العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣

ثورة مغدورة؟

الانتفاضة التونسية، الانتقال الديمقراطي والعنف الاجتماعي

النسخة الورقية

عشية ١٤ يناير ٢٠١١، كان رجل وحيد في شارع بورقيبة يصيح «بن علي هرب!»١ معلنا الانتصار المذهل لثورة. في هذه الصيحة كان يجب الاعجاب بالشعب وحب الحرية والترحّم على الموتى. كان وحيدا في العتمة، في ذلك الشارع الذي سوف يكتسحه جمهور غاضب بعد ساعات قليلة. كان الرجل محاميا، واحدا بين العديد من المحامين الذين دعموا الثورة بكل قواهم.

يوم ٨ فبراير ٢٠١٣، بعد اكثر من سنتين، في مكان آخر من العاصمة، مقبرتها الرئيسة، وقد اجتاحتها الجموع، جموع حزينة وغاضبة، جاءت توّدع محاميا ثوريا آخر، هو شكري بلعيد، المعارض العنيد الذي اغتيل امام منزله.

بين هاتين اللحظتين لم يخرج الشعب ليحتفل بالحرية ولا الصراخ غضبا بصوت واحد. فيما التعبئة تتواصل، حطت على البلد موجة من الاحباط. تعايش شعور بأن الثورة قد غُدِرت مع الاكتشاف المشهود عليه بأن المسار الثوري لا يزال مستمرا. كيف تفسير هذه المفارقة؟

القسم الاكبر من المعلقين رأوا في فوز حزب النهضة الاسلامي بانتخابات اكتوبر ٢٠١١ وجه الخيانة: ان ثورة شباب، مهووسين بالحرية والعدالة قد أنجبت مسخا اسلامويا، محافظا وكارها للحرية حد القتل. وان الانتخابات البرلمانية الحرة حملت الى السلطة خصوم الديمقراطية والحرية.

ولكن يتبيّن من التحليل انه اذا كان ثمة من «غدر» بالثورة فإنه لا يقع بالضرورة في التعارض بين «دينيين محافظين» و«تقدميين علمانيين». ان رد الطرفين على اعقابهما، الذي تعزف على انغامة جوقة اللعبة السياسية الحزبية، يغطّي على الصعوبة التي تواجهها مجموع الطبقة السياسية في الاستجابة للمطالب الشعبية في العدالة الاجتماعية.

تناسي الطابع الاجتماعي للثورة: مجتمع منقسم

اذا كانت تظاهرات ديسمبر ٢٠١٠ ويناير ٢٠١١ بمثابة «المفاجأة» للعديد من المراقبين، فإنها كانت صدى للحظات قوية من الاحتجاج الاجتماعي وخصوصا انتفاضات الحوض المنجمي في قفصة العام ٢٠٠٨. هذه الحركة الاجتماعية الواسعة النطاق التي عبأت العمال وعائلاتهم خلال اشهر طويلة، قمِعت بعنف وسط ذو اللامبالاة شبه الكاملة في سائر انحاء البلد. وثمة لحظات اخرى من الاحتجاج القوي كما في بنقردان في اوغسطس ٢٠١٠، وفي منطقة سيدي بو زيد الزراعية، وفي قاسرين وثاله في غرب الوسط في ديسمبر ٢٠١٠، حتى هذه لم تؤد هي ايضا الى اطلاق «عدوى ثورية». ولكن اضطرابات ديسمبر ٢٠١٠ التي انطلقت من المدن المحرومة في وسط البلاد، التي اعطت الدفع الاول للثورة الشعبية، لم تكن لتختلف كثيرا عن سابقاتها. وهذه تلقى مصدرها عند التقاطع بين نظام من المحسوبية والفساد واسع النطاق والاستعصاءات الاجتماعية التي تمنع الاكثرية العظمى من التنعّم بحياة كريمة لائقة.

