إلى آر. كريشنامورتي
«يواجه العالم الثالث أوروبا اليوم باعتباره كتلة هائلة، يجب أن يكون مشروعُها ايجاد حل لمشكلة لم تتمكن أوروبا من إيجاد حلّ لها». (فرانز فانون، ١٩٦١).
مشروع العالم الثالث
إنّ الموجة الكبيرة للحركات المناهضة للاستعمار التي بدأت مع الثورة الهايتية (١٧٩١ــ ١٨٠٤)، وأصبحت كيانا مستقلا في نهاية القرن التاسع عشر، ما لبثت ان قوّضت شرعية السيطرة الاستعمارية. لم يعد من الممكن أن يقال إنّ القوّة الأوروبية مقدَّر لها أن تحكم الشعوب الأخرى. حين كانت تلك المغامرات الكولونيالية تحصل، كانت تتعرض لهجوم باعتبارها غير أخلاقية.
في العام ١٩٢٨، اجتمع قادة الحركات المناهضة للاستعمار في بروكسل خلال لقاء لعصبة مناهضة الاستعمار. كانت تلك المحاولة الاولى لخلق منصة عالمية لتوحيد الرؤيات الخاصة بحركات مناهضة الاستعمار في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. بسبب ضيق الوقت، وشبح الحرب العالمية الثانية، لم يحدث اي تقدم في تلك المسألة. سينتظر الأمر حتى ١٩٥٥، في باندونغ، بأندونيسيا، حين ارسلت مجموعة من دول إفريقية وآسيوية مستقلة حديثا، أو شبه مستقلة، قادتها للتشاور حول برنامج عمل عالمي. أسست دينامية باندونغ لـ«مشروع العالم الثالث»، وهو ما بدا أنّه مجموعة غير متجانسة من المطالب التي درست بدقة في مؤسسات الأمم المتحدة، وأصبحت في العام ١٩٦١، «منظمة دول عدم الانحياز».
«مشروع العالم الثالث» للدول الأكثر فقرا المتأثرة بالحركات الشعبية وبفشل القيمة الرأسمالية: سلام، خبز، عدالة.
كان المفهوم العام لتلك الدول الجديدة هو العالم الثالث. لم يكن العالم الثالث مكانا جغرافيا. كان مشروعا. قادة الدول الأكثر فقرا، الذين تأثروا بالحركات الشعبية وبفشل التنمية الرأسمالية، بحثوا عن جدول اعمال خاص بهم. على صعيد سياسي، أرادوا ديموقراطية على مستوى دولي. لم يعودوا عبيد أسيادهم الاستعماريين، وأرادوا ان يكون لهم صوت وسلطة على مستوى دولي. ماذا قال ذلك الصوت؟ تحدث عن عناصر ثلاث:
اولا، السلام. أصبح جليّا بحلول منتصف الخمسينات وبداية الستينات، أنّ الحرب الباردة بين القوى الكبرى كانت كارثية على العالم. ليس فقط أنّ المواجهة التي تتدخل فيها العناصر النووية قد تنتهي بفناء البشر، لكن تبذير الموارد الاجتماعية على سباق التسلح قد يخرّب إمكانية التنمية البشرية. بحلول الخمسينات، كانت الولايات المتحدة الأميركية قد صرفت عشرة في المئة من ناتجها المحلي الاجمالي على قطاع الدفاع، مما أثار حنق الرئيس دوايت آيزنهاور الذي اشتكى في نهاية العقد من نمو «المجمّع العسكري الصناعي». لم يقف هذا المجمّع عند حدود الولايات المتحدة الأميركية، كانت لديه طموحات كونية، أراد بيع الأسلحة لكل دولة، وفرْض قطاع أمني على برنامج العمل الاجتماعي لـ«مشروع العالم الثالث». ليس مستغربا إذا أن تكون المهمة الفعلية الأولى بعد تأسيس منظمة دول عدم الانحياز في بلغراد هي ارسال نهرو (الهند) ونكروما (غانا) إلى موسكو، وسوكارنو (اندونيسيا) وكيتا (مالي) إلى واشنطن، وهم يحملون دعوة «المنظمة» إلى السلام. قدم كينيدي وخروتشيف الكليشيهات المعتادة، لكن لم يخففا من التوترات التي تعاظمت مع بناء جدار برلين، والمواجهة بين الدبابات في حاجز تشارلي (للعبور بين الألمانيتين ). احتفظ «مشروع العالم الثالث» بولائه لبيان باندونغ، الذي دعا إلى «قوننة كل القوات المسلحة والاعتدة وخفضها وتحديدها والسيطرة عليها، ومن ضمنها منع انتاج اسلحة الدمار الشامل، واختبارها واستخدامها، وإنشاء قيود دولية من اجل ذلك». كانت «وكالة الطاقة النووية الدولية» التي تأسست في ١٩٥٧ ثمرة باندونغ، وحجر الأساس في «مشروع العالم الثالث».
