١- تقديم
العراق وسوريا ومصر من اليوم الى الامس
في ثاني يوم غزو القوات العراقية دولة الكويت مطلع آب ١٩٩٠ أبلغ القائد العام للقوات المسلحة الغازية، وهو صدام حسين، رئيس اركان الجيش الفريق نزار الخزرجي أنه، أي القائد العام، «حرر» الكويت بـ«القطعات التابعة (للقائد العام) مباشرة، وليس بقطعاتكم». وهذا رواه الخزرجي نفسه الى احدى الصحف العربية الدولية غداة سنة على غزو القوات المتحالفة، الاميركية والاوروبية، العراق، ودخولها بغداد في آذار ٢٠٠٣. فالقائد هو أمين عام الحزب الغالب، ورئيس الدولة، ورئيس مجلس الوزراء، رسمياً و«دستورياً». وهو فعلاً يعلو الدولة وهيئاتها وإداراتها وأجهزتها، وفكرتها إذا جازت العبارة، من طريق حرسه الجمهوري الخاص. ويخوض الحرب الخارجية الاقليمية – وهي سرعان ما انقلبت دولية، من وجه، وأهلية (حين انفجار الانتفاضة «الشعبانية» الشيعية، وقيام شيعة الفرات الاسفل على القوات الصدامية المنسحبة من الكويت)، من وجه آخر – بقواته الخاصة، ويقصي الجيش النظامي عن عمل عسكري وسياسي استراتيجي هو الاقرب الى مقومات كيان الدولة وسيادتها، وأشد القرارات تعريضاً لامتحانها. والحرس الجمهوري، في عراق ذلك الوقت أو في سوريا اليوم أو في ليبيا الاستيلاء القذافي الطويل، ليس قوة خاصة، على معنى اللفظة الدقيق، لا تجنيداً ولا تسليحاً ولا تمويلاً ولا رتباً. فما ينسبه الى الخصوص الرئاسي، ويحمله عليه، هو معارضته بالقوات المسلحة وعمومها، وحملِ القوات المسلحة «الرسمية» والنظامية على كيان منفصل ولا يبعد ان يكون مناوئاً أو منافساً على أضعف تقدير.
ويروي نزار خزرجي، رئيس اركان الجيش العراقي في الاعوام ١٩٨٧ – ١٩٩١، وهي الاعوام الاخيرة من حرب العراق وإيران، واحتل صدام حسين في اواخرها الكويت وأخرجه التحالف الدولي العريض منها، أن القائد العام إياه عمد في اثناء حرب العراق وايران الى فصل اسلحة الجيش المتفرقة والمتضافرة (سلاح الدبابات، سلاح الجو، سلاح المدفعية...) الواحد من الاخرى، وسَلَخَها عن قيادة الاركان التي تتوجها وتنسق عملياتها، وناط بالقائد العام وحده العلم بـ«كل شيء»، وحصر العلم بنفسه. ولم يستثن، بداهة، ميدان الحرب المستعرة العراقية - الايرانية، من تفريق الاسلحة والتستر على مجريات الحرب ووقائعها. فقاتل سلاحا المشاة والدروع من غير تنسيق مباشر وميداني مع سلاحي المدفعية والطيران ومع الاستخبارات، ومن غير ابلاغ قيادة الاركان بخطط القتال والعمليات المزمعة والمتوقعة. فلم يخول رئيس الاركان، وهو قمة مراتب الامر، طلب مهمة تتولاها القوة الجوية، وحظر عليه اصدار أمر مباشر الى مدير الاستخبارات العسكرية. فكان «كبار» القادة العسكريين والسياسيين، على ما قال نزار خزرجي في ٢٠٠٤، وهو في عدادهم، تبلغهم اخبار الجبهة وحوادثها الخطيرة، مثل رد الايرانيين وهجماتهم عن الفاو، من الاذاعة. وعلى شاكلة صدام حسين في الكويت، وقبله، قاتل ابنُ عمه علي حسن المجيد «الكيماوي»، الكُرد العراقيين بوحدات من الجيش الشعبي ومقاتلين حزبيين، وبعض المتطوعين الكرد، وقطعات عسكرية اقتطعت من الجيش النظامي «العام». وإلى هذا، «استقلت» هيئة التصنيع العسكري بمواردها وأجهزتها واستخباراتها وخططها، ونصب صهر صدام حسين رئيساً عليها، قرينة على إخراجها من هياكل النظام وإلحاقها بقائد «كل شيء» العام قبل ان يهرب الصهر ويندم ويعود ويقتله عدي صدام حسين بيده. (أوجزتُ الحلقات الـ٣٤ التي تكلم فيها مسعود بارزاني ونزار خزرجي وصلاح عمر العلي وحامد الجبوري... وعلقت عليها في صحيفة الحياة في ٩/٤/٢٠٠٤).
وشَبَهُ هذه الوقائع التي توالى على سردها أعيان «الدولة» العربية الصدامية بنظائر وأشباه َفَشت وشاع العِلم بها منذ أواخر ٢٠١٠ وما بعدها: قيامُ تونسيين كثر على دولة زين العابدين بن علي ورهط زوجته، وقيام ثورة ملايين المصريين على حسني مبارك ووارثه المفترض وجمعية رجال الاعمال «العميقة» ورجال الدولة التي لا تقل عمقاً، وخروج ليبيين افواجاً بعد أفواج على «العقيد» معمر القذافي وأولاده وعشيرته وحلفائه، وتقوضُ جماعات سورية على نظام وصفه المتظاهرون والناشطون والمقاتلون بـ«الاسدي» ونسبوه الى الرئيس وأبيه من قبله وعصبيتهما. وتشترك هذه «الدول»، وهي انظمة تسلط واستيلاء وتصريف أمري، في حل الدولة الوطنية والاقليمية، وهيئاتها (السياسية والدستورية) وإدارتها (البيروقراطية والعسكرية والاقتصادية والخدمية)، وإذابتها جميعهاً في إرادة «سلطان» واحد ومشيئته، وذلك على مقادير مختلفة ومتفاوتة.
... صاحب الدولة العراقي
ففي عراق البعث الصدامي، تصدعت الابنية التمثيلية والتنفيذية والقضائية، والاجسام الادارية والاقتصادية والعسكرية والامنية، تصدعاً كاملاً. وتولى الجهاز الحزبي الامني، وعلى رأسه قائده «الاعلى»، التصريف والتدبير والبتّ محل الدولة المفترضة، بعد مصادرتها على أدوارها ووظائفها ومحلها المادي والمعنوي. ودوائر العلاقات والروابط الاهلية، العشائرية والمحلية والقومية والمذهبية، والاجتماعية، التي عجز جهاز الحزب عن استدخالها، والاستيلاء عليها، جمَّدها موقتاً، وحال بينها وبين التأثير في سياسة السلطة واجراءاتها. وقمع بالقوة المسلحة بوادر الحياة المتململة في عروقها ومجاريها. وانتهى الامر بالرجل على رأس حزبه و«دولته» الى ما تقدمت روايته على لسان قائد أركان جيشه في ٢٠٠٤: تقطعت عرى اكثر اجسام الدولة حاجة الى قيادة ووحدة مركزيتين، وتفرق السلك العسكري صفوفاً وكتلاً وقيادات آلية وقطاعية من غير صلات أفقية أو عضوية متكاملة ومتضافرة، وتولى التنسيق بينها رأس آمر يعلوها ويتسلط عليها. وهو «شرط» دوامها، على قول ماركس في الجماعة الأسيوية وعلاقتها بسلطانها وحاشيته الادارية والكهنوتية. وعلى مثال عثماني ومملوكي عريق، تصدّر صدام حسين، ورهطه الاقرب، مراتب القوة. ولكن صدارته لا تفترض تسلسل المراتب، وتعلق المراتب بعضها ببعض، واقتسام اصحابها اعمالاً يشترط إنفاذها اضطلاع أصحاب مرتبة أخرى بإنفاذ قسم أو شطر من عمل. فصدارته إنما ركنها القوة المنفصلة التي تتمتع بها عصبيته، ويسعه إعمالها في كسر الكتل العسكرية الاخرى، النظامية، أو الاستغناء عنها، على ما صنع الرجل في «تحرير» الكويت، وصنع ابن عمه وذراعه في حملة الانفال على حلبجة وغيرها من بلاد البارازانيين. فهو «أمير (مئة) ألف» أو «أمير (ألف) ألف» أو أكثر. وهذا سهمه أو «ديوانه الخاص»، على قول العثمانيين في املاك سلطانهم التي يستقل بها عن مُلك الدولة، ويقتطعها من هذا الُملك، وهي جزء من غنائم جيش الدولة التي يتربع في سدّتها. فلا تستقيم «الدولة الوطنية والاقليمية» دولة واحدة ومتماسكة إلا من طريق رأسها، الغالب على كتلها وأجزائها بقوة مواردها وتسلحها وتجهيزها هي من الموارد العامة، ولكن عصبيتها ولحمتها هما عصبية أمير الولاية او «الدولة»، على قول عباسي، ولحمته.
... صاحب (بعض) الدولة السوري
وما أنجزه صدام حسين وجهازه أنجز بعضه حافظ الاسد ونظامه في سوريا، ولم يرد ربما إنجازه كله أو على الشاكلة نفسها. فهو أبقى على بعض المُسكة الذاتية للقوات المسلحة ومراتبها المختلطة، ولكنه عزل جهاز المراقبة الامنية والاستخبارية عن جسم الجيش، وأوكل المراقبة الى اجهزة متنافسة، رتبها على مراتب ودرجات، وقدّم بعضها على بعض، وربط به مباشرة أقواها دوراً. وعزل في خضم الصراع الاهلي الدامي «قوات خاصة» كادت ان تكون عائلية، فقاتلت جماعات أهلية بعضها مسلح وسحقتها. وقاتلت قوات مسلحة نظامية اخرى هي قوات رأس النظام، أي الحرس الجمهوري. وخلف هذا القوات الخاصة على حماية رأس النظام من بعض جيشه، وليس من جماعات سورية منتفضة عليه وعلى سلطته. واتسعت الادارة «المدنية»، شأن الحزب الجماهيري الفضفاض، وشأن مراتب الكتل الاقتصادية وجماعات المتعلمين، لأصحاب الولاء الجزئي أو البارد، وللعازمين على الخوض في «السياسة»، وأصحاب مهارات تقنية. وعلى هذا، وغيره مثله، رعت سياسة الاسد الاب رعاية يقِظة وحذِرة هوامش استقلال بعض المرافق عن قيادته المباشرة والخاصة، وحرصت على التستّر على «ديوانه الخاص» بواسطة تقديم وتأخير معقَّدين ومختلطين وزعا المكاسب والادوار، والظاهر والخفي، على نحو يعصى الاقتفاء والتقصي. وأسدل على هذا كله خطابة قومية وصراعية وعالمثالثية، صورية ومعمية. وفاقم الالتباس وقوّاه انتهاج سياسات خارجية، اقليمية ودولية، أرادها الوجه البارز من النظام ورايته، حاذرت على الدوام الحسم. وترجحت بين مناحٍ ومنازع متضاربة. فشبَّهت لأصحاب الآراء والاهواء المتناقضة تعليل هذه السياسات على حسب آرائهم وأهوائهم (فذهب باتريك سيل، منذ نحو السنة، الى ان تشدد بشار الاسد الفلسطيني الوطني، وأبيه من قبله، لم يخرجه عن طلب المفاوضة وتوسيط الوسطاء، بينما ذهب ناهض حتر، العروبي الصارم، في الاسبوع نفسه، الى ان مرونة النظام السوري البعثي ومفاوضاته لم تَؤُلْ يوماً به الى توقيع اتفاق وابرامه).
الفرق «الناصري» المصري
والصيغة العروبية الثالثة في الخط البياني المتدرج هذا، أو عليه، هي «النظام الناصري» وأطواره الكثيرة منذ مراحله الاولى، وتقلبه بينها، الى حين سقوط الرئيس السابق حسني مبارك. وأجمل متظاهرو الحركة المصرية الديموقراطية والمدنية (في حلتها الاولى) هذه الاطوار، وجمعوها في «ستين سنة» احتسبوها جملة متصلة، وغلَّبوا وحدتها – وسمة هذه الوحدة هي تسلط الرئاسة وجهازها على الحكم والتدبير و«إرادة الشعب» – على فروقها ومنعطفاتها. والحق ان هذه السمة، وهي تجمع في باب مشترك مراحل الانظمة المصرية المصرية و«الناصرية» المتعاقبة، تجمعها كذلك الى النظامين الاسدي السوري والصدامي العراقي كذلك. ولا ينفي البابُ المشترك، او السمة المشتركة، الفرق الصريح. وما بانت به الانظمة المصرية «الناصرية» من النظام السوري الاسدي، والنظام الصدامي العراقي، يفوق الفرق بين النظام الاسدي وبين النظام الصدامي. فالاولى أقرت للأبنية السياسية، ولو من طرف اللسان، وللأبنية الادارية والعسكرية والاجتماعية والتقنية، باستقلال معايير عملها الداخلية بعض الاستقلال. فلم تعمد الى تحطيمها وتقويضها قبل إلحاقها في خدمة جهاز الرئيس القائد وإراداته، على رغم «تطهيرها» السياسي والاداري والاجتماعي الواسع والمستمر للطاقم المتصدر السابق. وهي حرصت، في مرحلتها الاولى على اضعف تقدير، على دمج خاصِّ النظام، وحلقته القريبة، في عام أو عمومية وطنية وشعبية، وفي عامية أهلية صبغت الحياة المصرية بصبغتها الى اليوم. وغلبةُ العمومية الوطنية والعامية الاهلية أدت دوراً راجحاً في إظهار «الانحراف» اللاحق عن معياري العمومية الوطنية والعامية الأهلية، وعن مترتباتهما المتفرقة من مساواة معنوية، وامتثال (شكلي) لقواعد الانتداب والتكليف، وإحجام عن غلق دائرة الجهاز غلقاً محكماً... فقياساً على المعيارين - وهما انتهى بهما الامر الى الذواء وانقسمت الجماعة الوطنية على وجوه أهلية ومحلية واجتماعية انقساماً عميقاً، وعلى مترتباتهما - لا يصح إنزال مصر «الناصرية» لا منزلة سوريا ونظامها الاسدي، ولا منزلة العراق ونظامه الصدامي بالاحرى. ولا محل للمقارنة بين مصر هذه وبين ليبيا ونظامها القذافي، «الناصري».