واذا كانت مدن الساحل الكبرى (صفاقس، المدينة الصناعية، وايضا تونس العاصمة) قد انضمت الى حركة التمرّد، في شتاء ٢٠١١، فقد تم ذلك بعد ثلاثة اسابيع من الشغب في داخل البلد ولأنه في تلك اللحظة بالذات تقاطعت المصالح لتنتج الاحظة الثورية التي شاهدنا. وقد تم الالتقاء بضغط من المناضلين النقابيين (بما في ذلك بالضد من قياداتهم) وبفضل «فاعلين» اقلويين هم: ناشطون شباب على الانترنت، فنانون واعلاميون ومترجمون ومناضلون مجهولون، ملتزمون بالحرية والتضامن والمساواة - عندما لم يكونوا ملتزمين بالنزعة الفوضوية - الى جانب المشاغبين. وسرعان ما انضمت اليهم المعارضة المسماة ديمقراطية من مناضلي حقوق الانسان ونسويين ومثقفين نقديين.

إذذاك تكشفت اللحظة الثورية الخاطفة عن شعب موحد وملتحم. فساد مناخ جديد خلال بضعة اسابيع، رغم الذعر والخوف اللذين أشاعهما العهد القديم المتهاوي. على ان التفاوت الاجتماعي سرعان ما انبعث من جديد. ففيما كانت القوى الثورية تطالب بالبدء من البداية وبإسقاط اولى الحكومات المؤقتة لدفع العملية الثورية الى المزيد من التقدم (من اعتصامات القصبة وتظاهرات جادة بورقيبة في فبراير، التي افضت الى اعادة فرض حالة الطوارىء، الى مقتل متظاهرين واغلاق جادة بورقيبة على التظاهرات العامة) اخذت أصوات متزايدة تنادي بالتهدئة والمساومة. كان يجب التزام الاعتدال، والسير البطيء، والامتناع عن رفض كل شيء بالجملة. ما دام الطاغية قد غادر هو وأقرباؤه، يجب المحافظة على لون من الاستقرار لعدم الاساءة الى سمعة البلد والى حسن سير الاعمال، الخ.

ونما خطاب «انتمائي» حتى في مزاج التونسيين الناعم والسلمي الذين قادوا «ثورة الياسمين»، ثورة العطور والزهور. فتكاثرت في تلك الفترة، الخطابات الغاضبة ضد تلك التسمية المفوتة، واخذ اهل الداخل يتحدثون احيانا عن ثورة «الهندي» (اي الصبّار) الاكثر تواجدا في مناطقهم من ياسمين الساحل، وبالطبع الاكثر امتلاء بالاشواك.

هذا الخطاب الصادر عن البرجوازية والطبقات الوسطى المدينية سرعان ما اتخذ لهجة الاحتقار الاجتماعي تجاه جميع الذين ينصبون خيامهم في وسط المدينة، عند المدخل الضخم لمدينة تونس القديمة، على جادتها الجميلة المرصوفة بالاشجار، يتكلمون بلهجة فلاحية واضحة. فبعد الاعجاب الاولي بحدث ١٤ يناير الاستثنائي، دبّ الحذر من الثوريين: لعلهم ضحايا لمن يتلاعب بهم؛ ويبدو انهم بعيدون جدا عن المثل العلمانية للنخب المدينية؛٢ (شوهد البعض منهم يصلّي داخل الخيم)، وهم يسيئون التصرّف، الخ. وعبّر هذا الاتجاه «الثوري المعتدل» عن نفسه في النقد القاسي الموجّه الى «الاتحاد التونسي العام للشغل» ولقادتها وفي الادعاء بأنهم كانوا جميعا يقبضون الرشى من النظام السابق.٣ في ٦ مارس انعقد تجمع في «القبة»، وهي المدينة الرياضية في «المنزه»، الحي البرجوازي في تونس العاصمة، بعد سقوط الحكومة الموروثة من عهد بن علي. كان التجمع يحتفل بالثورة، والتضامن الوطني - ولكن مع الحرص على حفظ الفوارق مع سكان «القصبة» الذين يخيّمون في ساحة مبنى رئاسة الوزراء - ومن اجل دعم الغنوشي، رئيس الوزراء المستقيل، الذي اعتبر حسن النية وقد «رحّله» الذين يحتلون حي «القصبة».

