العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

تصفية حساب مع التجربة السوفياتية

تقييم ودروس

النسخة الورقية

قدّمت «جمعية اللقاء» هذا النص في إطار مداولات من أجل إعادة تأسيس اليسار اللبناني ضمت الحزب الشيوعي اللبناني وعددا من المجموعات والشخصيات اليسارية خلال العام 2009. لم تعمّر المحاولة. لكن النص «الناجي» اجتهاد في التجربة السوفياتية يستحقّ النشر والنقاش.

1• انتصر البلاشفة في ثورة اكتوبر ١٩١٧ الروسية لأنهم تجرأوا بالدرجة الاولى على طرح مسألة السلطة. لم يكن تسلّم السلطة من قبل مجالس العمال والجنود (السوفييتات) ذات الاغلبية البلشفية تعبيرا عن جهوزية المجتمع الروسي لثورة اشتراكية تحلّ التناقض بين رأس المال والعمل. بل كان حسما لتوازن قلق بين سلطتين: سلطة الحكومة المؤقتة ذات وجهة جمهورية برجوازية، وسلطة منافسة قاعدتها مجالس العمال والجنود والفلاحين. وكانت المجالس في البدء تطرح شعارات ديمقراطية جذرية معبّرة وجاذبة لجماهير واسعة: اعلان الجمهورية، الحقوق المدنية، جيش وشرطة قائمان على اساس ديمقراطي، الغاء التمييز الديني والاثني وانتخاب مجلس تأسيسي. غير ان التناقض بين الحكومة المؤقتة والمجالس دار مدار قضيتي الارض والسلام. فيما كانت حكومة كرينسكي تريد مواصلة الحرب، كان الجناح البلشفي يدعو الى الانسحاب كليا من الحرب الاستعمارية ومن مجازر خنادق الحرب العالمية الاولى. اما الشعار الثاني فكان شعار «الارض للفلاحين» الذي كان يعبّر عن عميق تطلعات السواد الاعظم من الريف الروسي. من هنا معادلة لينين ان الفلاحين صوّتوا للثورة بأرجلهم، بما هم الفلاحون ــ الجنود الذين فرّوا من الحرب وجاؤوا ليثبتوا حقهم في الارض. والاهم ان البلاشفة نجحوا في ان يقدموا انفسهم على انهم الطرف الاقوى والاصلح لمقاومة قوى الردة المسلّحة الممثلة لبقايا النظام القيصري بقيادة كورنيلوف والمدعومة من قوى التدخل الخارجي. فقد اضطرّت الحكومة المؤقتة برئاسة كرنسكي الى الاستعانة بالحزب البلشفي وبـ«الحرس الاحمر» التابع له لصد هجوم قوات كورنيلوف على بتروغراد. هزم «الحرس الاحمر» جيوشَ كورنيلوف ونال البلاشفة الاغلبية في مجلسها السوفياتي.

انحكمت التجربة السوفياتية منذ البداية بتناقض اساسي. انه التناقض الكامن في تعريف لينين نفسه لروسية: روسية الآسيوية المتخلفة اقتصاديا كانت في الوقت ذاته روسية المتقدمة سياسيا. وكانت روسية متخلفة اقتصاديا لسيادة نمط الاستبداد القيصري والاقطاعي وضعف التطور الرأسمالي والغلبة الفلاحية السكانية، ومحورية مسألة الارض، وصغر حجم الطبقة العاملة على الرغم من تمركزها الصناعي. وقد انعكست تلك المفارقة بين الاقتصاد والسياسة في الصيغ التي اعتمدها البلاشفة للتعبير عن طبيعة الثورة ومهامها: «الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين». ولئن افتتح لينين العهد الثوري بأن اعلن «الآن نشرع في بناء الاشتراكية »، الا انه ما لبث ان أعاد تعريف الهدف الاشتراكي بما هو مهمة تنموية تحديثية في ظل سلطة عمالية وفق معادلته الشهيرة: «الاشتراكية = السوفييتات + كهربة البلاد».