ديوانُ الخاصّ
وهذه الحال ليست بعيدة من مصائر حركات الاحتجاج الديموقراطية (في اوائلها) والمعارضات في البلدان الاربعة، مطلعَ العقد الثاني الجاري من القرن الواحد والعشرين. فحيث حلت «الدولة» في الحاكم وجهازه القريب، وتسلط هذا على مرافق السلطة، وأخرج «ديوان خاصِّه» من أبنية الدولة المفترضة مشتركة ومتماسكة، ولو شكلاً، وعارض هذه الابنية بـ«ديوانه»، أطفأ «القائد» محاولات الانشقاق والمعارضة، وسحقها في المهد. فلم تفلح محاولة انقلاب عسكري واحدة على صدام حسين وجهازه المركب والمرقّع والمجلوب من مصادر متنافرة. وكذلك حال معمر القذافي طوال ٤٢ سنة تامة. فـ«اقتضى» التخلص من الرجلين ونظاميهما غزواً عسكرياً اجنبياً مدمراً، ضخماً وطويلاً، في الحال الاولى. ولم تسهم حركة داخلية ولو ضئيلة في إسقاط رأس الجهاز. وقام انتزاع الرافعة الاميركية تمثال صدام حسين الصامد على قاعدته، عنوة، في ساحة الفردوس قرينة على اضطلاع الغازي الاجنبي وحده بعزل جهاز الحاكم ورأسه، ووقف الجمهور، ما عدا شقه الكردي النازع الى تقرير مصيره متحفظاً أو متفرجاً، ومتوجساً في الأحوال كلها. ولم تتمرد القوى المحلية والاسلامية الليبية المسلحة على «العقيد» المزمن إلا بعد أن أمنت تقييد القوات الاجنبية، البحرية والجوية، ذراعه العسكرية. وفي كلتا الحالين، خرجت الجماعات الاهلية من عباءة النظام المتسلط وهي مقيمة على صفتها. و«مقيمة» غير دقيقة: فالصفة الاهلية، العشائرية والمذهبية والدينية والمحلية والقومية (الاتنية) وهي فروع على باب أو أصل أهلي، كانت الملجأ الذي احتمت به الجماعات وأوى إليه الافراد، بوجه تسلط الجهاز المستولي. وتوسل الجهاز بأبنية الدولة، ومحلها المركزي والجامع من الجماعات والمرافق الاجتماعية والاقليمية، الى مصادرة «أهل الضعف» – وهم من أضعفت علاقات السوق الرأسمالية عصبيتهم فنزحوا الى المدينة وزاولوا عملاً مأجوراً في مرافقها، ودرسوا في المدارس الجديدة، وتزوجوا من غير قرابتهم وملّتهم، وتحزّبوا بغير عصبية الأهل – على مواردهم ونفوذهم وقوتهم. ولعل السبب الراجح في الانكفاء هو اشتباه موقع الدولة (العربية) في عهدة الاستيلاء الجهازي، العشائري (العصبي) والبيروقراطي (العسكري الامني والإداري). فهجم الجهاز المستولي من موقع الدولة الوطنية الاقليمية، وبموارد قوتها وعوائدها، على الجماعات الاهلية والقوى السياسية والاجتماعية، وألحق أبنية الدولة البيروقراطية بعصبية اهلية وخصوصية : القذاذفة والتكارتة والقرادحة وضباط الجيش المصري، وحُمل توريث الابن (البكر إذا بقي حياً ورغب في الميراث) بالنص والجهر، أو بعزيمة وقول خافت، على حق ثابت وغير منازع. واحتسب قدراً ان يكون الحاكم التالي عدي صدام حسين وباسل أو بشار حافظ الاسد (ووَلد بشار حافظاً الثاني) وجمال حسني مبارك وسيف الاسلام معمر القذافي... وذلك في اطار دستوري، وفي رعاية مجالس شعب منتخبة.
أبنية دولة... متحفظة
وعلى خلاف العراق، وعلى الضد من مصادرة الجهاز الصدامي أبنية الدولة واحتكاره التصرف بها، وسع حركة شعبية وعامية مصرية عريضة، عُزِل رئيس الجهاز المستولي على أبنية الدولة منذ ٢٩ عاماً في غضون ٣ أسابيع من التظاهر والاعتصام والتعبئة. والى النهوض الشعبي الحازم والمرصوص، وهو قرينة قوية على دوام مجتمع لا يفتقر الى الروابط الداخلية ولم تتقاسمه العصبيات الحزبية، اضطلع تحفظُ بعض ابنية الدولة عن بعض سياسات حسني مبارك وعزمه على توريث ابنه على وجه الخصوص، بدور راجح في تخلي الرئيس العسكري الثالث وتنحيه عن الرئاسة. فتضافرَ على الاقامة أو العزل جهرُ أجزاء متفرقة من المجتمع المصري المتنازع وبعض هيئاته «الوسطى» المأزومة رفضها تبعات دوام الجهاز الحاكم منذ «٦٠ سنة»، وتحفظ «جهاز القوة» الاول وأبرز أبنية الدولة «الناصرية» عن تأييد الرئيس الآفل وقمع حركة المعارضة بالحديد والنار والبلطجية وذر الفتن. وحركة المجتمع واستقلال قيادة القوات المسلحة بالرأي (وإصغاؤها الى مشورة اميركية لا يبطل الاستقلال هذا) دليلان على دوام حيوية حقيقية في الجسم الوطني المصري. وهذان أعوزا الجسمَ العراقي المتصدع، والمتناثر «مجتمعات» أو جماعات أهلية كثيرة وكتلاً وأجهزة متباعدة ومن غير رابط.
وترجحت سوريا الرازحة تحت وطأة الجهاز الاسدي بين الحد العراقي (الصدامي) والحد («الناصري») المصري. فلم يعجز السوريون، بعد نحو نصف القرن من أنظمة بعثية متصلة على هذا القدر او ذاك، عن المبادرة الى حركة احتجاج بطيئة دابة ومتعاظمة الاتساع على تسلط «عشيرة الاسد» أو «عائلته»، على قول معارضين راسخين، وعلى سوس جهازه الامني والعسكري عموم أهالي سوريا بالإذلال والتهميش والمصادرة. ومن وجه آخر، تماسكتْ أجهزة القوة والادارة والاعلام التماسكَ الذي يقي حلقةَ الحكم العليا التفسخ أو يُقْدِر هذه الاجهزة على القيام بالتحكيم في الخلاف الحاد والمستعصي. ولكن المبادرة الى حركة الاحتجاج، من تظاهرة درعا في الايام الاولى الى اعتصام ساحة الساعة بحمص في ختام الفصل الاول فالاحتشاد في ساحة العاصي بحماة بعدها بأيام، لم تكن جامحة، وانتقلت مترددة ومتحسبة من الجنوب الحوراني (غير الدرزي) الزراعي والبدوي «المزدهر» ومصدر بعض «رجالات» النظام الصوريين والديبلوماسيين الاداريين (مثل فاروق الشرع وفيصل المقداد)، الى الوسط السوري والعمود الفقري المديني والتاريخي، على قول مريم عبابسة وسيريل روسيل ومحمد الدبيات، في محور دمشق – حمص – حماة – حلب ومقارنة بالمحافظات الساحلية ومحافظات الجزيرة («سوريا حاضراً»، أكت سود، باريس، ٢٠٠٥). فتعثرت على أبواب القطبين، الدمشقي والحلبي وفَشَت في الوسط قبل أن تتغلغل في أرياف الشمال والشرق، وتعود منها الى المدينتين الكبيرتين المتحفظتين والمحميتين، عنوة. فوسع النظام، وكتلته العشائرية الاهلية وأجهزته وحلفاءه وصنائعه، التماسك قبل التمترس والتخندق في الحاميات والثٌكن والنواحي، وشن الهجمات الشرسة على مواقع حركة المعارضة، وحصارها وتقطيع أوصالها.
ولكن العنف الهائل لم يفلح في خنق الحركة. وهي استقوت بعض الشيء بتساقط أجزاء من «الدولة» الاسدية وانشقاقها عن الجهاز المتسلط. فهجر الجيشَ النظامي نحو ثلثه. وفرقه الباقية (الى آذار ٢٠١٣) والفاعلية هي المسلحة تسليحاً اختصاصياً ومركزياً «سوفياتياً» (الطيران الحربي والصواريخ في المرتبة الاولى)، على شاكلة فرق القوات العراقية الصدامية، ويلحمها برأس الحكم ويلحم بين أفرادها عصب أهلي ومذهبي مشترك. وحال انقسامُ المجتمع والدولة وأجهزتها وتقوضُ شطر من الدولة عليها والتحاقه بالانشقاق الاخلي، بين اقطاب المجتمع الدولي والمجتمع الاقليمي وبين الانخراط المباشر والعلني في الحروب السورية وفرقها الكثيرة البقاع والألوان والمصالح. «فحمى» المركَّبُ السوري، وجمعُه (على غير استيفاء) استيلاءَ جهاز عشائري وبيروقراطي وبقاء رمق حياة في مجتمع منهك وتجدده، البلدَ من التدخل العسكري الدولي وابتلاه بحروب أهلية طويلة الامد تتصدرها حرب جهاز الدولة المستولي على رعاياه ومعارضاته وجماعاته الاهلية.
٢– حنا بطاطو... عصبية الدولة
وفي مرآة هذا الوصف الاساسي (على معنى تناوله الاسس والاركان )، والنمذجة الموجزة التي تبعته، بعض ظلال العمل الذي خصّ به حنا بطاطو (١٩٢٦ - ٢٠٠٠) الفلسطيني المقدسي الاميركي، العراق، ووَسَمَه بعنوان أضيق من موضوعاته هو «العراق/الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني الى قيام الجمهورية» (١٩٧٨، برنستون يونيون برس، الترجمة العربية ١٩٩٠، بيروت، ١٩٩٠، مؤسسة الابحاث العربية، تولاها عفيف الرزاز) في ٣ كتب أو أجزاء و٧٤ فصلاً. وعَمَل بطاطو، على زعمي، قد يصح وسمه بتضمين وسم كتاب سابق وذائع الصيت هو «تاريخ أفول الامبراطورية الرومانية وسقوطها» لادوار غيبّون البريطاني، على ان يحل «دولة العراق» محل «الامبراطورية الرومانية». فما يتناوله العمل التاريخي والاجتماعي الكبير يتقيد فعلاً بأجزاء العنوان، ولكنه يفيض عنه ويعالج ما بين الطبقات الاجتماعية من منازعات ومهادنات وائتلافات، وما يعتمل داخلها من شقوق وخلافات، ويصيبها هي وأحوالها وعلاقاتها حين تبادر، أو تنخرط بعض جماعاتها وكتلها في «السياسة»، وتتولى إدارة الدولة أو بعض مرافقها أو تعارض هذه الادارة وتنكرها...
ولعل عقدة المعالجة التاريخية والاجتماعية في عمل حنا بطاطو هي ميزان علاقات القوى الاجتماعية، وهذه فوق الطبقات أثراً وأوسع منها وأكثر تعقيداً، بجهاز الحكم وأبنيته، وميزان علاقات الجهاز والابنية بالقوى الاجتماعية والجماعات. وميزان العلاقات ينبغي حمله على المنازعة. وغاية المنازعة في هذا السياق السياسي الاجتماعي (المجتمعي) هي الاستيلاء و«الغلبة في التكوين» (ابن خلدون)، وعليه، وحيازة العصبية الغالبة الدولة حيازة جامعة ومانعة. والمصطلح الخلدوني لا يتستر ولا يراد به التستر على المدلولات الجديدة والطارئة على الفاظ المصطلح: فالعصبية ليست اليوم لحمة القبيل النسبية والدموية، لا الحقيقية ولا المتوهمة والدائرية (فتتماسك العصبية في الحال الاخيرة بالاستيلاء والتربع في رأس الدولة، وهي سبق لها ان تولت تعليل الاستيلاء وابتدائه). وبين معنى العصبية «الاول» وبين معناها اليوم وقائع تاريخية واجتماعية ضخمة ليس أقلها تبلور السوق الرأسمالية وسلعها وتداولها، وتصدّر الدول – الامم العلاقات الدولية السياسية والعسكرية والتجارية، وانقلاب ميزان القوى بين الدول – الامم وبين السلطنات وأقوامها وبلادها، وشيوع المدن والمواصلات السريعة، وظهور المنزع الى وضع العبارة على موضوعات وضبط تلك على هذه...