مهما حاولت مقالة في الصحيفة الالكترونية «كابيتاليس» الايحاء في عنوانها «القصبة والقبة: معركة واحدة»، لم يكن الامر يتعلق باناس متاشبهين. في «القصبة» يتحدثون بإسم الشعب ويتوحدون تحت شعار «رحلنا الدكتاتور، والان لنرحّل الدكتاتورية»، اما في القبّة فالحديث يجري باسم «الاكثرية الصامتة» وتتعالى الدعوات للعودة الى العمل. هنا العمل والنظافة رمزان، ما يجعل الشباب الثائر المسيّس يعرَّف في المقابل على انه من العاطلين من العمل ومن قليلي الاكتراث بالنظافة، إن لم يعتبروا كسالى وقذرين. وهكذا كنا نسمع باستمرار في «القبة» نداءً توجهه مكبرات الصوت يقول: «لقد علّقنا أكياس قمامة عند جذوع النخلات. لا ترموا اي شيء على الارض. يجب ان نظهر للعالم اننا شعب سليم نظيف وحضاري. هذه هي ثورتنا. وهذه هي روحنا. وذلك هو مثاليا للجيران والاشقاء الذي يحبون بناء الديمقراطية في بلادهم. سوف نثبت للعالم اجمع اننا شعب كريم..»٤

واذا كنت اعود الى تلك اللحظات المنسية بعض الشيء من الاسابيع الثورية التي اعقبت هروب الدكتاتور، وقد تبدو ثانوية، مع انها ظلت حاضرة في ذاكرة التونسيين، فذلك من اجل اعطاء معنى لما يجري التعبير عنه الآن في شوارع تونس. ذلك ان اصوات الاحتجاج الاجتماعي لم تصمت ابدا. فقد احتلت ساحات العاصمة الى شهر مارس، واعتصمت في المصانع، وحاصرت الوزارات، وعادت لاحتلال شوارع سيدي بوزيد في صيف ٢٠١٢، محتجة ومتحدية هذه المرة لا نظام بن علي وانما الحكومة المؤقتة بقيادة حركة النهضة. وقد تجمع هؤلاء تحت شعار بسيط هو شعار الثورة، قبل ان ينطلق شعار «إرحل» النهائي: «عمل، حرية، كرامة وطنية» وقد كانت بعض منوعاته احيانا خلال فصل الشتاء «خبز، ماء، بن علي لأ!».

ويوجد الآن اذاً غضب اجتماعي لا يهدأ. والى هذا الغضب، الذي تصاعد بقوة زمن بن علي، ينضاف مشهد يزداد شفافية من الفروقات الاجتماعية والمصالح المتعارضة بين نخبة ساحلية مدينية وداخل البلاد. في السابق، توجه هذا الغضب ضد الدكتاتورية وهو يتوجه الآن ضد الحكومة القائمة. ان العمال والمياومين والعاطلين من العمل لم يجدوا جوابا على قلقهم ومخاوفهم في ظل الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة. انهم لا يطرحون اسئلتهم البتة وفق مصطلحات تتعلق بالدين وبالحريات وحتى بالدستور. بل يتحدثون عن عدالة وحق ومساواة. ولا تزال المسألة الاجتماعية في صلب المشكلات المطلوب معالجتها وهي الدافع للتعبئة الشعبية، تتجسد بوضوح متزايد في الاصطدام الراهن بين الاتحاد العامل للعمال التونسيين والحزب الحاكم، وقد كانت احدى ابرز علاماته الدعوة الى الاضراب العام (الذي جرى تنفيذه على نطاق واسع) في ٨ فبراير ٢٠١٣. ان دور هذا الاتحاد النقابي في الحركات الثورية التونسية يعاد تقييمه الآن بواسطة دراسات عديدة تبين في اي مدى كان دعمه اللوجستي وحضور مناضليه في الشوارع حاسمين منذ البداية.

