قد تكون الثورة المضادة الحالية، بشراستها عبر العالم العربي بأكلمه، بقيادة السعودية، أعنف داخل حدود المملكة نفسها. نشرت عناصر الأجهزة الأمنية بطريقة مكثفة في أنحاء البلاد، لإحباط اي تجمعات شعبية او احتجاجات. في السنة الماضية وحدها، لقي ثمانية سعوديين حتفهم على الأقل، بسبب المشاركة في احتجاجات شعبية. يضاف ذلك إلى عنف الشرطة ضد المدنيين العزّل الذي أدى الى جرح عدد من النساء والرجال. واعتقل المئات، بشكل غير قانوني، لمساندتهم النداءات من اجل الإصلاح والاحتجاج. لا يتعرض فقط من حاولوا النزول الى الشارع لهذا العنف والتخويف، بل منع العشرات من السفر، او وضعوا قيد الإقامة الجبرية، او منعوا من الكتابة في الصحافة السعودية لسبب بسيط هو انتقاد الوضع القائم. اجبر آخرون على توقيع تعهدات رسمية بعدم الاشتراك في أعمال من شأنها «تحدّي قوانين الدولة واعرافها». أغلقت العديد من المدونات، واعتقل مغردان (ناشطان على موقع تويتر) ويواجهان اليوم خطر الحكم بالإعدام. باختصار، تم تخويف الكثير من المواطنين ليصمتوا.
ما أسلفناه هو ما بدأ يظهر على السطح نتيجة لحملة الثورة المضادة داخل السعودية. ما يثقل ذلك هو التعتيم الإعلامي الذي نجحت الإمبراطورية الإعلامية السعودية في فرضه، في ما يتعلق بالتطوّرات المحلية. تمكنت المحطات من خطف، وتصميم، واعادة خلق الأحداث من صنعاء والمنامة، وصولًا الى دمشق ومسقط. وما يثير الريبة ايضًا، نجاح الميديا التي تسيطر عليها السعودية في اعاقة تدفق المعلومات حول الاحداث المحلية، داخل الدولة وخارجها. لقد تم حجب معظم المواقع الإلكترونية التي تنقل اخبارًا تنتقد العائلة الحاكمة السعودية والدعوات إلى تحدي الواقع. يتعلق الأمر اكثر بالمواقع العربية، وتلك التي تبث من داخل البلاد. اصبحت قوانين الإعلام اكثر صرامة، ويمكن ان يتعرص ناقل صورة او معلومات عن احتجاجات سعودية لعقوبة بالسجن قد تصل لعشر سنوات، وآلاف الدولارات كغرامة. لا يتساءل المرء بعدها عن سبب الانقطاع المعلوماتي بين الناس الذين يعيشون في السعودية، وليس فقط بين من هم خارجها. في اي وقت، يمكن ان يكون سكان المدن السعودية لا يعرفون ما يحصل على بعد بضعة كيلومترات منهم، فضلًا عما يحصل في المدن السعودية الأخرى.
القوانين الأكثر صرامة، التي تترافق مع التعتيم الإعلامي، تقف مقابل احتجاجات صغيرة، لكن مستمرة، عبر البلاد. كل اسبوع، يتجمع نساء ورجال سعوديون أمام الوزارات المختلفة ليطابلوا بأمور بسيطة، منها زيادة الأجور، التعيين في وظائف وعدوا بها، او تلقي رواتبهم في وقتها، وقبض المنح (المالية والعقارية) المستحقة منذ زمن. رغم انتظامها، يتم توصيف تلك الاحتجاجات على انها تتعلق بمسؤولين فتحوا ابوابهم لحل شكاوى الناس العاديين، وذلك حين تصل اخبار تلك الاحتجاجات الى الإعلام. امام وزارة الداخلية في الرياض، لم تتوقف الاحتجاجات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، منذ عشرة أشهر (وهي كانت مصادفات اسبوعية منذ سنوات) بعد ان حازت على اهتمام عال. حتى آذار 2012، حين اعيد طرح قضية المعتقلين السياسيين، كان موضوع حقوق السجناء يعتبر مطالبات شيعية فقط، وهو ما يعني في خطاب الإعلام السعودي المذهبي انها قضية غير وطنية لا تستحق الانتباه.