وتفضي هذه الوقائع الى تصديع رابطة النسب والتوهم في القبيل، وإلى صوغها صيغة مختلفة. فتغلِّب دائرة الشعب (- الامة)، على معنى عرقي ودموي وتاريخي اقليمي وتراثي معاً، على دوائر النَسَب والجوار القريبة والمعروفة، وتلحق الدولة الوطنية والاقليمية (الحديثة) بهذا المعنى، وتحمل الاستيلاءَ بالقوة والترؤسَ على حلول دائرة الشعب (- الامة) في القوة المستولية ورأسها وجهازها. والدولة في «عصبية الدولة» المحدثة لم تبق القلعة وديوان العسكر وديوان الجباية ومشيخات مذاهب الفقه والطرق الصوفية وطوائف الاصناف. فهي أجهزة سيطرة واقتطاع وجمع، من غير شك، ولكنها لا تصدر عن فوق جوهري ومنفصل أو مرتبة، بل تتولى إجراء العقد والحل بواسطة قواعد انتاج وتوزيع وترتيب تقرها، وتتعهد إنفاذها، وتشمل «الرعايا» كلهم وتعرفهم، وتوحدهم على اشتمالهم. فهم رعايا الدولة الوطنية الاقليمية ليس من طريق جماعاتهم وبلادهم، من قبل و(ربما) من بعد، وإنما من طريق دخولهم تحت قواعد الإجراء العامة والمفترضة.
وما صنعه صاحب «العراق/الطبقات الاجتماعية...» من غير ان يعلن وينبّه، ووراء رواية تقليدية دقيقة رصّعها بِسير وترجمات وبيانات إحصائية ضعيفة الدلالة - هو تعقّب انقلاب علاقة الدولة بالجماعات الاهلية و«مجتمعها»، من غير افتراض فصل جوهري يترتب على التعريفات والحدود فوق ما يترتب على الوظائف الفعلية وأدائها. وقادته تجريبية عنيدة لا تشترط معياراً إلا الاحاطة التاريخية (الزمنية الطولية) والاجتماعية (المتزامنة العرضية)، الى تشخيص فعل الجماعات الاهلية في قلب أبنية الدولة وثقلها وملاحظة تبعية هذه الابنية وعملها للجماعات وعصبياتها ومصالحها، وضعف استقلالها عنها. فهو لا يتناول مثال دولة معيارياً، وطنياً جامعاً، و«عقلانياً» قانونياً وبيروقراطياً، وحَّدته في سيطرتها وهيمنتها وتحكِّمها «طبقة» اجتماعية واستطراداً سياسية مؤتلفة من مصالح كثيرة لا تكف عن التنازع وتمتنع من التناحر في آن.
وعلى الشاكلة نفسها، لا يفترض حنا بطاطو مجتمعاً يجمع بين جماعاته وطبقاته وأفراده انفصالُها (وانفصالهم) من الدولة، وقيامها (وقيامهم) بإزائها إلباً متصلاً إن لم يكن واحداً. فـ«دولة» بطاطو العراقية، إذا جازت العبارة، أهلية وعصبية من أدناها الى اقصاها. ولكن وظائفها الطارئة والمركبة، الناجمة عن إنشائها عن يد سلطة احتلال بريطانية عالمية أو دولية ورأسمالية، نصّبتها في منزلة ملزمة بتدبير أو إدارة أجهزة وأقاليم وموارد وجماعات على معايير تداول وتوزيع وترتيب يفوق تعقيدها بما لا يقاس معايير السلطة والغلبة الاهليتين، ويبين منها او يختلف عنها مباينة قوية. والمجتمع الذي ضوى مثال الدولة الناشئ، لئن أقامت جماعاته ظاهراً على صيغ علاقات وأعراف سائرة، اقحمتها «الدولة» الجديدة، ومبانيها وسياساتها، في حاجات ومشاغل وسبل لا عهد لها بها من قبل. وأقحمت عليها جماعات جديدة ولدت من مرافق الادارة والعمل والتوزيع والاقامة والامن... الجديدة. ووصلت «الدولة» والمجتمع بالخارج، ودوائره وروافده المتعددة، الاقتصادية السوقية السلعية والمالية والعسكرية والقانونية والثقافية، صلات غير مسبوقة نوعاً وكماً. وعاد هذا على موقع «الدولة» والسلطة والادارة بوظائف وضوابط لم يعرفها مثال الامر (و«الامير») السابق.
وأتاح توسعُ صاحب الكتاب في تقصي احوال العراق، جماعات وطبقات، وأبنية سلطة وإدارة، وعواملَ تأثير وموصلات تأثر، صرفَ المعالجة الى المسألة السياسية، والدولة في القلب منها، ومحلها من اطوار الاجتماع (السياسي) العراقي وبعض جواره العربي. وعلى حين تبدو اليوم المعالجات الاقتصادية التي تناولت البنية الرأسمالية الداخلية والاستثمارات الاجنبية في هذا البلد أو ذاك (وفي هذا القطاع او ذاك)، ظرفية الدلالة، وعلى هذا فائتة وعفَّى عليها تقادم الوقت وانقلاب الاحوال، تحتفظ معالجة بطاطو الاجتماع السياسي العراقي على ثنية تشابك الدولة والمجتمع طوال فوق قرن من الزمن - من نهاية العهد المملوكي في ١٨٣١ الى طلائع اقصاء صدام حسين احمد حسن البكر في النصف الثاني من عُشر ١٩٧٠ - بدلالات راهنة قوية. فهو، على رغم اتخاذه أنموذج «نمو التخلف» خيطاً وصَل به التغيرات العميقة الطارئة على المدن النهرية والارض ومكانة المشيخة والزراعات ومنزلة الملك وأجهزة الدولة وموارد الاقتصاد النفطي بأحوال «الاسواق العالمية (ج ١ من الترجمة العربية، الفصل السابع، ص ١٣٨) و«السوق العالمية الصناعية» (ج٣، ف ٢٤، ص ٤٢٧)، لم يتأخر مرة واحدة عن إدراج حلقات الخيط في دوائر منازعات القوى السياسية والاجتماعية على الدولة ومقاليدها ومرافقها. فاقتفى من غير انقطاع أدوار ارساء سلطة مركزٍ ضيق متحكمة في مرافق الاجتماعي السياسي العراقي كلها، من طريق اقصاء مصادر النفوذ والمنازعة و«استئصالها» مصادر النفوذ والمنازعة وخنقها، ومن طريق السطو على موارد الجماعات وقيامها بنفسها وروافد هذا القيام المادية والمعنوية.
فوسع المركز الضيق أو ذرى الطاقم الحاكم، وهو انتهى بعثياً صدامياً وابتدأ عراقوياً وعسكرياً «شيوعياً»، بسط سيطرته أو قبضته المباشرة والاسمية على «أجهزة الدولة» وهيئاتها وإداراتها، من فوق، وأعمل خنقاً وحصاراً وقمعاً في مرافق الاجتماع السياسي، من تحت وفي الابنية الوسطية، من غير أن «ينجز» استئصال مقومات الجماعات الاهلية وعواملها. والحق ان هذه «المهمة» ليست في متناول قوة سياسية، بالغاً ما بلغته من التجريد الاجتماعي والاهلي أو من العمومية السياسية. فكيف بهذه القوة وهي لابستْ المادةَ الاجتماعية والاهلية العراقية ملابسة حميمة وقريبة أفضت بها الى إقحام معايير هذه المادة وأحكام عملها في ثنايا «الدولة»، وإلى الحاق «الدولة» بسيطرة كتلة أهلية متقلبة بددت التجريد السياسي وإرهاصاته الضعيفة، وجعلت المجتمع ركاماً متنافراً من الجماعات المفككة والروابط المتجددة والمتكسرة. ومثل التجريد الاجتماعي والاهلي الذي ينشده ضمناً منطق السيطرة السياسية هذا، على مثال «ناصري» أو أسدي أو صدامي، هو ثمرة انقلاب وتحول تاريخيين واجتماعيين مديدين، ويحتاج انعقاد الثمرة الى قرون. ولا يملك اصحاب هذا المنطق أدوات تصوره أو تفكره. وهم نهب لترجّح عميق ولد من نازع الى سلطة شاملة او كليانية (توتاليتارية) وعدتْ أو لوّحت بها نشأةُ الدولة الحديثة عن احتكار الوالي القوة المشروعة أو عن عقد اجتماعي تنبثق منه إرادة جامعة وعمومية، و(ولد) من «قصور» المادة الاجتماعية والتاريخية المتقطعة والمجزأة، عن تلبية احتياجات النازع الى السلطة الشاملة أو إلى السلطة المركزية الراسخة. وغذى الترجح، ونهبه، تدافع النازع هذا أو ازدواجه: فالتجريد الاجتماعي والاهلي الذي لا غنى عنه للسيطرة السياسية «الكاملة» يهدم أركان الكتلة الاهلية والحزبية المستولية، ويفتت لحمتها العصبية، من وجه أول... ولا تستقيم سيطرة سياسية «كاملة» كتلك التي لا مناص للكتلة العصبية المستولية من طلبها لئن استحالت مزاولتها (الممتنعة) في بيئة أضداد «قبلية»، من وجه آخر، إلا بهذا التجريد.
ويزج ترجح انظمة «الدولة» العصبية بها في سيرورة أزمات وانعطافات تقود الطاقم الحاكم، وحلقة ذراه الضيقة، الى تشديد قبضته على اجهزة سلطانه المباشرة، وحماية هذه الاجهزة أولاً. فلا ينفك تجدد عمل النظام العصبي ودولته الاهلية، وتوالده وتناسله، من دينامية «راديكالية»، على ما قيل في بعض فصول تاريخ الانظمة الكليانية (الفاشية و«الستالينية» والنازية). وتقود الدينامية «الراديكالية» الطاقم العصبي الى تقوية عوامل تسلطه وتواطئه الداخلية. فيصادر الجماعات والابنية الاجتماعية على الموارد والعوائد الريعية في معظمها، المتعاظمة أو المتناقصة بحسب الظروف. ويحرّر «الدولة» من ضوابط التركيب والتحكيم والعمومية. ويتشارك أهلُ القوة والسلطان وأهل الضعف المحكومون، والمنقادون على هذا القدر أو ذاك، منازعَ تكاد تكون واحدة أو متجانسة الى الترجح ونهبه. ولعل احد مصادر قوة معالجة بطاطو ديناميةَ الازمات العراقية (من غير المصطلح)، وذروتها الصدامية، هو تنبهه الى التشارك هذا. فبينما تخبطت «الطغمة» الحاكمة في تنازعها بين موجبات الاستيلاء العصبي المنفرد والاستئصالي وبين توسع سيرورات الوصل الاجتماعي وأطرها، تطاول التخبط الى الجماعات المقصية والمنبوذة والمعتالة. فسعت بدورها في طلب القوة السياسية والاجتماعية من طريق اللحمة العصبية، والانكفاء عليها، ومقارعة الكتلة المستولية بها.
ولم يكن استئناف المثال العصبي الاهلي، المذهبي والعشائري والمحلي، متاحاً. فبين أحوال العصبيات اليوم وبين أحوالها المنصرمة العوامل التي تقدم إحصاء بعضها: «الدولة» الوطنية والاقليمية ذات الرأس الاهلي المتسلط وقواعد الاجراء العامة، والسوق والتداول والتوزيع والاجور والريوع الرأسمالية، والمدن والضواحي وأخلاطها، والجوار العربي والاقليمي ودوله، والمدى الدولي المتشابك والمنقسم. وترتب على التشارك ترسخ دينامية الازمات الراديكالية، وجموح أقطابها وكتلها الى الكبكبة العصبية، والتحاجز والبيات المزمنين. ولكن تعاظم موارد «الدولة»، وريوعها، في الاثناء، وضعف موارد المجتمع، أتاحا بسط طاقم النظام سيطرته الشكلية والفوقية على العراقيين، من غير تمكين الطاقم من النفاذ الى سيرورات الالتحام والتكتل أو سيرورات التفرق والانقسام. و«فضيلة» هذا التناول هي تشديدها على دينامية الازمات ودوام هذه ونازعها الى الراديكالية، وتشكيكها الثابت في جواز استقرار الانظمة العصبية وشمول الترجح جهات النزاع كلها وكتله. وعليه، فمسير نظام صدام حسين الى الحملة والغزو العسكريين والاجنبيين في أعقاب إخفاق قلبه من داخل (من غير رابطة سببية ومباشرة بين جملتي الوقائع) وإفضاء تحطيم النظام بالقوة الى تصدع الدولة والمجتمع العراقيين وفشو الارهاب والاقتتال فيهما- هذه الحلقات ليست مصوَّرة في «منطق» النظام المضطرب والمترجح والمأزوم. غير أن ولادة الحملة والغزو العسكريين والاجنبيين من نظام النظام، أو مثالات عمله وإيظافه، سيرورة معقولة ومفهومة ومحتسبة في ضوء عمل حنا بطاطو، نهجاً ورواية.
٣- الاستيلاء على الريوع
وقد يسع قارئ كتاب بطاطو في القرن ونصف القرن تقريباً من تاريخ العراق الاجتماعي – السياسي، وتاريخ تكوين أبنية دولته وجماعاته ومجتمعه ونزاعاتها، وصلَ حادثة الغزو والاحتلال بمقدماتها وسياقاتها، وعللها المحتملة. وعمل الوصل هذا يتناول الحادثة على وجه الواقعة «الاجتماعية السياسية» (نسبة الى الاجتماع السياسي، كلاً وجميعاً)، وقد يضاف: «الكلية»، على مثال دراسة «العطاء» بقلم الانَّاس مارسيل موس في الثلث الاول من القرن العشرين. والكلية هي صفة ترتيب دوائر الفعل والمعنى وأدائهما في مجتمع من المجتمعات أو جماعة من الجماعات، وليست صفة «روح» الجماعة او القوم وحلولها في افراد هذا أو تلك. فالانقلاب العسكري المزدوج الذي أطاح أولاً عبد الرحمّن عارف، شقيق الضابط الناصري «التاريخي» عبد السلام، في ١٧ تموز ١٩٦٨، وثنى فأقصى في ٣٠ منه معظم ابطال الانقلاب الاول، صنعه القادة البعثيون بحسب «تقنية» الانقلاب على الدولة التي استخلصها كروتزيو مالابارتيه (من) استيلاءِ البلاشفة، وتروتسكي، على قصر الشتاء ببطرسبورغ غداة ٨ أشهر على ثورة شباط ١٩١٧، و«الناس نيام» على قول تروتسكي (في «حياتي» أو «سيرتي»)، وجمعِ دروس أوكتوبر (١٩١٧) الى دروس زحف موسوليني على روما في (١٩٢٠)، وعارض الدرسين بإخفاق ادولف هتلر في اقتفاء أثر موسوليني بميونيخ في (١٩٢٣). وتقنية الانقلاب على الدولة، ثم الاستيلاء على قممها، قد تكني عن ميتافيزيقا وقد لا تكني، ولكنها استعارة قوية لسياسة ونهج سياسي. والانقلاب المزدوج، على النحو الذي أعد عليه والضباط الذين زجوا فيه واجراءات الاسبوعين اللذين أعقبا الفصل الاول واختيار توقيتيه، صدر من غير لبس عن تقويم دور المباردة الى انتهاز الفرصة السانحة (بين أمسٍ مبكر ويوم تال متأخر) وإيلائه المحل الاول من السياسة و«استيلائها».