«الانتقال الديمقراطي»

ان الاخذ بعين الاعتبار الانقسامات الاجتماعية يبّين ان المجابهة التي اعطيت كل هذه الاهمية في الصحافة الفرنسية بين «علمانيين» و«دينيين» ليست في قلب مشاغل الناس. ليس في الامر رغبة في انكارها: لا شك ان تظاهرات انطلقت لحماية موقع المرأة التونسية. وان ثمة حضورا ظاهرا لشباب اسلاميين متشددين في شوارع تونس ينوون فرض نظام طهراني واصولي. على ان قراءة التوتر الاجتماعي في تونس بمصطلحات انتمائية، وهو ما يفرضه على حد سواء المدافعون عن العلمانية (بما هي خصوصية تونسية وميراث بورقيبي) والاسلاميون (الذين يخفون بذلك عجزهم عن الاستجابة للرغبة الاجتماعية في العدالة) إن هي الا خدعة من الخدع. فبعد انتخابات اكتوبر ٢٠١١ التي شدد فيها الاسلاميون كثيرا على الاضطهاد الذي تعرضوا له في ظل العهد السابق وعلى تقواهم - المفترض انها تعصمهم من الفساد - إذا بهم قد فقدوا فجأة طاقتهم التخريبية: فبعدما تعرضوا للاضطهاد وبعدما قدموا انفسهم بما هم «طاهرون»، ها هم الآن في السلطة. وبدلا من ان يعتبروا ان الثورة هي التي حملتهم الى السلطة يصح القول ان الحدث الثوري وضعهم وجها في وجه امام الواقع.

يوم ١٤ يناير ٢٠١١ بدا ان المفاجأة التونسية تُخرِج تحديدا المنطقة العربية من بديل ثنائي ساد خلال عقود (وخصوصا منذ الحرب الاهلية الجرائرية): إما السلطات القائمة وإما الثورة الاسلامية. في تونس، «البلد الذي لا ضجيج فيه»، حسب عبارة جوسلين دخليا الجميلة، انهار نظام بين علي محدثا دويا عاليا. غادر الرئيس وعشيرته الاراضي التونسية والتجأ الي العربية السعودية - وهي نموذج رائع للديمقراطية العلمانية، لنقل ذلك ونواصل - فيما الجمهور يهتف بشعار غريب dégage (إرحل) امام وزارة الداخلية احد رموز السلطة التي كانت اقبيتها مسرحا، مخفيا بالطبع، لأعمال تعذيب عديدة.

بعد اشهر اعطت الانتخابات الحرة الاولى في تونس الاسلاميين اكثرية (نسبية) سمحت لهم الآن بادارة حكومة (انتقالية ائتلافية) بفضل اتفاق عقدوه مع حزبين آخرين (لتشكيل ما نسميه «الترويكا»). ان المقابلة بين هاتين العلامتين قد تعطي الانطباع بأن ثورة ١٤ يناير حملت الاسلاميين الى السلطة. لكن الاسلاميين لم تحملهم الثورة الى السلطة، انهم فازوا بالسلطة في اطار الانتخابات التي اعقبت الثورة. وقد نجحوا في الفوز بتلك الانتخابات، إذ نقلوا النقاشات الى ارضية الهويات، فيما الأحزاب الاخرى، وخصوصا احزاب اليسار، فشلت في صياغة خطاب مسموع ومتفرّد في الفوضى التي سادت. لم تتوقف الخطوط عن التحرك، حسب الموقع الذي يحتله المرء في هذا الجانب او ذلك من «حدود العلمانية»، والقضايا الدولية (ليبيا، سورية، دول الخليج...) او موقعه من الامة ومما يحددها (عروبة، علمانية، اسلام...). وربما كان اجتياح تلك القضايا للنقاش الديمقراطي هو مكمن احد اشكال «الخيانة».

يجب ان نحفر بمزيد من العمق في اثلام «الانتقال الديمقراطي» وفي تاريخ الحركات السياسية التونسية لفهم البون القائم بين ما كان يمكن مشاهدته في الشوارع من ديسمبر الى مارس ٢٠١٠ ومن ثم الى مارس ٢٠١١. وبين التعبير عن الارادة الشعبية عن طريق صناديق الاقتراع في اكتوبر ٢٠١١. فذلك قد يساعدنا على ان نفهم ايضا لماذا لم تتوقف التعبئات ولماذا مدينة سيدي بوزيد، خصوصا، ومدن اخرى عديدة معها (سيليانا، والكاف...) قد التهبت من جديد في مناسبات عدة، ولماذا الحوض المنجمي في قفصة لا يزال في حالة غليان، الخ.