لم تنحصر الاعمال الاحتجاجية بالوزارات الحكومية. اضرب موظفو شركات ضخمة مثل «الخطوط الجوية السعودية» و«شركة الاتصالات السعودية» (إس تي سي) لأيام، واحيانًا لأسابيع، بسبب الفساد المنتشر وتدني شروط عمل الموظفين والممارسات التمييزية في العمل. في أحيان عدةّ، استطاع هؤلاء الموظفون اغلاق تقاطع شارع العليا المزدحم مقابل برج المملكة، بشكل مؤقت، قبل ان تفرقهم شرطة مكافحة الشغب. بداية آذار 2012، بعد احتجاجات كبيرة من قبل طلاب جامعة الملك سعود في الرياض، تجمعت اكثر من 5000 امرأة في جامعة الملك خالد في أبها. عكس ادعاءات الإعلام والمسؤولين، التي كانت مذهبية ورافضة بأغلبها، كانت الطالبات تعبرن عن غضبهن من اجراءات الفساد الإداري، والممارسات الجندرية التمييزية، والسياسات التي تتزايد قمعًا. سمح امن الجامعة للشرطة بدخول الحرم الجامعي لقمع التظاهرة. في النتيحة، قتلت طالبة، وعانت أخرى من اجهاض حملها، وجرحت أكثر من اربعين اخرى. بسرعة، اعيدت صياغة الخبر في الإعلام المحلي ليصبح يتحدث عن تظاهر طالبات ضد انتشار القمامة في الجامعة! ويقول الخبر إنّ الطالبات اعتدين على موظفي الجامعة وخلال ذلك جرحن أنفسهن، وبعضهن. كما يحصل مع أحداث أخرى تتطلب تحقياقت داخل السعودية، تم تعيين لجنة للتحري حول المسألة، فيما اجبرت «المذنبات» على توقيع تعهد، والاعتذار عما فعلن.
وراء الأبواب المغلقة، يتحدث السعوديون من كافة المشارب عن فساد النظام، والتناقض في مساندته اسقاط نظام بشار الأسد بعد ان قمع بنفسه متظاهرين في البحرين، وهي دولة مستبدة بشكل مشابه. لكن لا يفاجأ المرء بأنّ اعلى الأصوات التي انتقدت آل سعود والاحتجاجات التي اندلعت ضدهم كانت في القطيف، وما يحيط بها في المحافظة الشرقية. نادرًا ما يجري التحدث عن تلك الاحتجاجات في السعودية، فضلًا عن الاعتراف بها، حتى من قبل من يعتبرون داخل البلاد بأنهم يشاركون المحتجين القضية نفسها. في القطيف، تغيّر مشهد الثورة بشكل كبير منذ زيارتي الاخيرة في حزيران الماضي. على تقاطع شارع الرياض وطريق الملك عبد العزيز في القطيف، تم هدم مستديرة الثورة (وهي مكان انطلاق التظاهرات تقريبًا كل يوم جمعة). لكن بعض الآثار لا تزال ظاهرة على الأرض، وتبقى رمزيتها كتعبير عن التضامن والتحدي متجذرة في ذاكرة الناس.
في منطقة الشويكة، غرب ما كان يعرف بمستديرة الثورة، اعيدت تسمية طريق الملك عبد العزيز بـ«شارع الثورة»، حيث تقام احتجاجات اسبوعية. يوجد هناك صور الشبان السبعة الذين قتلوا على يد الأمن السعودي، وكذلك صور من تعرض لإطلاق النار وعاش. هناك، كل زاوية وركن مليئة بغرافيتي مناهض للنظام. اكثر المستهدفين هو ولي العهد (الذي توفي في 16 حزيران 2012) نايف بن عبد العزيز، وابن اخيه حاكم المنطقة الشرقية محمد بن فهد بن عبد العزيز، وملك البحرين حمد بن خليفة. قد يكون نايف ومحمد بن فهد الاميرين الاكثر كرهًا في المنطقة، او البلاد ككل. محمد بن فهد معروف بفساده المستشري والمعدي، وسرقته الملكيات الخاصة من السكان المحليين، وسرقة المليارات من خلال الاستيلاء على اراض عامة وإعادة بيعها للمستثمرين بأسعار باهظة. كما يعرف عنه تورطه في صفقات عقارية غير شرعية في مكة وغيرها من الاماكن، وتمييز العديد من العائلات السنية في المنطقة الشرقية على حساب الآخرين. من جهة أخرى، الخوف من نايف اكبر باعتبار انه مهندس القمع الدامي للانتفاضة الشيعية في الثمانينيات. النظام السعودي كله متورط في القمع التاريخي ذاك والثورة المضادة الحالية، ومن ضمنهم الملك عبد الله، لكن يعتبر نايف الرأس المدبر. بوصفه وزيرًا للداخلية هو مسؤول ايضًا عن الاعتقال غير الشرعي للسجناء السياسيين، ومنهم من اعتقل منذ سنوات من دون تهمة او محاكمة عادلة. كذلك، هو متورط في صفقات عقارية مثيرة للشك، وأخيرًا في صفقة تتعلق بالقسم الأخير من كورنيش الدمام في المحافظة الشرقية.