«صنف» العسكر
فالوقت الذي اختاره قادة الحزب لاستيلائهم الرأسي يفصله عن خلافة عبد الرحمن عارف في ١٦ نيسان ١٩٦٦ أخاه الرئيس، سنتان و٣ أشهر. واعتور الخالف عوار أو عيبٌ ظاهر هو ضعف إجماع المقترعين (ووزراء مجلس الوزراء + اعضاء مجلس الدفاع الوطني = ٢٨ مقترعاً حضروا الجلسة). ففي دورة اقتراع أولي حظي رئيس مجلس الوزراء عبد الرحمن البزاز بـ١٤ صوتاً، وعبد الرحمن عارف بـ١٣ صوتاً، وعبد العزيز العقيلي وزير الدفاع بصوت واحد. وبلغ عددُ الضباط المقترعين لعارف، وهو واحد منهم، ١١ ضابطاً من ١٢، وعددُ الوزراء المقترعين لرئيس مجلسهم ١٤ وزيراً من ١٦. ولما بدا أن جمع أحد المرشحين ثلثي الاصوات، على ما نص دستور ايار ١٩٦٤ الموقت، متعذر، وأن كتلة العسكريين متراصة، تخلى الوزير الاول والمدني المعتدل عن المنافسة، وترك الميدان للعسكري ولسلكه المتنفذ. ويعلل حنا بطاطو (ج ٣، ف٢١، ص ٣٧٧ – ٣٨٢) تخلي البزاز بتماسك العسكريين في وجه المدنيين، وتمتع العسكريين بقوة ترجيح حاسمة مصدرها الاول مكانة الوحدات والقطعات التي تأتمر بأمرهم، وذلك في ضوء اضطلاعها بأدوار حاسمة في الانقلابات السابقة التي افلحت والتي اخفقت، على حد سواء. فآمر حامية بغداد، وهي أدت الدور الاول في ١٤ تموز ١٩٥٨ (في قياجة عبد السلام عارف)، هو الزعيم سعيد صليبي، من عصبية آل عارف الجُميلية الرمادية. والموقع العسكري الاقرب الى موقع الرئاسة، وهو الحرس الجمهوري «محور نظام (آل) عارف»، كان يهيمن عليه الصليبي نفسه. وعليه، فالزعيم الصليبي هو صاحب الكلمة الفصل، والقادر على اعلان حال الطوارئ و«الساعة الصفر».
وعلى الجهة المدنية (الوزارية) برز عبد الرحمن البزاز. ودان البزاز برئاسة الحكومة طوال ٣ أشهر ونحو نصف الشهر (من ١٨/٤/١٩٦٦ الى ٦/٨ من السنة)، الى «صداقة» عبد السلام عارف. والبزاز سياسي مستقل برع في تحريك «المشاعر الشعبية» على الجماعات العسكرية المتنفذة واضطلع بدور قوي في تجميد الحرب على الاكراد في حزيران ١٩٦٦، وزاد الفائدة المصرفية على اصول قدامى الملاكين العقاريين المصادرة من نصف نقطة (٠.٥٠) في المئة الى ٣. واقترح تقويم قيمة مياه فروع الانهر فوق القيمة الجارية. فأثار حفيظة الناقمين على «الاقطاعيين» والرأسمالييين. وعزم على تحرير الاستيراد من القيود الادارية والمالية التي كبلته وصرفت الى محظيين معروفين حصصه المتاحة، وأغلت الاسعار. وحمَّل الجيش وضباطه التبعة عن التهام حصة كبيرة من الموارد والاموال العامة. فرد الضباط، وفي طليعتهم الناصريون، ومقدمهم عارف عبد الرزاق، بتهديد البزاز، وعلق عارف عبد الرزاق المتنفذ، اجراءات رئيس الوزراء، وهو كان لا يزال على رأس الحكومة، من غير ان ينتصر الرئيس عارف له أو ان يعمد الى التحكيم في الخلاف. وأقر البزاز ضمناً أو صراحة بانتصار الفريق العسكري، برجحان كفة «سياسته» الصنفية والطائفية، وشاغلها الاول لئن لم يكن الاوحد رعاية مصالح صنف العسكر وطائفتهم، على المعنى المهني والفئوي. فعلى خلاف ما يذهب اليه بطاطو (ص ٣٧٨ ، بترجمة معدلة) من «(انحطاط) السياسة، على مستوى قممها النافذة، الى صراع كسور خلا من المادة ومن المضامين»، ساق البزازَ، وربما بعض اصحابه المدنيين، برنامجٌ «وسطي يميني» على ما كان وصف في نظام سياسي مستقر بعض الشيء. وحسب، على ما ذهب من يحملون السياسة على منازعة مصالح تتفاوت عموميتها وتستبعد أو تعلق الاحتكام الى القوة المسلحة، ان من في وسعهم الجمع على أعرض المصالح، وأقواها استجابة لحاجات الجمهور ورابطة الدولة الوطنية، هم أوفر حظاً في الحكم وتدبيره.
واضطرار البزاز الى الاستقالة جراء هزيمة برنامجه امام دعاة التحكيم العسكري المنفرد في تنازع المصالح، قرينة على إنكار الجماعة العسكرية، أو أهل القوة على المعنى الاضيق، وجود قضية سياسية او مسألة سياسية ناجمة عن استبعاد «طبقات» اجتماعية، عريضة أو ضيقة، من موازين التقرير واعتباراته. فزيادة الفائدة على المصادرات وتقويم مياه الانهر الفرعية بأعلى من القيمة المتدنية، إجراءان يرميان الى إشراك أصحاب هذه وتلك في كتلة مصالح عريضة وجديدة. فلا تفترض هذه الكتلة استئصال بعض روافدها أو شركائها الذين تمتعوا، في ماضٍ قريب، بامتيازات ساحقة، حقاً باتاً. ولا شك في تعويل رئيس الوزراء المقصي على مقايضة أصحاب المصادرات والمياه لقاء إشراكهم في كتلة «السياسة الاقتصادية الجديدة» (لينين) و«تسديد ثمن» هذا الإشراك، بإسهامهم في الاستثمار المحلي والوطني المجزي وفي تحريك الاستهلاك.
ويؤول تحرير الاستيراد من احتكار اصحاب الحظوة والوساطة، بالنيابة عن مراكز النفوذ والريع التي حازتها قمم الجهاز العسكري بالاستيلاء، الى تخفيض الاسعار، وتنويع السلع، وإلى تنشيط الاستهلاك المنزلي وربما الصناعة الوطنية الصغيرة او الخفيفة على الامد المتوسط. ويترتب على الاقرار «للطبقات القديمة» بهذا الدور صدوعٌ بكلمتها السياسية وثقلها ولو النسبي. واقتراح تجميد الحرب الاهلية «القومية» على كرد العراق وجهٌ آخر من وجوه مزاولة السياسة من باب التحكيم والضم والشركة (وما تفترضه هذه من منازعة ومداولة). أما رعاية الحرب الاهلية «القومية» مع الكُرد فهي، بين اعتبارات أخرى، عامل اساس في إنشاء ريع الجماعة العسكرية وتثبيته وتثميره. فالحرب هذه يقتضي الاضطلاع بها، والانتصار طبعاً في نهاية مطاف يرجى قصيراً، تعزيز موارد الجيش الوطني، وتمكين القيادة من التصرف بالموارد، ورسم الخطط المناسبة والتحكيم في توقيتها، وإضعاف الخصم (العدو) سياسياً وعسكرياً، الخ. ولذا، لم تنفك القيادتان، العسكرية المحترفة والسلكية والسياسية الحزبية والعصبية، من التنازع على هذه الحرب وثمراتها السياسية والاهلية وعوائدها الريعية وسعي كلا الطرفين في الانفراد بالقيادة والتصرف.
وعلى هذا، آذن انتصار الكتلة العسكرية في المنافسة على قيادة الدولة الوطنية والاقليمية بحصر هذه المنافسة في قمم هذه الكتلة، وقصرها على النزول عن امتيازات ريعية متعاظمة. وينجم عن الامتيازات اقتصاد هزيل، وتعويل على المورد النفطي الوحيد. وتعاظم الامتيازات الريعية والتعويل على انتاج المادة الوحيدة يتضافران على اختصار دائرة القوى الاجتماعية والسياسية المتنازعة الى قشرة رقيقة من الكتل العسكرية التي تنوب عن جماعات أهلية وعصبية، وسياسية استطراداً واصطلاحاً وليس أصلاً. فإقصاء الطبقات الاجتماعية والسياسة «القديمة» من المنازعة، وسدّ منافذ التحكيم والمساومة عليها وعلى مصالحها سداً محكماً ولا مراجعة فيه، يعزلان القوى الاجتماعية الخاصة والمدنية، و«مجتمعها» تالياً، عن المنازعة السياسية. ويقضيان حكماً باقتصار هذه المنازعة على «العصابات» العسكرية والحزبية، ومنافستها على الكتل والمواقع، وإعدادها العدة للانقلاب التالي. فيعيد الانقلابيون النظر في مراتب النفوذ، وحصص الكتل وعوائدها، وفي استئناف الحرب على الشمال الكردي، واستئصال شأفه الطبقات «القديمة» و«الشيوعيين».
وآل منصب رئيس الوزراء، بعد تجميد البزاز، الى امير اللواء الركن المتقاعد ناجي طالب. وفضيلة الرجل المرجحة هي خروجه من ساحة المنافسة على مناصب القيادات العسكرية الفاعلة، وماضيه الفخري الذي نصبه، في ١٩٥٦-١٩٥٨، نائباً ثانياً لرئيس لجنة الضباط الاحرار العليا، وتردده، أخيراً، بين موقع القومي (العروبي) المستقل وبين موقع الناصري «المعتدل». والموقعان، إذا صدقت التثنية، آيلان الى اضمحلال «عارفي». وهذه قرائن على انتفاء قوة الفعل والحسم من الرجل، وخلو وفاضه منها. فهو يصلح للدلالة على تعليق ميزان الكتل المتصارعة وتجميده على حاله هذه في انتظار استئناف الصراع. ودام التعليق ظاهراً ثلاثة أشهر، طلبت الكتب المتنازعة بعدها المنصب كل واحدة لنفسها. فاضطر عبد الرحمن عارف الى توليه، علامة على دوران النزاع على نفسه، وعوده على بدئه من غير منفذ الى دائرة أوسع في الحلقة الضيقة التي تتآكل القوى المتنازعة والمتنافسة فيها. وآية الدوران هي توزيع عبد الرحمن عارف نيابة رئاسة الوزارة على خمسة نواب هم طاهر يحيى (البعثي السابق) وعبد الغني الراوي (الاسلامي النازع) واسماعيل مصطفى (العراقوي والعقيلي الولاء) وفؤاد عارف (الكردي). وكانت حكومة ناجي طالب حاولت الاستقواء بزيادة مواردها من شركة النفط، ومن عائد رسوم نقل النفط الى موانئ المتوسط من طريق الاراضي السورية. فامتنعت الشركة من تلبية حاجة الحكومة الحيوية من الباب الريعي الوحيد الذي في متناول الطاقم الحاكم، «القومي» و«التقدمي»، طرقُه بعد إغلاقه الابواب الاقتصادية والسياسية الاجتماعية الاخرى، وهي أبواب حاول عبد الرحمن البزاز إبقاءها مشرعة على موارد غير الموارد الريعية وأخفق.
