بغض النظر عن الجدل حول تشكيل اللجنة التأسيسيّة لكتابة الدستور المصري بعد الانسحابات العديدة التي شهدتها، نتيجة لاعتراضات مجتمعية واسعة على تشكيل اللجنة من حيث تمثيلها لأطياف المجتمع المصري المتوقعة وتياراته السياسية المختلفة، إضافة إلى تشكيك العديد من المحللين في قدرات اللجنة وكفاءة غالبية أعضائها، فإن مصر باتت على أعتاب كتابة دستور جديد سواء من جانب اللجنة المختارة أو لجنة معدلة أو حتى لجنة جديدة يعاد تشكيلها.
وفي كل الحالات، هناك عدّة تحديات تواجه كتابة هذا الدستور في المرحلة الحالية. المجموعة الأولى من هذه التحديات تتعلق بمنهجية كتابة هذه الوثيقة الهامة، والمجموعة الأخرى ترتبط بمضمونها والقضايا الواجب التعامل معها في صياغتها.
التحديات على مستوى المنهج
كانت معظم المقالات والتحليلات التي تتحدث عن الدستور المصري بعد ثورة «٢٥ يناير» مليئة بآمال عن دستور جديد لمصر يعكس روح الثورة ويلبي تطلعات الشعب المصري، وفي طليعته القوى الثورية التي قادت الحراك المجتمعي في مصر لسنوات طوال حتى حققت حلمها في إسقاط النظام. قوى رفضت الاستمرار ولو مؤقتًا في العمل بدستور ١٩٧١، ودعت إلى كتابة دستور جديد للبلاد. لكن الجدل السائد الآن حول منهجية كتابة الدستور وكيفية القيام بذلك يطرح عددًا من الأسئلة: هل نحن نبحث عن دستور ثابت أم دستور متحرك؟ دستور مؤقت أم دستور دائم؟ دستور تقليدي أم دستور حديث؟
الذهنية المصرية بحكم الخبرة التاريخية، ومنذ الدستور الأول في مصر ١٨٨٢ تميل إلى فكرة الدستور الثابت والتي تقيّد بشدّة إمكانية التلاعب والتعديل، على عكس الوضعية البرازيلية التي مالت دائمًا نحو فكرة دستور قابل للتحرّك مع تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد، إذ أجري تعديل في الدستور البرازيلي الحالي (١٩٨٨) ثماني مرات طالت نحو ٢٢ مادة من مواده. وهنا يدور الجدل في الحالة المصرية حول الظرف الحالي، والتخوّف من دور العسكر في كتابة الدستور وكذلك طبيعة الأغلبية البرلمانية أو هوية الرئيس القادم.
وفي هذا الإطار ظهرت فكرة جديدة هي فكرة دستور مؤقت يمتد في بعض الأطروحات من سنتين، باعتبارهما الفترة الكافية لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية التي لم تنجز بعد، إلى اربع سنوات وهي عمر البرلمان الحالي، بحيث يتم الاستقرار على الغالبية الحالية أو تعديلها بعد فترة من النضج السياسي وصولا إلى عشر سنوات، اي «دستور لعقد من الزمان» تختبر خلاله الدستور الذي يكتب الآن ويعاد تقييمه بعد تجربة كافية. يصاحب ذلك فكرة مطروحة بشدة تتحدث عن تبني الأبواب الأربعة الأولى من الدستور السابق ١٩٧١ كما هي: من حيث شكل الدولة، والمقومات الاقتصادية والاجتماعية، والحريات والحقوق العامة، وسيادة القانون. غير أن تركز التعديلات على الأبواب المتعلقة بنظام الحكم (من الباب الخامس إلى السابع) والتي تتناول طبيعة النظام السياسي وصلاحيات السلطات المختلفة وصلاحيات رئيس الجمهورية. في المقابل تتمسك الكثير من قوى الثورة بحلمها في دستور جديد يبنى على مفاهيم لم تكن بارزة أو متبلورة حين كتابة دستور ١٩٧١ مثل موضوع البيئة والتنمية المستدامة، ويحتوي على عناصر تتعلق بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
بعبارة اخرى، إن الحوار عن أسلوب وطرق كتابة الدستور، ووجوب أن يبنى على معطيات الثقافة السياسية والتاريخ الدستوري عمومًا دون خوض في تفاصيل، يجرى الآن في مصر على أساس تفاصيل دقيقة تتعلق بالواقع القائم على الأرض والمعرّض للتغيير السريع خاصة، في ظل حالة ثورية كالتي تعيشها المنطقة وهو ما يجعل حسمها مسألة صعبة سوف تؤثر ولا شك على عمل لجنة كتابة الدستور. يبدو بسبب ذلك أنّ العملية ستبدأ دون اتفاق مبدئي على المبادئ الحاكمة لكيفية كتابة الدستور والهدف من الدستور ذاته، وهو ما من شأنه خلق حالة ارتباك، وخروج دستور تقليدي هو كناية عن تعديلات على دساتير سابقة يفتقر لروح العصر وللقدرة على الابتكار والإبداع.
