الى زهير رحال
في وقت غير بعيد، لا يعود إلى أبعد من أربعة عقود، كانت تعوِّل مقالات ماركسيين مترجحين، غير سوفياتيين هوى وعصبية أو إنساويين معتدلين ووسطيين على ما سمّوا، على قولة أو قيل أجري على لسان المرجع نفسه ونُصب وصية أوصاها (ساعة) الفصل والحق وهو يوشك أن يلاقي الوجه الكريم. وأبلِغ القيلُ هذا مَن يهمهم الأمر، وهم الأنصار والأشياع وأهل الصحبة والإيمان والاعتقاد والسنن المقتصدون أو الغالون، أن ما يعرفه القائل أو المحدِّث هو أنه هو، كارل ماركس، ليس «ماركسيا»، أو ليس «بماركسي» (على صيغة التوكيد في معرض النفي، «لست بقارئ»). وحُمل القِيل هذا على رُخصة تجيز للذين يريدون الحفاظ على صلة رحم ونسب بمنشئ العلم أو الطريقة التحللَ من الولاء المذهبي والعسكري الذي فرضته «الكنائس» الماركسية المعاصرة، وأبرزها «الكنيسة» الاشتراكية ــ الديموقراطية الألمانية وبابواتها وكبار أصحاب الفتوى وأهلها الذين قارع المرجع بعض حججهم في أعوامه الأخيرة وقبيل وفاته في ١٨٨٣. والشرّاح والمفسّرون أوَّلوا نفي الرجل انتسابه الى مدرسة أو طريقة تعرف باسمه، وتدعو إلى تقليده، وتبتّ مسائل الخلاف والاجتهاد قياسا على «علم» وضعه وأكمله، أوَّلوه ردا أو نقضا على أشياع «الماركسية ــ اللينينية» الستالينية أو السوفياتية، وعلى أحزابها وبيروقراطية هذه الأحزاب وجسم علومها المتماسك والقاطع. فذهب أحد هؤلاء الشراح والمفسرين الى ان تمام العلم المزعوم سبق القولُ به نشوء «علم» ماركس نفسه. وهو يلازم القول بتمام التاريخ، وصلح الأضداد في «دولة حق» تدمج من غير بقية سلطة العقل العام في كيان الجماعة المادي والعصبي. وإيجاب تمام العلم يخالف مخالفة صريحة ابتداء «الأنوار»، وسعيها في رشد الإنسانية، وقيامها بنفسها و«إنتاجها نفسها» وتحدرها من أفعالها وصنيعها على غير مثال سابق أن منزَّل من غيب آخر. ولم يحسب ماركس نفسه على قول الشارح العتيد، لحظةً في حل من «الأنوار» وميراثها. وفي صدارة الميراث «فكرة» إنسانية واحدة ومتصلة تخرج تدريجا ولا إلى غاية ربما من ظلمات الانقياد الى غير لا يدرك ولا يحاط به ولا بأحوال العالم التي أحدثها، الى نور إيجاب ذاتي عام وجامع لا تخفى علله على أصحابه وصنّاعه، وهم أرادوها وعقلوها معا وجميعا.
والخلاف هذا قرينة على مسألة لازمَ الأخذُ والرد فيها المقالات التي ارتضت، على قدر أو آخر، أو أرادت الصدور عن تلك التي وقّعها باسمه كارل ماركس، أو وَسَمها بميسمه، أو (وهذا من خصائص «الانساب» الماركسية) احتكمت في التناول والتفكير والفعل إلى مقدمات ومنازع أحلتها محل المعايير والموازين. ففرادة «العمل» الماركسي، أو فرادة «جامع الأعمال» على خلاف فرادة «العمل» الهيغلي أو الديكارتي مثلا، مسألة أولى هي بمنزلة أصل من أصول «العمل» ومشاغله. فعلى حدة من سواد المفكرين والكتّاب والعلماء المعروفين لم ينفك كارل ماركس ينسب «أفكاره»، ونهجه في النظر والعمل، إلى حركة الجموع الغفل التي حملَ نهجُه المعلن التاريخَ وحوادثه وحقبه عليها، وعلى «صراعها» المديد والقديم والمضمر. وهو ربما من أوائل من حرصوا حرصا شديدا وملحا على تعقّب مصادر مقالاته وأحكامه، ووصل هذه بتلك المصادر، أقوالا كانت أم أفعالا وحوادث وحركات وأحوالا. ونبه في ملاحظات واضحة ومتواترة إلى ديونه الكثيرة ــ مثل دينه بـ «صراع الطبقات» الى المؤرخين الفرنسيين البورجوازيين، ودينه بمنزلة العمل من قياس القيمة الى الاقتصاديين الإنكليز، وبفكرة الاشتراكية الى «المختبرات» الاجتماعية المتكاثرة في أوساط حرفيي النصف الأول من القرن التاسع عشر الأوروبي والأميركي، وبـ «الوجه النشط» والمتدبِّر من الفعل التاريخي الى الفلسفة المثالية الألمانية، وبـ «مهمة البروليتاريا» التاريخية الى البروليتاريا نفسها... ولم ينفك فريدريش إنجلز، في مقالات تاريخية حقلية، شأن صديقه، يرد الحركات الاجتماعية والسياسية المعاصرة، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على «بدايات» وأصول تعود إلى ثورة الفلاحين الألمان في أثناء الثلث الثاني من القرن السادس عشر، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، وإلى الحركات العامية الإنكليزية طوال القرن السابع عشر قبيل «الثورة المجيدة» (١٦٨٨) وبعدها، وقامت الثورة الفرنسية «الكبرى» مقام المختبر التاريخي السياسي المباشر، والمعين الذي استقت فصول ١٨٤٨ و١٨٧٠ منه بعض معالم طريقها أو طرقاتها.
فقلما وقع تاريخ المقالات والأفكار على «عمل» أو «جامع أعمال» أرهقته، على هذا القدر، مسألة مصادره ومقدماته المتحدرة إليه من أصول تقاليد سابقة، ولكن في معرض تسويغ الثورة الحاسمة والباتة على «النظام القديم»وذيوله الغريبة والمتناقضة، على زعم التعاليم والموجزات في الرأسمالية وتقويضها أركان «الإقطاعية». وعلى الصورة المهتزة والملتبسة إياها، ترجح الخالفون والوارثون (الماركسيون) إلى يومنا بين مغلِّب كفة الاتصال التاريخي والمراكمة على كفة الانقطاع من التقاليد والأسانيد البورجوازية والديموقراطية والإنتاجية، وبين حاسمٍ قضية القطيعة والجدة غير المسبوقة والابتداء "البكر" (على قول الشاعر بول فرلين في معرض آخر) ومُنكرٍ الدَّين بشيء إلى زمن سالف ما لم يكن على وجه الابتكار والنسخ القاطعين. وتعصى موازنة الكفتين أو المذهبين محاولات الساعين في «الاتصال»، ومدعي التحكيم. فتسرع صفة التلفيق إلى هؤلاء وأولئك. ويدب شبه حرب أهلية في صفوف الخالفين والوارثين و«المراقبين» (من غير مدّعي النسب) جميعا. والحق أن علل الحروب الأهلية، الفكرية والسياسية والمسلحة (على شاكلة انشقاقات الحركات الشيوعية الحاكمة أو المعارضة من الاتحاد السوفياتي الى الصين وكوريا وكمبوديا وفيتنام واليمن الجنوبي...)، كثيرة. وشطر راجح منها يعود إلى ملابسات العمل السياسي الظرفية والمحلية والاجتماعية والثقافية. ولكن انتسابها «الماركسي» المعلن يقودها، أو هو قادها على الأغلب إما إلى الطعن في مهادنة الجناح الرخو أو «الإصلاحي» و«المراجع» النظام القائم والأحوال الظالمة السائدة والموروثة، وإما إلى طعن الوسطيين والواقعيين والمتدرجين على الثوريين تهورَهم وانقلابهم وطليعيتهم المغامرة، إلخ. ويتخلف من هذا، أي من الانتساب المعلن إلى «الماركسية»، علة شقاق تُحتسَب في علل الحروب الأهلية الكثيرة والمتشابكة.