روسيا المتقدمة سياسيا والمتأخرة اقتصاديا

2• «التقدم الروسي السياسي» ــ المتمثل بنضج القوى الثورية وتشكيلاتها المجالسية ــ جعل من روسية «الحلقة الاضعف» في السلسلة الامبريالية. بذلك قلب لينين معادلة ماركس الذي توقع ان تقوم الثورة الاشتراكية في «الحلقة الاقوى»، وتحديدا في بريطانيا، البلد الاوروبي الاكثر تطورا وتصنيعا والاقوى بين الدول الاستعمارية. مع ذلك، راهنت القيادة البلشفية المنتصرة على ان تكون ثورتها الشرارة التي تشعل الثورات العمالية في بلدان الغرب الرأسمالي الصناعي المتقدم. ولكن بعد اخفاق الثورتين الالمانية والمجرية (١٩١٨ ــ ١٩٢٣) وجدت روسية نفسها وحيدة وقد تقلّصت حدودها بعد اجبارها على التنازل عن مساحات واسعة من اراضيها خلال «صلح بريست ــ ليتوفسك» مع المانيا (آذار ١٩١٨). وكانت روسية، في تلك السنوات، تدافع عن ثورتها في وجه عدوان خارجي وردّات مضادة للثورة اهلية ومسلحة متعددة الاطراف. سمّيت تلك الفترة فترة «شيوعية الحرب» وتكبّدت خلالها شعوب الاتحاد السوفياتي التضحيات الجسمية ــ وصلت في حالات عديدة حدود المجاعة التي قضى فيها الملايين ــ ثمنا للانتصار على القوى المعادية الداخلية منها والخارجية.

3• عند الخروج من «شيوعية الحرب»، صيغت السياسة الثورية على فرضية ان البنية الفوقية «المتقدمة» لروسية (السلطة المجالسية ــ السوفياتية ــ للعمال والجنود والفلاحين) تستطيع ان تجرّ البنية التحتية المتخلفة (شبه الاقطاعية والرأسمالية المحدودة التطور) نحو تحقيق مهمات الديمقراطية التنموية التحديثية وارساء القواعد المادية للانتقال الى الاشتراكية.

تمثّل الطابع «المتقدم» للسلطة السياسية في كونها تجربة في الديمقراطية المجالسية المباشرة استلهمت نموذج عامية باريس سنة ١٨٧١ وتقوم على الانتخاب المباشر من قبل المنتجين لممثليهم في الحكم مع احتفاظهم بكامل حقوقهم في مسائلتهم ومحاسبتهم واستبدالهم اذا لزم الامر دون التقيّد بمهل زمنية. لم تعمّر تجربة السلطة المجالسية طويلا. سرعان ما انفكّ التحالف بين البلاشفة والاشتراكيين الثوريين، الحزب الاكثر تمثيلا للفلاحين، واستأثر البلاشفة بالسيطرة في المجالس. هكذا افتتح عهد حكم حزب واحد ذي قاعدة عمالية مدينية بالدرجة الاولى هو الحزب البلشفي الذي بات يختزل في ذاته التحالف بين العمال والفلاحين.

حين الخروج من حقبة «شيوعية الحرب» ارتضى لينين ان يحقق تراجعا كبيرا الى اقتصاديات السوق في ما سمي «السياسة الاقتصادية الجديدة». سمحت الحكومة السوفياتية بعودة أشكال من الملكية الفردية الصغيرة والمتوسطة في الريف خصوصا، واعيد تشغيل آليات السوق في مجال تصريف المنتجات الزراعية والحرفية، الخ. على ان المفارقة الكبرى في تلك الانعطافة ان القيادة البلشفية رفضت التراجع عن الديمقراطية السوفياتية ــ المجالسية المباشرة باتجاه ديمقراطية سياسية وقانونية تعددية. جرى العكس تماما. حلّ محل الديمقراطية المجالسية نظامٌ استبدادي فرض حكم الحزب الاوحد على البلاد، شديد الارتكاز على الاجهزة البوليسية والعسكرية، في الوقت الذي كانت فيه البيروقراطية تستوعب الانشط من بين كوادر الحزب والعمال المناضلين. وبديلا من التراجع الى صيغة ديمقراطية سياسية اكثر تواضعا، وأنسب توافقا مع الظروف الموضوعية لتطور روسية التاريخي، جرى اعدام الديمقراطية كليا.