دور مميز للحركة النقابية

ذلك ان هذا البلد، وهو مهد الحركات الاصلاحية منذ القرن التاسع عشر، لم يشهد تجربة بناء وطني مستقل وديمقراطي قبل العام ٢٠١١. ومع ذلك فالثورة لم تقع في حقل اجتماعي بكر او على ورقة بيضاء. ان الحركة الوطنية والنضال الاستقلالي قد اسهما في تكوين نخب سياسية وادارية. ثم ان عهد بورقيبه الطويل لم يقتصر على الارهاب ولم يمنع نمو حركة نقابية قوية وحركة نسوية لا تزال ناشطة على الرغم من رفع النظام البورقيبي راية القضية النسوية اولا، ليبني لنفسه صورة محرر البلد ومحرر النساء٥ خلفته دكتاتورية بن علي التي وجدت في تلك القضية عذرا مناسبا للارتقاء الى مصاف المستبد الحداثوي وسدٌّ ضد الخطر الاسلاموي. ان ثراء التعبئة وزخم الحركات الاجتماعية شهدا مصيراً متفارقاً: فقد وسما تونس الحديثة بمميزات كبيرة مشهودة (خصوصا العلمنة ووضع المرأة) وهما في الوقت ذاته ضحايا قمع غالبا ما بقي مجهولا خارج البلد وداخله في آن معا.

مطلع سنوات ١٩٨٠، من جراء قمع الحركات النقابية الكبرى والاحتجاجات الناجمة عن اليسار الجذري، اخذت الحركات الاسلامية تحتل مكانها، بما هي العدو الرئيسي للنظام (خلا فترة ١٩٨٧-٨٩) ولكنها كانت في الوقت ذاته حاملة نوع من «الامل الاجتماعي». فبعض السير، مثل سيرة الزعيم الحالي للحزب، راشد غنوشي، الذي كان نقابيا في الستينات من القرن الماضي، وناصريا في شبابه، ماثلة لتذكّرنا بإن المسارات كانت اكثر تعقيدا مما نظن. لم تكن تلك المسارات ثانوية الاهمية لانها تسمح لنا بأن نخرِج معايير التحليل المعاصرة من تبسيطيتها ومن تمييزاتها الآلية، وأشدها تأثيرا تلك التي تجابه العلمانيين والاسلاميين. ولنسيان تلك الحقبة القريبة من التاريخ التونسي اسباب عديدة: اولا عنف القمع واتساعه الذي ضرب الحركات اليسارية من ١٩٦٨ الى ١٩٧٨ في عهد بورقيبه، والذي ما لبث ان ضرب الاسلاميين؛ والتأسيس لتعليم «انتقائي» للتاريخ المعاصر في المدارس والجامعات، حيث البروباغاندا تبع بن علي حلّت محل بروباغاندا بورقيبه؛ اخيرا، في خارج تونس، القوة التي اكتسبتها قراءة تقوم على مفهوم «صدام الحضارات» جاءت تدعّم فهما استشراقيا راسخا للمجتمعات العربية يهمّش على نحو متزايد مكان المجتمع والطبقات الاجتماعية والحركات الاجتماعية.

إذ لوحظ «اختفاء» جيل تقدمي مناضل (في اوساط اليسار الاشتراكي والقوميين العرب) وهو اختفاء كان جسديا احيانا، تبنّى البعض موقفا قَدَريا يعبّر عن نفسه كالاتي: لما كان كل تغيير اجتماعي اليوم في المغرب او الشرق الاوسط لا يمكن ان يؤدي الا الى تسلّم المحافظين للسلطة، سوف نقلب حجة الالتزام الحداثوي الموالي للغرب لنجعل من العودة الى تراث مفترض السبيل الوحيد الى التمرّد والجذرية الثورية والكرامة الوطنية. هذا ينطوي على استخفاف بدور الحركات النقابية والنضالات التقدمية (بما فيها تلك التي كانت تستوحي الفوضوية) في الانتفاضات التي شهدتها تونس ومصر واليمن والتي تتواصل في سورية (ويمكننا ان نضيف في البحرين ولبنان والاردن وغيرها). صار هذا الخطاب مألوفا على الاقل في أوساط النخب المثقفة قبل العام ٢٠١١ في تونس وسواها من البلدان.