وقد يُحمل على المبالغة أو على الإفراط في المجاز القول إن «الحروب الأهلية» التي أصلاها أنصار الاتصال والانقطاع بعضهم بعضا، وتبديع الجماعة الجماعة الأخرى، هي أصداء رددت، ولا تزال تردد قولة كارل ماركس التي ألمحت الفقرة الأولى إليها، وذهابه إلى أنه هو ليس «بماركسي». وينبغي الاستدراك سريعا، والتنبيه الى أن القولة العتيدة إنما هي بنت حربِ الرجل كارل ماركس الأهلية، وترجح بين إرساء «جامع اعماله» (وانخراطه في «رابطة الشيوعيين» التي كتب وأنجلز بيانها في ١٨٤٨ بعض هذه الأعمال) على تقاليد وأسانيد وسوابق عريقة ومشتركة مولودة من بشرية جامعة، على رغم تفاوتها الفعلي والعارض، وبين حمل «جامع الأعمال»، اليوم وغدا، على جبّ التاريخ السابق و«محو (صفحة) الماضي»، على ما تنشد «الأممية»، من غير رحمة ولا مساومة. والحركة العمالية الأوروبية كانت منقسمة انقسامات لا تُحصى، ولا يختصرها القطبان المفترضان، الطوباوي والعلمي، أو الاجتماعي والسياسي، أو الحرفي والنقابي، أو العفوي والحزبي، أو الإصلاحي والثوري، أو الديني والتنويري، أو الخلاصي والموادع، وغيرها من أقطاب أحصى كثيرا منها البريطاني إدوارد بي جونسون في كتابه الأم «تكوّن الحركة العمالية الإنكليزية» (١٩٦٣). ولم يلبث تعاظم دور الحركة الاشتراكية ــ الديموقراطية الألمانية، في أعقاب توحيد ألمانيا، وتوسطها عقد الحركات العمالية الوطنية بأوروبا، أن اختصر بعض الشيء الكثرة والتنوع العماليين والاشتراكيين الغالبين إلى قطبين محوريين هما قطب الاشتراكية ــ الديموقراطية الإصلاحية والليبرالية الاجتماعية وقطب الحركة العمالية الثوري والسياسي و«غير» الليبرالي. وُحمل القطب الأول على المراجعة أو الرجوع في المعايير والمقدمات الأولى والمسلمات والانحراف عنها، والآخر على الاستقامة والوراثة المشروعة أو على النكوص إلى فجاجة مبكرة وبدائية.
النقد العام
ولكن الاختصار، إذا جاز الإغضاء عن كثرة المسارات الوطنية والمحلية وولادة أبنية اجتماعية مهجّنة أو مولَّدة في مسارح التوسع الرأسمالي والإمبريالي، لم يفعل سوى تعميق الالتباس التاريخي الذي نشأ عن الرأسمالية وانقلابها التكويني أو البنيوي من طور إلى طور، على ما نبّه كارل ماركس وشدد التنبيه. فهو أوكل إلى السيرورة الرأسمالية، وقلبُها هو حلُّ البشرية ومجتمعاتها وعلاقاتها وسعيها في قيمة تبادل سوقية أو سلعية عامة وكلية، أي أقر لهذه السيرورة بسلطان «نقدي» ومدمّر على حل أو فك كل صيغ وأشكال القيام بالنفس والاعتزال والاقتصار على وظيفة عملية مباشرة تتوخى المنفعة، أو تلبية الحاجة والرغبة من غير توسيط دائرة التبادل وأداة قياسها القيم ومقارنتها (المجردة) بعضها ببعض. فالترجمة الرأسمالية العامة هي احتساب ما قيمته الجوهرية في نفسه من غير تعدّ إلى غير مقارن ــ مثل العائلة وعلاقاتها الحميمة الزوجية والأبوية والبنوية وملكيتها المستقلة، أو مثل الأوطان واللحمة الوطنية الجامعة بين الطبقات والنواحي والمنكفئة على إنتاجها واستهلاكها وسوقها، أو العمل على وجه سد الحاجة والعبارة عن الصانع المقلد أو المبتكر، أو الفن الساعي في غاية هي تمام العبارة، أو التدين... ــ احتسابا مقارنا في وحدة عامة. فلا تستبقي الترجمة الرأسمالية من الموضوعات أو من «الأشياء»، أدوات وآلات وعلاقات وروابط وأفعالا وميولا وحاجات وانفعالات، إلا ما يقبل الاحتساب العام أو التشييء العام.
والتوسع على الجهات والدوائر كلها نواته الأولى هي سلع عامة ومشتركة مثل الأنسجة وخاماتها، أو الحبوب وتجارتها، أو حتى الذهب على صفته وسيط مبادلات. ولكن السيرورة الرأسمالية حملت «الأشياء» كلها من غير استثناء على سلع محتملة، وعلى قيم تقر للسوق، وليس لقيمة «الشيء» في نفسه أو لريع مكانته ومرتبته، بالحق الأخير في تسعيرها، وفي إنتاجها والاستثمار فيها وتطويرها وتفريعها ومحاكاتها وتوليدها... ورأي صاحب «رأس المال» أن السيرورة الرأسمالية تحقق «نقد» الدولة والحق (القانون) والدين والاقتصاد السياسي وانفصال الجماعات (و «اليهود» معلمه) والملكية الخاصة وتقسيم العمل والثقافة، من غير تهيُّب ولا تحفُّظ وقوام النقد، على الشاكلة الرأسمالية، هو جلاء انفكاك تظاهر «الأشياء» أو مثولها في عالمها الجديد، «السحري» على ما يكني «رأس المال» عن السلعي والسوقي، من سيرورة صنع التظاهر، أو الإخراج إلى دائرة التبادل فالإعمال. ويقتضي جلاءُ انفكاك التظاهر، الثابت والصنمي والمنفصل، من سيرورة صنعه تناولَ ازدواج العملية الرأسمالية، ووصف شَقِّها ما تتناوله أو توضع عليه شقين أو وجهين لا يجتمعان في آن، ولا يحضران الذهن أو الفهم معا. وإذا كانت العملية نفسها، أي جملةً وكلا، سيرورة عامة تستحوذ على المرافق والأفعال والعلاقات، وتمد عليها وإليها أذرعها الأخطبوطية، فإدراكها العملي والسائر هو، على وجه الضرورة، جزئي وفردي وانطباعي وصفي. ويرسو ازدواج «العلم» و«الإيديولوجية»، أي تناول العملية التاريخية جملةً وعلى وجه سيرورة غفل أو تناولها على وجه التخصيص وحملها
على سيرورات معرَّفة ومعقولة، يرسو الازدواج هذا، في مرآة «الوعي» والإدراك، على الإثنينية الرأسمالية
البنيوية، وسلخها العالم «المسحور» والمقلوب من العالم الحقيقي.
ولكن الازدواج الذي ينزله «رأس المال» (الكتاب والموضوع أو الشيء) من التاريخ المعاصر، وصفحته الجديدة وغير المسبوقة، منزلة القلب والنواة والمحرّك، تنتهكه الثورة، والبروليتاريا هي صاحبها، من حيث لا يحتسب منطقُ النظر أو منطق التأريخ. والانتهاك الثوري فعل مزدوج ولا يعقل، على معنى العقل الذاتي. فهو ثمرة السيرورة الرأسمالية الناضجة والختامية والتمامية، أو الغائية، وهو فعل يبلغ فيه العقل ذروته، فيحرر البشرية من انقساماتها وتفاوتاتها وحدودها وازدواجها. وعلى نحو ما تجمع الرأسمالية المجتمعات، وأقوامها ومراتبها وطبقاتها، في «مادة» متجانسة تلغي الفروق التي بدت طبيعية، تستأنف البروليتاريا وثورتها عمل الرأسمالية على «قاعدة أخرى»، على قول نشيد الأممية كذلك. وتنفي السيطرةُ التفاوتَ والتقطع وصدارة قانون القيمة وتُحل محلها المساواة والمؤاخاة والحرية وقيم الإعمال أو الاستعمال المجانية. وتضطلع البروليتاريا وثورتها بهذا من طريق إعمال منطق داخلي، وتلقائي ذاتي، هو منطق السيرورة أو الولادة الرأسمالية نفسه. فتحرير الإنتاج من القيود السياسية القومية والطبقية والاجتماعية والتقنية، والطبيعية في نهاية المطاف، تؤدي حتما الى وفرة عامة لا مسوغ معها للانقسام والمراتب وتفاوت العوائد على أنواعه وأصنافه الرمزية والمعنوية والمادية. وفي الأثناء «يربّي» تحرير الإنتاج من قيوده الريعية الطبقةَ العاملة، وهي إذ ذاك كثرة كاثرة عددا ومعنى، على الاضطلاع بالمساواة والمؤاخاة والحرية. فتُمحى خصوصيتها وتمحو هي انفصالَها في «فعل» لم يقتصد ماركس، في تطرقه إليه، في المبالغة، ولا في جمع النقائض أو دمجها («نهاية ما قبل التاريخ»، «فك طلسم التاريخ»، «الاستواء في الذات وللذات»، «تحطيم أغلال الطبقات كلها آن تحكم البروليتاريا أغلالها»، إلخ.).