ثانيا، الخبز. اعترفت الأمم الجديدة في أفريقيا وآسيا وكذلك أجندات أميركا اللاتينية المتجددة بوضوح بأنّ الدول التي أصبحت تسيطر عليها كانت فقيرة. وكان أي عمل للمضي قدما سيواجه إرث الاقتصاد الاستعماري، والامتيازات التي اكتسبتها القوى الأطلسية والقواعد التجارية الموضوعة لحماية تلك الامتيارات التاريخية. تحدى اقتصاديون أمثال راوول بريبيش الأرجنتيي (أصبح لاحقا المدير العام لـ «منظمة التجارة والتنمية» التابعة للامم المتحدة) المؤسسات الأطلسية مثل «الغات» (الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفات الجمركية) وصندوق النقد الدولي الذي سماه «مؤامرة ضد قوانين السوق». وحين تولى بريبيش منصبه في «منظمة التجارة والتنمية»، الذراع الاقتصادية لـ«مشروع العالم الثالث»، اعلن عن الحاجة إلى «نظام جديد في الاقتصاد العالمي... كي تعمل الأسواق بشكل صحي ليس فقط من اجل الدول الكبرى بل ايضا من اجل الدول النامية في علاقتها بالأولى». انطلاقا من تلك الرؤية العامة، كان «مشروع العالم الثالث» يحارِب لإعادة النظر بأجندة «التجارة الحرة»، ومن اجل اسعار افضل للسلع، ومن اجل وجود تكتلات لإدارة بيع المواد الأولية (ومنها أوبك) ومن اجل سياسة أكثر كرما في تحويل الاستثمارات والتقنيات من الشمال إلى الجنوب. بعدما حاربتها الدول الأطلسية في كل مكان، وجدت دول العالم الثالث ملاذا في الجمعية العامة للامم المتحدة مع قرار إنشاء النظام الاقتصادي العالمي الجديد، في ١٩٧٣. كان ذلك قمة «مشروع العالم الثالث».
ثالثا، العدالة. كانت منظمة دول عدم الانحياز، التي تأسست العام ١٩٦١، بمثابة أمانة سر ـ «مشروع العالم الثالث»، تمثلها مجموعة الـ ٧٧ في الامم المتحدة. أدرك مؤسسو المنظمة (نهرو من الهند، عبد الناصر من مصر، سوكارنو من اندونيسيا، وتيتو من يوغوسلافيا) أنّ جزءا من أجندتهم سيتحقق من دون بنية دولية أكثر ديموقراطية. كان الأعضاء الدائمون الخمسة في مجلس الأمن قد اختطفوا الامم المتحدة. وسيطرت القوى الأطلسية على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وأنشأت الـ«غات» لتقويض أي محاولة من قبل الدول الجديدة لإعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي. فكان الأمل بأن تستطيع منظمة دول عدم الانحياز ومجموعة الـ٧٧ الضغط على الغرب والشرق لتوفير فسحة سياسية للدول الجديدة. لم يتحقق ذلك. شجب سفير نيجيريا إلى الأمم المتحدة في بداية الستينات، جاجا واتشوكو، زملاءه لقبولهم بعدم المساواة داخل المنظمة الدولية، حين قال «هل سنبقى صبيان الشرفات»، يشاهدون ما يحصل من الشرفة فيما يسيطر الأعضاء الخمسة الدائمون على النقاش داخل الامم المتحدة؟
كان ذلك «مشروع العالم الثالث»: من اجل السلام، والخبز، والعدالة. وصل على المسرح العالمي وهو في فترة توتر. لم تكن البيوت الداخلية للدول الجديدة مرتبة. فإذا نقص الديموقراطية في السياسة الداخلية، وسوء إدارة الموارد الاقتصادية وإعادة الإعمار السطحية للمشهد الاجتماعي، تتضافر على تقييد الدول الجديدة. ترددت الطبقات الاجتماعية القديمة أمام الحركات الجماهيرية المناهضة للاستعمار، لكن مع تسريح النخب القديمة، استدعت الجنرالات او السياسيين الشعبويين اليمينيين لتكنيس الاضرار. تضرر «المشروع» بسبب تلك النواقص، لكن لم يكن ذلك ما قضى عليه.
