاته الشاسعة من الدول الدائرة في فلكه. هذه الحقبة الثالثة، التي لم تكتمل مراحل انبثاقها الحاسمة الا مع نهاية الحرب الباردة (على افتراض انها اكتملت فصولا) هي بالتأكيد اكثر «عولمة» من عصر الامبريالية السابق. فمع «تحرير الاسواق» (حسب التسمية الدارجة) في اراض شاسعة من الهند والبرازيل وأوروبا الشرقية، باتت فرص تغلغل رأس المال والسوق أعظم نوعيا مما كانت عليه في مراحل سابقة من الرأسمالية. فهل يجب الخلوص من ذلك الى ان هذا هو الاكتمال النهائي لما تنبأ به ماركس حول تكوّن السوق العالمي وبالتالي بلوغ الرأسمالية حقبتها الختامية - بما فيها «التسليع الشامل لقوة العمل»؟ اشك في ذلك. لأن الديناميات الطبقية الداخلية للحقبة الجديدة لم تستنفد كامل طاقاتها بعد، وعلى الاخصّ من حيث انبثاق اشكال جديدة من تنظيم العمل ومن النضال السياسي المتناسب مع الدرجة التي بها تحوّل عالم الاشغال بفضل «العولمة».
انواع مختلفة نوعيا من السلع
ثمة شرط آخر من شروط تجاوز الرأسمالية لازماتها البنيوية هو اللجوء الى التجديدات بل الى «الثورات» في عالم التكنولوجيا. يرى أرنست ماندل ان تلك التغيّرات تصادف الحقبات التي وصفناها للتوّ. تقابل تكنولوجيا البخار حقبة الرأسمالية القومية؛ والكهرباء وآلة الاحتراق حقبة الامبريالية؛ والطاقة الذرّية والسيبرنيتيكا حقبتنا الحالية، حقبة الرأسمالية المتعدية الجنسية والعولمة، وهي الحقبة التي يسمّيها البعض «حقبة ما بعد الحداثة». ولّدت تلك التكنولوجيات أنماطا جديدة من السلع وأدت الى فتح فضاءات عالمية جديدة، فتولت بالتالي «تقليص» مدى الكرة الارضية وإعادة تنظيم الرأسمالية وفق مقياس جديد. بهذا المعنى تصير توصيفات الرأسمالية المتأخرة، وفقاً لمقاييس المعلوماتية او السبيرنيتيكا، مناسِبة (وكاشفة جداً من الناحية الثقافية) ولكنها تحتاج الى اعادة ربطها بالديناميات الاقتصادية التي يسهل فصلها عنها على نحو بلاغي وفكري واديولوجي.
اذا كانت هذه التحقيبات العامة لرأس المال مقبولة، يتضح فورا ان منوعات «ما بعد الماركسية» التي تعود الى برنشتاين في منعطف القرن الاخير او الى ما «بعد البنيوية» في الثمانينات، اكانت تطرح «ازمة» الماركسية او تبشّر حتى بـ «موتها»، تزامنت مع الحقبات التي يتم فيها إعادة تنظيم الرأسمالية وتحقيق توسّعها على نحو باهر. وهذه الحقبات استتبعتها بدورها مشاريع نظرية مختلفة لماركسية اكثر حداثة - بل قل بعد حداثية، في عصرنا هذا - هي ماركسية تحاول التنظير للفضاءات الجديدة وغير المتوقعَة التي تفتحت امام موضوع دراستها التقليدي، الرأسمالية بذاتها.
الاطروحة الثانية
الاشتراكية بما هي رؤية للحرية - الحرية من القيود الاقتصادية والمادية المرفوضة والتي يمكن تفاديها، والحرية بما هي الممارسة الجماعية - مهددة في زماننا على صعيدين اديولوجيين معا: صعيد «النضال السردي» (حسب تعبير ستيوارت هول، اي النضال للسيطرة على مصطلحات الخطاب السردي وقواعده) المشتبك في سجال حول نظام السوق مع الثاتشيرية على الصعيد العالمي؛ وصعيد اعمق يشتغل على اثارة المخاوف من الدعوات الطوبوية وتأجذج الفزع من التغيير. والواضح ان هذين الصعيدين يستدعي واحدهما الآخر، طالما ان المحاججة دفاعا عن السوق تفترض سلسلة آراء عن الطبيعة البشرية لا تلبث الرؤية المعادية للطوبى ان تتمرّن عليها بطرائق اكثر خلاصية واكثر تعبيرا عن الشهوة الجنسية.