منذ العام ٢٠١١، ولفترة وجيزة، بدا كأن التباعد واللامبالاة الاجتماعيين قد تبخرا ليعودا بزخم منذ اليوم التالي لهرب بن علي. ثم ان الحملة الانتخابية لحركة النهضة وانتصارها في الانتخابات انتجت تحويلات اخرى تتجلى خصوصا في تشكيل «نداء تونس»، الحزب الذي يقوده الباجي قايد السبسي، رئيس وزراء الفترة الانتقالية. لم يكن ليتصوّر المرء مثل هذا التجمع للقوى السياسية قبل بضع سنوات، والحال ان الحزب ضم العديد من انصار عهدي بن علي وبورقيبه، مثل السبسي ذاته، وشريحة من اليسار بعد الشيوعي، تحت راية النضال ضد الاسلاميين ومن اجل الدفاع عن الهوية الحديثة لتونس. نلقى في هذا الحزب اناسا كانوا خصوما لفترة طويلة، يشتركون في خطاب يحرص حرصاً شديداً على ان يضع نفسه الى جانب الهوية الوطنية (خصوصا تجاه الخارج) و«التقدمية» والحداثة لكي يتحاشى اتخاذ المواقف من القضايا الاجتماعية والاديولوجية. يضع الحزب نفسه في مواجهة حركة النهضة بما هو مرآتها العاكسة. ان انبثاق قوة كهذه، التي يصعب التهكن بما سوف يكون نصيبها من الاصوات في الانتخابات النيابية، يستظهر اثر «الخيانة الاسترجاعية» الناتجة من الانتقال من حالة ثورية الى اطار جديد من الديمقراطية الانتخابية دون ان تسنح الفرصة لتكوين روابط اجتماعية تُرسى عليها الديمقراطية. إذ لا تزال الصحافة ضعيفة جدا تكتفي باعطاء الكلام للفاعلين السياسيين دون تعميق خياراتهم. والجمعيات حاضرة جدا الا ان القليل منها استحوذ على المسألة الديمقراطية بحد ذاتها (ريما باستثناء الجمعيات التي التزمت بخوض الحملة الانتخابية).

في الوقت الحاضر، وحده العمل النقابي يبدو أنه يقدم علامات استدلال اخرى حيث نلقاه يحتل مكانا متزايد الاهمية في المشهد السياسي البَعد ثوري. في ٢٥ فبراير ٢٠١٢، اطلق السيد حسين عباسي، الامين العام للاتحاد التونسي العام للشغل، هذا التحذير الى حركة النهضة: «انهم يريدون كمّ اصواتنا لكي يقرروا مصيرنا بمفردهم. يريدون زرع الخوف في قلوبنا لمنعنا من الدفاع عن قضيتنا وحقوقنا، ولكننا لن نرضح ولن نستسلم». الى ذلك فإن النقابة اكدت استقلالها الذاتي وتصميمها على النضال «الى جانب المجتمع المدني والشعب التونسي على تنوعه للدفاع ليس فقط عن الجماهير العمالية وانما ايضا وخصوصا عن الجمهورية ومؤسساتها». ولم يكن غريبا ان يكون الاتحاد التونسي العام للشغل القوة الوحيدة في الساحة. انه يرتكز على ٥١٧ الف عضو، وعلى شبكة من الفروع تغطي التراب الوطني كله وعلى تاريخه. ويبدو انه الوحيد الذي يستطيع أن يحشد مثل هذه القوة في وجه الاحزاب الحاكمة.