الريع الوطني والعصبيات الرثة
وعندما امتحنت حرب حزيران (١٩٦٧) الجزء العراقي من «العالم» العربي وعلى الاخص مشرقه، ألْفت دولته متصدعة وعاجزة عن خوض حرب إقليمية معقدة. فوسع سلاح الجو الاسرائيلي ضرب اللواء الثامن المؤلل العراقي وهو في طريقه الى الجبهة الاردنية. وظهرت علناً انقسامات العسكريين الشخصية والعصبوية والسياسية، وآثارها في ضعف الاحتراف والتنسيق والتخطيط. وظهر العسكريون في صورة جماعة على حدة، تتمتع بامتيازات باهظة في ختام مطاف استيلاء على مرفق القوة المشروعة في الدولة. و«حرر» الاستيلاء الجسمَ العسكري من أبنية دولة متهافتة تركتها الانقلابات وصراعات الكتل الحزبية المحمومة عليها، خاوية معلقة وبعيدة من مطال قوى سياسية واجتماعية فاعلة. فهذه أصابها، بدورها، الهزال. وحولها أجهزةَ اقتتال على مفاتيح المواقع والوحدات العسكرية وقياداتها. فيروي صالح عمر العلي، وهو يومئذ عضو قيادة قطرية «ثانوي» (على ما يقر) أن البعثيين عقدوا، في ١٩٦٧، مؤتمراً دعت توصيته البارزة الى انشاء «جبهة قومية شعبية واسعة ترد على الهزيمة». فترجم الحزبيون الدعوة «الجبهوية القومية (و) الشعبية» «عملاً حزبياًَ تنظيمياً على الجانبين المدني والعسكري». وفحوى الانتقال من الجبهة العريضة الى التنظيم الحزبي الخاص، أو من الخط السياسي الى «التفعيل» التنظيمي، هو، على قول العلي نفسه، «نسج (علاقة) حلف بضباط يحتلون مواقع حساسة»، وعلى وجه التخصيص «داخل بغداد»: في إحدى فرق الحامية أو في إحدى فرق الحرس الجمهوري... فتتداول الفرقة (الخلية) في اجتماعاتها اسم من يقترح ترشيحه ومراقبته وضمه الى الجسم الحزبي، وتعبئته الانقلابية المتحفزة، وموقعه أو أصله وفصله ومن يصلح واسطة اليه من عشرائه وخلطائه وأصهرته. وهذا النهج قاد الى سعدون غيدان، أحد ضباط القصر الرئاسي، والى ابراهيم الداود (خال غيدان)، الواسطة، الى عبد الرزاق النايف، معاون مدير الاستخبارات و«وجه» انقلاب ١٧ تموز ١٩٦٧ ورئيس وزرائه طوال ١٣ يوماً قبل اغتياله في منفاه اللندني (عن «الحياة»، المصدر المذكور).
وتفادياً لاحتدام المنازعات والخلافات، غداة حزيران (١٩٦٧) والخسارة التي نزلت بالفرقة العراقية، عهد عارف الى «أقوى» نوابه الخمسة، طاهر يحيى، برئاسة حكومة جديدة أعلن الضابط المكلف لائحتها في ١٠ تموز. فقصر التوزير على «سياسيين» وناصريين وقوميين مستقلين. واستبعد البعثي السابق البعثيين المتحفزين، و«التقدميين» (المقربين سابقاً من الشيوعيين وعبد الكريم قاسم) والعراقويين واليمينيين الخبراء المتحدرين من عائلات «قديمة». ولا يستقيم تجديد يحافظ على بعض اللحمة السياسية بين أفرقاء يتربص بعضهم ببعض، وينتظر فرصة الاجهاز المؤاتية عليه، إذا لم يلب بعض الحاجة الى موارد ريعية و«وطنية» طرية تسد بعض نفقات السيطرة المتعاظمة. وعثر خيرالدين حسيب، الخبير المالي والناصري «المستقل»، على الإكسير المنشود. فأشار بتحويل حقوق استثمار حقول الرميلة الشمالية النفطية الى شركة النفط الوطنية، وحرمان الشركة الانغلو – أميركية (العراقية) منها، وبدعوة شركة «إيراب» الفرنسية الى التنقيب عن النفط في مساحة تبلغ ١٠٨٠٠ كلم مربع. وتعهدت موسكو إزجاء خبراتها في الحفر والتسويق، على طرفي عملية الاستخراج من دون قلبها. وعادت بيضة القبان في العملية الى فرنسا الديغولية وديبلوماسيتها «العربية». ومن تولى العمل المزدوج: تعظيم الموارد الوطنية واستعادتها من الايدي الاجنبية المتسلطة والانانية، وجزاء السياسات الغربية المستقلة عن الغلبة الاميركية شراكة في امتياز استخراج الثروة – هو «حكومة العفترة»، على ما سميت وزارة طاهر يحيى. وهي جمعت وزراء عسكريين ومدنيين يدينون بمكانتهم ونفوذهم، وبعوائدهما، الى تحدرهم العصبي من بلدات او مدن عانة والفلوجة وتكريت وراوة وهيت (على التوالي: ع ف ت...). والتلقيب هذا كَنَى عن عموم الفساد وانغماس كبار الضباط والنافذين فيه، وعن عموم الخروج على القانون وضلوع أهل القوة و«الدولة». فالتبست خدمة أصحاب المصالح الريعية والصنفية المستولية على الدولة والمجتمع بالقوة والقسر بانجاز بنود سياسية وسمت بـ«الوطنية» و«الشعبية» و«التحرر»، وحملت على «التقدم الاجتماعي» وتوزيع عوائد «الثروة الوطنية» على الطبقات الكادحة والطبقات الوسطى.
ولم يفت هذا، بديهة، البعثيين المتربصين بالحكم، وهم شركاء في صنع الالتباس و«تعميقه»، إذا جاز القول. وكانوا صرفوا السنتين والاشهر الثلاثة الى إعداد انقلابهم المزدوج. وزجوا في الفصل الاول من الانقلاب «حلفاء المصادفة»، على ما سموهم. وهم الضباط الثلاثة الذين تقدمت رواية صالح عمر العلي فيهم: عبد الرزاق النايف وابراهيم عبد الرحمن الدواد وسعدون غيدان، على رأس الاستخبارات العسكرية والحرس الجمهوري وكتيبة دبابات الحرس. وهؤلاء اقتسموا تنفيذ الانقلاب ومهماته، وهي الاطباق على عبد الرحمن عارف في القصر الجمهوري، واحتلال مبنى الاذاعة، ودخول وزارة الدفاع. وإذا قنع البعثيون بـ٨ وزراء حزبيين من ٢٦ وزيراً في الوزارة الاولى، حرصوا على أن يشغل محازبون رئاسة الاركان وسلاح الطيران (حردان التكريتي) ووزارة الداخلية (صالح مهدي عماش) وقيادة الحرس الجمهوري العتيد (سعدون غيدان، وهو «تقريباً» محازب، على قول بطاطو). ولما ظهرت بوادر الشقاق بين كتلة البعث و«حلفائها» الظرفيين، وعمد «الحلفاء» الى دمج صحيفتي «الثورة» و«الجمهورية»، وهذه كانت بيد البعثيين فطردوهم منها ومنعوهم من الاذاعة، أمر رئيس الاركان الجديد بإجراء تنقيلات واسعة في مناصب الضباط، في غياب الداود وزير الدفاع الجديد بالاردن ٣ أيام كاملة عن وزارته، و«جدد» استمالة سعدون غيدان وحرسه ودباباته، ورأَّس ضابطاً تكريتياً هو حمّاد شهاب على حامية بغداد وعلى اللواء المدرع العاشر. وفي ٣٠ تموز، دخل اللواء العاشر بغداد، واحتل مواقعها المتحكمة في مرافقها ووظائفها وأمنها. فانفرد البعث بقمم الدولة وبالرئاسات، وهو كان نصَّب أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية خلفاً لعبد الرحمن عارف، وأخرج منفِّذ الاستيلاء وواجهته، عبد الرزاق النايف، ووزراءه وأولهم الداود من مناصبهم وعَزَلهم.
الطغمة والاستتباع
وفي أثناء الـ١٣ يوماً الفاصلة بين ١٧ تموز وبين ٣٠ منه، لم يغادر طيف المورد النفطي المسرح المضطرب والمتدافع بالادوار. فلوَّح ضباط القصر، على ما سمي النايف والداود وأنصارهما، بعزمهم على إلغاء عقد «إيراب» وحقل الرميلة الشمالية وحق التنقيب فيه الى الشركة العراقية «آي بي سي »، وبنيّتهم منح شركة «بان اميركان » امتياز التنقيب الحصري عن الكبريت. وينقض الاجراءان، إن صدقا، ركناً من ركني الاستيلاء العصبي على الدولة العراقية هو تعظيم موارد الدولة الريعية، والانفراد بها وبتوزيعها في سبيل تقوية «عصبية الدولة» (على معنى أنصار حلقة اصحاب الامر الضيقة وأجهزتهم التي يوظفون فيها مواليهم). فمن طريق هذه الموارد مولت الطغمة الحاكمة البعثية الصدامية لاحقاً استتباع المرافق والدوائر الاجتماعية والاهلية بعد تصديعها، وشراء ولائها عنوة، وحشرها في «جيوش» الموظفين الجرارة والعقيمة. ويخالف الاجراءان الاجماع الوطني العروبي والتقدمي الذي أرست عليه السياسة الناصرية، منذ تأميمات ١٩٦١-١٩٦٢ وإنشاء الاتحاد الاشتراكي في خريف ١٩٦٢ وتوثيق الحلف بالاتحاد السوفياتي، نهجها ومواثيقها. وهما يعرقلان، على اضعف تقدير، سيرورة إنشاء «الدولة»، أي الكتلة المستولية بالقوة العسكرية النظامية والحزبية، «عصبيتَها» العريضة وسندها الاجتماعي ويقطعان الموارد المادية الضرورية عن السيرورة والقائمين بها. فتخسر الحلقة المستولية ركنها المدني والاهلي والحزبي ووسيلتها الى السيطرة على آلتها العسكرية، الى خسارتها شعارَها (قميصها، لغة) الايديولوجي الذي يدرجها في باب حركات التحرر الوطني والاجتماعي من الاستعمار والامبريالية «الغربيين» و«الرأسماليين». وشعارها هذا يطل بها، وبخليطها المجتمع من طلاب وبطالين ومسرَّحين وَسقْط عشائر محلية، وهؤلاء ليسوا «كتلة» اجتماعية وبالأحرى «تاريخية»، على آفاق التاريخ العالمي العريضة والاسهام في صنعها بحسب «وعد» لم يقتصر على جهاز الدعوة والتحريض والتضليل السوفياتي أو الماوي الصيني. وهو (الشعار) ينصبها فاعلاً متصدراً وجامعاً شرائط القيادة الوطنية بل القومية الانسانية المشروعة والمستحقة من غير منازع، على ما افترض البعث (العفلقي) في أثر حركات الاصلاح والتنظيم والنهوض في «العالم» العربي الحديث. ويسوغ، اخيراً، سياقة الحوادث المتعاقبة منذ «الثورة» العامية «الشعبية» على النظام الملكي القديم، وباشواته وأعيانه وكبار ملاكيه وسراكيله، ويقر عصبية البعث المستولية على ختامها هذه السياقة وإبلاغها غايتها ومحجتها.
الحزب «التكريتي» العامي
وكان الحزب المستولي أعد العدة للمهمات والادوار التي نصب نفسه لها ولتوليها، في ضوء إخفاقه في تثبيت استيلائه في شباط ١٩٦٣ الى تشرين الاول – تشرين الثاني من العام نفسه (رواية الانقلاب مفصلاً في الكتاب ٣، ف١٨، ص٢٨٩-٣٠٧، ثم وقائع «النظام البعثي الاول»، الكتاب٣، ف٢٠، ص٣١٧-٣٣٩)، وفي ضوء نزاع ١٩٥٩ بين القوميين والشيوعيين (٣،٩، ١٧٩ – ٢٠٠). ولا يتردد حنا بطاطو في ربط حلقات انفجار العنف الواحدة بالحلقة السابقة فيكتب ان عنف ١٩٦٣، حين استيلاء البعث على الحكم والانقلاب على عبد الكريم قاسم، «مصدره» عنف ١٩٥٩ الذي مر التنبيه اليه للتو. وهذا مصدره مزدوج: عنف السجون الملكية في ١٩٥٣ (في حق الشيوعيين على الخصوص) و«العنف القبلي والعرقي» (ص ٣٠٦-٣٠٧ من الكتاب نفسه)، من غير تخصيص او توقيت، تضرب جذوره في زمن قديم ومتجدد هو زمن العلاقات القبلية والعرقية.
تظاهرة للحزب الشيوعي العراقي، بغداد، ١ أيار ١٩٥٩
فتعاظم نفوذ الضباط السنة التكارتة (أهل تكريت) في حزب البعث المقصي من الحكم غداة ١٩٦٣ مشتتاً، ومنقسماً على نفسه، ومتحارباً. وقويت الرابطة العصبية، العشائرية والمحلية واستطراداً المذهبية، على الرابطة الحزبية، السياسية والايديولوجية. وتصدّر القيادة الجديدة، وهي قامت على أنقاض القيادة «الشيعية» التي اخفقت في تثبيت الاستيلاء على الحكم، حزبيون، عسكريون ومدنيون، من الطينة الاهلية نفسها. وبرز اثنان هما أحمد حسن البكر وصدام حسين، من تكريت. وينتسب الرجلان، وبينهما فرق سن يبلغ ٢٣ سنة (ولد البكر في ١٩١٤)، الى عشيرة البويات من قبيلة البوناصر. وهذا النسب، المتواضع قياساً على أنساب عشائرية وقبلية عراقية أخرى، ينكره بعض الحزبيين السابقين، مثل صلاح عمر العلي أو مهدي حيدر (صاحب «عالم صدام حسين») على الرجلين اللذين ثارا لإخفاق تشرين الثاني ١٩٦٣. فينفون عن البوناصر والحديثية (أهل حديثة)، وغيرهم ممن يسمونهم «أهل الشقاوة» و«القبضايات القساة» بل «السرسرية» (الرعاة والدهماء) شأن التكارتة، الانتسابَ الى عصب قح أو صريح، هو قرينة مرتبة رئاسة ومكانة. وينزلون البكر وصدام وحردان التكريتي ومهدي صالح عماش وعشرات غيرهم مثلهم، منزلةَ «الدخلاء» على الحزب، ومنزلة أهل الضواحي والظواهر على البطحاويين، أهل وسط المدينة وأصحابها، وذلك على رسم عربي، دموي وحزبي بطولي، ضعيف الصلة بوقائع القرابة وملابساتها- على ما ذهب إليه هنري لامنس اليسوعي الفرنسي في كتابه في مكة والمنازعات التي اكتنفت دعوة محمد بن عبدالله بها. وتربط الاثنين واحدهما بالآخر رابطة قرابة: فصدام حسين «ابن بالتنشئة» لخيرالله طلفاح، خاله ووالد زوجته أو عمه معاً. وخيرالله طلفاح هو ابن عم أحمد حسن البكر. والرجلان القريبان، وبينهما فرق السن الذي بين الوالد وابنه، عَلَمان على النحو الذي جرى عليه انبعاث الحزب، وعلى مسرح الانبعاث ومادته.
