العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

إدواردو غاليانو:

كاشف الحاضر، حارس الذاكرة

النسخة الورقية

تقديم

على شهرته الواسعة في اميركا الجنوبية وسائر العالم، لا يزال ادواردو غاليانو شبه مجهول في عالمنا العربي. تناقلت اسمه الصحف العالمية عندما قدّم الرئيس الفنزويللي هيغو تشافيز الى الرئيس الاميركي باراك اوباما في العام ٢٠٠٩ نسخة من كتاب غاليانو الكلاسيكي «الشرايين المذبوحة لاميركا اللاتينية». يؤرخ «الشرايين» (١٩٧١) للاستغلال الاقتصادي لاميركا الجنوبية من قبل الولايات المتحدة خلال خمسة قرون. ويفتتح الكتاب بهذه الجدلية: «يقضي توزيع العمل بين الامم ان تتخصص أمم بالفوز واخرى بالخسران». وإذ يتساءل المؤلف عن اسباب فقر اميركا الجنوبية، يجيب انها فقيرة لأن الرأسمالية أفقرتها: «كانت هزيمتنا دوما مضمرة في انتصار الآخرين. ولقد أنتجت ثروتنا دوما فقرنا من خلال تغذيتها ازدهار الآخرين».

ولد ادواردو غاليانو عام ١٩٤٠ في الاوروغواي، وعمل في الصحافة اليسارية في بلاده فسجن بسبب كتاباته ضد الانقلاب العسكري عام ١٩٧٣ وسلك طريق المنفى بعدما وضِع اسمه على لائحة المطلوبين للقتل على يد «مفارز الموت». تنقّل بين الارجنتين واسبانيا خلال إحدى عشرة سنة. حاولت دكتاتوريات الاورغواي وسائر بلدان اميركا الجنوبية منع كتاباته الا انها زادت من اقبال الناس عليها.

الى الصحافة، جمع غاليانو الشعر والرواية ولكنه قبل اي شيء آخر مبتكر نوع من القصّ التاريخي يقدم للقارئ نبذا تضيء زوايا معتمة من التاريخ غالبا في سرد صادم وساخر. علّمه احد الصيادين كلمة sentipensanti وهي كلمة مركبة تعني «التفكير الشعوري» مزيجا من احساس وفكر. فتبنى غاليانو المصطلح صفة له وشعارا. لا يؤمن بالحدود بين اشكال التعبير واساليبه. يمزج بين الرواية التاريخية والشاعرية والاقتصاد والسياسية. والى هذا كله هو هاوي كرة قدم ألّف كتابا لقي رواجا كبيرا عن الاقتصاد السياسي للرياضة الشعبية في علاقتها بالجاه والسلطة.

رائعته ثلاثية «ذاكرة النار» المنشورة عام ١٩٨٦ تروي تاريخ اميركا اللاتينية عن طريق نُبذ القص التاريخي. وهو حارس ذاكرة قبل اي شيء آخر. كتب: «انا كاتب مهووس بالتذكّر، بتذكّر ماضي اميركا، والاهم ماضي اميركا اللاتينية، الارض الحميمة المحكومة بفقدان الذاكرة.» له كتاب نقدي مشهور عن العولمة. وكتابه الاخير «مرايا» يستخدم تقنيته ذاتها لاعادة رواية تاريخ العالم في ٦٠٠ نبذة.

الى هذا كله، يشغل إدواردو غاليانو عضوية لجنة الرعاية في «محكمة برتراند راسل عن فلسطين» التي تطالب الامم المتحدة والدول الاعضاء بإنهاء استثناء اسرائيل من المحاسبة الدولية واتخاذ الاجراءات التي تمليها تجاوزاتها والتوصل الى حل عادل للنزاع العربي ــ الاسرائيلي.

احتفال بزواج الكلمة والفعل

قرأت مقالا للكاتب المسرحي اركادي رايكي نشرته مجلة موسكوبية. البيرقراطية، يقول الكاتب، ترتكز على الفصل بين الفعل والكلام والافكار. يبقى الفعل في مكان العمل، تبقى الكلمات في قاعات الاجتماعات واما الافكار فتُترك على المخدة.