ينجح النضال السردي (خلافا للنزاع الاديولوجي المباشر) حين يلجأ الى الاساءة لسمعة بدائله وإسدال ستار الصمت على سلسلة من العناوين الرئيسة. انه يستنجد بالتتفيه والسذاجة والمصلحة المادية و «التجربة» والفزع السياسي والدروس التاريخية بما هي «الاسس» التي بواسطتها ينزع الشرعية نهائيا عما كان سابقا من الممكنات الجدّية كالتأميم والتنظيم والانفاق التعجيزي والكينزية والتخطيط الاقتصادي وحماية الصناعات الوطنية وبناء شبكات الامان الاجتماعية، وصولا الى نزع الشرعية عن دولة الرعاية ذاتها. وإذ يجري وصم تلك الاخيرة بالاشتراكية، يجري تمكين رطانة السوق من إحراز انتصارين معا، انتصارا على «الليبراليين» (وفق المصطلح السائد المستخدَم في الولايات المتحدة الاميركية، كما في الحديث عن «ليبراليي النيو ديل » اي التقدميين عموما ) من جهة، وانتصارا على اليسار من جهة اخرى. وهكذا يوضع اليسار اليوم في وضع محرج لاضطراره الدفاع عن الحكومات التدخلية في الاقتصاد وعن دولة الرعاية، وهو امر محرِج له نظرا الى تقاليده المتطورة والمتراكمة في نقد الديمقراطية الاشتراكية في غياب ما يتمتع به معظم اليساريين من فهم جدلي للتاريخ. والمطلوب خصوصا هو استعادة بعض الاحساس بالطريقة التي بها تتغيّر الاوضاع التاريخية، وبما يرافقها وترتب عليها من الاجابات السياسية والاستراتيجية. على ان هذا يفترض ايضا اشتباكا مع ما يسمى «نهاية التاريخ»، اي مع اللاتاريخية الاصلية التي تقوم عليها المذاهب «بعد الحداثية» عموما.
في الانتظار، فالمخاوف المرتبطة بالطوبى، والمنبثقة من القلق من اختفاء العناصر المكوّنة لهويتنا الحالية، ومعها كل العادات واشكال اشباع الغريزة الجنسية السائدة حاليا، تحت وطأة التدابير الاجتماعية الجديدة والتغيّر الجذري في النظام المجتمعي، وهي مخاوف تسهل استثارتها وتعبئتها الآن اكثر من اي وقت في الماضي القريب. والواضح، على الاقل في النصف الاغنى من العالم وليس فقط في شرائحه المسيطرة، ان أمل المحرومين في التغيير في الحقبة الحديثة قد حلّ محلّه الرعب من الخسران. ان تلك الخوافات المعادية للطوبى تجب مواجهتها وجاهيا بواسطة لون من التشخيص الثقافي والعلاج الثقافي، بديلا من التهرّب منها بالتنازل لهذه المظهر او ذاك من مظاهر المحاججة العامة دفاعا عن السوق. ان كل الحجج عن الطبيعة البشرية - اكانت توصف على أنها طيبة ومطواعة ام شريرة وعدوانية تتطلب تطويعها بواسطة السوق إن لم نقل بواسطة طغيان «الليواثان»- هي حجج «إنسانوية» واديولوجية (كما علّمنا التوسّير) يجب استبدالها بافق التغيير الجذري والمشروع المجتمعي. وفي تلك الاثناء، سوف يحتاج اليسار الى ان يدافع بعدوانية عن الحكومات «الثقيلة»، المتدخلة في الاقتصاد، وعن دولة الرعاية وان يهاجم باستمرار رطانة السوق على اساس السجلّ التخريبي التاريخي للسوق الحرّة (كما يتبيّن من تنظير پولينيي ومن التجربة الاوروبية الشرقية).
الاطروحة الثالثة
على ان مثل تلك المحاججات تفترض بدورها اتخاذ موقف مما هو تأكيدا المفهوم الاس لاية ماركسية تتبنى «وحدة النظرية مع الممارسة»، اقصد مفهوم الثورة ذاتها. وذلك لأن انتهاء صلاحية هذا المفهوم يشكّل الدليل الجرمي المركزي في ترسانة العداء للماركسية او ترسانة «بعد الماركسية». على ان الدفاع عن هذا المفهوم يستدعي عددا من التحضيرات الاولية وهو يتطلّب خصوصا التخلي الى عالم الخرافة عن كل ما يوحي بأن الثورة لحظة عابرة واعادة الاعتبار لها بما هي مسارا مركب ومعقد. فمثلا يجب ان نطرح جانبا العديد من الصور الايقونية الاحبّ الى قلوبنا عن مختلف الثورات التاريخية، مثل الهجوم على قصر الشتاء [في الثورة الروسية ] او القَسَم في ملعب التنس [في الثورة الفرنسية الكبرى].
