الأحوال الشخصية هي مجموعة ما يتميّز به الإنسان عن غيره، من الصفات الطبيعية، أو العائلية، التي يرتب عليها القانون أثراً في حياته الاجتماعية مثل كون الإنسان ذكَراً أو أُنثى، أو زوجاً أو أرمل أو مطلقاً أو ابناً شرعياً، أو كونه تام الأهلية أو ناقصها لصغر السن أو العته أو الجنون، أو لكونه مطلق الأهلية أو مقيّدها بسبب من الأسباب القانونية.
التعريف السابق مستقى من حكم لمحكمة النقض المصرية في ٢١/٦/١٩٣٤، وقد استوحته المحكمة من القانون الفرنسي الذي يعتبر الأحوال الشخصية «الحالة والأهلية» فقط. إلا أنه وبتأثير الثقافة الإسلامية التي ربطت تاريخياً بين الحقوق الشخصية وبعض الإلزامات الدينية ذات الأثر المادي العيني كالإرث والوصية والوقف والهبة، فقد صار لأنظمة وقوانين الأحوال الشخصية مفهوم أوسع وأشمل. هكذا دخل في منظومة الواجبات والحقوق الطبيعية والعائلية، ما هو من الأمور المادية، وأسند أو تمت إناطة أمر النظر فيها للمحاكم الشرعية (الدينية) أو المدنية التي تطبق قوانين وأنظمة شرعية.
وقد صار ضمن منظومة الأحوال الشخصية عند المسلمين بصورة خاصة: الخطبة ومفاعيلها، الزواج ومفاعيله وأحكامه، الطلاق أو التفريق أو البطلان، والمهر والجهاز (والدوطة) والنفقة والحضانة أو (الحراسة) وضم الفتيان والفتيات أو أوليائهم و(الرعاية) والنسَب والولاية والوصاية والقيمومة والبلوغ والرشد والحجر وأحكام المفقود والوصية وإثبات الوفاة وانحصار الإرث وتحرير التركة والوقف الخيري والذري وإدارته والقيم والوصي.
إن الأحوال الشخصية هي أصلاً متعلقة بحقوق الشخص الطبيعي بحالته وأهليته، وما يتصل بها من حقوق أو واجبات مادية هو الأثر الثانوي غير الأساسي. وعلى فرض وجود صلة عضوية بين الحق الشخصي الطبيعي والحق العيني المادي، فللأول قيمة استثنائية ملتصقة بحالة هذا الشخص وأهليته ولا يمكن بالمبدأ أن تخضع لأحكام وطوارئ الحقوق المادية، إذ إنّ الحقوق الطبيعية الملتصقة بشخص الإنسان لا تقبل التنازل عنها، بينما الحقوق الطارئة والمكتسبة يمكن التصرف بها والتنازل عنها.
كيفما كانت أحكام الأنظمة والقوانين، فهي لا تستطيع تبديل الوقائع الطبيعية كأن تقول بحياة شخص أو وفاته، ببلوغه أو عدم بلوغه، بكونه ذكراً أو أُنثى، أو بكونه عاقلاً أو معتوهاً أو مجنوناً أو أي شيء من هذا القبيل حتى لو أجازت من نظام إلى آخر التعامل مع هذه «الوقائع الطبيعية» بأشكال مختلفة. لذا تنصرف الأحوال الشخصية، مهما تبدلت قوانينها، إلى تنظيم حقوقه وواجباته وعلاقاته الإنسانية وليس ظروفه المادية الخارجة عن كيان الشخص الطبيعي.
إن كل فلسفة حقوق الإنسان انطلقت من هذا الاعتبار القائم بذاته قبل كل ما يطرأ على هذا الكيان الإنساني، والذي هو موجود كقيمة مطلقة في جميع الثقافات الإنسانية ولو تعاملت معه بأشكال مختلفة.
لذا انطلقت فكرة حقوق الإنسان من كون الناس يولدون أحراراً ولهم بهذه الصفة الحق في الحياة والحرية والكرامة والمساواة الخ... ويمكن لأي نظام أو قانون أن يوجد إلزامات للعلاقات الاجتماعية لكنه يكون مناقضاً لهذا المعنى أو لهذه القيمة الإنسانية، إذا تجاوز الحقوق الطبيعية أو الفطرية، أو تلك المستقلة عن الشروط الاجتماعية المتغيّرة.