فنهضت الجدارية «الماركسية» العريضة عَلما على توليد البشرية نفسها، وإيجابها رشدَها، أفرادا ونوعا وأنظمة حكومة وإنتاج، في سياقة انسلاخ عن الطبيعة واستتمام وتتويج لها. ودمجت السياقة اللجبة ممالك الجماعات والأمم، وروافد الموارد والمعارف، وثمرات الأيدي والآلات والعقول، وتخييلات الصور والرغبات والأحاسيس، في مجرى كوني عظيم، مجيد ومخيف. فهو يعد «الذرات» الإنسانية المتواضعة والمنسية، منذ تنبهها الأول على الكون، بالقيامة والنشور، وبما يشبه العَوْد من غير نقصان. وهو الوجه المجيد. والوجه المخيف والمحبط هو تقرير احتياج النشور والعود، قبل بلوغ اليوم الموعود إلى دماء التاريخ ودموعه الغزيرة والمرة، وإلى خروج البشر، أفرادا وجماعات ونوعا، من جلدهم وإهابهم ونفيهم، عرضا وجوهرا، إلى قسوة «المادة» والسلعة وبكمهما الموحش. وعلى حين يقتضي الوجه الأول الإقرار للإنسيين الآدميين ولجماعاتهم و«ممالكهم»، بحقيقة اختباراتهم وحيواتهم ومدركاتهم في الحال، أي الإقرار بالوجه الإنسانوي من السياقة التاريخية، يقتضي حمل السياقة على الكونية عِلْما مجردا وعاما لا يُبلغ إلا من طريق النقض على الإنسانوية وقيودها وانكفائها إلى دواخلها وطوياتها الخاصة والمنقطعة. ويؤول العلم إلى تخليص السيرورة الواحدة والمشتركة من «حدودها» الظاهرة و«المجردة»، على قول هيغلي في خطل المحسوسات، ورفعها بواسطة العلم إلى مرتبة المعقول والضروري.
وعلى هذا، لم تقتصر «صيرورة الفلسفة عالَما»، على «موضوعة» أو «قضية» ألحقت بنقد بعض أعلام الفلسفة الألمانية في النصف الأول من القرن التاسع عشر. فلابست المناقشةُ الفلسفية المنازعات والخلافات السياسية على نحو يشبه الخلاف بين الفرق الدينية واللاهوتية والكلامية و«الجمعيات الفكرية» في أوقات متفرقة من تواريخ الديانات. وقد لا تكون الملابسة هذه أضعف وجوه أو مصادر «الجذب» في مناقشات الاشتراكيين وحركاتهم وأجنحتهم عموما، والماركسية (الكثيرة) منها على الخصوص. ولعلها مرآة من مرايا الازدواج الذي لا ينفك يُنشب في الدعوات والدعاوى الاشتراكية بين حدي التخييل المرسل والعلم المزعوم. فحين يحسب «الداعية»، حزبا منظما كان أو «مثقفا» فردا (على المثال الفريد الذي نشرته الحركات العمالية والفرق الدينية الخلاصية في العالمين القديم، و«فارس» والسلطنة العثمانية جزء منه، والجديد)، أنه وسيط منطق مجرد لا دافع له و«الراد عليه كالراد على الله»، بحسب إجازات اجتهاد كبار المجتهدين الإماميين الإثني عشريين لنجباء تلامذتهم ــ حين يحسب «الداعية» هذا فإنما هو يغفل عن معين قوة الجذب والاستمالة والتصديق وهو تداعي عناصر الازدواج والترجح في السياقة الماركسية. فالوجه الإنسانوي، الوارث عمدا وعلنا الثَقَل والجهاز البشريين الماديين والحسيين والفكريين ومدرجهما في صيرورة عقلنة عامة ينتصب النوع البشري فيها واحدا ومتألها، يستظهر هذا الوجه بعلم صارم يعلق من غير خسارة ولا حيف المتعلقات «الإنسانية». فيتضافر النازعان، الإنسانوي المحايث والعلمي المفارق، على فك استغلاق السياقة التاريخية، ماضيا وحاضرا، وعلى تسديد خطو الحائر، وهو معظم الناس، وإرشاده. وهما يتضافران على هذا آن يبعثان في الأنفس الهمة على العمل والنظر، ويغذيان رغبة قوية ومتجددة في الانخراط في صنع الإنسانية، أفرادا وأمما ونوعا مرة أخرى، نفسها، وولادتها من صنيعها وفعلها راشدةً وغير معولة في فعلها على غير هذا الصنيع وتدبره والتماس معانيه.
رسوم الازدواج
والحق أن ما تقدم ومرّ من القول يغفل أمرين: أولهما أن ما بعث كثيرين على إرادة الصدور عن مقالات صاحب «الإيديولوجية الألمانية» و«مخطوطات ١٨٤٤» و«بؤس الفلسفة» و«البيان الشيوعي» و«١٨ برومير لوي (س) بونابرت» والمراسلات السياسية ــ في ستينات القرن الماضي ــ هو ملاحظات تفصيلية في ثنايا هذه المقالات أخرجت موضوعاتها من نثارها النفساني والحدثي العائم والعشوائي وأرستها على رسوم متماسكة، وضبطت اتصالها وانفصالها أو ظهورها وأفولها على إيقاعات متواردة ومفهومة. وثاني الأمرين المغفلين ان المقالات هذه بلغت من بلغتهم، ودعت من دعتهم من طريق الأحزاب والحركات «الشيوعية» وأعلامها السياسيين المؤسسين والخالفين. وقد يكون لينين ــ (ستالين) ــ في مقدمهم وأولهم. وإذا صدقت الملاحظة، في شقيها، يكون الباعث على الماركسية على خلاف نازع من نازعيها هو نازعها العلمي، «الاقتصادي» والمادي. ولكن الخلاف ليس تاما ولا قاطعا، ولا يقود إلى تبدد الازدواج أو حله في وجه واحد. فإخراج كارل ماركس موضوعات مقالاته من الخليط النفساني والحدثي قاده الى تخليص بعض وسوم المجتمع البورجوازي والديموقراطي (والصفتان غير متكافئتين) الجوهرية: ازدواج المرء (والمرأة) مواطنا ومحتاجا ومنتجا، مكانة النزاع المحورية وحجبها، جدة الرأسمالية القاطعة، قصور البورجوازية والطبقة العاملة من بعدها عن قيادة ثورتها وعن صوغ «دولتها» وأبنية سياساتها، الترجح المزمن بين صرم الأشكال والعلاقات الاجتماعية القديمة وبين الحفاظ عليها وإعمالها في سياقة وأغراض جديدة، طغيان دور الأقنعة وتكاثرها، التقلب بين أوقات الاستباق والتأخر والمحاكاة، تخلف «الأبنية الفوقية» عن «الأبنية التحتية»، العجز عن مكافأة المعاني المولودة من «التطور» والنمو الرأسماليين بعبارات تؤديها، دوام الهوة الشاسعة بين أهل الطبقات الاجتماعية المولودة من الرأسمالية...