ما قضى عليه هو «المشروع الاطلسي».
المشروع الأطلسي
مجموعة جي 7 قررت تجنّب أن تتحول الأزمة الرأسمالية إلى أزمة سياسية، إذ وجب أن تعالج على أنها مشكلة اقتصادية تقنية.
«ما من شيء مهم يأتى من الجنوب»
(هنري كيسينجر، ١٩٦٤)
في العام ١٩٧٥، اجتمع قادة الدول السبع الصناعية في «قصر دو رامبويي» لتقرير مصير الكوكب: الولايات المتحدة الاميركية، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، وكندا. كان اجتماع رامبويي أول لقاء رسمي لهم. اهتمت مجموعة «جي ٧» بأربع مسائل، ثلاث منها اعباء أرادوا التخلص منها:
١. الاجندة الاجتماعية الديمقراطية التي اتى أغلبهم منها وقد أصبحت مكلفة (ليس فقط في موضوع الأجور الاجتماعية التي توجب دفعها، بل في مسألة الأجور التي يستحقها العمال المتململون).
٢. الاجندة الشيوعية، التي اصبحت اكثر اعتدالا، ولكنّها لا تزال قادرة على توفير بديل لهؤلاء العمال المستحقين.
٣. مشروع العالم الثالث، الذي كان مثاله الأبرز، استخدام سلاح النفط في حرب تشرين ١٩٧٣ والمطالبة بنظام اقتصادي عالمي جديد، قد شكلا صدمة حقيقية.
كان يجب تفكيك تلك المشاريع الثلاثة. اما المشكلة الرابعة فكانت ذات طبيعة اكثر عمومية، وتبيّن أنّها الحل للمشكلات الاخرى المزعجة، انها جغرافية جديدة للانتاج.
افتتح جيرالد فورد الكلام في رامبويي بدعوى مفادها أنّ الدفع الأبرز بالنسبة للقادة يجب ان يكون «التأكد من ألا يعتبر الوضع الاقتصادي العالمي الحالي على انه أزمة في النظام الديموقراطي او النظام الرأسمالي». وجب على مجموعة «جي ٧» تجنب ان تتحوّل الأزمة الرأسمالية إلى ازمة سياسية، إذ يجب ان تعالج على انها مشكلة اقتصادية تقنية. كان الامر جيدا على مستوى البلاغي المحض، لكن لم يشكل مسكِّنا للأشخاص الواقعيين في الغرفة.
هلموت شميدت، الذي كان المستشار الاشتراكي في ألمانيا الغربية، تحدث بعده، قائلا:
«يا هارولد (ويلسون) من المملكة المتحدة، لقد تكلمت عن الصناعات القابلة للحياة، واشرت إلى أنّ ذلك يستبعد المشاريع الفاشلة. اعتبرت أنّ صناعة النسيح مثال على ذلك. أنا صديق مقّرب من رئيس نقابة عمال النسيج في ألمانيا. انها نقابة لصناعة تتراجع. آمل أن لا ينقل ما أقوله الى خارج هذه الغرفة. نظرا إلى مستوى الرواتب المرتفع في اوروبا، لا استطيع إلا أن اعتقد أن صناعة النسيج عندنا عليها ان تنتهي في المدى الطويل. اننا غير قادرين على حمايتها من المنافسة الخارجية الأرخص. ذلك مؤسف لأنّها صناعة قابلة للحياة؛ ورأس المال المستثمر في وظيفة ما في صناعة النسيج في ألمانيا ويوازي في ارتفاعه رأس المال المستخدم في مصانع الصلب الألمانية. لكن الأجور في شرق آسيا منخفضة جدا مقارنة بالرواتب لدينا. ان صناعة النسيج الألمانية قابلة للحياة، لكنّها ستختفي خلال عشر او اثنتي عشرة سنة».