في ثقافة الأديان هناك اختلاف من دين إلى آخر في النظرة إلى الأحوال الشخصية، وكذلك بين فرق ومذاهب الدين الواحد، فضلاً عن التطور التاريخي الذي غيّر الكثير من أشكال التعامل مع هذه المسألة. ولعل أنظمة الأحوال الشخصية الطائفية في لبنان تعطي صورة واضحة عن هذه الاختلافات التي تخرج معظم الأحكام المعمول بها من دائرة الثبات أو الجوهرانية التي يدّعيها القيمون على هذه الشرائع. فإذا نحن أسقطنا التفصيلية المتباينة باعتبارها أحكاماً صادرة عن إرادات إنسانية متعددة أنتجتها، فإن الشيء الذي يبقى هو الحقوق الأصلية المرتبطة بشخص الإنسان الطبيعي.
ولعل هذا الواقع يتجسد بوجود دول ذات ثقافات دينية مختلفة وقد أخذت بأنظمة أحوال شخصية وضعية (مدنية) ولو أنها ليست معزولة عن الفضاء الثقافي العام لهذه الدول. بل إن الأشخاص أنفسهم يمكن أن يخضعوا طوعاً أو كرهاً لأنظمة متعددة في وقت واحد بسبب إرادتهم أو بسبب اكتسابهم «جنسيات» أو «تبعة» دول مختلفة في آن واحد.
أنظمة الأحوال الشخصية في لبنان
أصدرت سلطات الانتداب الفرنسي القرار ٦٠ ل.ر. في ١٢ آذار ١٩٣٦ تحت عنوان نظام الطوائف الدينية. جاء في هذا القرار أن الطوائف المعترف بها قانوناً كطوائف ذات نظام شخصي هي الطوائف التاريخية التي حُدّد تنظيمها ومحاكمها وشرائعها في صك تشريعي (وفق جدول مرفق) (م١).
ويكون لأنظمتها مفعول القانون (م٢). أما التي لم تحدد بعد أنظمتها فتستفيد من هذا الاعتراف (م ٣) بعد أن تعرض للفحص على السلطة نظامها (م ٤). وجاء في المادة (١٠) (المعدلة بالقرار ١٤٦ تاريخ ١٨ تشرين الثاني ١٩٣٨) ما يلي: يخضع السوريون واللبنانيون المنتمون إلى الطوائف المعترف بها ذات الأحوال الشخصية، لنظام طوائفهم الشرعي في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية، ولأحكام القانون المدني في الأمور غير الخاضعة لهذا النظام.
يخضع السوريون واللبنانيون المنتمون إلى طائفة تابعة للحق العادي، وكذلك السوريون واللبنانيون الذين لا ينتمون لطائفة ما، للقانون المدني في الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية، أما الأجانب، وإن كانوا ينتمون إلى طائفة معترف بها ذات نظام للأحوال الشخصية، فإنهم يخضعون في شؤون الأحوال الشخصية لأحكام قانونهم الوطني.
وجاء في المادة ١٤:
إن الطوائف التابعة للقانون العادي تنظم شؤونها وتديرها بحرية ضمن حدود القوانين المدنية.
وفي المادة ١٥: يمكن لهذه الطوائف الحصول على الاعتراف بها...
وفي المادة ١٧ : إن غير المنتمين إلى إحدى الطوائف المذكورة أو غير المنتمين إلى إحدى الطوائف الدينية يخضعون للقانون المدني.
كما أن عقود زواج السوريين أو اللبنانيين التي تجري وفق طقس إحدى الطوائف التابعة للقانون العادي المعترف بها أو غير المعترف بها تعتبر صحيحة.
وفي المادة ٢٥: إن عقود الزواج في بلد أجنبي تكون خاضعة للقانون المدني..
بعد هذا القانون تقدمت بعض الطوائف بأنظمتها الخاصة إلى المجلس النيابي الذي صدق عليها، وبعضها الآخر لم تقدم أنظمتها (الطوائف المسيحية) إلى المجلس النيابي ولكنها اعتبرت، بحسب قرار لمحكمة التمييز الهيئة العامة (في ١١/١١/١٩٥٥ و ١٣/٢/١٩٦٢)، مشاريع الأنظمة تلك سارية المفعول بكل أحكامها ما دامت لا تخالف النظام العام اللبناني.