ليست الثورة الاجتماعية لحظة زمنية، وانما يمكن التوكيد عليها وفق المصطلحات المتعلقة بضرورة التغيير بما هي نظام متزامن يتماسك كل شيء فيه ويترابط مع كل شيء آخر. ويتطلّب مثل ذلك النظام بالتالي نوعا من التغيير المنظومي المطلق بديلا من «الاصلاح» بالتقسيط الذي يتضح انه «طوباوي»، بالمعنى السلبي للكلمة، اي انه وهمي وغير قابل للتحقيق. وهذا يعني ان ذاك النظام-الثورة يتطلّب الرؤية الاديولوجية لبديل اجتماعي جذري عن النظام الاجتماعي القائم، بديل لا يمكن اعتباره بديهيا بمثل ما لا يمكن وراثته، في ظل حالة النضال السردي الراهن، وانما يتطلّب اعادة ابتكاره. ان الاصولية الدينية (اكانت اسلامية ام مسيحية ام هندوسية ) التي تزعم توفير بديل جذري للنزعة الاستهلاكية ولـ «نمط الحياة الاميركي» لا تنوجد على نحو ذا مغزى الا عندما تنفقد فجأة البدائل اليسارية التقليدية، وخصوصا منها التقاليد الثورية العظيمة للماركسية والشيوعية.
ينبغي ان نتخيّل الثورة - بما هي مسار وعملية تفكك لنظام سينكروني وعملية تفككه معاً - على انها سلّة من المطالب يمكن ان يطلقها حدث زمني او سياسي معيّن مثل انتصار يساري في معركة انتخابية او تفكك سلطة كولونيالية، فلا يلبث هذا وذاك ان ينتشر ويتجدّر شعبيا على نحو متزايد الاتساع. ان تلك الموجات من المطالب الشعبية الجديدة، التي تنبثق من الطبقات الاكثر عمقا من السكان، التي كانت الى ذلك الحين محرومة مكتومة الصوت، لا تلبث ان تجذّر حتى اكثر الحكومات اليسارية افتراضية وتملي على الدولة المزيد من التحوّلات الحاسمة. ان الامة (والعالم ايضا في زماننا هذا) لا تلبث ان تُستقطَب إذذاك وفق الثنائية الكلاسيكية حيث يتعيّن على الجميع، مهما طال تردده، ان ينحاز الى جانب او الى آخر. اذذاك تثار مسألة العنف بالضرورة: فاذا لم تكن العملية [الجارية] ثورة اجتماعية فلا شيء يستوجب استكمالها بواسطة العنف. اما اذا كانت ثورة اجتماعية، فسوف يلجأ الطرف المهيمن من الاستقطاب حكما الى مقاومتها بالعنف، وبهذا المعنى حصرا، يصير العنف (غير مرغوب به الى ابعد الحدود) العلامة الخارجية او الظاهرة المرئية التي تؤكد ان ما يجري هو مسار ثوري اجتماعي حقيقي.
ان المسألة الاساسية المثارة هنا ليست ما اذا كان مفهوم الثورة لا يزال قابلا للحياة، وانما هي مسألة الاستقلال الوطني. يجب ان نتساءل ما اذا كان من متّسع، في النظام العالمي السائد اليوم، لقطعة من الاقسام المندمجة ان تنفصل او ان تصرم صلتها (حسب تعبير سمير امين) بذاك النظام وتواصل من ثم نمطا مغايرا من التطورالاجتماعي ونمطا مختلفا جذريا من المشروع المجتمعي.
الاطروحة الرابعة
لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي وليد إخفاق الشيوعية وانما كان وليد نجاحاتها، شرط ان نفهم النجاحات، مثلما فهمها الغرب عموما، على انها استراتيجية تحديث. ذلك انه بواسطة التحديث السريع ساد الاعتقاد ان الاتحاد السوفياتي، حتى منذ خمس عشرة سنة، قد نجح في ان يلحق بالغرب (وهو افق اثار قلقا رسميا بالكاد نتذكره الآن).