أهم القضايا التي ستواجه كتابة الدستور
لا يتوقف الجدل عند حدود شكل الدستور بل يمتد إلى المضمون. وأهم القضايا المطروحة في هذا الإطار هي الآتية:
ــ هوية الدولة: يجري حاليًا بسبب التيارات الدينية الصاعدة بحكم ميراث النظام القمعي السابق اختصار مفهوم الهوية في الهوية الدينية دون غيرها، ويرتكز الحوار بناء على ذلك على المادة الثانية من الدستور التي تتحدث عن أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. وتحاول بعض القوى أخذنا خطوة أبعد بتبديل كلمة «مبادئ» بكلمة «أحكام»، وهو ما يثير الجدل حول ماهية هذه الأحكام ويضع القوى المدنية في موضع الدفاع كالعادة فتتمسك بالنص الحالي وتستبعد أطروحات تطويره ليوازي ما يرد في الدستور السوداني (وهي دولة تصنّف نفسها على أنها إسلامية). علمًا أن النص الموازي للمادة الثانية من الدستور المصري جاء أكثر عمقًا وتركيبًا ويوفر رحابة اوسع من مفهوم الهوية الضيق.
ــ العلاقات المدنية ــ العسكرية: تُعَدّ هذه القضية على رأس أولويات الموضوعات المطروحة للحوار الآن حول الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها القوات المسلحة المصرية على المستويين السياسي والاقتصادي. وغني عن القول أن محاولات الانتقال إلى الدولة المدنية سوف تحد فيها كثيرًا من هذه الصلاحيات. ويجري جدل طويل حول كيفية مناقشة الميزانيات الخاصة بالقوات المسلحة، ومدى شفافيتها، وهو الأمر الذي يدفع المجلس العسكري إلى الانتهاء من كتابة الدستور في أسرع وقت تسليمه للسلطة ليضمن الحفاظ على هذه الصلاحيات دون انتقاص. لا بل ان المجلس العسكري يسعى الى «دسترة» هذه الصلاحيات بحيث تصبح غير قابلة للمساس مستقبلًا، وهو ما جعل العديد من القوى السياسية ترفع شعار «لا لكتابة الدستور تحت حكم العسكر». والشعار لا يعكس في جوهره قضية مفهوم السيادة الشعبية وقدرة الشعب على الرقابة على كافة مؤسسات الدولة.
ــ النظام السياسي: ويرتكز الجدل هنا على الخيار بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني دون التطرق إلى كيف نرى شكل المشاركة وطبيعة الديمقراطية التي نرغب في أن تمارس في مصر في المرحلة القادمة. وتطرح في هذا المجال نماذج من دول عديدة في العالم دون النظر لظروف وطبيعة النظم وارتباط شكل النظام ــ رئاسيا كان أو برلمانيا ــ بشكل المشاركة المجتمعية في البلدان المعنية. فجرى التوصل على نحو طبيعي إلى فكرة النظام شبه الرئاسي أو المختلط كما يسميه البعض.
ــ الأقليات الدينية: ينظر الى هذه القضية في هذه المرحلة على أنها طمأنة للأقليات في مصر والمجتمع الدولي. وسوف يتم التعامل معها بالتالي بحرص كبير من جانب كافة القوى السياسية. ولكن لن تتطور هذه الحقوق لتكتمل منظومة حقوق المواطنة، فلن يحمل الدستور تعسفًا في هذا المجال وسيحافظ على الوضع الحالي بكل سلبياته، وهو ما سيتم قبوله في هذه المرحلة.