مساحات للابداع والمقاومة

ومع ذلك، لا يجوز اهمال المساحات الاقل ظهورا حيث الإبداع وإعادة البناء وبلورة المقاومات. انها تقع في مستويات عديدة من المجتمع التونسي. وبالامكان ان نعدد ببساطة لائحة بالمبادرات والجمعيات والمواقع الالكترونية والصحف وانبثاق اشكال تعبئة جديدة، الخ. ان الزخم الثوري قد حرر قوى لم يكن احد يتوقع وجودها، ولكنها اصطدمت اولا بمنطق ديمقراطي اجبر الجميع على الاختيار، ولعب دورا كبيرا في الاحباط السياسي الكبير، وذلك في مناخ من السجال والتوتر الدائمين. ان الطبقة السياسية، التي تغرق في منطق التحالفات والمشاحنات، تزيد تلك الخيبة يوما بعد يوم.

وعلى الرغم من دوي الشائعات والتخويفات، ثمة شيء قد تغيّر وممارسة الضغوط القوية على الحكومة القائمة هو احد الادلة عليه. ولكن ما يجب اخذه ايضا بعين الاعتبار هو الشجاعة الفائقة التي يبديها الشباب الذي نزل الى الشارع في ديسمبر ٢٠١٠ والاسباب الجوهرية لتلك الشجاعة. ان الكبت والغيظ وإرادة التغيير لدى هذا الجيل لم تطفئها نتائج دورة انتخابية واحدة، وإنها لن تخمد بمجرد صفقة «ترضية» مقابل اجراءات سياسية لن تأتي على كل حال.

ان البعد الجذري للتمرد، في مرحلة ما بعد الثورة، يتخذ أشكالاً عدة. يستمر الشبان التونسيون في المجازفة بحياتهم بانتظام: ارادة الخلاص من «لجان الدفاع عن الثورة » وتعبيراتها الاخرى القريبة من السلطة او من السلفية الوهابية؛ والتطوع في سورية في المعركة ضد نظام بشار الاسد؛ والمجازفات الكبيرة في عبور المتوسط بحثا عن حياة بديلة في اوروبا - اي بحثا عن عمل وعن أفق آخر او عن مجرد الشعور بأنهم غامروا ونجحوا. إن التغاضي عن كل هذا يعني الآن، كما في ايام بن علي، عدم ادراك حجم الهزة الاجتماعية الكبرى التي نعيش.

ولكن حتى خارج هذه الالتزامات الاكثر جذرية تستمر وتنبني اشكال من المقاومة تقول ان ما بعد الثورة يجب ان يكون مختلفا عما قبلها: مقاومات فنية في المسرح والرقص - كما في مهرجان «دريم سيتي» [مدينة الاحلام] الذي بدأ قبل الثورة واستمر بعدها في استكشاف اشكال فنية جديدة في التراث والموسيقى الشعبية (وخصوصا «الراپ» والاغاني الاحتجاجية التي ظهرت حديثا والتعبئة التي حصلت حول محاكمة مغني «الراپ» «وِلد الـ١٥» على اغنيته «بوليسيا كلب»)؛ وانماط من التحرك يشارك فيها يافعون لا يريدون اكثر من التصرّف كما يحلو لهم (رقصات «هارليم شيكس»، و«فلاش موبز»)؛ واشكال التعبئة الاكثر اختصاصا تتعلق بالشفافية في العملية الدستورية (اميرة يحياوي وجمعيتها «البوصلة») وفي الاعلام (جريدة «نواة» الالكترونية التي رافقت الثورة، وغيرها من من الصحف) وفي البيئة (حملات تنظيف الامكنة العامة والنصب العامة والشواطىء) وتعبئة النساء (وإن يكن بطرق مشتتة كما تبين من ردة فعل الصمّاء لدى النسويات «التاريخيات» على مبادرة امينة٦ خصوصا في ما يتعلق بالتحرش الجنسي او حالات الاغتصاب؛ اضف الى هذا كله نشاطات «الهاكرز» والتعبئة حول قضايا الحريات؛ وحركات راسمي الغرافيتي وفناني الشوارع. ويمكن الاستمرار طويلا في هذه اللائحة لانطباع قوي يتكوّن عن أنه تتبرعم على كامل التراب الوطني اعمال واحتلالات لا تجري ملاحظاتها احياناً مع أن لها قوة العدوى الكبيرة (مثل رقصة «هارلم شيك») قد تؤدي الى مصادمات عنيفة جدا (كما في قضية امينة) ولكنها تتوزع خارج المركز تدريجيا وتبتكر وتعيد بناء نفسها باستمرار.

