استقبل العدد الاول من «بدايات» استقبالا متفاوتا. كان الاحتفال بصدور المجلة في نهاية مارس مناسبة للتلاقي والفرح والتضامن، زاد عدد الذين شاركونا فيه على المتوقع. تلقينا الترحيب بالمغامرة والاعجاب الاجماعي باتقان الاخراج وجماله. وواجهنا كذلك التشكيك في حظ مجلة فصلية من الحياة في ظل هجمة الإعلام الالكتروني على الصحافة الورقية. ووردتنا ملاحظات عن التبويب وحجم المادة وزيادة الفسحات بين المواد واقتراحات منها ما يدعو الى التشجيع على الحوارات واجراء المقابلات وتوسيع زاوية الفكر والنظرية وغيرها. وقد بدأنا بتنفيذ القسم الاكبر منها في هذا العدد.
من حيث ردود الفعل الكتابية، أشار حسين بن حمزة (الاخبار، ٣٠ آذار ٢٠١٢) الى «جاذبية» التبويب والإخراج الفني. وعلّق على المشروع قائلا «تقترح علينا «بدايات» جرعات ثقافية متخففة من «ثقل الدم» المعهود في التنظير المتعالي والمماحكات الايديولوجية التقليدية... تصبح صفحات المجلة فضاء لوجهات نظر متعددة. هكذا تخوض المجلة أكثر من اختبار على صعيد الممارسات واللغة. اليسارية والماركسية موجودتان طبعا، لكنهما ــ باستثناءات قليلة ــ متذررتان ومتذاوبتان في سياقات اوسع».
من جهته، أبدى محمد أبي سمرا (النهار، ٢٣ نيسان ٢٠١٢) الاعجاب بمساهمات الكتّاب الشباب فرأى فيها الدليل على ان الثورة تتعدى الفعل السياسي والاجتماعي الى «وعي وتحسس جديدين للعالم والواقع وعلى صعيد المخيلة الفنية الكتابية ايضا». وأبدى في المقابل أسفه لأن سائر مواد العدد لم ترقَ الى ذاك المستوى. وشارك ناهض حتّر أبي سمرا الاعجاب بمساهمات الشباب (الاخبار، ١٧ نيسان ٢٠١٢) ووجد ان الاخراج «جميل في الشكل ومؤثر في عرض المادة ومريح للقارئ» ما جعل المجلة بالجملة «أنيقة ومسلّية» مع أنها «لا تقول شيئا محددا سوى انها تحرّض على النظام السوري، مباشرة او التفافا». هكذا؟ لم تقل المجلة شيئا محددا غير التحريض على النظام السوري على مدى ٢٠٠ صفحة؟! على صعيد آخر، لم يجد احدٌ في القسم الثقافي من جريدة «السفير» في صدور زميلة فصلية ثقافية فكرية جديدة ما يستحق الكتابة او التعليق.
لن نخفي استغرابنا للاستهجان العدائي الذي استقبل به بعض الاعلاميين من صنف اليسار السابق والمرتدّ في طرفَي الاستقطاب السياسي اللبناني. لم نستغرب التهم السياسية والفكرية الموجهة للمجلة ولكتّابها او لمشروعها اليساري. وهي تستدعي ردودا تفيض عن وظيفة هذا التقديم. ولا نحن استغربنا التصعيد الكلامي في كيل الاتهامات: من «اليسار الليبرالي» الى «اليسار النيوليبرالي» عند ابراهيم الامين (الاخبار، ٢٣ نيسان ٢٠١٢) لمجلة تعتبر نفسها متخصصة في نقد ــ حتى لا نقول نقض ــ النيوليبرالية. ويأتي التصعيد عند دلال بزري من «لغة الخشب» الى «لغة الحديد» (المستقبل، ٢٩ نيسان ٢٠١٢). فهذه كلها تدخل في باب حرية الرأي وحق الاختلاف. لكن التلاقي على إنكار حريتنا في ابداء آرائنا الى حد اعدامها هو ما نستغربه. تنكر علينا دلال البزري الحق في ادعاء ــ مجرد ادعاء! ــ «انتاج معارف» عن الثورات العربية على اعتبار ان القائمين على المجلة «زعماء عهد بائد مثلهم مثل الانظمة الآيلة الى السقوط». واقصى ما يتمناه لنا ابراهيم الامين ان تكون بداية المجلة هي نهايتها.