في اعتقادي ان القسم الاكبر من قوة تشي غيفارا، ذلك الزخم الملغز الذي يتخطى بكثير موته واخطاءه، يتأتى من واقع بسيط جدا: كان التشي ذلك الانسان النادر الذي يقول افكاره ويمارس اقواله.

(«كتاب العناق» ١٩٨٩)

نحيب

حدث هذا في الادغال، في ادغال الامازون الاكوادورية.

هنود حمر من قبيلة «شوار» يبكون جدّة تحتضر. يتحلقون حول فراشها وينتحبون.

سألهم مراقبٌ من عالم آخر:

ــ لماذا تبكون في حضرتها وهي لا تزال على قيد الحياة؟

أجابه الباكون:

ــ لتعرف كم اننا نحبّها.

(«كتاب العناق» ١٩٨٩)

عناقيد الخمر

على فراش الموت، كان كَرَّامٌ يتكلم همسا في أُذن مارسيلا. وقبل ان يسلم الروح، باح لها بسرّه:

ــ «العنقود»، هسهسَ، «العنقود مصنوع من خمر».

هذا ما روته لي مارسيلا بيريس ــ سيلڤا.

فكرتُ: اذا كان العنقود مصنوعا من خمر، ربما كنا نحن الكلمات التي تدلّ على هويتنا.

(«كتاب العناق» ١٩٨٩)

نافذة على الجسد

تقول الكنيسة: الجسد خطيئة

يقول العلْم: الجسد آلة

يقول الاعلان: الجسد سلعة

اما الجسد فيقول: انا مهرجان

(«كلمات راجلة» ١٩٩٣)

نافذة على الخوف>

يفطر الجوعُ على الخوف.

والخوف من الصمت يملأ ضجيجُه الشارع.

الخوف يهدّد:

اذا احببتَ، تصاب بالايدز

اذا دخنت، تبلى بالسرطان

اذا تنشقت الهواء، تصاب بالتلوّث

اذا احتسيت الخمر، تذهب ضحية حادث سير

اذا اكلت، ترتفع في دمك نسبة الكوليستيرول

اذا رفعت صوتك معترضا، تطرد من العمل

اذا سرت على قدميك، تصدمك سيارة

اذا فكرّت، تغتمّ

اذا تشككت، تتخبّل

اذا شعرت، تستوحد

(«كلمات راجلة» ١٩٩٣)

قوة عمل

محمد أشرف لا يذهب الى المدرسة.

من الفجر الى النجر يعمل على قياس وقطع وتكوير وثقب وخياطة كرات قدم، كرات قدم لا تلبث ان تتدحرج من قرية «عمر كوت» الباكستانية الى ملاعب كرة القدم العالمية.

محمد عمره إحدى عشرة سنة. وهو يمارس هذا العمل منذ ان كان في الخامسة.

لو كان محمد يجيد القراءة، ويستطيع قراءة الانكليزية، لفهم معنى العلامة التي يلصقها على كل واحد من منتجاته: «هذه الكرة ليست من صنع اطفال».

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤)

اسياد المياه

توجد شركات تشبه النملة ولكنها اكبر من النملة بكثير.

في نهاية القرن العشرين اندلعت حرب الماء في مدينة كوتشابامبا.

استولت شركة «بكتل» الاميركية الشمالية على نظام توزيع المياه ورفعت الاسعار ثلاثة اضعاف بين ليلة وضحاها. تظاهرت الجماعات الهندية الساكنة في الاودية وحاصرت المدينة، والمدينة انتفضت بدورها، رفعت المتاريس وأضرمت النار في فواتير المياه في حريق كبير في بلاسا دي آرماس.

ردت الحكومة البوليفية بواسطة الرصاص، كما العادة. فُرِض منع التجول وسقط قتلى واعتقل مواطنون. لكن الانتفاضة استمرت بلا توقف لشهرين، يوما بعد آخر، ليلة بعد ليلة، الى ان استعاد اهالي كوتشابومبا في اندفاعة اخيرة السائل الذي يغذي اجسادهم ويحيي مزروعاتهم.