بروز النيوليبرالية
هل هو توقع، او تواطؤ؟ لا يهم الامر. ما يهم هو بروز جغرافية جديدة للانتاج، اي تفكك الفوردية الشمالية، وظهور تقنية الصحون اللاقطة والكابلات البحرية، وانتشارالحاويات على السفن، وتحوّلات تكنولوجية أخرى التي مكنت الشركات من استغلال الاختلاف في معدلات الرواتب. وفق شميدت، يتعلق الأمر برواتب شرق آسيا.
الموضوع مألوف جدا. فهو يعتبر الأرضية لبروز النيوليبرالية. ندرك من خلال كتب ديفيد هارفي المفيدة أنّ النيوليبرالية قد اختبرت خلال أزمة بلدية مدينة نيويورك ومن ثم جرى تصديرها الى بقية العالم عبر صندوق النقد الدولي وتلامذته النجباء. لا تنتهي القصة هنا. ما لا يقوله هارفي هو زوال «مشروع العالم الثالث»، وبالتالي فتح دول الجنوب لجغرافية الانتاج الجديدة. كانت المقاومة ضد الشركات المتعددة الجنسيات قوية الى حد كبير حتى نهاية السبعينات، حين انطفأ «مشروع العالم الثالث» بعدما اغتالته أزمة الديون المفتعلة. قد تتذكرون أنّ مركز الأمم المتحدة الخاص بالشركات المتعددة الجنسيات صرف جهده لثلاثة عقود من الزمن لتحديد قواعد السلوك الخاصة بتلك المؤسسات. تم تفكيك المركز في ١٩٩٢، واصبح وسيطا للشركات الكبيرة عوض ان يكون ناظما لممارساتها.
ان النيوليبرالية انبعثت على نحو متعدد المراكز. في اجتماع «جي ٧» تأكيدا ولكن ايضا في عواصم جرف المحيط الهادئ وفي «قاطرات الجنوب» البازغة (في البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، والصين). كانت الطبقات الحاكمة في تلك المجتمعات، شأنها شأن بنات عمومتها الاوروبية والاميركية، تسعى لمدة طويلة الى التخلي عن الضوابط الثقافية للنزعات القومية القديمة: اي متطلبات دولة الرعاية الاجتماعية الديموقراطية في الدول الاطلسية، ومتطلبات مناهضة الاستعمار في دول العالم الثالث، في قارات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وكانت جيوب صغيرة من صناع الرأي في النخبة تكنّ الحقد تجاه التراث المناهض للاستعمار. من تلك الجيوب ظهرت اجندات ثقافية جديدة، بما فيها اعادة الحياة لمدرسة فون هايك الليبرالية، وخاصة تلك القائلة بوجوب طرد الدولة من النشاط الاقتصادي قدر المستطاع. احتفلت وسائل الاعلام الصاعدة بأفكار الفردية والنشاط الاقتصادي، على حساب أفكار التحرر الوطني الخاصة بالاشتراكية والصالح العام. كانت النخب النزقة تريد أن تنأى بنفسها عن التزامات حقبة ما بعد الاستعمار. كانوا يريدون أن يعيشوا حسب قول الشاعر الهندي نسيم ازكييل:
في حفلات شواء سعيدة
يطبخون على أفران يتصاعد منها الدخان
ويصيحون في وجه الشحاذين من الباب الخلفي
كان مناسبا لهم أنّ دول حقبة ما بعد الاستعمار فشلت في العديد من الطرق، فاستخدموا الفشل للدفع قدما بأجنداتهم الخاصة. انتجت تلك النخب نيوليبرالية خاصة بها ردا على أزمة الديون نفسها التي فتحت بلدانها لمصانع الشمال.
إستخدمت أزمة ديون العالم الثالث من قبل بلدان الشمال لإصدار الأوامر من أجل تنفيذ التعديلات الهيكلية.