فالريفية، والهامشية الاجتماعية، والتحصيل المتواضع، والعصامية البدوية، والارتقاء من طريق الدولة والإدارة والجهاز الحزبي، ورسوخ علاقة رابطة الولاء (على حديها: الامر والطاعة) على مثال عائلي عصبي (التحامي) وثأري (استتباعي)- هذه السمات والاحوال تبلورت تدريجاً، وعلى مقادير وأنحاء متفاوتة، في ثنايا النزاعات السياسية والاجتماعية المتعاقبة، الاهلية المحلية والوطنية والاقليمية. وكل باب من هذه الابواب، غير الحصرية، برز سمةً من سمات الجماعات العراقية الفاعلة في «اختبار» تاريخي واجتماعي، اقتص حنا بطاطو فصوله المتشابكة قصاً وافياً. فالريفية والهامشية الاجتماعية اللتان غلبتا على البعث الناهض من انقاض ١٩٦٣، وطبعتا الحزبيين وقيادتهم والعَلَمين التكريتين على القيادة، هما من اعراض أطوار صيغت مع الكيان الوطني العراقي، وملكه الهاشمي والحجازي المتملك من خارج (ولكن ليس على خلاف داخل متماسك)، وجهازه الحكومي والإداري، ونفطه الطارئ والمتعاظم في تمويل خزينة الدولة، وتَقوض حِرَفه وانهيار صناعة المراكب والنقل الداخلي، ومصادرة مشايخه القبليين وأغواته عنوة المشاعات القبلية الشاسعة وجمعهم زراعة كفاية ورعي الى زراعة متصلة بالسوق وأسعارها وتقلباتها، وتصدّع جماعاته القبلية وطوائف حرفه وطرقه الصوفية، وهجرة فلاحيه العريضة الى المدن وانخراطهم في الجيش والشرطة والادارات وفي مرافق عمل نشأت تلبية لحاجات أهل المدن الجدد، وتوسع الهجرة وتداعي حلقاتها وبلوغها كتلاً من «فَعَلة» نافسوا من سبقهم على أجورهم وخفّضوها.
وشأن معظم المهاجرين الى ضواحي المدن وعشوائياتها، اعتصم ضعفاؤها برابطة عصبهم. فنزلوا أحياء سبقهم إليها رواد هجرتهم، وساسوها سياسة ذاتية بـ«سوانيهم» وأعرافهم ومراتبهم الخاصة. وعروبة البعثيين العراقيين، وعلى الاخص ضباطهم الآتون من عانة وتكريت، «يدينون» بها الى أسر الشمال العربية، أي البدوية، الى وقت قريب، التي يتحدرون منها، وإلى «خسارة» هذه الاسر دائرة رعيها وتجارتها ومصاهرتها السورية. وتقوم هذه الدائرة، العراقية والسورية، بإزاء القوم الكردي المقيم بجوارها ويتقاسم معها النفط، مقام ركن الدولة الريعية و«الوطنية».
٤- الجهاز - العشيرة - الدولة
فتصدر حزب البعث في صيغته «السنّية التكريتية» (ص٤٠٠ من الكتاب ٣)، عصبية أهلية وعدداً، الجماعات العراقية بالأحرى: الكردية والشيعية والمسيحية، والعشائرية والريفية والمدنية، والنهرية والبدوية والجنوبية والشمالية. وتصدر في صيغته العسكرية والأمرية والريعية والقومية، «الدولة» الوطنية والمركزية العراقية. والوجهان متصلان من غير شك ولكنهما ليسا واحداً. وتخليص الوجه الثاني، السياسي والجهازي، من الوجه الاول، الاهلي والعصبي، وحمله عليه حملاً سببياً واشتقاقياً، يخلان بفهم نزاعهما وفرقهما على رغم تضافرهما. فتنصيب صدام حسين في رئاسة مجلس قيادة الثورة، والإقرار بسيطرته على إدارات الامن الداخلي والاستخبارات العسكرية من طريق مكتب الامن القومي وجماعاته أو عصاباته المتحدرة من الحرس الوطني فجهاز «حنين» الصدامي، وتثبيت احمد حسن البكر، رئيس الجمهورية، السلطة الفصل في الجيش، إجراءات انتظر حسمها عشرة اعوام تامة، من ١٩٦٨الى ١٩٧٨. وبدا يومها انها خاتمة المطاف (ص٤٠٠ من الكتاب الثالث، كذلك). ولكن الحرب على إيران الخمينية بعدها بسنتين، ثم مجرى الحرب وفصولها المتعاقبة (١٩٨٠-١٩٨٢ أو الفصل الهجومي، ثم ١٩٨٢-١٩٨٥ أو الفصل الدفاعي الثابت، ثم ١٩٨٥ – ١٩٨٨ أو الفصل الدفاعي المتحرك)، أظهرا «اختصاص» البكر المفترض بالجيش من مخلفات مرحلة انتقالية أفَلَت. فتقسيم القيادة، ولو بين «والد» و«ابنه»، على حسب تشبيه رابطة البكر بصدام وصدام بالبكر، يخالف نازع القيادة البعثية والعراقية المستولية الى حل «الدولة» في «سيادة الرئيس» فـ«القائد». ولا غرابة في توليد الحرب الطويلة (١٩٨٠-١٩٨٨) والعامة، وخسائرها الفادحة (نحو مليون قتيل في البلدين)، ومدارها القومي والمذهبي على مفصل دائرتين جغرافيتين وسياسيتين ونفطيتين (الشرق الاوسط وآسيا الوسطى) – أبنية «الدولة» الوطنية العراقية وإخراجها الى الملأ، على معنى الإنشاء والإيجاب وليس على معنى الترجمة او النقل.
مثال «الدولة» وحروبها
فدخلت قمم الجهاز العسكري – الحزبي مرحلة تخليص مثال «الدولة» الأنموذجي من أبواب ثلاثة: الجهاز العسكري الحاسم، والهيمنة المنفردة والعامة على الدولة الريعية، والتوسل بالأمرين الى شن حرب أهلية – قومية في الداخل وحروب مركبة أهلية – قومية وإقليمية في الدائرة الاقليمية القريبة. فاستولى الضباط التكارتة على الجيش وقيادته في سياقة طويلة ومتعرجة كان ابتداؤها توسط مولود مخلص النافذ، عضو جمعية «العهد» العربية العثمانية في ١٩١٤-١٩١٥، وزميل نوري السعيد في استانبول، وصاحب المكانة البارزة في ثورة ١٩٢٠، الشريفي الفيصلي ونائب رئيس مجلس الاعيان الملكي، وملاك الاراضي الواسعة في تكريت لقاء خدمته القصر والانكليز... والمتزوج بامرأة تكريتية مثل ابيه الموصلي بالهجرة – لابناء جلدته، ولم تكن خاتمتها الاغتيالات وتصفية ضباط التيارات والاحزاب الاخرى وسد باب الجيش في وجهها.
وأصابت الجيش العراقي، في غضون عقدين غداة ١٩٥٨، موجات تطهير وإقالة وتقاعد قسري أطاحت ثلاثة آلاف ضابط، وأخرجت تباعاً الملكيين، فالعراقويين (بعد مقتل عبد الكريم قاسم)، فالموصليين (١٩٦٦)، فضباط الرمادي أو الجُميليين من انصار العارفيْن، فأنصار عبد الرزاق النايف والداود (بعد ١٩٦٨). وطاول الاقصاء، وغالباً الاغتيال بعد الاقصاء، حلقة الضباط من أنصار حزب البعث وعضده على استيلائه الثاني والاخير. فطرد حردان عبد الغفار (التكريتي) في تشرين الاول ١٩٧٠ من مناصبه القيادية والوزارية قبل أن يقتل في الكويت، حيث لجأ بعد ٥ اشهر. وطرد مهدي عماش في ايلول ١٩٧١. وألحق به عبد الكريم الشيخلي، وزير الخارجية. وقتل وزير الدفاع، حماد شهاب، في حزيران ١٩٧٣، وجرح سعدون غيدان، وزير الداخلية، في اليوم نفسه، بيد العقيد مدير الامن العام ناظم الكزار. وأعدم هذا بعد ١٨ يوماً على محاولة قتله الوزيرين البارزين.
وانتهج الحزب سياسة تقضي بـ«تخريب الجيش» (ص٤١٠) النظامي التقليدي والوطني. فعمد الى تدريب الطلاب الثانويين الحزبيين على عجل، وتنسيبهم الى الجيش، وتنصيبهم ضباطاً وضباط صف. وشَرَطَ إنفاذ أوامر الضباط بموافقة «مفوضين» حزبيين تولوا تأطير الوحدات العسكرية. واشترط على الشيوعيين العراقيين، في اعقاب حملات تنكيل واغتيال واعتقال وتعذيب دؤوبة، في رد على مقترحاتهم الجبهوية والائتلافية «الديموقراطية»، التخلي عن أي نشاط في صفوف الجيش. وخص الحزب المستولي ضباط الجيش البعثيين بشطر ثابت من مقاعد مجلس قيادة الثورة، المترجح العدد. وخصوا بحقيبة الدفاع، وبمنصب حاكم بغداد وإدارة الامن فيها. وولوا غير منازعين قيادات سلاح الطيران وحامية بغداد وقاعدة الحبانية الجوية وكتيبة دبابات الحرس الجمهوري.
واختلط الجيش بالامن والاستخبارات آن كان الحزب يخوض حربين أهليتين، واحدة على الكرد والثانية على المعارضة المنظمة ومعظمها من الشيوعيين. فهو استأنف العمليات العسكرية على كردستان حال استكماله انفراده بمقاليد الحكم. ولكن سَير العمليات خيّب الامل في انتصار وشيك. فاضطر الى توقيع اتفاق مع مصطفى برازاني، في آذار ١٩٧٠. وبعد نحو سنة ونصف السنة حصلت محاولة اغتيال «غامضة» نجا منها الملا، فانهارت الهدنة. وتجددت الحرب بعد ستة اشهر من «المفاوضة» المضمرة والمواربة. ونقلت بغداد النزاع من إطاره «الرسمي» المعتاد، وهو في هذا الاطار نزاع بين كيانين تنوب عنهما قيادتان ويقاتل جيشان، الى طار أهلي وشعبي. فأثارت مسألة كركوك وسكانها وإدارتها، وسعت في «تعريب» السكان أو تغليب الشطر العربي: فأنزلت عرباً أتت بهم من وسط العراق وغربه (من أقاليم حزب البعث وبلاده وقومه)، ورحّلت كُرداً من موطنهم الاصلي الى مستوطنات معظمها في الجنوب العراقي حيث يغلب الشيعة. وآذن ذلك بولادة أو استفاقة مشكلة قومية وسياسية في بؤرة مشتعلة قوية الشبه بهوية أهل الاطراف العالقة، مثل كشمير بين باكستان والهند وقبرص بين تركيا واليونان وقبل هذه وتلك الألزاس – لورين بين فرنسا وألمانيا، تنطوي على فتيل شر أهلي محلي لا يؤمن أن لا يتطاير شرره ويصيب الكتل الاهلية الخلفية. والفتيل لم يطفأ الى اليوم. وخص الدستور العراقي الجديد (دستور ٢٠٠٦) كركوك بالمادة ١٤٠.
وعلى مثال إرادته «حل» المسائل «من المركز انطلاقاً» على قول صدام حسين في كتيّب «أحاديث» نُشر في ١٩٧٥ وكان باكورة إسهامه الفكري والنظري، وهو يعني استئصال عوامل تجددها أو تأريثها، نزل الحزب الحاكم عن شطر من «شط العرب» كان يلح في التمسك به الى حاكم إيران البهلوي، محمد رضا، في ختام مفاوضات طويلة توّجت بإعلان اتفاق في آذار ١٩٧٥. وهو، الحزب الحاكم وعلى رأسه رجله القوي و«الشاب» صدام حسين، صاحب نعرة قومية بدوية على ايران الفارسية والشيعية الامامية، وأحيا مصطلح الشعوبية العباسي وسلّطه على القوم الفارسي وعلى العراقيين الشيعة، من منبت عربي كانوا ام منبت إيراني.
ولكن إخماد الحركة الوطنية أو القومية الكردية، المتجددة والمزمنة، لقاء النزول عن السيادة على جزء من «الارض» في المخاض المائي، تقدَّم الاعتبار السيادي المجرد والبعيد. فالانقسام أو الشقاق في «المركز» تفوق خطورته على الحكم، وعلى مثاله المتسلط «الحديدي»، ضم دولة أجنبية بالقوة حاشية حدودية متنازعة. والقضية الكردية مركبة: فالقوم الكردي يستند الى رابطة دموية أهلية وإقليمية واجتماعية تاريخية ولغوية لا تفل إلا بالإبادة (حمل هذا حزب البعث في المفاوضات التي افضت الى اتفاق آذار ١٩٧١، على الاقرار بحزبين مشروعين وقانونيين هما حزب البعث، العربي، والحزب الديموقراطي الكردي، «القوميان»). وكردستان العراق غنية بالنفط، عصب سيادة الدولة العراقية على رعاياها وجماعاتها وهيمنتها من غير منازعة اجتماعية تكتل اجزاء وفئات من الجماعات. وبلاد الكرد تتقاسم أراضي اقليمية ووطنية متفرقة ومتنازعة. ففي مستطاع البعث السوري، توأم العراقي وخصمه، والحاكم منذ ١٩٦٣-١٩٦٦ في صيغته «القطرية» و«الشعوبية»، التوسل بكُرد «الحزام العربي» المزعوم الى مناوأة بعث بغداد ومناكفته. وفاقم الاستيلاء على لبنان «سخاءه، في ١٩٧٥ -١٩٧٦، فحجب مياه الفرات عن الاراضي العراقية قبل عقدين من مبادرة أنقرة الى تقتيرها على الاراضي السورية وزراعاتها).