في مدينة لا باس في المقابل، لم تنجح الاحتجاجات في منع شركة «قناة السويس» الفرنسية من السيطرة على نظام المياه. ارتفعت الاسعار ارتفاعا كبيرا ولم يعد يستطيع احد فتح حنفية الماء في بيته. لماذا كان الاستهلاك منخفضا الى تلك الدرجة؟ تساءل الخبراء وموظفو الحكومة الاوروبيون. بسبب التخلف الثقافي، طبعا. الفقراء، اي جميع سكان بوليفيا تقريبا، لا يعرفون ما فيه الكفاية لكي يستحموا يوميا كما يفعل الناس في اوروبا ربما لآخر مرة، ولا هم يدركون انهم بحاجة الى غسل السيارات التي لا يملكونها.

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤)

السيّد الذي يلتزم الصمت

في الازمنة الكولونيالية، كان «ثيرو ريكو» في بوتوسي ينتج كميات كبيرة من الفضة والكثير من الارامل.

لاكثر من قرنين من الزمن، في مرتفعات اميركا اللاتينية الجليدية، كانت اوروبا تمارس شَعيرة مسيحية غريية: يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة، كانت اوروبا تطعم الجبل اللحم البشري في مقابل تسليمها الفضة.

من كل عشرة هنود يدخلون فوهة المنجم يخرج سبعة احياء. كان القتل يحصل في بوليفيا، التي لم تكن تسمى بذلك الاسم بعد، لكي ينبثق فجر الرأسمالية في اوروبا، الرأسمالية التي لم تكن هي بدورها تسمى بذاك الاسم بعد.

الآن «ثيرو ريكو» جبل مجوّف نضبت فضته منذ زمن بعيد.

في لغة الهنود، مفردة «پوتوسي» او «پوتوسجي» تعني «رعد» او «انفجار». وتقول التقاليد ان الجبل يرعد عندما يجرح. والآن وقد بات فارغا، يلتزم الصمت.

(«اصوات الزمن»، ٢٠٠٤)

ثمن الفن

تلطفت اوروبا فاستعمرت افريقيا السوداء. اولا، هشمت الخريطة وابتلعت الاجزاء، سرقت الذهب، والعاج، والماس، وخطفت اقوى اطفال افريقيا ثم باعتهم في اسواق النخاسة.

ثم، لتكملة تعليم الافريقيين السود، شنّت عليهم اوروبا حملات تأديب عدة.

في نهاية القرن التاسع عشر، قام الجنود البريطانيون بواحدة من تلك التدخلات التربوية في مملكة بينين. بعد المجزرة وقبل المحرقة، نقلوا الغنيمة: كمية ضخمة من الاقنعة والمنحوتات والمحفورات انتزعوها من الاماكن المقدسة التي منحتها الحياة والملجأ.

كانت تلك اكبر غنيمة من الفن الافريقي جرى الاستيلاء عليها قاطبة، تغطي الف سنة من التاريخ. في لندن، اثار الجمال الفتان لتلك الاعمال بعض الفضول ولكن ليس الكثير من الاعجاب. لم يحظَ انتاج حديقة الحيوانات الافريقية الا باهتمام قلة من الهواة غريبي الاطوار ومن المتاحف المختصّة بالعادات والتقاليد البدائية. مهما يكن، عندما وضعت الملكة فكتوريا الكنوز في المزاد العلني، كانت الحصيلة كافية لتغطية اكلاف الحملة العسكرية كلها.

هكذا موّل فن بينين اجتياح المملكة التي ولد فيها وترعرع.

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤)

حريق الذاكرة

عام ١٤٩٩ في نيران محاكم التفتيش احرق المطران سيسنيروس الغرناطي كتبا كانت تحفظ ثمانية قرون من الثقافة الاسلامية وثلاثة عشر قرنا من الثقافة اليهودية في اسبانيا.

عام ١٥٦٢، في يوكاتان، قضى فراي دييغو دي لاندا على ثمانية قرون من ادب المايا حرقا في النار.