في الأشهر الأخيرة، تركزت التظاهرات في المحافظة الشرقية في العوامية، والقطيف القديمة، وسيهات، وتاروت. يعطي المتظاهرون دومًا معلومات خاطئة عن توقيت ومكان التجمعات، وغالبًا ما ينتقلون من مكان لآخر من اجل تضليل الشرطة. الوجود الأمني المكثف في القطيف أيام الجمعة يتعارض مع غيابه شبه التام باقي ايام الأسبوع، مع بضعة استثناءات مثل ما حصل في العوامية في 22 آذار 2012. يوم الخميس ذاك، كان الوضع عاديًا ولم يكن هناك اية دورية أمنية. لكن بعض المخبرين قاموا بعمل الشرطة القذر. فقد كان الناشط الشاب محمد صالح الزنادي، وهو أحد المطلوبين الثلاثة والعشرين المتهمين بتنظيم التظاهرات، كان يتمشى بشكل عادي في شارع البلدة الرئيسي. كان يبدو سعيدًا. بعد ساعات، اعلن انه تم اطلاق النار عليه من قبل القوات الأمنية اثناء قيامه بقص شعره في صالون للحلاقة في الشارع نفسه. استطاع الزنادي الهروب بعد اصابته بثلاث رصاصات، لكن القي القبض عليه بعد ساعات من قبل قوات الامن الداخلي. كانت المظاهر الامنية كثيفة خلال نهاية الأسبوع ذاك، مع سماع اصوات الرصاص من وقت لآخر لإخافة المتظاهرين المحتملين. لم يستطع سكان القطيف النزول الى الشارع وقتها بأعداد كبيرة، لكنهم دعوا إلى تظاهرة كبيرة في 6 نيسان 2012 واستمروا في احتجاجاتهم الأسبوعية.
القيادة السياسية والدينية التقليدية في القطيف محتارة حول الطريقة التي تتصرف بها بعد سقوط دماء بريئة في المنطقة. جميعهم يعارضون استخدام النظام للعنف ولأساليب التخويف القمعية. لكن بعضهم لا يرون اي فوائد في استمرار التظاهرات الشعبية، خصوصًا تلك التي تدعو لسقوط وموت آل سعود. الشيخ حسن الصفار، وهو احد اكثر رجال الدين والقادة السياسيين المحترمين في المنطقة، لم يتحدث ضد عنف الشرطة حتى منتصف شباط 2012، بعد ان اطلقت القوات الامنية النار على العديد من شبان القطيف. أدان النظام للجوئه الى القوة وفشله في اطلاق تحقيق جدي في اعمال القتل. قاد الشيخ الصفار، وهو أحد أهم رجال المعارضة، الانتفاضة في الثمانينيات من القطيف، ولاحقًا من منفاه في دمشق. عاد هو وباقي المعارضين الشيعة في المنافي في التسعينيات بعد وعد الملك فهد بتخفيف القيود على شيعة المملكة. منذ ذلك الوقت، عمل من داخل النظام لتحسين وضع سكان القطيف، وتأمين المزيد من الحقوق للشيعة. لعقود، كان احد ابرز حلفاء النظام في المنطقة. لكنه اصبح هدفًا دائمًا لهجمات الإعلام المحلي المذهبية والساخرة، منذ ادان عنف النظام علنًا. بالنسبة للعديد من سكان القطيف، حتى من انتقد وعارض الشيخ لعمله مع النظام، هو يشكل الامل الاخير للشيعة للوصول الى حل سلمي.