وعلى خلاف تحليل الرأسمالية «وتناقضاتها» المؤدية بها إلى تقوضها الذاتي ومناقضتها شرائط دوامها وتجددها، ورحلتها الممتعة (ذهنيا) إلى انتحارها الجدلي، أو ولادتها نقيضها من «أحشائها» ووضعها مولود الثورة الاشتراكية ناضجا ومكتمل الخلقة ومن غير عنف ربما، على خلاف التحليل هذا ذهبت الملاحظات والحواشي السياسية والتاريخية الدقيقة الى تعقيد الاشتراطات والمسارات، وتكثير المنعرجات والمنعطفات والهاويات. وإذا بكل باب من أبواب المعالجة التاريخية أو السياسية التي طرقتها ملاحظات صاحب «١٨ برومير...» و«الصراعات الطبقية في فرنسا» ينفرج عن دهاليز يفوق استبهامها ضوؤها أو إرشادها المفترض. ولعل عقدة العقد هي تشخيص الفرق القاطع بين المثال الرأسمالي الأنموذجي «الماركسي» وبين وصف «القطب» الاجتماعي والسياسي المفترض، البورجوازي وضده العمالي. فعلى قدر وضوح المثال الأنموذجي، وعظمته وقوته على الابتكار، يتصاغر القطب القيادي على حديه: البورجوازي والعمالي. وليس انتداب الثورة البورجوازية (الفرنسية) المثلى ضابطا عسكريا (بونابرت ثم نابليون الأول) إلى تخليصها من استيلاء محامين وأدباء مفكرين دمويين و«اجتماعيين» عليها، أو من استنقاعها في خلافات ومنازعات على الريوع، ثم العودة الى المَلَكية فانتداب ابن شقيق الأول، نابليون الثالث، إلى قمع الجمهوريين العاميين والوسطيين والاستواء في سدة الجمهورية قبل الانقلاب عليها وقيادة التصنيع من غير المس تقريبا بريوع البورجوازية الريفية وبغلبة الجناح المالي والمصرفي على التصنيع ــ ليس هذا إلا كناية فاقعة عن معضلة السياسة والدولة في المجتمعات الجديدة. وفي نهاية هذه المرحلة من المطاف الرأسمالي، في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، أوكلت الدول الليبرالية والرأسمالية توسعها الكوني («العولمة الأولى») الى امبريالية عنيفة ومتوحشة. فبعثت هذه سمات المراكمة الأولى، من مصادرة وسلب وتقتيل وترحيل واستعجال حل روابط حيوية وإزراء بسنن عمران ورسوم اجتماع قديمة. وعهدت بالتوسع على وجهيه المتصلين، الخارجي والداخلي، إلى رجال مال ومضاربين مغامرين ومحتالين فاسدين وإلى فاتحين عنصريين وقتلة ومبشرين قساة، على النقيض من عقلانية إنتاجية ودنيوية هي جوهر الرأسمالية أو سائقها ومعيارها.
فأبطل هذا ما خاله «ماركسيون» كثر النحو البياني للتطور والنمو الرأسماليين، وما بدا مترتبا على علم نمط الإنتاج الرأسمالي، وعلى دروس الثورة الديموقراطية البورجوازية في فرنسا وألمانيا (حيث أجهضت الثورة الديموقراطية) وإنكلترا (حيث انخرطت الطبقة العاملة في منظمات مهنية وانكفأت على نفسها) على الخصوص. وحيث مضت المجتمعات على نماء رأسمالي داخلي وذاتي، على رغم ثقل «الأسواق» الخارجية الظرفي، بغرب أوروبا وعلى ضفة الأطلسي الغربية، احتذت الطبقات العاملة على مثال بورجوازي وبرلماني ضيق. وفشا في صفوفها ما عابته جمعياتها وروابطها واختباراتها وابتكاراتها، الاجتماعية والتنظيمية، على البورجوازية ودولتها. فحل التمثيلُ والتوكيل الوظيفيان محل التدبير الذاتي، وامتهانُ السياسة والإدارة محل التكليف الظرفي ومداولته بين المندوبين الموقتين، والانغماسُ في المنافع والأسباب القطاعية محل الوجه الطبقي والمجتمعي والتاريخي العمومي. وغلبت المنازع والعصبيات القومية والوطنية على من «ليس لهم وطن» (على معنى المصالح الضيقة والجزئية والمموهة ). وانقسمت الطبقات العمالية مراتب ومكانات وأحوالا. فاستوت في الصدارة «أريستقراطية» عمالية هي حقيقة بيروقراطية عضوية ومستوطنة في العالم البورجوازي والرأسمالي وإوليات الإنتاج الحميمة. ونمت في ثنايا علاقات الأمر (السلطة) والتأطير والمراقبة، وفي دوائر الهندسة والتسويق والتخطيط والإدارة، فئات «متوسطة» جديدة، شطر منها محافظ، وشطر آخر رأى أن «الثورة» تنظيمية في المرتبة الأولى، وينبغي أن تعود عوائدها، من الأمر والمكانة ومن الأجور والضمانات، إليها هي. وهذه الجماعات لم تخرج على المثالات الاجتماعية والثقافية البورجوازية، ولا على مثال التوزيع (توزيع العوائد من غير الرجوع في الموازين). فماشت الدينامية الرأسمالية من غير تحفّظ أو تشكيك في الأركان والأصول، واقتصرت على طلب شطر أكبر من «الكعكة»، على قول مبتذل. ومضت المجتمعات الرأسمالية المتفرقة على تذررها وتناثرها أفرادا خصوصيين، ومصالح فئوية متنافرة، وترجحا بين أحوال موضوعية وبين وجدانات ذاتية متأخرة أو متقدمة ومعاصرة في أوقات قليلة.
وهذه كلها أعراض ما سمّاه بعض المؤرخين المعاصرين «أزمة المراجعة» (أو «الانحراف» إذا تُرك التحفظ والوصف). وأزمة المراجعة، وهي تكني عن ميل الاشتراكية ــ الديموقراطية الألمانية «الماركسية» (وليس هذا رأيا في صدق النسبة، بديهة) إلى التسليم لليبرالية وأطوارها، أي للتيارات الاجتماعية، بالولاية على السياسة، وعلى الدولة. وعليه، ليست السياسة (والدولة) إلا ملحقا بالمجتمع، وتَبَعا له. وأمور المجتمع، أو حكومته متروكة للسوق التي ترعى عدالة تتولى الدولة ضبطها. ويترتب على التسليم هذا الرجوع عن السعي الجماعي في القيام بتبعات الإنشاء والإيجاب الاجتماعيين ــ التاريخيين قياما ناجزا، والتخلي تاليا عن السياسة ونصابها وسلطانها. وشقّا المسألة، التسليم لليبرالية الفردية وسيرورة الرأسمالية والتخلي عن إعمال السياسة وسلطانها الجماعي في الإنشاء الاجتماعي ــ التاريخي، هما من الأصداء المحتملة والجائزة لتناول صاحب «رأس المال» مصائر الرأسمالية والبورجوازية والبروليتاريا والسياسة في العصر الرأسمالي، إذا لم يكونا من فروع تناوله هذه المصائر. فمديح «ثورة» دينامية قوى الإنتاج غير المتحفظ، والإشادة بمفاعيلها النقدية العملية وتدميرها الأبنية الاجتماعية المتحجرة، وبسبقها استفاقة «الوعي» البطيئة والكسولة وصرامة منطقها، شبَّهت على «الماركسيين»، وعلى غيرهم، «حقيقة» الرأسمالية نفسها و«حقيقة» الرأي فيها. والاشتباه أو التشابه ليس الأول من صنفه في الموقف أو المقام هذا. فالموضوع نفسه، أي نظام قوى الإنتاج الحرة في سياقة الإنشاء الاجتماعي ــ التاريخي الذاتي، «خلاب»، على معنى نظر فيه صاحب «رأس المال» وجلاه على وجه تصنيم السلعة وأفيون الاعتقاد وسحر التبادل السلعي النقدي والمسرحة السياسية (وغيرها من «الأطياف»، على قول فيلسوف معاصر قرأ بعض ملاحظات ماركس في ضوء «هاملت» شيكسبير). وأثر الخلب أو الاختلاب الأول هو تصديق اتحاد المرئي الظاهر بالسيرورة المعقدة («المتناقضة») أو المزدوجة التي حكمت إخراجه إلى المعنى والفهم.