هكذا قضي على الحوار بين الشمال والجنوب
بحلول الثمانينات، عادت الكتلة الأطلسية، وقد إستجمعت عزيمتها، لتحارب ضد «منظمة دول عدم الانحياز» بضراوة وضد اي ذكر لـ«نظام اقتصادي عالمي جديد». في لقاء كانكون العام ١٩٨١ لمناقشة تقرير براندت السيء الصيت، حضر رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر ليرميان التحدي. سخر ريغان من الاجراءات، خصوصا تلك التي «تخلط التنمية بالتعاطف وتعتبر أنّ نقل كميات كبيرة من الثروة سوف يخلق بحبوحة جديدة على نحو عجائبي». هكذا انتهى الحوار بين الشمال والجنوب عمليا.
وهكذا تخلصت أروقة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من الكينزيين والتنمويين. لم تعد القيادة مفتوحة سوى للمفكرين الهامشيين والنيوليبراليين. لم يعد لأسئلة التاريخ والسوسيولوجيا اي تأثير. الناتج الاجمالي العام اصبح المتغيرة الوحيدة التي تهم. في صندوق النقد الدولي، اخلى يوهانس فيتيفين مكانه لجاك دو لا روزيير، وفي البنك الدولي وتولى توم كلاوسن وآنا كروغر إزالة البقع التي تركها روبرت مكنمارا. طردت الليبرالية من الباب العريض بكل بساطة.
كان يجب تنظيف الأمم المتحدة ايضا. حين اعطى هنري كيسنجر تعليماته الى دانييل مويناهان عند تعيينه مندوبا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، قال له: «اننا نحتاج لاستراتيجية. في المبدأ اظن أنّنا يجب ان ننقل تقرير الأمور من الجمعية العامة الى مجلس الأمن. من المهم أن يبدو أننا نتمتع بالثقة بالنفس وبالجرأة». أراد للولايات المتحدة أن «تسيطر على الوكالات المتخصصة»، مثل منظمة التجارة والتنمية، والاونيسكو، وتحويلها الى «حضارة الأعمال [البزنس]» الشمالية.
بعد استئصال تهديدات المشروع الأطلسي المؤسساتية، انتقلت الـ«جي ٧» لاستخدام ازمة ديون الثمانينات لصالحها، والدفع باتجاه نظام جديد للملكية الفكرية والتجارية من اجل تعزيز مكتسبات الشمال ضد الجنوب. وعند انعقاد اجتماع دول عدم الانحياز في نيودلهي العام ١٩٨٣، كان من الواضح أنّ مشروع العالم الثالث قد استنفد في وجه الهجمة الشرسة التي شنّتها بلدان الشمال. لم يتم التأسيس لاستراتيجية سياسية فعالة للتعامل مع أزمة الديون، مع استعداد دول الجنوب، تحت وطأة الضرورة السياسية، لمقابلة ممثلي دول نادي باريس ونادي لندن، الواحدة تلو الاخرى، لتلقي اوامر تنفيذ التعديلات الهيكلية، وذلك لقاء تمديد آجال قروضهم. دعت أصوات اكثر راديكالية الى إضراب المدينين، لكن لم يلقَ النداء أي صدى. لم تكن المشكلة تتعلق بالدين نفسه (فاليوم مثلا يوازي الدين الخارجي لكل الدول النامية ١،٣٨ تريليون دولار، مقابل ١،٢ تريليون دولار هو الدين الخارجي لفرنسا وحدها ). تكمن المشكلة في عدم التناسب في القوة، حيث تقدر فرنسا على اعادة تمويل دينها عن طريق معدلات فائدة جيدة تمنحها كارتلات المصارف، مع مخاطر اقل من تلك التي تواجهها الدول الاخرى. ان الشمال يستطيع التحكم بالمصارف.
عوضا عن وجود نظام اقتصادي عالمي جديد يقوده الجنوب، وجب على دول العالم ان تعيش في ظل نظام ملكية عالمية جديدة، يقوده الشمال. غيّرت جولة الأوروغواي من اتفاقية «الغات» نظام الملكية الفكرية، فأصبحت الهندسة العكسية، او نقل التكنولوجيا، غير شرعية. اصبح بإمكان الشمال وشركاته تصدير عملية انتاج السلع الى بلدان الجنوب، لكن القسم الاكبر من الأرباح الناجمة عن بيع تلك السلع سوف تستبقى بما هي إيجار للملكية الفكرية (وهو العملية التي انتجت «النمو غير المولد لفرص عمل» في الشمال، وإلى الاستهلاكية المشبعة بالديون للقسم الأكبر من الشعب ــ اي عدم توازن اجتماعي الذي انفجر الآن عبر الأزمة العقارية، وسوف تنفجر قريبا عبر سوق القروض الشخصية).