ــ حقوق المرأة: على عكس القضية السابقة، سوف نشهد هنا تراجعًا كبيرا من جانب مجتمع اختار أقل نسبة للنساء في البرلمان (٨ نساء منتخبات) وفي برلمان بدأ مبكرًا رده على التشريعات التي حصلت عليها المرأة المصرية عبر نضال طويل بوضع هذه الحقوق تحت لافتة «قوانين سوزان مبارك»، أو بتعريضها لتهمة «المؤامرات الغربية» العاملة على هدم الدولة المصرية، فستكون حقوق المرأة في ظل الوضع الحالي في مصر الأكثر عرضة للتجاهل بل والانتقاص في الدستور.
ــ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية: ان أحد الأسباب الرئيسية للثورة المصرية كان حالة التراجع الشديد للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مصر. وقد ادت التعديلات التي أدخلت على دستور العام ٢٠٠٧ الى حذف كل ما يتعلق بمفهوم الاشتراكية من دستور ١٩٧١. وهو أمر مفهوم لكنه لم يعوض عنه بمفاهيم تتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مما أفقد هذا الدستور عنصرا هاما من عناصر توازنه. ورغم أهمية هذه القضية إلا أنه يمكننا أن نلاحظ أنها القضية المسكوت عنها في الحوارات حول الدستور الجديد بل نلاحظ غيابها، اللهم إلا في بعض المحافل المغلقة. أي أنها القضية التي لن تحصل على القدر الكافي من الاهتمام في صياغة الدستور القادم.
كما نرى في هذه القضايا، يبدو المنطق في الحوار ــ على عكس تحديات المنهج ــ قائمًا على تفضيل محدد يجري من خلاله تحديد شكل المجتمع المصري، وهو منطق معكوس في هذه الحالة إذ يجب أن يأخذ مسارًا عكسيًا يبدأ من كيف نرى المجتمع المصري بعد ثورة «25 يناير» وبالتالي معالجة هذه التحديات بناء على ذلك.
خلاصة
تبدأ الحوارات حول الدستور في مصر من أسفل عندما يجب أن تبدأ من أعلى (في حالة المنهج)، بينما هي تبدأ من أعلى عندما يجب أن ترتكز على التفاصيل الواردة من أسفل (في حالة المضمون). ونتيجة لذلك، وفي ضوء ظروف موضوعية تتعلق بغلبة تيار محدد على كتابة الدستور وقيود الوقت وطبيعة الحكم الحالي، فإننا في الأغلب سوف نكون أمام دستور مصري مغرق في تقليديته، ومؤقت سواء رغب من سوف يصوغونه في ذلك أم لم يرغبوا. إذ أنه مع التطور السياسي قصير المدى لاستكمال المرحلة الانتقالية بأي شكل كان، وتفجر قضايا مجتمعية بسبب تهميشها سواء في الدستور أو في التشريعات الحالية في مصر، إضافة إلى ضغوط ستأتي من التعارض بين الدستور الجديد واتفاقيات دولية بل وإقليمية تلتزم بها مصر، كل هذه العوامل ستجعل هذا الدستور عرضة لتغيير أو على الأقل لتعديلات جذرية في القريب العاجل وهذا ليس بالامر السلبي بالضرورة.
المصادر:
- إبراهيم الهضيبي، «المواطنة في الدستور»، جريدة الشروق، ٩ مارس ٢٠١٢.
- إبراهيم الهضيبي، «معركة الأمتار الجديدة»، جريدة الشروق، ٦ إبريل ٢٠١٢.
- جورج فهمي، «التحول الديمقراطي في مصر بين تحدي عسكرة السياسة وتسييس الجيش»، منتدى البدائل العربي/روافد للنشر والتوزيع، فبراير ٢٠١٢.
- رباب المهدي، «العلاقات المدنية العسكرية في مصر»، منتدى البدائل العربي/روافد للنشر والتوزيع، فبراير ٢٠١٢.
- عمرو الشوبكي، أزمة الجمعية التأسيسية للدستور 71 مخرجًا، المصري اليوم، 31 مارس ٢٠١٢.
- كلوفيس هنريك ديسوزا/محمد العجاتي، «من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التمثيلية»، منتدى البدائل العربي/روافد للنشر والتوزيع، مارس ٢٠١٢.
- معتز عبد الفتاح، «إعداد الدستور ليس فقط صياغته»، جريدة الشروق، السبت ٣١ مارس ٢٠١٢.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.