الاختلاب والحكم
ولعل بعضَ معنى قولة كارل ماركس انه ليس بماركسي هو حملُه النسبة إليه وإلى مقالاته، على وجه الاختلاب. والاختلاب حمّال تقلُّبٍ بين الأوجه من غير قرار يقر عليه المختلَب المفتون. وتصوير مقالات صاحب «رأس المال» في صورة «عصارة» ثمرات الاختبارات التاريخية الفكرية والسياسية والعملية (النضالية) المتقدمة أو الطليعية، وإلباسها حلة جامع الروافد الفلسفية والاقتصادية والعلمية والسياسية الثورية، وهو ما ذهب إليه فريدريش أنجلز وما زكاه من بعد لينين وستالين و... سارتر، ماشى وواتى نازع الافتتان السلعي والذاتي النرجسي في آن. (وهما متصلان على أنحاء ووجوه كثيرة على ما بدا في مرآة «مجتمع الاستهلاك»). فاطُّرح من المقالات والآراء والأحكام فعل الإنشاء والإيجاب، وإعمالُ «مَلَكة» الأقضية والمقايسة من غير معيار أو مثال أي اطرحت مَلَكة الرشد المتنور، فحُملت المقالات والأفعال التي افترض ان المقالات توجبها وتقسر عليها على أفق لازم (لا يُتعدى الى غيره)، على قول سارتر، وعلى مهمات ودواعٍ موضوعية تاليا وحكما، على قول بعض الكتّاب العرب في أعقاب الزعم السارتري. ويشبه اطراح الإنشاء والإيجاب والأقضية (الأحكام)، وهي الوجه الذي اعتنت به الفلسفات المثالية على تنويه أنجلز كذلك مرات كثيرة وأهملته النزعات المادية، اطراح السياسة في صيغتها المَرْضية الوحيدة وهي سياسة الثورة أو الثورة على وجه السياسة. وعلى هذا، فالمقالات الماركسية تصدر عن الظروف التاريخية صدورا ناجزا ومباشرا، وليس على الحركة الثورية، وهي تفترض واحدة وخلوا من تناقضات غير التناقضات الثانوية، إلا الصدوع بالمقالات وبما تثبته أو تنفيه بأفواه أو أقلام سدنتها وكهنتها، قيادة و«مثقفين».
ويفترض هذا الرأي أو القول حسم الترجح «الماركسي» بين حمل الثورة ومقدماتها على ثمرة ناضجة وممتلئة بعصارة الوقائع الرأسمالية الإنتاجية العريضة وبأطوار الإنجازات الديموقراطية «الشكلية» ومحفزاتها، والإرادات والرغبات السابقة، وبين حملها على «فعل» تدبير جازم وقاطع يكافئ الأحوال التاريخية المجتمعة والمؤتلفة من أفعال جزئية لا تحصى، ويتعهد الانتقال أو الخروج من حال الاضطرار والقسر إلى إطار التدبير الطوعي والحكومة الذاتية. وهو يفترض، إلى هذا وقبله ربما، جواز انفكاك الفعل السياسي وسلطانه العام على المجتمع من دائرة الممكنات المرتسمة في ثنايا أحوال هذا المجتمع، وجواز تعريف الفعل السياسي وغاياته من طريق «النظرية الثورية» وأهلها وأصحاب علمها المحترفين والراشدين. ولا يستقيم الافتراض المزدوج هذا إلا بتتمة أو شعبة ثالثة توحد المجتمعات المتفرقة والمختلفة، والأمم المتنازعة، في إطار واحد، تتضافر أجزاؤه وانقساماته ونزاعاته ومصالحه على تشخيص «تناقضات» متصلة، وسبل سياسة متواردة ومترابطة. ويجوز، منذ اليوم، بل ينبغي تخطي الفيديرالية الأممية وائتلافاتها الداخلية والقارية الى مركزية حديدية سندها الأول التوسع الرأسمالي في مراحله الاحتكارية والمندمجة الأخيرة، وسندها الثاني «النظرية الثورية» المتجسدة في طليعة متماسكة. وتجمع الطليعة أمرين: الأول «السلاح» النظري، النقدي والتشخيصي الوصفي، والثاني ملابسة النضالات العمالية وهيئاتها وروابطها على المعنى الدقيق ثم على معنى أوسع فأوسع واستدخالها والاستيلاء عليها. واجتماع الأمرين يستوفي وجهي الترجح العتيد، ويستجيب شرطيه: التلقائية الداخلية والعضوية، والتدبر المدرك والجامع. ولكن الماركسية، تلك التي كان يعلم كارل ماركس في أواخر أيامه أنها ليست معتقده ولا مذهبه، تخففت في مرحلتها (أو رحلتها) اللينينية من ترجحها، أي من رابطتها الأقوى والأوثق ربما بـ «العصر» الذي صدرت عنه، وبنقائضه وأضداده وتلبيساته، وعلل دينامياته الحضارية والبربرية معا، على زعم فالتر بنيامين.
وليست قولة انطونيو غرامشي، مستهلا حياته الفكرية والسياسية، في الثورة البلشفية الروسية انها «ثورة ضد (رأس المال)»، أي الكتاب، إلا تمويها على ازدواج مقالات صاحب «البيان الشيوعي» و«رأس المال» وإنكارا عليه. والتمويه الغرامشي حقيقي، على طباق رفعه أراغون علما على أدبه. فهو يفترض أن «رأس المال» ناط الثورة العمالية باكتمال شرائطها الإنتاجية والرأسمالية وفي مقدم الشرائط تجانس المجتمع الطبقي، وبتأهيل الشرائط البروليتاريا إلى القيام بالثورة مباشرة أي من داخل وحدات الإنتاج، والاضطلاع بها كلها من غير وسيط سياسي (مسلح) متربص وسري. وتاريخ العقود الثلاثة التي سبقت الانقلاب اللينيني (وهو الثورة الروسية الثانية )، في شقه الاشتراكي ــ الديموقراطي «المراجع» وفي شقه الانقلابي، نبه إلى إزمان الثورة الخروج عن سكّتها المفترضة، وإدمانها هذا الخروج. وكان صاحب الكتابات السياسية في حوادث التاريخ الفرنسي الحديث والمعاصر، منذ ١٧٨٩ الى ١٨٧٠، وفي أحوال ألمانيا القومية والعمالية (منذ ١٨٤٨ الى السبعينات والثمانينات البسماركية)، ارتاع بإزاء قصور البورجوازيات الأوروبية السياسي، واستخذاءها المعنوي، وتخلفها عن قيادة السيرورة الرأسمالية وابتكار «دولتها». ولكن ملاحظته القصور والاستخذاء والتخلف لم تسلمه إلى تكليف «الطبقات الكادحة»، على قول تقارير العمل الإنكليزية، وبالأحرى إلى من ينوب عنها من غير ان تدري وعن علمها الخُبُري (ثمرة التجربة)، بالثورة و«دولتها».
وإغفال الوجه الاجتماعي ــ التاريخي و«الجمالي»الروائي أو الدرامي من مقالات ماركس السياسية يجيز كلام غرامشي على الضدية ويعذرها معا. وهو، على هذا، يموه على التمويه، ويدعو إلى إهماله والإشاحة عنه. فيزعم، في وقت واحد، التزام الثورة اللينينية البلشفية والستالينية من بعد (من بعد وليس معا ولا كلا وجميعا) ــ «ماركسية» أعمق من حرف «رأس المال» الذي يفترض نصيرُ البلشفية اللينينية الإيطالي أن الاشتراكية ــ الديموقراطية الألمانية، وأشياعها الأوروبيين المتحفظين عن إنشاء الأممية الثالثة، تتمسك به، وتنحرف حكما عن روحه وحقيقته، فيما هي، الثورة، تنفجر في بلد لم يبلغ العتبة الرأسمالية. ويدمج غرامشي أو يخلط، شأن لينين من قبل ومن بعد، الانقلاب على القيصرية، وعلى جبهة الحرب الإمبريالية، في قيام الشعب الروسي والشعوب «الوطنية» على نظام الاستبداد والمراتب الاجتماعي، ويلبس رفضَ الحرب المدمرة لبوس طلب سلطة السوفيات البلشفية. فيصور التمرد على الحرب وخسائرها وفظائعها وضعف كفاءة قادتها، وخوضها لدواع تتصدرها تبعية القيصر وأسياد الأرض و«البيروقراطية البوليسية المركزية» (ماكس فيبير) لرأس المال المصرفي ــ المالي وقروضه الدولية الكاسرة، يصور «غرامشي ــ لينين» التمرد هذا على صورة حل التناقض المركزي أو الرئيسي وإنجاز سيطرة المنتجين و«تعاونياتهم» على سيرورة الإنتاج وشرائطها العامة ومقدماتها ونتائجها الإناسية (الأنتروبولوجية). وهذا ما يُظن أن «رأس المال»، على قولة الإيطالي، تناولَه وعالجه. ويستبق الخلط اللينيني تشخيص «اممية» ستالين الثالثة السيطرة النازية على ألمانيا، ثم إعداد ألمانيا النازية والهتلرية العدة للحرب الكونية القادمة، في حلة أزمة الرأسمالية العامة وسيطرة الاحتكارات الصناعية على السلطة وتحالفها مع البورجوازية الصغيرة المحبطة، وغيرها مثلها من التلصيقات المرتجلة والعابرة.