مَن توجد تحت إبطه مسلّة تنعره، يقول المثل. ونعرة المرتدّين ماض يحاولون عبثا اغتيال اشباحه بدلا من التصالح (النقدي) مع النفس ومعه. يأخذ هؤلاء علينا عدم الاعتراف بأن اليسار قد هُزم. اعترفنا ونعترف بأن اليسار تعرّض لهزائم. ولسنا نعترف بـ«هزيمة» بالمطلق لأن الحياة لا تعرف ثنائية «هزيمة/انتصار» الفهلوية المتسلطنة على الفكر السائد. مهما يكن، الفارق كبير بين الاعتراف بالهزيمة وبين الاستسلام، والفارق أكبر بين الاعتراف بالهزيمة وبين اعتبار الهزيمة مبرراً للانتقال الى الموقع النقيض من القيم والاهداف والمبادئ ومن علاقات السلطة والمال والنفط والاستغلال.
يبقى ان ما يعنينا كمجلة هنا هو تسجيل جملة ملاحظات مقتضبة تتعلق بتقاليد الادب الصحفي والاحتراف، وبسياسة النشر.
نوّد ان نهمس في أذن ابراهيم الامين (الاخبار، ٢٣ نيسان ٢٠١٢) أن التعيير بالهَرَم (والشيخوخة) هو مثل التعيير بالحَوَل. من جهة ثانية، وسوس وسواس لناهض حتّر ان سياسة النشر في المجلة تمارس «المكر» (الاخبار، ١٧ نيسان ٢٠١٢) . ذلك ان نشر نص لالياس خوري يدلّ على اننا على ارتباط عن طريق «خيوط لا تُرى بـ«يسار» ثورة الارز المجيدة !». فحبذا لو يستظهر هذه الخيوط التي لا تُرى لنراها ويراها القراء والملأ من يسار ويمين ووسط! كذلك وجد حتّر في نشرنا مقالا نقديا لجوزيف سماحة عن معمر القذافي كتب في العام ١٩٨٩ «تبريرا ضمنيا للعدوان الامبريالي الخليجي على ليبيا» في العام ٢٠١١. فلعله يستشهد بنص واحد لاحد المشرفين على المجلة يمكن ان يفهم منه التأييد للعدوان الاطلسي على ليبيا. ثم اننا لم نفهم لماذا يصنّف ناهض حتّر نشرنا نصاً لسمير قصير عن «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» في باب «التعريض الماكر بالمقاومة الفعلية الراهنة وخياراتها السياسية». ولا نحن فهمنا معنى إسباغ صفة «المقاومة الفعلية» على المقاومة الراهنة تخصيصا. فهل كانت سابقاتها، منذ العام ١٩٣٦ الى العام ١٩٨٥، «غير فعلية»؟
يؤسفنا ان نشر «بدايات» للوثائق الرسمية الاميركية عن التدخل العسكري السوري في لبنان في ربيع-خريف ١٩٧٦ لم يلقَ الاهتمام الاعلامي والاكاديمي التاريخي الذي يستحقه. والتقصير في الترويج ولفت الانتباه هو منّا بكل تأكيد. لكن ناهض حتّر اكتشف ان «الوظيفة الراهنة لهذا التذكّر واضحة من حيث وقوعها في باب التحريض والتحشيد، لا في باب التاريخ والتفكير». والمقصود طبعا التحريض والتحشيد ضد «النظام السوري». فلعله يفيدنا متى وكيف يكون لنشر وثائق تاريخية وظيفة «غير راهنة». مهما يكن، فلو كلّف ناهض حتّر نفسه عناء قراءة الوثائق، بدلاً من الحكم عليها «على الهوية»، لعله كان اكتشف ان «المكر» في الوثائق هو النعت المناسب لهنري كيسنجر الذي امل من إجازة التدخل العسكري السوري في لبنان العام ١٩٧٦ ان يؤدي الى مواجهة سورية ــ فلسطينية تنتهي بسقوط نظام حافظ الاسد وبقتل ياسر عرفات.