في اماكن اخرى من العالم، اندلعت حرائق قبل ذلك واندلعت اخرى بعدها، ذاكرات اتت عليها النيران.

في العام ٢٠٠٣، عندما اتم جيش الغزو احتلاله للعراق، حاصروا آبار النفط، ومستودعات النفط، ووزارة النفط بالدبابات والعسكر. الا ان الجنود كانوا يصفّرون ويشيحون بانظارهم عندما اجتيحت المتاحف ونهبت ألواح الآجرّ التي روت اولى الخرافات، واولى القصص واولى الشرائع في العالم.

بعدها اندلعت النيران في مكتبة بغداد الوطنية، وتحول نصف مليون كتاب الى رماد. هناك قضى العديد من الكتب الاصلية الفارسية والعربية نحبه.

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤)

عبء الرجل الابيض

كان الكابتن ليون روم هاوي جمع فراشات ورؤوس آدمية. الفراشات كان يشكها بالدبابيس في الحائط. الرؤوس كان يزين بها حديقته. ضابط آخر في الجيش الاستعماري، غليوم فان كركهوفن، كان ينافسه ويزعم انه هو بطل قطع الرؤوس.

كان الكونغو، البالغة مساحته مئة ضعف بلجيكا، الملكية الخاصة للملك ليوبولد. بالاضافة إلى كونه مصدرا زاخرا للمطاط والعاج، كان مشهدا ضخما لعبيد مقيدين ومجلودين ومشوهين ومقتولين.

في العام ١٩٠٠، دعي الدبلوماسي البريطاني رودجر كيسمانت الى العشاء في القصر الملكي في بروكسل. بين وجبة واخرى تحدث الملك ليوبولد عن رسالته في نشر الحضارة وعن المصاعب التي واجهها في كل خطوة من خطواتها. والعبء الاكبر كان فرض الانضباط على عِرق دوني لم يعرف ثقافة العمل، خصوصا تحت شمس افريقية حارة الى درجة تذيب الحجر.

اعترف الملك بأن رجاله، وهم ذوو نوايا طيبة كما لا يخفاكم، كانوا يرتكبون التجاوزات. واللوم على الطقس. «الحر لا يُطاق. كان يدفعهم الى الجنون».

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤)

فن الحكم

امبراطور صيني ــ مجهول الاسم والسلالة والحقبة ــ استدعى كبير مستشاريه ذات ليلة وأسرّ له بالقلق الذي يقض عليه مضجعه. «لا احد يهابني»، قال.

ما دام اتباعه لا يهابونه، فانهم لا يحترمونه. وما داموا لا يحترمونه فانهم لا يطيعونه.

«الامر يستدعي العقاب»، اقترح المستشار.

قال الامبراطور انه سبق له ان امر بجلد كل من لا يدفع الجزية، وبأن يعذَّب ببطء كل من لا ينحني امامه عند مروره، وبشنق كل من يتجاسر على نقد قراراته.

«ولكن هؤلاء هم المذنبون»، قال المستشار. وشرح قائلا: «السلطة دون خوف تنكمش مثل رئة بلا هواء. اذا عاقبتَ المذنبين، وحدهم المذنبون سوف يخافون».

تأمل الامبراطور في الامر بصمت وقال «فهمت».

أمر الجلاد بقطع رأس المستشار وامر كل سكان بيجينغ بأن يشاهدوا المنظر في ساحة السلطة السماوية.

وكان المستشار الاول على لائحة طويلة.

(«اصوات الزمن» ٢٠٠٤ )

المحارب

عام ١٩٩١ غزت الولايات المتحدة العراق، وقد فرغت للتو من غزو باناما، لأن العراق كان قد غزا الكويت.

تيموثي ماك ڤاي كان مبرمجا للقتل. في التدريب الابتدائي كانوا يأمرونه ان يصيح: «الدم ينمّي الزرع».