في العام ١٩٨١، وصف الامين العام الجديد للامم المتحدة، خافيير بيريز دي كوييار، الفجوة بين الشمال والجنوب على أنّها «خرق لاكثر حقوق الإنسان اساسية»، وتعهد بأن تعمل الامم المتحدة لسد تلك الفجوة. المنظمة الدولية، تحت الوصاية الاطلسية اليوم، لم تفعل شيئا من هذا القبيل.
الموجة الأولى من «انتفاضات الخبز»
في فيلم محمد لخضر حمينا بعنوان «حوليات سنوات الجمر» (١٩٧٥)، يظهر نبي مجنون من المدينة ويلقي التحية على جمع من الفلاحين المتسخين. يمد لهم يده ويقول «كنتم فقراء وأحرار. أصبحتم الآن فقراء فقط!».
في ١٩٨٩، انتفض الفقراء من مدن الصفيح التي تحيط بمدينة كاراكاس ضد رفع تعرفة ركوب الباص التي سبّبها ارتفاع أسعار النفط. كانت تلك الانتفاضة اقوى من التي نظمت ضد صندوق النقد الدولي، أو ما عرف باسم «انتفاضة الخبز». انتشرت تظاهرات وحركات تمرد مشابهة في كل القارات، ووصلت اليوم إلى العالم الاطلسي (كما يتضح من الانتفاضات الاجتماعية في دول المتوسط، ودول جنوب اوروبا، ومن «حزب الشاي» وحركات «احتلوا...» في الولايات المتحدة الاميركية). يجمع بين تلك الاحتجاجات خمسة مسارات على الاقل:
اولا، اجراءات التقشف المفروضة أولا في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية باسم التعديلات الهيكلية، وأخيرا في العالم الاطلسي باسم الموازنات المتوازنة والمسؤولية الضريبية.
ثانيا، نسبة البطالة الكارثية في اطراف تلك المجتمعات، وخصوصا في الارياف حيث الغت الزراعة الصناعية الحاجة لليد العالمة الماهرة، عبر استخدام تقانات عالية الكلفة وغير مستدامة. يتحدث تقرير منظمة العمل الدولية للعام ٢٠١١ عن نسبة مخيفة لمن هم على حافة البطالة تصل الى ٥٠،٣ في المئة. وطالبت المنظمة بعقد «اتفاق عالمي للوظائف»، يترافق مع استثمار اكبر للدولة في البنية التحتية و«تأمين اطار مراقبة وتنظيم اقوى واكثر انتشارا عالميا للقطاع المالي، بحيث يخدم الاقتصاد الحقيقي، ويروّج للشركات التنموية وللعمل اللائق ولحماية افضل لمدخرات الناس وتعويضات تقاعدهم». ومثلما يحصل غالبا في منظمة العمل الدولية، لم يحمل الاقتراح اي وزن عند بلدان الـ«جي ٧»، التي تعتبر القضايا العمالية دون المستوى.
ثالثا، سيطرة قطاع المال والعقارات والتأمين، الذي أدى بيعه الأصول باسم الخصخصة الى نسبة بطالة اعلى والى مستويات كبيرة جدا من اللامساواة الاجتماعية.