بين القانون والواقع
لم تنظم الدولة طائفة الحق العادي أو تقرّ نظام أحوال شخصية مدنياً. إلّا أن ذلك لم يلغ تطبيق هذا النص عبر المحاكم المدنية العادية.
لقد جرى تفسير هذا النص وتطبيقه لجهة الاعتراف بالعقود التي تجري خارج لبنان فتم إخضاعها لقانون الدولة التي جرت في ظل أحكامه (مكان العقد) وتم تنفيذها في لبنان بوصفها عقوداً مدنية وخاضعة للمحاكم المدنية.
أما أبناء الجماعات غير المعترف بها، وهي عدة جماعات خارج الطوائف التاريخية، فخضعت كذلك في لبنان إلى الحق العادي المدني (هناك طوائف ليس لها أنظمة ومحاكم). لكن بما أن اللبنانيين يخضعون لتنظيم أحوالهم الشخصية إلى أنظمة الطوائف وعليه يجري قيد وثائقهم في خانة إحدى الطوائف، فهم بذلك يخضعون لأنظمتها حكماً باعتبار أن القانون نظّم شؤونها. وعليه لا يجيز التقليد السائد عقد زواج بين لبناني ولبنانية غير منتميين إلى احدى الطوائف إلّا وفق أنظمة الطوائف وتحت سلطة محاكمها. غير أن ذلك لا يمنع قانوناً الاعتراف بعقد زواج (مدني) إذا تم بين شخصين لا ينتميان قانوناً إلى أي من الطوائف المعترف بها قانوناً.
انطلاقاً من هذا الحق حصل عقد زواج نضال درويش وخلود سكرية مدنياً بعدما تخلّيا عن انتمائهما قانوناً (أي في دوائر الأحوال الشخصية) لنظام طائفتهما الشخصي دون أن يعني ذلك خروجهما من التزامهما الديني او تخليهما عن إيمانهما. لأن العبرة في التعامل القانوني هي في قيود وثائق الأحوال الشخصية الرسمية لا في الضمائر.
ولا جدال قانونياً في صحة هذا الإجراء، للأسباب التالية:
أولاً: لأن الدستور اللبناني يعتبر حرية المعتقد مطلقة ويستطيع أي لبناني الإعلان أو عدم الإعلان عن هذا الاعتقاد، سواء أكان ارتباطاً بطائفة أم خروجاً منها. وقد تأكد ذلك في القانون الذي يبيح تغيير طائفة أو مذهب أي لبناني بإرادته المنفردة وموافقة المرجع الطائفي أو الديني الذي يريد الانتساب إلى طائفته أو دينه أو مذهبه.
ثانياً: لأن هناك خانات في قيود وثائق الأحوال الشخصية لفئات من غير المنتسبين إلى الطوائف المعترف بها، وهؤلاء يخضعون للحق العادي أو المدني.
ثالثاً: لأن هناك إقراراً قانونياً بإخضاع العقود الجارية في الخارج ويجري تنفيذها في لبنان إلى القانون المدني.
لكن السؤال الذي يطرح هو التالي: إذا كانت العقود التي تجري في الخارج تخضع لنظام الأحوال الشخصية الذي تتم في ظله، فهي إذا انعقدت في لبنان ليس هناك نظام يحددها. فإلى أي نظام تخضع؟ والجواب دون تردد هو أن أحكام ومفاعيل هذا الزواج تخضع للنظام الذي يختاره طرفا العقد (باعتبار انّ العقد شرعة المتعاقدين).
فإذا لم يكن ما يمنع من تنظيم عقد زواج مدني في لبنان كما أشرنا أعلاه، فليس من مسؤولية المتعاقدين إذا قصَّر المشرع اللبناني عن وضع قانون مدني لأحكام ومفاعيل هذا العقد. فالأصل في العقد هو الحرية (التراضي) والأهلية التي يحددها القانون المدني (ثماني عشرة سنة) فيمكن لطرفي العقد تنظيمه في ما بينهما شرط عدم إخلاله بالنظام العام والآداب العامة، أسوة بشروط أي تعاقد مدني آخر.
النظام العام والآداب العامة
إن النظام العام في دولة تعتبر الشريعة الإسلامية مرجعاً أساسياً للتشريع لا يفترض عدم جواز مخالفة أحكام الشريعة في العقود التي تجري خارج السيادة الوطنية. ففي القانون الدولي الخاص تخضع العقود لمكان نشوئها وتنفيذها في دولة الإقامة حتى لو خالفت أحكام الشريعة. وعلى هذا سار الاجتهاد المستقر في جميع البلدان، في لبنان (حيث لا تمثل الشريعة مصدراً للتشريع) وفي مصر حيث تمثل الشريعة مصدراً أساسياً للتشريع.