بعد ان سلّحوه بتلك النية الايكولوجية، سكبوا خريطة العراق في دمه. رمت الطائرات من القنابل ما يوازي خمس قنابل ذرية من حجم قنبلة هيروشيما وكانت الدبابات تدفن الجرحى وهم احياء. وقد سحق الكابتن ماك ڤاي عددا منهم في كثبان الرمال. علموه ان يقول عن الاعداء في الزي العسكري او الاعداء بدون زي عسكري انهم «اضرار جانبية».

نال النجمة البرونزية.

لدى عودته، لم يقدم احد على نزع برمجته. في اوكلاهوما قتل ١٦٨ شخصا بينهم نساء واطفال. «انهم اضرار جانبية»، قال.

لم يعلقوا ميدالية جديدة على صدره. حقنوه بحقنة مميتة. وصرفوه من الخدمة.

(«اصوات الصمت» ٢٠٠٦)

بغداد ١٩٩١

في الساعات الاولى قبل فجر يوم الثالث عشر من شباط ١٩٩١، فلقت قنبلتان «ذكيتان» قاعدة عسكرية تحت الارض في احدى ضواحي بغداد.

القاعدة لم تكن قاعدة. كانت ملجأ من القصف الجوي يغصّ بالبشر النائمين. في ثوان معدودة، تحول الملجأ الى محرقة جثث جنائزية احترق فيه اربع مئة وثمانية مدنيين حتى التفحّم. كان بينهم اثنان وخمسون طفلا واثنا عشر رضيعا.

جسد خالد محمد كله جرح فاغر. ظن انه ميت. لكن لم يمت. زحف على يديه وركبتيه واستطاع ان يخرج من الملجأ. لم يكن يستطيع ان يرى. أطبقت النار جفنيه وسملتْ عينيه.

والعالم نفسه لم يكن يستطع ان يرى هو ايضا، لأن قنوات التلفزيون كان مشغولة بعرض آلات القتل الحديثة التي جرى انزالها الى السوق.

(«اصوات الصمت» ٢٠٠٦)

سمك القرش

في الافلام والكتب، نشاهد وحشا مخاتلا ومتعطشا للدم يجوب السبع بحار فاغر الفكين مكشرا عن انيابه مثل الف سكين. يحلم بنا ويرطب شفتيه بلسانه.

خارج الافلام والكتب، لا يبدي سمك القرش ادنى اهتمام باللحم البشري. نادرا ما يهاجمنا، واذا ما حصل فمن قبيل الدفاع عن النفس او بطريق الخطأ. عندما يخلط سمك القرش، القصير النظر، بين احدنا وبين دلفين او فقمة، يعض عضة من لحمنا ثم يبصقها. اننا عظم على قليل من اللحم، ولحمنا القليل طعمه مروّع.

نحن الخطرون، واسماك القرش تعرف ذلك. غير ان اسماك القرش لا تخرج افلاما ولا هي تؤلف روايات.

(«اصوات الصمت» ٢٠٠٦)

نشرة اخبار

تعيش صناعة الترفيه على وحشة السوق.

تعيش صناعة الاستشارات على قلق السوق.

تعيش صناعة الامن على خوف السوق.

تعيش صناعة الكذب على غباء السوق.

كيف يمكن قياس مدى نجاحها؟ على بورصة الاسهم.

الصناعة الحربية ايضا. تصيراسعارها في البورصة هي افضل الاخبار في كل حرب.

(«اصوات الصمت» ٢٠٠٦)

اخبار معولمة

بعد اشهر معدودة من الحادي عشر من ايلول، قصفت اسرائيل جنين.

تحول المخيم الفلسطيني كله الى حفرة ضخمة في الارض، مليئة بالجثث والدمار.

كانت حفرة جنين بحجم الحفرة التي خلفها تدمير البرجين [في نيويورك].

باستثناء من بقي على قيد الحياة واخذ ينقّب في الركام بحثا عن احباب، كم عدد الذين شاهدوا حفرة جنين؟

(«اصوات الصمت» ٢٠٠٦)

رامي المدفع

اتخذ رئيس وزراء اسرائيل قراره. ونقله وزير الدفاع. وشرح قائد الجيش انهم سوف يستخدمون العلاج الكيماوي ضد السرطان الفلسطيني. اعلن اللواء منع التجول. والكولونيل امر بمحو الاكواخ والحقول المزروعة عن سطح الارض. وآمر الوحدة ارسل الدبابات وقطَع الطريق على سيارات الاسعاف. والكابتن اصدر الامر باطلاق النار. والملازم قال لرامي المدفع بأن يطلق القذيقة الاولى.