رابعا، زيادة حالات الجوع لدى مليارات من الناس. من روما، اعلنت «منظمة الأغذية والزراعة» (الفاو) أنّ عدد الجائعين في العالم سيصل الى ١،٠٢ مليار هذه السنة. ولقد امضى المدير العام للفاو، جاك ضيوف، حياته المهنية كلها وهو يعمل في قضايا التغذية، سواء في مسألة الفستق، او الأرز، او الزراعة او المجاعة، كان ضيوف مناصرا واعيا لقضايا الغذاء والمجاعة. وحين اطلق التقرير الأخير، لم يتمالك نفسه من القول إنّ «هناك خلطة خطيرة من التباطؤ الاقتصادي العالمي مندمجة مع ارتفاع عنيد في اسعار المواد الغذائية في عدد كبير من البلدان ما دفع بأكثر من مئة مليون انسان اضافي عن العام الماضي نحو الجوع والفقر المزمنين. إنّ أزمة المجاعة الصامتة ــ التي تطال سدس عدد سكان العالم ــ تشكل خطرا جديّا على السلام والأمن العالميين». في ٢٠٠٨، طالت اعمال الشغب المتعلقة بالغذاء بوركينا فاسو، والكاميرون، ومصر، وهاييتي، واندونيسيا، والفيليبين. وقد مَنَعت فييتنام، والهند وباكستان تصدير الحبوب، خوفا على أمنها الغذائي، فيما البلدان المستوردة للاغذبة مثل اندونيسيا وكوريا ومنغوليا خفضت رسوم الاستيراد. اعترف صندوق النقد الدولي بأنّ احد اسباب الثورات العربية خلال هذا العام كان ارتفاع اسعار الخبز، نتيجة نهاية «ديموقراطية الخبز» [اي دعم اسعار الخبز].
خامسا. من السيِّئ بما فيه الكفاية أن يضطر المرء ان يعيش عند حدود البقاء، لكن الأسوء أنّ لا هذه الحالة ليست عامة على جميع السكان. إنّ معدلات اللامساواة الاجتماعية بلغت اعلى مستوياتها للعصر الحديث برمته. يشير تقرير صدر أخيرا عن الأمم المتحدة، إلى أنّ الواحد في المئة الاغنى عبر الكوكب، يملكون ٤٠ في المئة من الأصول العالمية، والعشرة في المئة الأغنى يملكون ٨٥ في المئة من الاصول المالية العالمية. ويقول التقرير «لقد توقع البعض تحسن ما، لكن العقد الماضي بيّن زيادة في تركيز الثروة بين الناس والشركات والدول».
ثمة كلمة واحدة تجمع بين الاحتجاجات المتنوعة حول العالم هي كلمة «لا»! من حركة «احتلوا وول ستريت» إلى ميدان التحرير في مصر، ومن اكواخ الصفيح في شارع كينيدي في دوربان إلى قرى ولاية هاريانا الهندية، يجري رفض سياسات النيوليبرالية بشكل مدو. وما برز منذ التسعينات هو المقاومة، اي تبديد زخم سياسات النيوليبرالية الصادرة عن المؤسسات الوطنية والدولية. ويشير «الجنوب العالمي» إلى سلسلة الاحتجاجات تلك باعتبارها ضد نهب الاملاك العامة، وضد سلب البشر كرامتهم الانسانية والحقوق، وضد تقويض المؤسسات الديموقراطية ووعود الحداثة. إن الجنوب العالمي هو هذا الكون من الاحتجاجات وتلك الزوبعة من النشاط الخلاق. ولقد انتجت تلك الاحتجاجات خرقا يصعب تحديد اتجاهه السياسي. بعضه عودة الى الخلف، باللجوء إلى كيانات ماضوية متخيلة، او الى عالم مقدس. وبعضه الآخر دفاعي محض يسعى للبقاء على قيد الحياة في الحاضر. ورغم ذلك يجد بعضٌ اخير أن الحاضر لا يحتمل ويدفعوننا باتجاه المستقبل.
من حوار شمال ــ جنوب إلى حوار جنوب ــ جنوب
كيف تصرفت دول عدم الانحياز تجاه تلك التطوّرات؟ هل تمكنت من الخروج من الموقف الدفاعي الذي ميّزها منذ الثمانينات؟ خلال قمة مجموعة دول عدم الانحياز في هافانا في العام ٢٠٠٦، دعا الرئيس الفنزويلي هيوغو تشافيز إلى إنشاء لجنة جديدة تدرس الوضع الحالي وتقترح اجندة «لا ترمى في مهبّ الرياح». كان يلمح إلى لجنة الجنوب، التي اطلق عملها في الثمانينات نظرية «قاطرات الجنوب»، رغم أنّ تقريرها نفسه «تحدي الجنوب» الذي نشر يوم اجتياح العراق للكويت نفسه في العام ١٩٩٠، لم يقرأ على شكل واسع.