وراثة «البقية» الشيوعية
والتصدي للقضية القومية الكردية، و«حلها» من طريق إلغائها بالقوة العسكرية والالتفاف الديبلوماسي والشقاق الاهلي والشعبي، خلَّفا فروعاً سياسية لم يشذّبها الحل المفترض. فحزب البعث المتسلط والمستولي «ورث» من فصول التاريخ العراقي القريب، الفصل الملكي والفصل العراقوي واليساري والفصل الناصري والعارفي المختلط، حركة شيوعية ويسارية وطنية لا نظير لها، هرضاً وقوة وجذور، في البلدان والمجتمعات المشرقية والشرق أوسطية القريبة والجارة. والحركة الشيوعية، حزباً منظماً وناشطاً وجمهوراً اجتماعياً يسارياً ووطنياً ثقافياً، قوية الروابط بجماعتين يناصبهما حزب البعث الحاكم العداء الاهلي والسياسي هما الشيعة والكرد، على تفاوت قوة الروابط وتبلورها.
فالحركة الشيوعية ليست جهاز شيعة العراق، على رغم شركة الاثنين في الجماعة المذهبية الكبيرة، وفي بعض جمهورها. ومن وجه ثانٍ، ليس لشيعة العراق، يومها، جهاز طائفي، على مثال صنعته الخمينية في ما بعد. والجماعة الكردية كانت بمنزلة ملاذ يلجأ اليه الشيوعيون ويستقوون به. فهي ربطتها بالاتحاد السوفياتي، وببعض أطوار «سياسته القومية» وتوسله «حق القوميات في تقرير مصيرها» (ما أُعمل «الحق» في تحطيم الامبراطوريات المتاخمة والمركبة) آصرة متينة. والى ذلك، كانت الجماعات القومية والدينية المتحدة من الملل العثمانية أرضاً خصبة أنبتت للشيوعيين واحزابهم وكتاباتهم وكتابهم ودعاة اضطلعوا غالباً بدور النواة والخطوة الاولى في مسيرها (في الكتاب الثاني، ف١و٢و٣و٤، ص١٧-٨٤، رواية بدايات الحركة الشيوعية، في العراق وشطر من المشرق العربي، لا تلم بالأقوام والجماعات وحسب بل بعشرات «الابطال» واحداً واحداً). فالكرد شعب من غير دولة، ومقسَّم وقلّة قومية، «مستضعفة» على سلّم المراتب السياسية، ومنقسم على نفسه انقساماً اجتماعياً عميقاً. وهذه عوامل احتسبتها الاحزاب الشيوعية الوطنية في عهد الاممية الثالثة الستالينية (الى ١٩٥٣)، ثم في اطار مكتب التنسيق او الكومنفورم (الى ١٩٥٧)، وبقيت عرفاً وميراثاً تقليديين.
وعلى المثال الذي مرَّ وصفه، مد الحزب المستولي الجديد يد الصلح والحلف الى الحزب المنافس والمناوئ الذي باعده منه عنف الموصل في ١٩٥٩ وعنف التصفية والمطاردة في اثناء الاستيلاء الاول (شباط – تشرين الثاني ١٩٦٣). فاقترح على خصمه الشيوعي، المزدوج «قيادة مركزية» و«لجنة» مثلها، غداة الانقلاب مقاعد وزارية قليلة في اطار تضامن القوى الثورية والوطنية بعد حزيران ١٩٦٧. فرد الجناحان ببنود «ديموقراطية» تفترض قبول اقتسام السلطة والنفوذ، والإقرار بافتراق الجماعات واختلافها، وبحقها في اقتسام الموارد العامة والتمثيل السياسي المستقل والاحلاف الوطنية والاقليمية والدولية بحسب التمثيل السياسي على حدة. وعلى هذا، دعا الفريقان الحزب المستولي الى اطلاق المعتقلين السياسيين، وضمان حرية الاحزاب وحكم ذاتي للأكراد، وتأليف حكومة «موقتة ائتلافية ديموقراطية تقدمية».
وبدا أن حزب البعث خطا على الطريق المقترحة خطوة تلاقي الخصم والمنافس العتيد. فعفا، في أيلول ١٩٦٨، عن المعتقلين السياسيين. وقرر عودة الموظفين المطرودين من وظائفهم بذارئع سياسية و«عقائدية». وأجاز عودة الشيوعيين المنفيين أو الهاربين من منافيهم وملاجئهم. وسكت عن حرية العمل الحزبي. وفي أعقاب شهرين على اجراءاته هذه، وهي حملت مئات أو ربما آلافاً من جمهور الشيوعيين واليساريين والتقدميين على العودة الى بلادهم وأسرهم، شن الحزب المستولي على اجهزة القوة والمراقبة في الدولة حملة اغتيالات متصلة طاولت قادة بارزين، ونقابيين ميدانيين، وناشطين متظاهرين. فاغتال «مجهولون» ناصر الحاني، في ١٠/١١/١٩٦٨. وكان «مجهولون» آخرون أغاروا على معمل زيوت نباتية ببغداد، في ٥/١١ أعلن عماله إضراباً فقتلوا شيوعيين من عماله. وعندما خرجت تظاهرة، في ٨/١١، احتفالاً بالذكرى الخمسين للثورة البلشفية في بغداد هاجم ساقتها (أو صفوفها الاخيرة) ملثمون مسلحون بالسكاكين وبقناني الزجاج الناتئة والهراوات فقتلوا ٣ متظاهرين. وأتبع مكتب الامن القومي، في قيادة صدام حسين، القتل والارهاب باعتقالات زجت في السجون عشرات من القيادات الشيوعية، معظمها اختارهم المكتب من «القيادة المركزية». فهذه تجرأت على إنشاء فصيل مسلح صغير تولى عمليات «ثورية» رمزية مثل سرقة (مصادرة) ممتلكات وأموال، أو خطف متنفذين، وذروة الجرأة كانت اطلاق نار على منزل صدام حسين ومنزل صلاح عمر العلي.
وفي السجون، عذَّب السجانون البعثيون المعتقلين الشيوعيين تعذيباً ثأرياً أودى بـ٢٠ منهم، على أضعف تقدير، فيهم قياديان من الصف الاول هما متي هنري هندو وأحمد محمود الحلاق. وانهار عزيز الحاج، أمين «القيادة المركزية» الاول، وخرج على التلفزيون، في اوائل نيسان، ودعا الى التخلي عن العنف. وهو كان رعى القوة المسلحة الصغيرة التي جرَّت عليه، وعلى حزبه أو جناحه، ثأر البعث. وكانت «القيادة المركزية»، نفسها دربت، قبيل الاستيلاء البعثي، خلية مسلحة في هور العموقة، جنوب العراق، ولوّحت بانتهاج طريق «حرب الشعب». وأبدى بعض «القياديين» حماسة «خيالية» للخط الصيني، ولم يبدِه فصيل شيوعي آخر له. فانقلاب عزيز الحاج على الرأي الموشك أن ينقلب «عقيدة» في غضون أقل من الشهرين، قوَّض بعض اركان جناحه. وقطفت السياسة البوليسية البعثية، وهي أمست صدامية في هذا الفصل، ثمرة قمعها العنيف الجناح الشيوعي البارز. فلان الجناح الآخر، «اللجنة المركزية». وقبل عزيز شريف، الامين العام السابق لحركة أنصار السلم، تعيينه وزيراً للعدل، في آخر شهر من ١٩٦٩. وأدى «الوجه» السياسي البارز والمختلط دوراً فاعلاً في مفاوضات الحزب الحاكم والحزب الديموقراطي الكردي الطويلة (في آذار ١٩٧١). وتسليم عزيز الحاج، واستقلال عزيز شريف بسياسته، لم يحصنا الشيوعيين، على اختلاف أجنحتهم وعقائدهم، من عنف النظام البوليسي. فقمع «مجهولون» مسلحون تظاهرة شيوعية خرجت ببغداد في عيد النوروز، في أول أيام ربيع ١٩٧٠، وقتلوا محمد أحمد الخضري، عضو لجنة بغداد القيادية رمياً بالرصاص. واعتقل مئات الشيوعيين في أنحاء العراق، وعذب منهم من عذب، وقتل من قتل، وأطلق بعضهم بعد سنوات قليلة أو كثيرة.
وتجددت في أواخر ١٩٧٠ وأوائل ١٩٧١ الاعتقالات والقتل في اثناء التعذيب وأعمال الخطف والتغييب من غير أثر. وقبيلها بقليل افصح الحزب الحاكم عن اشتراطاته على الشيوعيين، وعلى الحركات السياسية الاخرى ضمناً وفيها الناصريون والقوميون العرب (وهم ٩ منظمات وتيارات أو انشقاقات متناسلة). وهي تقضي بالاعتراف بالحزب المتسلط حزباً - دولة واحداً: «ثورياً وحدوياً اشتراكياً ديموقراطياً»، وقائداً، وقومياً ورائداً على طريق «تحرير كامل فلسطين»... ولا يتم هذا إلا بإنكار الشيوعيين، وغيرهم، أحكامهم، ماضياً وحاضراً، في البعث ودولته وانقلابه وسياساته وأحلافه. وحين وقع أحمد حسن البكر وعزيز محمد، غداة إعدام ناظم الكزار، وثيقة العمل الوطني، في تموز ١٩٧٣، ووُلِّي «الحليف» الضعيف وزارة الري «الاجتماعية» ووزارة دولة فخرية، وأُغضي عن إصداره صحيفة أو نشرة حزبية كئيبة، كان الحزب – الدولة أرسى دعائمه على الانقاض السياسية العراقية، وقوض أبنيتها من غير استثناء: خُنق ما يقوم به العمل السياسي المنظم أو التلقائي، وأُلحقت المادة الجمعية أو الاجتماعية «الاولى» بالمراقبة والمطاردة الامنيتين، وانكفأت الاواصر الاهلية على هياكلها.
«الإصلاح» من غير مترتباته
والحق أن طموح حزب البعث لم يقتصر على الاستيلاء على «الدولة»، والاستقرار فيها، والانفراد بمواردها وتصريف اداراتها المتفرقة وإثبات جدارته بهذا الموقع. فهو اعتقد، أو اعتقدت قيادته «الشابة» اعتقاداً ثابتاً وجازماً بأن الاستيلاء على اجهزة القوة والتدبير، وعلى الموارد، مرحلة على طريق انجاز او انعطاف تاريخي حاسم. وسحقُ القوى السياسية الاخرى والمنافسة ما أمكن، بعد أن استأصلت الانقلابات المتعاقبة منذ صيف ١٩٥٨ «الطبقات القديمة ودولتها وأركان الدولة الاجتماعية، هو من مقدمات الانعطاف او الانجاز المتوقع والمأمول. فقيادة حزب البعث العراقي، شأن معظم الحركات التي تبلورت مناهجها ومبانيها في العقد السادس من القرن العشرين، وعاصرت تصفية إرث السيطرة الاجنبية المباشرة على بلدانها وبروز الاتحاد السوفياتي قطباً دولياً نافذاً، حملت أبنية الحكم والسلطة على «بناء قومي» لا يستقر ولا يتماسك ويدوم إلا برسوه على قواعد اجتماعية واقتصادية متينة وراسخة. ويقضي إرساء «البناء الفوقي»، أو الدولة الوطنية المستقلة (في قيادة حزب طليعي) والمبادرة الى ضمان الاستقلال الاقتصادي على أسس «التراكم الاولي» والتصنيع المركزي والزراعة «التعاونية»، بجمع الموارد كلها بيد أجهزة الحزب، والجهاز المهيمن على الاجهزة. وجمع الموارد يفترض حرمان القوى الاخرى، السياسية الحزبية والاجتماعية المتملكة، من مواردها، المادية والمعنوية أو الرمزية (الرابطة الدينية المذهبية والرابطة الثقافية أو الرابطة العصبية...). وما بقي من مقومات انتاج أو توزيع أو إدارة أو تداول، مستقلة عن المركز وآلاته، رآه المركز خروجاً عليه وعدواناً. وعلى هذا، افتُرض في «الاصلاحات» الزراعية المتفرقة والمختلفة المسير في طريق تفضي الى انشاء طبقة من متوسطي المزارعين وصغارهم، تجزي الفلاحين على انخراطهم في التحرر من سطوة كبار ملاكي الارض في الداخل، وتجنُّدِهم في الحرب الوطنية على المستعمر الغاصب و«عملائه»، وتُبوئهم المكانة التي تعود لهم في جبهة ديموقراطية اجتماعية. فكان أن تفرق المزارعون والفلاحون «الجدد»، وتبددوا من غير رابطة ولا آصرة. فإما عاد الملاكون القدامى أو التجار الذين حلوا محلهم (على المثال المصري)، وإما هجر المزارعون الارض الى ضواحي المدن وأريافها وأرباضها، وتركوا الارض مواتاً (على المثال السوري ).