من الشرعية الثورية الى الشرعية الوطنية

4• بعد وفاة لينين، وانتقال مركز الثقل في الحزب والدولة لشخص ستالين والجهاز البيروقراطي، تمّت تنمية روسية «المختلفة اقتصاديا» بوسائل هي نفسها «متخلفة». بعبارة ادق، عملت الستالينية على اخراج روسية من «الهمجية» بوسائل هي نفسها «همجية»، حسب التعبير اللامع للمؤرخ الماركسي البولوني إسحق دويتشر ). لافتقارها الى المستعمرات، وبسبب خسارتها مناطق كبيرة وغنية من اراضيها في صلح بريست ليتوفسك، حققت روسية التراكم الاولي لرأس المال بأن أكلت من لحمها الحي. جرى تصنيع المدن على حساب الريف بواسطة حملات التجميع القسرية للزراعة والسيطرة على اسعار المنتجات الزراعية وممارسة العنف الدموي على الفلاحين. في الريف، صار العدو الرئيسي هم الكولاك، ابناء طبقة مالكي الارض المتوسطين في الريف الذين شجعت «سياسة الاقتصادية الجديدة» اصلا على نشوئها ونموّها. وقد اصابت التصفيات الريفية الدموية الزراعة السوفياتية بإعاقات وتشوّهات مستدامة. اما عملية التصنيع فقد ارتكزت الى قاعدتين: عسكرة العمل الصناعي والسيطرة على النقابات.

الى هذا كله، اضيف العنف والضبط البوليسي الحديدي على المجتمع ككل. وكانت التتمة معروفة على الصعيد السياسي: حل الحزب محل الطبقة وحلّت اللجنة المركزية محلّ الحزب الى ان حلّ الدكتاتور محل اللجنة المركزية. وكان للحزب النصيب الاوفر من حملات التصفية الستالينية على قاعدة ان «اقربهم اليك اخطرهم عليك». بدأت التصفيات بقيادات المعارضة البلشفية ذاتها قبل ان تشمل الحزب عموما. فقضى لا اقل من مليون شيوعي في حملتي تصفية شملتا التيار «اليساري» في الحزب (بقيادة تروتسكي) في اواخر العشرينات والتيار «اليميني» (بقيادة بوخارين) في اواسط الثلاثينات.

مع اهتراء «الشرعية الثورية» للسلطة السوفياتية، وقد ضمر دور الحزب واستنزفت الحروب والتصفيات والوظيفة السلطوية طاقاته وكوادره، ونمت على حسابه بيروقراطية اوامرية متراتبة، جددت الستالينيةُ شرعيتَها من خلال الرعب الدموي واستدعاء الخطر الخارجي، الرأسمالي الغربي ثم الالماني النازي.

في مجال الانجاز: تصنيع روسيا وتحديثها، دور حاسم في الانتصار على النازية، دعم حركات التحرر في العالم الثالث، اجبار الرأسمالية على تنازلات كبيرة باتجاه دولة الرعاية، اهتمام مميز بالحقوق والتقديمات الاجتماعية.

خلال الحرب العالمية الثانية، التي تحمّل الاتحاد السوفياتي العبء الاكبر من أهوالها وقدّم في سبيل الانتصار على النازية لا اقل من عشرين مليون من ابنائه وبناته ــ جرى تجديد شرعية السلطة بواسطة التعبئة والانتصار الوطنيين تحت راية «الحرب الوطنية الكبرى» دفاعا عن «وطن الاشتراكية».

معضلة الاصلاح

5• مع انتهاء الحقبة الستالينية، كان النظام السوفياتي يواجه تحديات مفصلية ليس اقلها شأنا اندلاع الحرب الباردة وولادة عالم القطبين المتصارعين. على الصعيد الداخلي، أُحبطتْ محاولات الاصلاح الخروتشيفية ــ التي استلهمت «السياسة الاقتصادية الجديدة» اللينينية في العشرينات ــ جراء معارضة شرسة للبيرقراطية الحزبية والادارية. ادى هذا الفشل الى استنقاع النظام السوفياتي طوال مرحلة الركود البريجنيفية التي دامت نحو ربع قرن. وفي مناخ من الانفراج الدولي النسبي، احتدمت ازمة العمل والحوافز وقد شكلا وجهي الازمة الاقتصادية المتمادية للنظام السوفياتي.