الأقنعة والجهاز
ويخالف التمويه على التمويه هذا ما يقوم من مقالات ماركس السياسية مقام «المنهج» من غير منهجية (فليس في السياسة إجازة علاّمة أو «آية الله» ومرجع تقليد، على قول الأميرال دي بولينياك، الفرنسي البروتستانتي، من طريق الكاردينال دي ريتس)، على ما تقدم القول. فالأدوار السياسية والتاريخية الموكلة الى الطبقات الاجتماعية، وهي مهمات المراحل في التنميط اللينيني ــ الستاليني الآتي، ما هي في مقالات ماركس إلا خيالات أو استعارات متشابهات يستعين بها التحليل الى قياس الانحرافات الجوهرية والضرورية. والخيالات والاستعارات هي ثمرة ما أغضت عنه مقالات ماركس، وأغفلت تخصيصه بالمعالجة، وهو الثورة السياسية «الديموقراطية البورجوازية» على ما افترض صاحب «١٨ برومير لوي بونابرت». ولكن إغفال التخصيص، أو السهو التام عن المسألة، لم ينجم عنه العمى عن بعض النتائج الجوهرية وأولاها خلو وفاض البورجوازيات الأوروبية المعاصرة من مثال سياسي خاص ومن طاقم سياسي مناسب، ومناقضة السيرورة الرأسمالية استقرار طبقة على مكانة أو مرتبة وقيادة، ريعية حكما. فتقرير المرحلة ومهماتها، ثم تقرير الأدوار، والخلوصُ إلى قياس الجدارة بالدور ومهماته أو النكوص عنه وعنها، وحملُ الحوادث السياسية والعسكرية والاقتصادية على مترتبات لازمة عن نظام اجتماعي وطبقي متماسك، أو عن «نمط إنتاج» ــ وإلى التمويه على التخليط، واستيلاد الخليط سياسات مروعة لا يعذرها غدر مزعوم أو «انحطاط بيروقراطي» مباغت أو حصار وتطويق في بلد واحد...
والحق أن مقالات صاحب «البيان» انتهت الى معظم من انتهت إليهم بواسطة «روح العصر»، من طريق التمويه أو الدمج اللينيني فاللينيني ــ الستاليني. ولعل «الماركسية ــ اللينينية» (هذه المرة) هي من غرائب المتشابهات والاستعارات التاريخية المولودة من كونية التوسع الرأسمالي والديموقراطي الغربي. وتولت «الماركسية» في هذه السياقة، أداء دور من الأدوار المسرحية الكثيرة التي حفل بها المسرح البورجوازي و«الرأسمالي» في مرآة صاحب «رأس المال». فهي دعيت، خلف أقنعة الأحزاب الشيوعية المحلية والتيارات «الديموقراطية» والحركات القومية واللينينية العامية والمثقفين والتقدميين والنقديين، إلى أداء دور المراوغ («مراوغة التاريخ» أو «مراوغة العقل»، بحسب الاصطلاح) في بعض «المسرحيات» التاريخية الأوروبية، أو دور المقلد المدمِّر في بعض المآسي الآسيوية والجنوبية. فتصدي الحزب اللينيني ــ الستاليني لإنجاز «كهربة» روسيا وملحقاتها وولاياتها ــ أي تصنيعها السريع من عوائد وفوائض زراعة الفلاحين في الأرياف، في عهدة مندوبين حزبيين و«عماليين» هم من بقايا حرب أهلية وخارجية عاصفة، ندبتهم إدارة مركزية وبيروقراطية مرتجلة الى مهمات تقريبية تُدخل الاقتصادي في الأمني البوليسي والأمني في الاقتصادي ــ نصّب (التصدي) الحزب العتيد جهازا مفترسا يلتهم القوى الاجتماعية التي يقوم وليا مطلقا عليها، ويحول بالعنف المرسل بينها وبين استوائها وتخلُّقها الاجتماعيين والسياسيين. وتولى الحزب، وهو نشأ في ابتداء أمره ليصوِّب، من خارج ثوري ونظري مفترض تتعهده الماركسية، انحرافَ الطبقة العاملة صوب حركات وبرامج اجتماعية ومطلبية، قيادة انتزاع العوائد والفوائض الزراعية غصبا وقسرا ومراكمتها «الاشتراكية» الأولية وتولي قبل المراكمة الاشتراكية الأولية وبعدها، بناء الأجهزة الأمنية والإدارية و«القضائية» والتربوية والتمثيلية («الانتخابية») التي أوكل حزب ديكتاتورية البروليتاريا إليها حماية التصنيع الثقيل ومصادرة المزارعين والفلاحين على محاصيلهم وآلات عملهم وبعض مأكلهم وطعامهم، وبناء قوة عسكرية ساحقة.
وفي كلتا الحالين، اضطلاع الحزب الاشتراكي ــ الديموقراطي العمالي الروسي (الأكثري أو البلشفي) بالثورة الديموقراطية البورجوازية على القيصرية «الآسيوية» ثم قيادته إرساء الأسس المادية للبناء الاشتراكي، كان الحزب «الماركسي ــ اللينيني» فاللينيني ــ الستاليني قناعا سافرا لاستيلاء جهاز سياسي محترف على السلطة المطلقة في مجتمع خاوٍ تقوم فيه الأبنية الاجتماعية الأولى أو النواتية (الأسرة، العزبة، الجماعة المحلية، المشغل الحرفي... ) مقام مسند مقاومة لا تطيقها السلطة المطلقة الجديدة، ولم تفلح في إنشاء ما يحل محلها من طريق وحدات إنتاج و«علاقات» إنتاج مصطنعة. وحملت السلطة المطلقة (والمقيَّدة فعلا) الجديدة المقاومات الاجتماعية الكثيرة، والمبثوثة في قلب العلاقات الاجتماعية والسياسية، على مقاومة سياسية وإيديولوجية واحدة غايتها المشتركة هي زعزعة «السوفياتات»، أو القيادة البروليتارية التي تتقدم بناء سيرورة السلم والاشتراكية. وإذا كانت «البونابرتية» في مقالات ماركس السياسية والتاريخية قناع عجزِ البورجوازيات المتفرقة عن قيادة الدولة الجديدة، ونزولها عن القيادة إلى فريق متسلط يزعم التعالي عن النزاعات الطبقية الحادة والتحكيم فيها، وسنده أجهزة الدولة، فـ «الماركسية ــ اللينينية» الحزبية تمويه على افتقار القوى الاجتماعية في المجتمعات الطرفية الملحقة بالدول الكبرى و«الحواضر» الصناعية والمالية والعسكرية والثقافية، إلى تمثيل سياسي كثير المصادر والموارد، فيتولى بناء دولة تتمتع بالمشروعية، وتتعهد حقوق المحكومين الشخصية المدنية والسياسية ومساواتهم فيها. فهي، «الماركسية ــ اللينينية»، قناع على قناع، وإعادة إعادة، ومراوغة على مراوغة.