يسرّنا وضع هذا العدد الجديد من «بدايات» بين أيدي القراء. تقع المادة الاولى تحت عنوان «الانقلاب على الثورات» لمحاولة رسم معالم مرحلة جديدة من مراحل الثورة. وقد خصصنا ملف العدد للمعارك الدائرة حول الدساتير، فبعد الدراسة الشاملة التي يكتبها سليمان تقي الدين، ثلاثة نماذج لمعارك دستورية في مصر والبحرين والمغرب لمحمد العجاتي وعبد النبي العكري ومحمد الخضيري.
في زاوية «من باب اولى» تقرير لروزي بشير عن العربية السعودية، وبحث جمانة فرحات عن مصير الثورة في اليمن تليهما دراسة لمايكل كلير عن العلاقة بين النفط العربي وتجارة الاسلحة. ونواصل نشر الكتابات الشبابية من مصر وسورية وفلسطين ولبنان والعربية السعودية.
يعالج سمير أمين في «عوالم في عالم» نموذجين للتنمية في الهند والصين، ويتساءل عن مصيرهما بين تحديث الرأسمالية واختيار طريق جديد نحو الاشتراكية. بعد تقرير ديما الشريف عن أزمة النظام الرأسمالي اليوناني التي تهزّ اوروبا، تحلل نوراي ميرت الانقلاب في سياسات «حزب العدالة والتنمية» تجاه القضية الكردية في تركيا.
في زاوية «يا عين» ١٣ مشهداً من سيناريو فيلم «القرامطة» لعمر اميرالاي ومحمد ملص الذي كُتِب بالتعاون مع الروائي صنع الله ابراهيم وصمم له الازياء جان بيار دليفر. لم يرَ الفيلم النور، الا ان السيناريو ــ الذي يقدّم له محمد ملص هنا ــ يستحضر الغائب العزيز عمر، ويضيء محطة هامة في مسيرة السينمائيَّين السوريين، بمثل ما يقول الكثير عن زماننا هذا. وفي «يا عين» ايضا تعريف بالفنان السوري محمد عمران، ودراسة لبسمة عبد العزيز عن جدران مصر بين ولادة فن ثوري وشهوة المحو الرسمية.
زاوية الكتب مكرّسة لقضايا الاقتصاد السياسي في سورية والخليج وفلسطين بتوقيع ميسون سكّرية وعمر ضاحي. وفي «ذاكرة» فصل من مذكرات الصحافي المصري الفرنسي الكبير إريك رولو يتناول نشأته في مصر واول مقابلة له مع الرئيس جمال عبد الناصر. تليها دراسة فواز طرابلسي عن العنف في الحروب الاهلية من خلال الحالة اللبنانية.
نخصّص زاوية «فيها نظر» لمقابلة مع عزيز العظمة عن الاسلاميين بين دين ودنيا ولدراسة دورين خوري عن الفيلسوف الماركسي سلافوي جيجك. نصان للطاهر لبيب ورياض بيدس يفتتحان زاوية «نون والقلم» تليهما مختارات من أدب أحمد فارس الشدياق أردناها مساهمة في إحياء الاهتمام بهذه الشخصية النهضوية الاستثنائية، العاصي على التصنيف قدر عصيانه على كل ظلم وتمييز واستغلال.
نفتتح اخيرا زاويتين جديدتين. ننشر في «ثقافة الناس للناس»، نص محمد الحجيري عن الراقصة المصرية الكبيرة تحية كاريوكا وقصيدة من التراث الشعري الشعبي التونسي المقاوم. ونفتتح «نهوند» بتحليل سمر محمد سلمان لتلحين رياض السنباطي لقصيدة «أشواق».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.