وقد قضت محكمة النقض المصرية بما يلي: لا يجوز استبعاد أحكام القانون الأجنبي الواجبة التطبيق إلّا أن تكون هذه الأحكام مخالفة للنظام العام أو للآداب العامة في مصر بأن تمس كيان الدولة أو تتعلق بمصلحة عامة وأساسية للجماعة. ولا يدخل في هذا النطاق اختلاف أحكام القانون الأجنبي عن أحكام القانون الوطني في تحديد المقدار الذي تجوز الوصية فيه بالنسبة إلى غير المسلمين (د. هشام صادق – دراسات في القانون الدولي الخاص – ص ٢٤٦ – الدار الجامعية – ط ١٩٨١ بيروت).
من الواضح أنه يستحيل في وقتنا الحاضر جعل الشرائع الدينية مطلقة الصلاحية والتنفيذ، مهما كان رأينا فيها. أصبحت معارضة الجماعات الطائفية لإقرار قوانين مدنية للأحوال الشخصية مجرد تعقيدات تواجه الحريات العامة والفردية، وتدفع بالناس إلى «التحايل» على هذه الأنظمة أو المداورة في تجاوزها، أو اللجوء إلى القوانين غير الوطنية لتجنب الخضوع لها. وفي الواقع العملي نحن أمام حالة فوضى في الحرية وتعسف في تطبيق مبدأ المساواة. فحيث يمكن للشخص من الناحية المادية أن يرفض تطبيق هذه الأنظمة يستطيع ذلك، بينما لا يستطيع الآخرون.
حقوق الإنسان
تشكل أنظمة الأحوال الشخصية الطائفية انتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، فهي لا تؤمّن المساواة بين المواطنين أمام القانون. ولا تحترم المعايير الدولية للقضاء العادل لأن مرجعها القضاء الخاص والاستثنائي. ولا تحترم حرية الاعتقاد المطلقة لأنها تفرض قيوداً على بيئات الزواج، ولا الحق في الحياة وكرامة وسلطة الإنسان على جسده، وتنشئ أوضاعاً تمييزية بين الذكر والأُنثى في الحقوق الطبيعية كما في الحقوق المادية العينية، وتقيّد حرية الاختيار في الزواج ومفاعيله وآثاره.
لذا نصت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان في المادة ٢٣ منها على:
١ ـ الأسرة هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة.
٢ ـ يكون للرجل والمرأة ابتداءً من بلوغ سن الزواج، حق معترف به في الزواج وتأسيس أسرة.
٣ ـ تتخذ الدول التدابير الكفيلة بتساوي حقوق الزوجين وواجباتهما لدى التزويج وخلال قيام الزوجية ولدى انحلال الزواج وكذلك حماية الأولاد.
وقد ضمنت اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، إدماج مبدأ المساواة في الدساتير بين الرجل والمرأة (م ١). وتعترف الدول الأطراف للمرأة بالمساواة مع الرجل أمام القانون (م ١٥) وينسحب ذلك طبعاً على أحكام منح الجنسية فضلاً عن الحقوق الأخرى. لكن هذه الحقوق لا تلغي طبعاً حرية الاعتقاد، لذا تقوم الدول بإقرار قوانين أحوال شخصية مدنية توفر الضمانات المذكورة وتترك للأشخاص ان يختاروا، إذا رغبوا قوانين طوائفهم.
لكن القبول بالأنظمة الطائفية لا يحول دون تطبيق القوانين التي تشكل نظاماً عاماً للمجتمع. فالأرجحية والأفضلية والأولوية هي للقوانين المدنية العامة وليست للقانون الخاص. وعلى الدولة أن تحمي هذه الحقوق إذا تعرضت للانتهاك من قبل الأنظمة الخاصة والسلطات القائمة على تطبيقها.