ان الرأسمالية تدفع الناس الى العمل وزيادة الانتاجية سلبا بواسطة سيف البطالة المصلّط فوق رؤوس العمال والمأجورين، وايجابا بواسطة الاغراءات الاستهلاكية. من جهته ألغى النظام السوفياتي حافز العمل الرأسمالي فأسهم في تخفيف البطالة الى درجة تحقيق العمالة شبه الكاملة ولو تحت غطاء من اتساع البطالة المقنّعة والعمل الجزئي. فأي حافز للعمل يحلّ محل البطالة والاغراءات الاستهلاكية؟ في البدء كانت الحماسة الثورية للسلطة السوفياتية هي ذلك الحافز. يرمز اليه أبطال العمل والانتاج (الستاخانوفيون). ثم حل القمع الستاليني تدريجيا محل هذا الحافز فصار واسطة قسرية لضبط العمل. وبعد انحسار فترة الحماسة الوطنية التي اطلقتها ملحمة الحرب الوطنية الكبرى، طرح خروتشيف «الحوافز المادية» شعارا للمنافسة السلمية بين الاشتراكية والرأسمالية. لم تنجح رأسمالية الدولة البيروقراطية في سباق الحوافز المادية الاستهلاكية مع الرأسمالية ولا هي قدّمت لمواطنيها وللعالم نمط حياة بديلا عن الرأسمالية، كالذي حلم به تشي غيفارا لإنتاج «الانسان الاشتراكي الجديد» بالاعتماد على الحوافز المعنوية وعلى نمو الخطة تدريجيا على حساب السوق والتغيير الجذري للقيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

6• جاءت الموجة الثانية من الإصلاحات التي حاولها غورباتشوف متأخرة وواهمة. متأخرة لأن استراتيجية الولايات المتحدة الاميركية الجديدة، المسماة «حرب النجوم»، طرحت على الاقتصاد السوفياتي تحديات مالية لم يستطع تحمل اعبائها للحاق بالخصم الامبريالي في سباق التسلّح. وكانت اصلاحات غورباتشوف واهمة اذ هي افترضت ان العالم الغربي سوف يكافئ الاتحاد السوفياتي على تفكيك اقتصاد رأسمالية الدولة، ويستقبل ايجابيا انفتاحها الاقتصادي والسياسي والثقافي على السوق الرأسمالية والغرب. واقع الامر ان الادارة الاميركية بقيادة رونالد ريغان كانت تعيش حمأة العمل من اجل القضاء على الاتحاد السوفياتي ــ الذي عمّدته «امبراطورية الشرّ» ــ ليس فقط بما هو حاجز أمام توسّع السوق الرأسمالية ولكن ايضا وخصوصا بما هو المنافس العسكري والنووي والمزاحم لاميركا على السيطرة الكونية. ولعل ما زاد من الهاجس الامبرالي الاميركي تجاه الاصلاحية الغورباتشوفية ان سياسة غورباتشوف الرامية الى بناء مدى اقليمي اوروبي تندمج فيه اوروبا الشرقية والوسطى مع اوروبا الغربية، كان من شأنه التأسيس لقوة اقليمية، اقتصادية، وسياسية، وعسكرية خصوصا، تهدد فعلا الاحادية القطبية التي كانت الولايات المتحدة عاقدة العزم على الانفراد بها.

7• في حال من الركود والازمة الاقتصادية المتمادية، لعبت قضايا القوميات والاقليات دورا حاسما في تفجّر الاتحاد السوفياتي وعدد آخر من دول «الاشتراكية المتحققة»، مثل يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا. هنا تضافر عاملان: اولهما التمرد على الهيمنة الروسية التي أطبقت لعقود على الدول الدائرة في فلكها. والثاني سعي كل جماعة إثنية او قومية او مناطقية للسيطرة على مداها وعلى ثرواتها ومواردها الطبيعية وقدراتها الصناعية والزراعية على امل ان يؤدي ذلك الى حل مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية.

حتى لا تضيع الانجازات

8• لا يستوي التقييم الموضوعي للتجربة السوفياتية دون التذكير بما حققته فعلا.

اولا ــ الاضطلاع بمهام تصنيع بلدان الامبراطورية الروسية السابقة وتحديثها وتحقيق مقادير عالية من تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية في شتى الحقول التي تغطيها الحقوق الاجتماعية للمواطنين.