يجب التوكيد على ثلاثة اقتراحات اضافية تتعلق بإنهيار الاتحاد السوفياتي. الاول هو ان التفكك الاجتماعي والسياسي الداخلي انما كان جزءا من ترسيمة عالمية في الثمانينات شملت في فسادها البنيوي الغرب (الريغانية والثاتشيرية واشكال موازية اخرى في ايطاليا وفرنسا) والدول العربية (ما يسمّيه [هشام] شرابي «البطريركية الجديدة»). من هنا فمن التضليل اطلاق تفسير اعتباطي لذلك الفساد البنيوي بناء على معطيات اخلاقية، ذلك انه ينبثق من مسار اجتماعي مادي الى حد بعيد هو مسار تراكم الثروة غير المنتجة في الشرائح الاعلى من تلك المجتمعات. وقد اتضح الان ان ذلك الركود وثيق الصلة بـظاهرة معروفة هي ظاهرة انفصال الرأسمالية المالية عن اصلها في الانتاج وتمايزها عن ذلك الاصل. وقد ابان جيوڤاني أرّيغي كيف ان كافة مراحل تطوّر رأس المال قد عرفت حقبة اخيرة يخلي فيها الانتاج المكان امام المضاربة، حيث تنفصل القيمة عن اصلها في الانتاج ويتم تبادلها على نحو مجرّد (وهو امر ليس بدون مترتبات ثقافية هو ايضا).
كذلك ينبغي التوكيد على ان مقولات مثل الفاعلية والانتاجية والملاءة المالية مقولات قياسية، اي ان نتائجها تفعل فعلها فقط في حقل تتنافس فيه عدة ظواهر متفاوتة. وإن التقنية الاكثر فاعلية وانتاجية تنجح في طرد الانظمة والآلات والمنشآت الصناعية الاقدم عهدا فقط عندما تدخل تلك الاخيرة حقل قوتها فتعرض عليها المنافسة او تتحداها اليها.
يقودنا هذا الى النقطة الثالثة وهي ان الاتحاد السوفياتي «صار» فاقد الفاعلية وانهار عندما حاول ان يندمج في نظام عالمي هو نفسه في حالة انتقال قضت قواعد تشغيله الجديدة ان يعمل على درجة من «الانتاجية» ارقى بما لا يقاس من كل ما هو موجود داخل النطاق السوفياتي. فإذا المجتمع السوفياتي، مدفوعا بدوافع ثقافية (النزعة الاستهلاكية، والتقنيات المعلوماتية الاكثر حداثة، الخ.) ومسوقا الى المنافسة العسكرية التقنية المحسوبة، ومنجذبا الى إغراء المديونية، وبالاشكال الاكثر كثافة من التعايش التجاري، قد دخل بيئة لم يكن يملك عناصر البقاء على قيد الحياة داخلها. ويمكن الزعم بأن الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه - وقد كانت الى ذلك الحين معزولة في منطقة الضغط الخاصة بها - كما لو انها محبوسة تحت قبّة جيوديزية اديولوجية واقتصادية واجتماعية - بدأت، عن غير حيطة من امرها، في فتح الفتحات الهوائية دون ان تكون مزوّدة بالازياء الفضائية [اللازمة] فتعرّضت ومؤسساتها لضغوط العالم الخارجي الاقوى منها بما لا يقاس. يمكن تصوّر النتيجة بما هي شبيهة لضغوط الانفجار على البنى الهشة المحاذية مباشرة لمنطقة تفجير القنبلة الذرية الاولى، او بوزن الضغط الجبار والمشوِّه للماء في قعر البحر على عضويات بلا حماية نمت وتطورت في الطبقات العليا. وتأكيدا، فان هذه النتيجة تؤكد تحذير [إيمانويل] ڤاليرستين الاستباقي من ان الاتحاد السوفياتي، على أهميته، لم يكن يشكل نظاما بديلا عن النظام الرأسمالي، وانما شكّل فقط فضاءً مضادا لذاك النظام او منطقة في داخله، وان هذا الفضاء وتلك المنطقة قد تطايرا الآن ولم يبق منهما الا جيوب يمكن لتجارب اشتراكية مختلفة ان تستمر في داخلها.
الاطروحة الخامسة
ان الماركسيات - بما هي الحركات السياسية وايضا اشكال المقاومة للفكرية والنظرية تنبثق من النظام الراهن للرأسمالية المتآخرة - اي من نظام ما بعد الحداثة، ومن المرحلة الثالثة من الرأسمالية العالمية، مرحلة المعلوماتية والشركات المتعدية الجنسيات، كما يعيّنها [ارنست مانديل ] - سوف تكون بالضرورة مختلفة عن تلك التي تطوّرت خلال المرحلة التحديثية، وخلال المرحلة التي تلتها، مرحلة الامبريالية. فلا بد ان تقيم تلك الماركسية المعاصرة علاقة مختلفة مع العولمة كما انها، بالمقارنة مع الماركسيات السالفة، سوف تكتسي طابعا اكثر تشبّعا بالثقافة، تهتمّ اساسا بالظواهر المعروفة الى الآن بإسم «تشيؤ السلع» و«النزعة الاستهلاكية».