وليس مرد التقنيع والإعادة والمراوغة إلى تقدم الثورة المفترضة على شروطها المادية والاجتماعية، وإلى سبقها نضوج شروطها السياسية على الدوام ومن غير استثناء (جراء علاقة «الوعي» المضطربة وغير المعاصرة، واستطرادا السياسة، بالشروط الاجتماعية)، وحسب، فعامل التقنيع... الأول ربما تولته «الماركسية ــ اللينينية» في صيغة الجهاز الستاليني الذي رعته الأممية الثالثة ونشرته. وأداتها الفاعلة جمعها العملي «التناقضات» المتفرقة في أنحاء المجتمع الواحد، أو في كتل المجتمعات، في «تناقض مركزي» واحد، مفتعل، يتفرغ الجهاز لإنشائه وتحقيقه وخدمته أو خدمة اسطورته، معا. ومن طريق المبنى أو المثال الحزبي هذا وسع بيروقراطيات محلية كثيرة، وراء البيروقراطية «السوفياتية»، إعمال علم الأقنعة المموهة في دمج المنازعات المتفرقة الكثيرة والمختلفة في منازعة واحدة تدور على السلطان المركزي والحاكم. وعلى خلاف البونابرتية في مقالات ماركس ــ حيث هي اعادة مقنعة لأسطورة مثناة تمجد طبقة الفلاحين العسكرية وفتوحاتها وإقطاعاتها وتدعى من طريق سحر الاسم والهالة إلى مساندة قيادة مفارقة واستفتائية وتعبئتها في خدمة تصنيع تشارك المصارف في تمويله وعوائده مشاركة راجحة... ــ تفترض «الماركسية ــ اللينينية» الجهازية الحزب البيروقراطي المركزي عبارة ناجزة أو مستوفية شروط العبارة عن الطبقة المحتجبة ومصالحها الخاصة والعامة.
تقانة البيروقراطية
والاستيفاء، أو المطابقة، إنما يستقيم ويصدق من طريق اقتصادوية بعض مقالات ماركس الاجتماعية (أي السوسيولوجية) وتناوله «البورجوازية الصغيرة» على وجه التخصيص. فهو خلص من هجنة «الطبقة» المزعومة هذه، ومن انتفاء صفة التجانس عنها، الى ذبذبة سياسية وإيديولوجية محتومة ولا راد لها. فجمع في باب مشترك منازع تيارات عمالية عميقة الجذور تترجح بين أنصار برودون الفرنسي، اصحاب التعاونيات الموازية على مثال أسري وائتلافي، أخلاقي وتقليدي، وبين أنصار باكونين الطلقاء والمتربصين بصور الانضباط والإكراه، إلى المائلين مع «اشتراكية الدولة» البسماركية... وهؤلاء وغيرهم كثر، لا يستقيم جمعهم إلا بإزاء «عمال» و«عماليين» أقحاح يدمجون في كل وجميع متجانس أحوالهم الموضوعية و«وعيهم الطبقي». فتقود الاجتماعيات التقريبية والجادة، المجردة من التنبه الى سخرية التكرار والحياد (عن التمثيل المستوفي) الدرامية، إلى «النضال الإيديولوجي المرهِص» بالتبديع والانشقاق «الأهلي» والعنف. ولا سبيل في مثل هذه المعمعمة، لا إلى التماس التفاوت والاضطراب في «النفس» العمالية والقويمة المفترضة ولا إلى كبح الإدانة والتكفير والحرم. فيلابس التجسيدُ ومثاله الديني أصحابَ العلم وأهل «وعي الطبقة» المستوفي شرائط حد الوعي وحد الطبقة معا. فيسعهم، وهم على حالهم البروليتارية وسِمْتهم الثوري، قيادة الثورة البورجوازية والرأسمالية في روسيا، وخلافة القيصرية على توسعها بأوروبا وفي القوقاز وآسيا الوسطى، وشق الحركات الاشتراكية بألمانيا وفرنسا وإيطاليا والنمسا وإسبانيا، وإضعافها إضعافا مدمرا في ألمانيا وإسبانيا والنمسا قبل الانقلاب على نهج «طبقة ضد طبقة» وانتهاج سياسة «الجبهة (الشعبية) المناهضة للفاشية» ثم الانقلاب على الغرب والفرجة على سحق الجيوش الألمانية أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية... وتوسلت الحركات القومية بـ«الماركسية ــ اللينينية»، وركناها المعيار الطبقي الصارم وجمع المنازعات في منازعة «طبقية» وأهلية واحدة ومركزية يحسمها الاستيلاء التام على سلطة مطلقة، إلى تمويه حركات استيلاء وثورات تتقاسم في ما بينها صدورها عن «الماركسية ــ اللينينية» وتقانتها وإنشاءها بيروقراطية إيديولوجية وعسكرية ــ بوليسية وإنتاجية آمرةٌ وطاغية. وبعض الحركات والثورات جمح إلى إعمال الجهاز البيروقراطي في مجازر ومقاتل عظيمة. ونزع بعضها، في كمبوديا الخمير الحمر، إلى الإبادة من طريق استبدال روابط الأهل والجوار بعلاقات الإنتاج، وذلك في إطار فرقة تتولى «المنظمة» (الانغكار) إنشاءها.
ولعل شرط اجتماعيات الطبقات الأوروبية هذه، وتنصيبها على شاكلة بنيات سياسية وتاريخية كاملة الخلقة، هو فك السيرورة الرأسمالية وثورتها الإنتاجية من الثورة الليبرالية والديموقراطية وبعديها الحقوقي والسياسي. وعلى وجه أدق، حملت مقالات ماركس الثورة الليبرالية والديموقراطية، على قناع السيرورة أو السيرورات الرأسمالية. وحملت المجتمع البورجوازي، الليبرالي والديموقراطي، على صورة مموهة ومضطربة وموقتة، في انتظار جلائها الوشيك، عن المصنع الرأسمالي الكبير ورسمه التنظيمي والإنتاجي الواضح. وترتب على هذا، في ما ترتب، دعوة ملحة الى تعجيل اختصار صراع الطبقات، أو الطبقتين، وإرسائه على قطبيه، و«تطهيره» من مخلفات أو زوائد مراحل سابقة مضللة لا دور لها إلا حرف الوعي والعمل عن جادتهما القويمة. وينبغي، في هذا السبيل، إيجاب النزاعات السياسية والاجتماعية والحقوقية على مثال مجرد، ونفي الالتباسات منها، ونسبة الالتباسات بدورها الى تزويقات وتشبيهات أهل القوة والسلطان، وإلى تخلف الوعي عن موضوعاته. ويخالف هذا مخالفة حادة المقالات الكثيرة في الانعطافات الثورية المعاصرة، وفي تعقيد العمليات الرأسمالية وتشابه دلالاتها ومآلاتها. وهو يغفل عن وقائع معاصرة عظيمة مثل نهوض الدولة «البورجوازية» على ثورتي الحريات والحقوق، وائتلاف المجتمع «البورجوازي» من الأفراد ومثال مساواتهم. وبثت هذه، مجتمعة أو منفردة، في مفهوم السلطان وأركان إنشائه معاني أبنية إجرائية وعملية طوت المفهوم السابق، وقوّضت أركانه الفوقية والقسرية، وحالت بينه وبين الجميعية (دمج دوائر العلاقات الاجتماعية المتفرقة، السياسية والإنتاجية والاعتقادية في مركز واحد «كلي») إلا من طريق «ثورة محافظة» بالغة العنف غالبا. وعلى هذا، فمعنى أو دلالة كيان عمالي او فلاحي أو بورجوازي كبير أو كيان سياسي أو محلي أو أهلي... في مجتمع «بورجوازي» وفي إطار «دولة قانون»، ومعنى «هذا» الكيان أو نظيره في مجتمع «غير بورجوازي»، ليسا واحدا. ولا تصدق في الحالين اجتماعيات واحدة. والسبب في الافتراق أو الداعي الى إلإقرار بهذا السبب وقبوله هو داع ماركسي: فمقالات صاحب «البيان الشيوعي» و«١٨ برومير...» جلت على نحو قاطع تغير معاني وأدوار العوامل أو الأبنية والهيئات «الواحدة» (النقود، الأسرة، الأرض، التوزيع...) بحسب تغير «الكل» الاجتماعي ــ التاريخي الذي ينطوي أو يشتمل عليها. فهو ذهب الى تعريف موضوع التاريخ الأول، والتاريخ نفسه، بانقلاب قواعد «الأنماط» الاجتماعية، وغلبة «أثير» واحد ومشترك على الظواهر تبين به معاني هذه الظواهر من نظيرها السابح في أثير آخر. والافتراق، أو العَلَم على علاقات العامل بالعوامل الأخرى وبالكل، هو جوهر التعريف والتخصيص التاريخيين والاجتماعيين.