فقادت «الماركسية الموضوعية»، على ما سمى بعضهم المذهبَ السوفياتي في «الطريق اللارأسمالي الى الاشتراكية» و«مقالات النقض على الامبريالية» (مكسيم رودنسون)، قيادة البعث الى اجراءات اجتماعية أو «طبقية» راديكالية. فأقرت ، في ١٩٧٣، قانوناً يحظر طرد الفلاح من أرضه تحت أي ذريعة أو عذر، ويثبته في ملكه، ويحول بين الملاّك السابق وبين التقاضي متعللاً بسوء تطبيق القانون. وأتبعت الاجراء القاطع هذا بإلغاء حق المالك في الاحتفاظ لنفسه وأسرته بأفضل قطعة أرض. وخفضت الحد الاقصى للحيازة الزراعية الى ٤٠ دونماً في الاراضي الخصبة والمروية، و٢٠٠٠ في الاراضي القاحلة والصحراوية أو شبه الصحراوية. وألغت تعويض الملاكين عن الاراضي المصادرة، ومعه ديون الفلاحين الى صندوق الاصلاح الزراعي أو الى الملاكين القدامى. وتوجت قيادة حزب البعث الاجراءات القانونية بإجراءات اقتصادية وإنشائية مكملة: فخططت لكهربة ٤٢٠٠ قرية، واستصلاح ٤ ملايين دونم، وإنشاء أسواق شعبية تباع فيها منتجات الارض من غير وسطاء. وقضت بدعم الخزينة العامة سعرَ الخبز الثابت، وتخفيضَ أسعار الآليات الزراعية والاسمدة الكيماوية. وزادت الحد الادنى للأجر اليومي، في الريف والمدينة، من ٤٥٠ فلساً الى ٥٥٠ (فإلى ٦٥٠ فلساً في ١٩٧٤، و٩٠٠ فلس في ١٩٧٦، و١١٠٠ فلس في ١٩٧٧). واستنّت قانون تأمين أو ضمان اجتماعي نصت بعض مواده على تسديد تعويضات إعاقة. وتواقتت هذه الاجراءات المتصلة، ويقتضي تمويلها موارد كبيرة يقع معظمها على عاتق الدولة وشطر منها يضعف «القاعدة المادية» لنفوذ ملاكي الارض، مع حملات إرهاب الشيوعيين وخنقهم والتلويح بالحرب على الكرد أو خوضها. ويغلب الوجه السياسي والظرفي منها الوجه «الاستراتيجي» الذي يترتب عليه بروز قطب اجتماعي جديد يضطلع بدور فاعل في الانتاج، وفي الموازين الاجتماعية والسياسية. فهي قصدت الى الحؤول بين الجماعات السياسية المعارضة والمناهضة وبين توسلها بالاحوال الاجتماعية المتردية والقاسية الى تعبئة «الجماهير» و«الطبقات الكادحة». وهذا جزء من الوصاية الصارمة «الطليعية» والفوقية التي أوكلتها الاحزاب المستولية على الدولة الوطنية الى نفسها، وأقرت لها بمشروعيتها واستقامتها العملية «الكتلة الاشتراكية» أو السوفياتية، ولم تكذبها السياسة الرسمية الماوية أو تنكرها.
مراكمة الريوع... وأهلها
ودعت أثقال هذه الاجراءات على الدولة الحزبية الساعية في الهيمنة العامة على «عيالها» ورعاياها المواطنين، دعت الدولة الى سد حاجاتها المتعاظمة الى موارد لا تدين بها الى انتاج المواطنين المنتجين والعاملين بالغرْف من عوائد النفط الريعية في المرتبة الاولى. وكان التأميم، أي استحواذ جهاز الادارة على الملكية والانتاج والتوزيع والعوائد، صار، في الاثناء أي في العقد السابع، سياسة لا خيرة للسلطات الوطنية والشعبية و«الديموقراطية الاجتماعية» فيها، وفي انتهاجها. وفضيلتها الراجحة هي تلبيتها حاجتين متضافرتين: حاجة الطاقم الحاكم والمستولي الى ريوع ثابتة تموّل استقلاله عن السيطرة الاجنبية وعن الموارد الداخلية والاجتماعية (التي ينتجها المجتمع) معاً، وحاجة السكان الى مورد أو عائد مباشر يقيتهم ويقوم بحاجاتهم الحيوية، والى مرافق عامة حيوية مثل التعليم والطبابة والمواصلات والاتصالات.
وأجمعت كتلتا الحكام المستولين والمحكومين الرعايا على التأميم، والتباس أغراضه وأدواره. وحال العراق في النصف الاول من العقد الثامن قرينة قوية على الالتباس، من وجه، وعلى الاضطرار، من وجه آخر. فما إن تعمدت الشركة «العراقية» تقليص الانتاج السنوي من ٥٧ مليون برميل الى ٣٠ مليوناً، اقتصاصاً من تشغيل حقل الرميلة الشمالية في رعاية سوفياتية وملكية الدولة، في نيسان ١٩٧٢، حتى بادر الحزب الحاكم الى تأميم الشركة الاجنبية في حزيران من السنة نفسها. فاستبق، هو ومعمر القذافي، «الاضراب» النفطي في تشرين الاول ١٩٧٣ وموازاة الحرب المصرية والسورية – الاسرائيلية. ومضى حزب البعث على سياسته النفطية الى ١٩٧٥، واستكمال سيطرته على موارد يحتاجها في وجوه سياسته وسيطرته كلها. وتشغيل حقل الرميلة الشمالية، من طريق المساعدة السوفياتية، حلقة من حلقات تعاون في صناعات زراعية مثل الاسمدة والفوسفات أو تجهيزية مثل الكهرباء وخطوط نقلها ومصفاة تخزين النفط المستخرج، وفي التجهيز العسكري. ولا ريب في ان النهج «القومي» والهجومي المتشدد الذي انتهجه الحزب العراقي في المسألة الفلسطينية، ثم في المسألة الايرانية، والمسألة الكردية الداخلية، فالعلاقات بالخليج ودول ضفته الغربية وبالشيعة العراقيين والكرد مرة أخرى – يدين بمسوغاته وجوازه العملي الى إحكام قبضته على «حياة الناس» (بطاطو، ص ٤٣٣، ك٣، فصل «الخاتمة»).
وانغمس الحزب – الدولة (– المجتمع الظاهر من دون المجتمع العميق) في حروب الداخل والخارج. وأنشأ أجهزة سيطرته وغلبته من طريق توسع عددي هائل ومتفاوت المراتب والنفوذ، مولته الموارد الضخمة التي جناها الحزب الحاكم من موجتي زيادة اسعار النفظ وقفزتها في ١٩٧٣ و١٩٧٨. فحين انقلب الحزب على عارف الثاني، في صيف ١٩٦٨، كان عديد الجيش العراقي يبلغ ٨٠ ألفاً أو أقل بقليل، ويبلغ سكان العراق ٨.٥ ملايين. وعلى هذا، من كل ألف عراقي، من الاعمار كلها ومن الجنسين، كان ثمة ١٠ عسكريين. وفي أثناء عقد واحد من السنين زاد عديد الجيش ٣ أضعاف، حين زاد عدد السكان أقل من الثلثين (١٣.٥ مليوناً). فصار ثمة من كل ألف عراقي ١٨ عسكرياً. فلما مضت ٤ أعوام على ابتداء الحرب العراقية – الايرانية، قفز عديد الجيش الى ٦٠٠ ألف، ونسبة العسكريين من كل ألف عراقي الى ٤٢. وتفوق هذه النسبة مثلها في عهد شاه إيران نحو ٥ أضعاف، ونظيرها البرازيلي ٢٤ ضعفاً (الارقام والمقارنة عن سمير الخليل، قناع كنعان مكية، «جمهورية الخوف»، ١٩٩٠ الموسوم بالفرنسية «الآلة الجهنمية»). وإلى الجيش النظامي، أنشأ الحزب «جيشاً شعبياً» هو «ميليشيا» أهلية وعامية مسلحة قارب عددها، في ١٩٨٢، ٤٥٠ ألفاً الى مليون مسلح. وغداة احتلال الكويت، في ٢ آب ١٩٩٠، هدد صدام حسين بزيادة العدد الى ٣-٤ ملايين. وعشية احتلال التحالف الاميركي – الغربي العراق، لوح الرجل نفسه بمليونين من «فدائيي صدام»، هم بقية «الجيش الشعبي» العتيد بعد أن سمي باسمه القريب من وظيفته الفعلية.
والى العسكريين وخليطهم، جند حزب البعث موظفين في وزارة الداخلية بلغ عددهم، في ١٩٧٨، ١٥٠ ألف موظف. وكانوا قبل سنتين اقل من ١٠٠ ألف بقليل. فجمعت وزارتا الحرب والامن، قبل الحرب العراقية – الايرانية وبعد أن ألقى الكرد السلاح، ٣٦٨ ألفاً، ما نسبته ٥١ عراقياً من الالف وواحد من ٥ عاملين. فإذا ضم الى هؤلاء الموظفون الاداريون بلغ العدد ١.٢ مليون، وهو نصف عديد اليد العاملة في مدن العراق. وفي الاثناء، ١٩٨٤، صار عدد الحزبيين، أنصاراً ومؤيدين، مليوناً ونصف المليون، كلهم «موظفون» يتقاضون مرتبات من خزينة الاموال العامة. والحزبيون العاملون، «النخبة»، يعدون ٢٥ ألفاً ونسبتهم من «أمة» الحزب واحد من ستين. وشطر من موظفي الادارات، ومعظم القيادات العسكرية والامنية، هو من هؤلاء الحزبيين على مراتبهم المتفرقة والمتفاوتة. فتربعت الادارة الحكومية، والادارة الحزبية نواتها العريضة والطاغية، محل القوى الاجتماعية، وظائفَ وكماً. وإذا كانت حصة الموظفين المدنيين من كل ألف عراقي، في ١٩٥٨، ٣ موظفين، فهي بلغت، في ١٩٦٨، ٢٦ موظفاً، أي ٨.٦ أضعاف، قرينة على ابتداء مسير السيطرة الحزبية السياسية على أجهزة الادارة. ورفع حزب البعث الحصة، غداة ٨ سنوات على استيلائه، الى ٤٥ في الالف، فـ٦٣ في الالف عشية الحرب على إيران في ١٩٨٠. فالحزب المستولي لم يسعَ في استمالة «قاعدة اجتماعية» الى صفوفه، وبالاحرى تمثيل هذه القاعدة، بل صنعها بيده وسوّاها. وصرف على صنعها موارد الدولة في أعوام البحبوحة والنفط «الغالي»، وبددها على هذا الانفاق الذي لا يمت الى «التراكم الاولي» بسبب، على خلاف رأي بطاطو في المسألة (ص٤٤٨ من المصدر نفسه).
وبينما عمد الحزب المستولي الى إلغاء قسمة المجتمع والدولة وقيام المجتمع بإزاء الدولة – وهما (القسمة والقيام) ركن تقييد السلطة وخروجَها من «الاهل» – نشر التعليم وقلّص الاميين من ٣ أرباع العراقيين الى اقل من نصفهم. وأقبلت النساء على التعليم، وعلى العمل من بَعد، من غير معوقات. وغلبن على مهن مثل الصيدلة وطبابة الاسنان. وناط الحزب بهيئات قضائية، وباللجان الشعبية (أي الحزبية، شأن «الجيش») الوصاية على بعض الاحوال الشخصية التي كان الاهل أو العشيرة، يبتونها في ضوء الاعراف والاحكام الفقهية. وأضعفت الهيئات القضائية واللجان الحزبية الابنية الاجتماعية وأعرافها المتوارثة. وسعت في تقليص سطوتها على الاهالي، وفي بلورة مدوّنة «وطنية» ومشتركة.
وحين استقر الحزب غداة الحرب العراقية – الايرانية، في سدة الحكم قوياً ومنيعاً، وشبَّه على بعض العراقيين، وعلى معظم «المجتمع الدولي» وإعلامه، بلورة وطنية عراقية متماسكة ومولودة من حربه الطويلة على إيران وحرب إيران عليه – حضت صحافة الحزب الرجال العراقيين، أي «فرسان» العراق «النشامى»، الى الاقتصاص من النساء («الماجدات» سابقاً) اللائي يشكون في فضيلتهن (غداة حرب عاصفة امتحنت الاسر) قصاصاً «عادلاً»، هو القتل. ووصف النظام «الخروج عن الفضيلة»، شأنه في وصف الجريمة الوضيعة او العادية، وصفاً سياسياً، فقرنه بالرقابة الدولية على التسلح. فبدد ثمرة نشر التعليم والانخراط في العمل المهني، وجزى بالقتل الخروج والانتهاك الفرديين لمعايير عمل تحتكم الى لحمة الجماعات وسيطرتها على الافراد. فعلى مثال الاصلاح الزراعي الذي مر الكلام فيه، احتسب الحزب – الدولة ( - «المجتمع») من التعليم وعمل النساء وتحكيم القضاء «المدني إضعافها تسلط الابنية الاهلية المحافظة، الابوية والمذهبية الدينية، على شرط ألا يترتب على «التحديث» استقلال طبقات وسطى مدينية بأحكامها وآرائها وسنن جديدة، وولادتها أفراداً لا يؤمن انقلابهم مواطنين «يريدون» – وقد يجتمع منهم «شعب» على غير معنى الشعوبية أو القومية، يمتنع من الالتحام والتكتيل والتوحيد، ويوجب حقه في الانقسام والمنازعة، أي في السياسة.
فإذا كان هذا شأن «بعث صدام حسين»، وعلى مثالات قريبة ومختلفة شأن بعث حافظ الاسد وخالفه وشأن شطر غالب من النظام الناصري المصري وخالفيه، فقد يدعو ما تقدم من اقتفاء أثر، ومن «قصص»، رفع الاقتفاء الى حلقات نسب أسبق، والنزول منه الى الانقلاب «الليبرالي» المعولم على الدولة – الحزب (- «المجتمع»).
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.