ان الاهمية المتزايدة التي تكتسبها الثقافة بالنسبة الى الاصعدة السياسية كما الاقتصادية ليست نتيجة ميل تلك الاصعدة الى الانفصال او التمايز فيما بينها، انما هي نتيجة تشبّع عملية التسليع ذاتها وتغلغلها الاكثر شمولا، وقد تمكنت الآن من استعمار مناطق واسعة من المجال الثقافي وقد كانت محصنة تجاهها او كانت، في غالبيتها، معادية لمنطقها او متفارقة معه. ان تحوّل الثقافة الآن الى تجارة في معظمها نتج عنه حقيقة ان معظم ما كان يعتبر اقتصاديا او تجاريا صرفا في السابق قد اصبح ثقافيا ايضا، وهو توصيف يجب ان تدرَج تحته كافةُ تشخيصات ما يسمى «مجتمع الصورة» او «النزعة الاستهلاكية».
تتمتع الماركسية بشكل عام بتفوق نظري في مثل هذا التحليل، خصوصا ان مفهومها للتسليع مفهوم بنيوي وليس مفهوما تبشيريا أخلاقيا. ان الاهواء الاخلاقية تولد النشاط السياسي، ولكنها تستولده بانواعه الاكثر هشاشة، تلك التي يسهل اعادة استيعابها او اعادة احتوائها وهي قليلة الاستعداد لان تتشارك مع سائر الحركات في قضاياها وعناوينها. علماً ان الادغام والتعمير وحدهما يسمحان للحركات السياسية بأن تنمو وتتطور وتتسع. وبالتأكيد، فانا ميّال للقول العكسي، بأن سياسة التبشير التبشيرية اخلاقيا تزدهر حيث يتم الحَجْر على المعرفة البنيوية وعلى المسح الاجتماعي. وان تأثير العامل الديني والاثني اليوم يجب فهمه بما هو تعبير عن الغضب إزاء اخفاق الاشتراكية، ومحاولة يائسة عمياء لملء الفراغ [الناجم عن ذلك الإخفاق] بحوافز جديدة.
اما بشأن النزعة الاستهلاكية، فالمؤمل ان يتبيّن انها ذات مغزى تاريخي لأنه كان لزاما على الاجتماع البشري ان يمرّ بالتجربة الاستهلاكية بما هي نمط حياة، ولو من اجل ان نختار على نحو اكثر وعيا /نمط حياة مختلفا جذريا يحلّ محلّها. اما بالنسة لمعظم ارجاء العالم فإن إدمان النزعة الاستهلاكية لن يكون متوافرا لاسباب موضوعية، لذا فالتشخيص الاستباقي التي اطلقته للنظرية الراديكالية في الستينات - من ان الرأسمالية قوة ثورية بذاتها لكونها تنتج حاجات ورغبات جديدة لن يستطيع النظام الرأسمالي نفسه ان يشبعها - هذا النظرية سوف تجد الان تحققها على النطاق الشامل للنظام العالمي الجديد.
على صعيد نظري، يجوز الاقتراح ان القضايا الملحّة الراهنة - البطالة البنيوية الدائمة، والمضاربة المالية وحركات لرأس المال منفلتة من اي سيطرة، و«مجتمع الصورة»، وغيرها - تترابط ترابطا عميقا من حيث فقدانها المضمون وطابعها التجريدي (بالمقارنة مع ما كان يسمى «الاستلاب» في عصر آخر). ويمكن بلوغ المستوى الاكثر تفارقا من الجدلية عندما نعيد الوصل بين مسائل العولمة والمعلوماتية. فثمة معضلة لا مفرّ منها تتجلى حين تدمَج الامكانيات الاديولويجة والسياسية للشبكات العالمية الجديدة (لليسار واليمين كما لعالم البزنس) مع النقصان في الاستقلال الذاتي في النظام العالمي الحالي ومع استحالة تحقيق اية منطقة قومية او اقليمية لاستقلالها الذاتي ولاكتفائها الذاتي او الانفصال عن السوق العالمية او القطع معها.
لن يعثر المثقفون على طريقهم بالجهد الفكري وحده. بل ان نضج التناقضات البنيوية في الواقع هو ما سوف يسمح باستشراف الامكانيات الجديدة. ومع ذلك نستطيع ان نبقي تلك المعضلة على قيد الحياة بواسطة «التشبث بالسلب» كما كان يقول هيغل، اي المحافظة على ذلك الموقع الذي منه نستطيع ان نتوقع صدور الجديد غير المتوقَع.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.