وبينما تنزع المجتمعات الى التعولم على مثال معلن، وتيمم إلى الاشتراك في «أثير» اجتماعي ــ تاريخي يميل الى التجانس من غير التخلي عن توسيع الفروق أو تعميق التفاوت وإنما على مقياس واحد هذه المرة، وفي ضوء القرن المنصرم منذ انفجار الحرب العالمية الأولى، تبدو سيرورات «الماركسية» الكثيرة، والمتفرقة وجها سباقا من وجوه منازع التعولم. وإذا صُرف النظر عن تحدر أنساب الافكار والافعال من أصلاب تُزعم مشتركة، ولم يتولَّ أنصارُ مذهب الانتشار أو الانبثاث (أي الانتقال من بؤرة الى بؤرة من طريق الاتصال والأثر المباشرين على مثال توارث الديانات معتقدات «واحدة» أو على مثال استيلاد «الغولاغ» و«انغكار» و«معسكرات التأهيل» الصينية والفيتنامية والكورية من «الماركسية») توثيق تحدرها وانتشارها ــ بدا إسهام الأحزاب العمالية والاشتراكية الاوروبية، وبيروقراطياتها المتعاظمة عددا ودورا في تعميم الجهاز الحزبي الثوري راجحا. فالحركات العمالية والاشتراكية الاوروبية شاركت مشاركة فاعلة في استقرار إدارة رأسمالية بيروقراطية في المصانع، وفي الوحدات والمجتمعات الصناعية الكبيرة. ونهضت الادارة البيروقراطية على قسمة حادة بين «طبقة» الآمرين والمنظمين والمهندسين من غير المالكين، وبين «طبقة» المنفذين والمأمورين. وكانت الفوردية أو التايلورية (نسبة الى هنري فورد الثاني صاحب مصانع السيارات الشهير أو إلى تشارلز تايلور، مهندس الانتاج الاول)، وتقطيعها العمل على خطوط الانتاج أجزاء منفصلة ينفذها العمال آليا، انجاز البيروقراطية الرأسمالية الكبير، وتكريسها غلبة السيطرة الفعلية على السيطرة «الشكلية»، وفائض القيمة النسبي على الفائض «المطلق» والبدائي. وهو استتبع، غداة الحرب الأولى وفي دوامة الأزمة «الكبرى» بعدها، سياسة أجور اجتماعية واقتصادية بالغة الأثر. فمهدت الأجورُ العالية، والمفاوضة على الاجور مع نقابات قوية التمثيل، وعلى تنظيم الخطوط والأوقات والتسديد والعطل والضمانات، الطريق إلى «العقد الجديد» ودولة الرعاية ومجتمع الاستهلاك. وأكملت السياسة الروزفلتية الاميركية ما ابتدأته «اشتراكية الدولة» البسماركية الألمانية، واستأنفته «رأسمالية الدولة» السوفياتية استئنافا مروعا، على نهج ليبرالي واجتماعي. فدمجت «الطبقات العمالية» في مجتمعاتها الوطنية، وفي دولها. وأقامت حاجزا صفيقا بين دائرة العمل، وتجديد عوامله الحيوية والاجتماعية، وبين دائرة الحياة العامة خارج أوقات العمل وأمكنته و(بعض) علاقاته.
واستعار لينين، منذ الأعوام الأولى من القرن العشرين، كنايات صناعية وتنفيذية للتمثيل على بنية حزبه الثوري وقيادة الاستيلاء «العمالي» على السلطة. وأوكلت الكنايات الى الانضباط المصنعي «تربية» الطبقة العاملة الثورية وتأهيلها على طريق القيادة السياسية العامة والانقياد الحزبي. وركنا الحزب اللينيني هما، أولا، تجريد العمل المصنعي «العامل» والثوريَّ المحترف من بعد، من روابطه الاجتماعية الأهلية السابقة، وقطع أواصره بجماعات وأبنية تعوق سيولة تقلبه بين الأسر والبلدان والمدن، وثانيا، تأهيل الثوري المحازب والمحرر من الاختصاص المهني أو الاجتماعي أو المحلي للانبثاث في ثنايا النزاعات الاجتماعية والسياسية كلها ووصلها بعضها ببعض من طريق المنظمة الحزبية المركزية. ويحاكي ركنا الحزب الثوري صنيع السيرورة الرأسمالية في وجوه الأبنية الاجتماعية كلها: النواتية العائلية، والمهنية المحلية، والدولة الوطنية في دوائرها الاقليمية والدولية. وغَلْقُ لينين قطر الدائرة بين قطب المصنع الأضيق والأقرب وقطب الامبريالية الأوسع والابعد أرسى الحزب، أي القيادة البيروقراطية الثورية، على رسم رأسمالية عالمية مجتمعة ومتناحرة. فوسع الحزب، أي «فكرته» على مثالها «الاممي الثالث»، تعليق أصناف المجتمعات والعلاقات الاجتماعية المتفرقة، على قطر الدائرة ومواضعها كلها، ثم استعادة المواضع الى المركز على صورة روافد فرعية تصب في قلب جامع وتصدر عنه. وليس الحزب الثوري، من خلاياه وفرقه المحلية والجزئية الى ذروة أمانته العامة ورئاسته العالميتين إلا الضد القطبي، وكفء «الامبريالية» العالمية، وصورتها «الموضوعية» السالبة. فلم تلق الاممية الثالثة، وهي عقدة طرق «الماركسية» ومسالكها الى المجتمعات الجنوبية الأسيوية والاميركية اللاتينية والفلاحية بقلب أوروبا، عسرا في التكلم بلغة مشتركة نسبت الى «ماركس ــ لينين». ومثال اللغة المشتركة المحتمل هو العملة (النقد) الرأسمالية. وكان صاحب «رأس المال» لاحظ أن «الروح»، في عبارة «روح العصر»، أو «روح الأمة» أو «الحضارة»، هي «العملة» التي تحل السلع المختلفة في مادة مشتركة تجيز مبادلتها واحتساب قيمتها في ميزان مجرد واحد. فيصدق القول أن الحزب «الماركسي ــ اللينيني»، والنظرية الثورية المعلنة أو المضمرة، روح الروح وعملة السوق الثورية المشتركة، على اختلاف مراحلها، وأداة مبادلاتها وترجمة ادوارها الى دور واحد. والتناقض الرئيسي، والقطيعة الثورية، ودور الحزب القائد، وأوسع التحالفات، والمرحلة الوطنية الديموقراطية، الى الطبقة العاملة والفلاحين والطبقات الوسطى الثورية (والمثقفين الثوريين)، والصراع الطبقي على الصعيد العالمي... وهي بعض مصطلح هذه السوق.
فكانت عملةُ السوق الثورية المشتركة البنيةَ التحتية التي نهضت عليها حركات سياسية واجتماعية، وطنية واصلاحية، مسلحة وبرلمانية، قومية وجماهيرية، شعبوية وطليعية، متسلطة و«ديموقراطية»، لا تحصى، ومن الألوان والمشارب كلها. واضطلعت بدور راجح في ترجمة النزعات المتباينة بل المتناقضة والمتدافعة في لغة وأبنية حديثة وعصرية. والترجمة عصرنة وتحديث فعليان وشكليان. ولما كانت الترجمة عامة في «عصر» الامبريالية ثم في عصر العولمة (الرأسمالية والسوقية)، لم تَعصَها وتمتنع منها، للوهلة الأولى إلا «القيم» الريعية الصلبة، مثل الديانات غير الاوروبية والعصبيات والهويات القومية والعرقية والثقافية الطرفية، قبل أن تلتحق بدورها في الركب وراء أقنعة «الجهالة»، على ما نبه بعضهم، ومسرح الشعائر «التقنية» (وتقنيات الموت منها). واقتصار الإختيار على حدّي مداولة العولمة وسوقية من غير «قيم»، من وجه، و«قيم» تمتنع من المداولة وتتحصن في حرز متآكل يطل على الحداثة وترجمتها من طريق الموت النووي، من وجه آخر، هذا الاقتصار يصيب سيرورات الإحياء في مقتل. فالهشاشة عامة، ولا يحتاج الخلاص إلا أقل من انبعاث الآلهة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.