الا ان الرامي، ذلك الرامي بالذات، لم يكن هناك. ييغال برونر، الحلقة الاخيرة في سلسلة الاوامر، كان قد أرسل مخفورا الى السجن لأنه رفض الاستمرار في القتل.

(«اصوات الصمت»٢٠٠٦ )

١٨٨٦: اطلنطا كوكا كولا

جون بنبرتن صيدلي، اكتسب بعض سمعة بسبب ترويجه «حبوب الحُب» وادوية الشفاء من الصلع.

وها هو قد اخترع دواءً يريح من اوجاع الرأس ويخفف من الغثيان. إعتمد في تركيب منتجه الجديد على اوراق الكوكا التي جاء بها من جبال الآندِس وعلى جوز الكولا وهي مادة منشطة وارد افريقيا. واكتملت التركيبة باضافة الماء والسكّر والكاراميل وبعض المواد السرية.

بعد قليل، باع بنبرتن اختراعه بألفي وثلاثمئة دولار اميركي. وهو مقتنع بأنه دواء شاف وانه لينفجر ضاحكا، بلا فخر، اذا قال له كاشف بخت انه قد خلق رمز القرن الآتي.

(«ذاكرة النار» ١٩٨٢ ــ 1986)

١٨٩٣: كانودوس انطونيو كونسلييرو

لزمن طويل كان الانبياء يرودون أراضي الشمال الشرقي البرازيلي الملتهبة. يعلنون ان الملك سيباستيان سوف يعود من جزيرة «لاس بروما» [الغطيطة] فيعاقب الاغنياء ويحوّل السود بيضا والشيب شبابا. ويقولون انه عندما ينتهى القرن، سوف تصير الصحراء بحرا والبحر صحراء، وسوف تلتهم النيران المدن الساحلية حيث عبيد المال والخطيئة. وفوق رماد مدن ريسيفي وباهيا وريو وساو باولو سوف تقوم اورشليم الجديدة ويحكم فيها المسيح لألف سنة. لقد دنت ساعة الفقراء، يعلن الانبياء. في خلال سبع سنوات، سوف تطبق السماء على الارض، وينتفي المرض والموت. ويزول كل ظلم في هذا الملكوت الارضي السماوي.

انطونيو كونسلييرو الورع يجول من بلدة الى بلدة، مثل شبح مُغبِرٍ نحيل قذر تلحق به جوقة من المبتهلين. جلده درع جلدي رث، لحيته شعثاء، وعباءته كفن مهلهل. لا يأكل ولا ينام. يوزع الصدقات التي يتلقاها على الفقراء. يتحدث الى النساء دائرا لهن ظهره. يرفض اطاعة الحكومة الجمهورية الكافرة، وفي ساحة بلدة بوم كونسيليو يرمي بتبليغات الضرائب الى النار.

تطارده الشرطة فيلجأ الى الصحراء. مع مائتي مهاجر يؤسس جماعة «كانودوس» على ضفاف نهر شتوي. هنا لا يلامس المطر الارض لشدة القيظ. وتنتصب اكواخ الطين والقشّ على تلال جرداء. ووسط هذه الارض الحرون ، أرض الميعاد هذه، اولى درجات الارتقاء الى الجنّة، يرفع انطونيو كونسيلييرو صورة المسيح ويعلن الرؤيا: «الاغنياء والكفرة والفريسيّون سوف يبادون عن وجه الارض. وسوف تصطبغ المياه بالدماء. ولن يكون الا راعٍ واحد لقطيع واحد. وتكون قبعات عديدة ورؤوس قليلة...»

(«ذاكرة النار» ١٩٨٢ــ 1986).

العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢
كاشف الحاضر، حارس الذاكرة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.