ان هذه المساحات الجديدة، المبنية على اشكال متنوعة من التعبئة، هي على صورة مجتمع يستيقظ، وشباب يصقل أدواته المختلفة. يمكنها ان تكون ملتزمة جدا، بل اديولوجية، تفعل فيها تأثيرات متعددة بل متناقضة، ولكنها عادة ما تكون محطّ استلهامات يمكن تسميتها «تجارية متطرفة» (كما في صورة مغني «الراپ» يرفلون في سيارات ضخمة ويحملون الاسلحة، التي غالبا ما ينسخها افراد الميليشيات الاسلامية او في رقصة «الهارلم شيك») او في استلهامات اخرى اكثر نضالية (دعما للانتفاضة الفلسطينية وللاخوة السوريين) او حتى روحانية (حركات العودة الى الدين، والمجموعات المنعقدة لقراءة القرآن). هذه كلها تبلور اخيراً أشكالا هزلية واستهزائية (على طريقة الحركة الناهضة للراهنية situationnistes في الستينات من القرن الماضي) بعيدا عن جدّية الطبقة السياسية التقليدية والمخاوف اللامتناهية التي تعمّمها وتضخّمها وسائل الإعلام المسماة «حرة». وتتخذ هذه شكل رسوم ساخرة (ويليس، زد، والعديد غيرهما) وإعادة ابتكار السياسة في المدن الجامعية والمدارس، مشاركات من جماعة «آنونيموس» الخ.

وكما يقول اعضاء المجموعة السورية «ابو نضارة»: «يجب التصويب عالياً جداً: بل يقضي الواجب حماية الثورة من القناصة والإعلام فكلاهما يشترك في التصويب المنخفض جدا»٧

/Un-cinema-d-urgence.html.

ان تونس الغد مطالبة بالواجب ذاته.

  • ١. http://www.youtube.com/watch? v=k02ZtXNWfRw
  • ٢. وهي مثل تربطها تلك النخب ذاتها بالهوية «التاريخية» لتونس، هوية اسلام اصلاحي، قادر على عقد التسويات والمصالحات مع «الحداثة»، خصوصا فيما يتعلق بوضع المرأة.
  • ٣. اذا كان يصح القول ان حكومة بن علي نجحت في التسلل الى المنظمة النقابية، الا انها استتبعت بالدرجة الاولى القادة وبعض فروع الاتحاد. على ان معظم الفروع ظلت محافظة على استقلاها، وبعضها تشكلت في جبهة معارضة من مثل نقابة معلمي الثانويين.
  • ٤. http://www.kapitalis.com/fokus /62-national/2039- tunisie-la-kasbah-et-la-kobba-meme- combat.html
  • ٥. عن طريق مدونة الاحوال الشخصية خصوصا واعمال رمزية اشهرها حملة «نزع الحجاب» التي مارستها النساء التونسيات علنا في ١٣ اوغسطس ١٩٦٦ خلال عيد المرأة.
  • ٦. امينة صبية في سن الـ ١٩ نشرت على فيسبوك صورة لها عارية الصدر مرفقا بكلمات «جسدي ملكي، ليس شرف احد». اجرت معها محطة «التونسية» مقابلة في برنامج شعبي جدا. فخطفتها اسرتها في الشارع وتم إحتجازها في مصح عقلي بعد تكبيلها بقميص المجانين وحقنها بالعقاقير وانتشار خطاب عام (بما في اوساط النسويات) عن هشاشتها النفسانية وان احتجازها في مصح عقلي هو «لصالحها». وقد نظمت حملة من اجل اطلاق سراح امينة وحمايتها من الهجمات المختلفة التي تتعرض لها الآن. #Free Amina
  • ٧. من مقابلة اجرتها سيسيل بويكس مع مجموعة «ابو نضارة» بعنوان «سينما الطواريء» http://www. laviedesidees.fr
العدد الخامس - ربيع ٢٠١٣
الانتفاضة التونسية، الانتقال الديمقراطي والعنف الاجتماعي

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.