ثانيا ــ لعب الاتحاد السوفياتي الدور الحاسم في تحرير البشرية من النازية. إذ لم يكن لاوروبا والعالم الغربي بأسره ان تنتصر على النازية في الحرب العالمية الثانية لولا القدرة العسكرية السوفياتية والتضحيات الجبارة لشعوب الاتحاد السوفياتي.

ثالثا ــ شكّل وجود الاتحاد السوفياتي ــ والاغراء الذي قدمه بما هو بديل من التنظيم الاجتماعي الرأسمالي ــ عونا كبيرا للطبقات الشعبية في اوروبا واميركا لكي تنتزع انجازات وتشريعات سوف تتراكم لتنتج رأسمالية من نمط جديد هي الرأسمالية الاجتماعية ودولة الرعاية. وليس مستغربا ان ترتدّ الرأسمالية المنتصرة، بعيد انتهاء الحرب الباردة، على تلك التعديلات الجذرية التي اضطرت الى القبول ما دامت ان المنافسة السوفياتية قائمة.

رابعا ــ لعب الاتحاد السوفياتي الدور الابرز في دعم شعوب العالم الثالث في نضالها ضد الاستعمار الغربي وعلى نيل استقلالها والشروع في التنمية وبناء اقتصادياتها المستقلة. ومهما يكن مقدار النجاح او الفشل في تلك التجارب التنموية، يبقى ان الاتحاد السوفياتي دفع من عرق شعوبه وكدحهم ثمن الارقام الفلكية من الروبلات التي قدمت على شكل مساعدات مادية متنوعة دعما لشعوب القارات الثلاث.

خامسا واخيرا ليس آخرا، أبان الاتحاد السوفياتي وبلدان «الاشتراكية المتحققة»، على الرغم من كل شيء، ان ثمة إمكانية لبناء ملامح مجتمع جديد، ليس قائما على مبدأ الربح وتقديس السوق والملكية الفردية، مجتمع يحقق مقادير عالية من تكافؤ الفرص لمواطنيه الاقل يسرا، ويفي بالحاجات الرئيسية للجميع في العمل والتعليم والسكن والطبابة، مجتمع يضع العدالة الاجتماعية على جدول أعمال التحقيق الفعلي ويعطي في الوقت ذاته قيمة خاصة للثقافة والفن والتراث الشعبي.

من هنا ان سقوط تجربة واحدة في بناء بديل اشتراكي للرأسمالية ليس يعني ان الرأسمالية صارت نهاية التاريخ، ولا هو يشير الى استنفاد البشرية لضرورة وامكانية بناء بدائل اخرى، خصوصا اذا نجحت القوى المناهضة للرأسمالية في التعلّم من دروس واخطاء التجربة الرائدة الاولى. الذين يقولون ان فشل اول تجربة في بناء الاشتراكي يقضي على اي امكانية لقيام الاشتراكية اصلا، يردّ عليهم المثال الذي يسوقه المسرحي الشيوعي الالماني الكبير برتولد بريشت إذ يذكّرنا ان اول البشر الذين حاولوا الطيران سقطوا ارضا ومات معظمهم. لكن ذلك لم يمنع ان ينجح البشر اخيرا في الطيران!

دروس وعبر

9• يحمل سقوط الاتحاد السوفياتي ومنظومة دول الاشتراكية «المتحققة» جملة من الدروس والعبر الاولية، نسجّل في ما يلي اهمها.

اولا، سقوط فكرة النموذج الاجتماعي الاوحد او الطريق الاوحد لتجاوز الرأسمالية وبالتالي سقوط ما رافقه من دكتاتورية الحزب الواحد وفكرة الحزب الطليعي الذي يحلّ محل الطبقات الشعبية ذات المصلحة في الاشتراكية. ولعل من فوائد ذلك السقوط انه يخلي المجال امام التنوّع في ابتكار وسائل وسبل وصيغ لتجاوز الرأسمالية، ويعلي قيمة الديمقراطية بما هي شرط للاشتراكية، لا زائدة تضاف اليها، وبالتأكيد ليست نقيضا لها، والتطلّع الى بناء احزاب من نمط جديد ترتكز قوتها وتقوم شرعيتها على عميق تمثيلها للطبقات الاجتماعية التي تدّعي تمثيلها وعلى ترسيخ التقاليد الديمقراطية في انظمتها وممارساتها الداخلية.