إن الدستور اللبناني أكد منذ العام ١٩٢٦ في المادة ٩ منه أن الدولة تحترم حقوق الطوائف، وهي بالتالي التي تنظم هذه الحقوق وليست الطوائف من يدير وينظم الدولة. ثم جاءت مقدمة الدستور المعدل عام ١٩٩٠ تؤكد التزام لبنان ميثاق حقوق الإنسان والمواثيق الملحقة، وألزمت الدولة تطبيقها في جميع الميادين. ومن الواضح أن مقدمة الدستور جاءت بمثابة شرعة وطنية ذات قيمة أكبر من مواد الدستور العادية أو أية قوانين أخرى، فضلاً عن أن لبنان ملتزم بميثاق حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الأمر الذي يوجب عليه إعطاء مفعول جدي لهذه الحقوق.
القانون المدني
في الحال اللبنانية كثيراً ما يقال إن القانون المدني الاختياري للأحوال الشخصية يشكل أحد عناوين معالجة المسألة الطائفية. هذا الخطأ الشائع يجب إزالته من الأذهان. إن القانون المدني الاختياري يقصد منه في هذا الرأي تسهيل عملية الزواج المختلط بين أبناء الطوائف المتعددة. لم يمنع هذا ولن يمنع التداعيات الطائفية، لأن مئات الآلاف من اللبنانيين هم في حالة زواج مختلط بين الأديان والطوائف والمذاهب بصرف النظر عن القانون المدني.
لا شك في أن ثقافة الاعتراف الطائفي بالآخر هي بند من بنود المعالجة أو إجراء بسيط من إجراءاتها. كما أن التعارف والاختلاط والأسر المختلطة.. أمور تساعد ولا شك على إزالة بعض الآثار النفسية لحالات الجهل المتبادل وإنكار المساواة مع الآخر في حقوق الزواج.
كذلك وجود قانون مدني ومرجعيات قضائية مدنية يخفف من سلطة رجال الدين وتأثيرهم على الناس من الناحية الاجتماعية. فهناك جمهور من الناس يلتزم تقاليد اجتماعية معينة ويصبح أسيراً لها باعتبارها سلطة عليا لسلوكه حتى لو كان غير قابل بالكثير من أحكامها واعتباراتها.
إلا أن القانون المدني يكتسب أهميته بوصفه تأكيداً لسلطان الدولة وسيادة الشعب ومرجعية الدولة على أي سلطة أو مرجعية أخرى وهو ما يمثل ثقافة حمائية لسلوك المواطن. ففي هذا الإجراء اعتراف بالعلاقة المباشرة بين المواطن والدولة وتعزيز لحقوق المواطنة على حساب مفهوم رعايا الطوائف.
ويمثل هذا الإجراء مدخلاً لقلب المعادلة القائمة الآن على اعتبار الأفراد رعايا في طوائفهم ويستمدّون حقوقهم من حقوقها في نظام شامل يتأكد في التمثيل السياسي والمشاركة في الحياة العامة، وفي الوظيفة، وقد يمتد أحياناً إلى المهنة ومجال العمل. وفي تقدير دعاة القانون المدني الاختياري أو الشامل، أن وجود كتلة بشرية وازنة من غير المصرحين عن هويتهم الدينية والطائفية يفرض اتجاهاً معاكساً لمنطق التمثيل السياسي الطائفي ويفرض شكلاً من علمنة السياسة ضد نظام التمييز والتراتب الطائفي، وهذا أمر مؤكد وصحيح.
لا يبحث هؤلاء عن صيغة لتكوين طائفة إضافية مستقلة هي طائفة الحق المدني، بل يريدون إظهار تناقض النظام الطائفي وأزمته وضرورة إبراز الوجه المواطني للبنانيين. فحتى القانون الاختياري (غير الالزامي وغير الشامل) يخلق كتلة ضاغطة في سبيل تفكيك المنظومات الطائفية التي طغت على الحياة الوطنية، وجعلت من كل حقوق وحريات الأفراد جزءاً من تماسكها وصادرت بالتالي الحرية الفردية لحساب الولاء الطائفي.
ولقد ثبت معنا أن المسألة الأساسية هي موازين القوى في المجتمع وليست النصوص، لأن النصوص اللبنانية العامة (الدستور) أو الخاصة (قانون قيد وقوعات الأحوال الشخصية وأحكامها) تسمح بوضوح بإقرار الزواج المدني بين كل الراغبين ويمكن اعتبار هذا العقد بمثابة تنازل واضح وصريح عن الالتزام بقوانين الأحوال الشخصية الطائفية. لذا يقتضي أن تنظم الدولة هذا الحق ولا شيء آخر.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.