ليس كل سكان القطيف ممن ينتقدون النظام يساندون المحتجين او ما يرونه اساليب تحيل الى المواجهة من قبل المعارضة. العديد من سكان المنطقة، كما غيرهم من العرب، يفضلون حلًا سلميًا للأزمة الحالية والعدالة المفقودة. مع شبح عنف النظام في الثمانينيات الحائم في عقولهم، هم يخافون من فقدان احبائهم ومستقبلهم. لكن موقف النظام العنيد ضد اي تغيير لا يبشر حتى من يهدفون العمل من داخل النظام مهما وصل اليه من فساد. رغم دروس الانتفاضات العربية، تصر العائلة الحاكمة على تقديم نفسها كطرف لا يقهر، وترفض تحميل اي شخص المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة العام الماضي. حتى من هم خارج القطيف ممن صدقوا حزمة الإصلاح الجذابة التي طرحها الملك عبد الله، اصبحوا يعتقدون بعقم وعود فارغة مماثلة. لكن النظام يعرف انه يملك كل الأسباب ليشعر بالقوة. فالحياة، تصبح طبيعية بشكل غريب على بعد 15 دقيقة من القطيف الثورية. في الدمام والخبر، المدن الرئيسية الأخرى في المحافظة الشرقية، تبدو القطيف واخبارها بعيدة جدًا. كذلك تبدو اي اعمال احتجاجية اخرى مهمة، نظرًا للقمع السعودي، لكنها لا تشجع النظام السعودي ولو قليلًا على تنفيذ اي من مناشدات مواطنيه. في الحقيقة، النظام يستفيد من تلك الانقسامات المناطقية، بالإضافة الى الخلافات المذهبية والايديولوجية، والطبقية، والسياسية، لمنع اي حالة من التضامن الوطني.
اصبح المواطنون الذين يتحملون الصعاب في المملكة يعرفون اكثر فأكثر ان اعضاء الأسرة الحاكمة لا ينوون ابدًا مشاركة السلطة، او تطبيق ابسط انواع الإصلاح السياسي، او الاجتماعي او الاقتصادي. لكن القمع الذي لا يميّز، والقبضة الحديدية بحق كل المطالبات بالتغيير او الإصلاح او الثورة، بدأت بالارتداد ضد النظام. السعوديون الذين ينشطون او يدينون الوضع القائم، والظلم، واحتكار آل سعود السلطة، بدأوا يعترفون بضرورة مساندة الناشطين الآخرين في البلاد. يصح هذا المثال تحديدًا على من يطالبون بمحاكمة عادلة او الافراج عن المعتقلين السياسيين المتواجدين في السجون منذ سنوات وعقود. لقد ادركوا ان القوة تأتي من العدد والتعاون الوطني ضد النظام النفطي لآل سعود، الذي يعتمد على القمع والعنف واستراتيجيات «فرّق تسد» كي يستمر. مثال على تحالف عابر للمناطق والمذاهب، مساندة اهالي القطيف لتظاهرة السادس من حزيران 2012 في الرياض المطالبة بالافراج عن المعتقلين السياسيين. مظاهر مساندة آخرى تبدو على مواقع التواصل الاجتماعي لكن اكثر من ذلك في الاجتماعات والمحادثات المغلقة. مشاعر المساندة، التي لم ترتق بعد لتصبح شبكات، مهما كانت بدائية الآن، تهدد بشكل جدي النظام وتفضح كونه يرتكب اخطاء كبيرة. مناصرو النظام السعودي يرفضون الاعتراف باي احتمال لتلك التهديدات. غالبًا ما يعتبرون لجوء السعوديين الى انتقاد النظام على مواقع التواصل الاجتماعي بأنه يبرهن عن استعداد النظام للاصلاح. ربما حان الوقت لهم، ولنا، للتوقف عن اعتبار النظام سلطة لا تخطئ كما هو يظن، والبدء بتقبله ككيان هش كما هو فعلًا. كيان لا يملك، في هذا التقاطع الزمني، اي خيار سوى التعامل مع اشكال المقاومة والانتقاد المتزايدة والمتعددة الموجهة ضده.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.