ثانيا، فشل نموذج من ممارسة الاممية ربط الاحزاب المنضوية تحت لوائها بمركز أوامري اوحد، وغلّب احيانا كثيرة مصلحته ومصلحة «وطن الاشتراكية الاول» على مصالح الشعوب الاخرى في الثورة والتغيير. اضف الى هذا ان ذاك النموذج من الاممية اقام في نصاب الايديولوجيا والوعي تعارضا بين الاممية من جهة وبين الوطنية والقومية من جهة ثانية، ونشر ثقافة عدمية ضد هذه وتلك.

ثالثا، اثار انهيار التجربة السوفياتية مسألة مركزية في الاشتراكية هي كيفية المصالحة بين انتاج الثروة من جهة وبين توزيعها على نحو عادل من جهة ثانية. ذلك ان النزعة المساواتية ادت الى تسويد الفقر والتضحية بالتنمية وبانتاج الثروات لصالح التوزيع الاجتماعي.

رابعا، أعاد سقوط «الاشتراكية المتحققة» الاعتبار الى المكوّن الديمقراطي والشرط الديمقراطي للاشتراكية. ذلك إن ادعاء تأجيل الحرية بحجة العمل على تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية ادى الى نتائج كارثية خصوصا عندما اقترنت التضحية بالحريات وبالديمقراطية السياسية بإخفاقات كبيرة في مجال تحقيق المساواة ذاتها. ان اشتراكية تتوخى تجاوز الرأسمالية حقا هي اشتراكية تجري مصالحة حقيقية بين الحرية والمساواة. فقد بدا لزمن طويل أن الاشتراكية بدلا من ان تكون اثراء للديمقرطية السياسية نحو تدعيمها وتجاوزها بواسطة تحقيق الديمقراطية الاقتصادية ــ الاجتماعية، شكلت نكوصا حتى عن الديمقراطية السياسية. والعكس صحيح. ان نقطة الانطلاق في مسار تجاوز الرأسمالية هو بناء انظمة ديمقراطية قائمة على المساواة السياسية والقانونية للمواطنين الافراد وضمان الحريات الديمقراطية وتحقيق السيادة الشعبية ممثلة بالدرجة الاولى في اولوية الانظمة التشريعية والفصل بين السلطات وتداول السلطة. فقد انطلق رواد الاشتراكية والماركسية من الديمقراطية السياسية بما هي واقع متحقق، في ملامحه التأسيسية اقلا، ليدعوا الى بناء الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية (وهو الاسم الاصلي الذي اطلقوه على مشروعهم الاشتراكي). ونظر ماركس وانجلز الى الديمقراطية الاجتماعية هذه على انها هي التي تثري الديمقراطية السياسية وترسخها وتضمن تتجاوزها نحو المساواة الشاملة بين البشر.

10• في الخلاصة ان الجديد الذي جاءت به الماركسية، بما هي مشروع مجتمعي، هو دعوتها لتحقيق المصالحة بين الحرية والمساواة من خلال الانتقال من الديمقراطية السياسية الى الديمقراطية الاجتماعية. هذا هو الحل الذي قدمته للتناقض بين الفرد والجماعة الذي يشكّل احد ابرز تناقضات الرأسمالية. ومن مصائب «الاشتراكية المتحققة» انها مثلما غلّبت ادعاء المساواة على الحرية، انها قامت ايضا على تغليب الحقوق الجماعية ــ المفترضة! ــ على حقوق الافراد.

ان اي امل في تحقيق نهضة اليسار الماركسي لا بد ان يعيد الاعتبار لغاية الاشتراكية، باستلهام معادلة ماركس وانجلز (في «البيان الشيوعي») اي العمل على بناء «المجتمع التعاوني» على انقاض الطبقات والتناقضات الطبقية حيث «التطور الحرّ لكل فرد من الافراد هو شرط التطور الحرّ للجميع»!

حريّ بهذه المعادلة أن لا تكون مجرد تصويب لهدف من الاهداف الاشتراكية وانما الملهم لسياسات وممارسات الاشتراكيين في القرن الواحد والعشرين.

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢
تقييم ودروس

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.