عملت «لجنة الجنوب» في مناخ غير ملائم خلال الثمانينات. تجاهلتها بلدان الشمال، فجعلت من الضعف قوة إذ دعت الى «تعاون جنوبي ــ جنوبي» وعرض أمينها العام مانموهان سينغ وجهة نظر تقول إنّ «القوى القاطرة الجديدة عليها أن توجد في الجنوب نفسه». وكان التفكير ذاك هو ما أدى الى إنشاء مجموعة الـ١٥ (خلال قمة مجموعة دول عدم الانحياز في العام ١٩٨٩)، ومن بعدها مجموعة «إبسا IBSA» (الهند، البرازيل، وجنوب افريقيا)، واخيرا مجموعة دول «البريكس BRICS» (البرازيل، روسيا، الهند، الصين وجنوب افريقيا)، في العام ٢٠٠٩. وقد اعتبرت تلك البلدان على انها قاطرات الجنوب.
يقول تقرير صندوق النقد الدولي للعام ٢٠١١ إنّه بحلول العام ٢٠١٦ لن تكون الولايات المتحدة الاقتصاد الاكبر في العالم. تلك هي «إشارة على قدوم خريف» السيطرة الاطلسية، كما يقول المؤرخ فيرديناند بروديل. تظهر إشارات التراجع في الاساسيات الاقتصادية الضعيفة للدول الاطلسية، مع اشتعال علامة الحذر الحمراء بنور ساطع فوق سيطرة القطاع المالي في الاقتصاد وتزايد النفقات العسكرية. منذ العام ٢٠٠١، صرفت الولايات المتحدة وحدها ٧،٦ تريليونات دولار على حروبها على أجهزة الامن القومي الخاصة بها. يترافق ذلك مع خفوضات كبيرة في النفقات الاجتماعية ومع زيادة الاعفاءات الضريبية للأغنياء (السنة الماضية كسب الواحد في المئة الاغنى في الولايات المتحدة متوسط خفض ضريبي يفوق متوسط دخل اكبر الـ ٩٩ في المئة الباقين). حين بدا واضحا أنّ خريف المملكة المتحدة حلّ على الأبواب في العام ١٩٢٥، اعلن وينستون تشرشل «اني افضل ان ارى قطاع المال اقل كبرياء والصناعة اكثر اكتفاء». تنطبق تلك الكلمات الآن على سيطرة التي تمارسها «وول ستريت» و«حيّ السيتي» في لندن واسواق البورصة الأخرى على شريان حياة الاقتصاد الاجتماعي.
وفق توقعات صندوق النقد الدولي، ستصبح الصين اكبر اقتصاد عالمي في العام ٢٠١٦، لكن لا يبدو أنّها تريد ان تفرض نفسها وحدها. تبدو الصين مستعدة لأن تتشارك المسرح مع دول مجموعة «البريكس» والدفع باتجاه التعددية القطبية والتنوّع الاقتصادي.
لكن برنامج «البريكس» محدود لأسباب عدّة:
اولا، تتبع السياسات المحلية لدول «البريكس» عموما ما يمكن تسميته «نيوليبرالية بطابع جنوبي» ــ اي بيع السلع والرواتب المنخفضة للعمال المترافقة مع اعادة تدوير الفائض بتحويله الى ديون لدول الشمال فيما مستوى معيشة سكانها لا يتحسن. فعلى سبيل المثال، يعاني الشعب الهندي من معدلات فقر وجوع مرتفعة، ومع ذلك نسبة النمو في ذلك البلد ترتفع باطراد. فعوضا عن تحويل الثروة الاجتماعية عبر دفعات مالية او خلق اجر اجتماعي امتن، يبدو أن الدولة تتبع نصيحة رئيس البنك الدولي روبرت زوليك بتحويل فائضها الى «مساعدة الاقتصاد العالمي ليتعافى من أزمته». هناك امر شاذ ومعيب في جعل «قاطرات الجنوب» تجرّ عربات «الشمال»، خصوصا أنّ «الشمال» تردد في السماح بآلية تدوير جديدة خلال ازمة المديونية في الثمانينات.
ثانيا، لم يتمكن حلف «البريكس» من خلق أساس مؤسساتي جديد لسلطته الصاعدة. يستمر الحلف في المرافعة عن منظمة الأمم المتحدة اكثر ديموقراطية، ويطالب بالمزيد من الديموقراطية في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. الا ان هذه المرافعات لم تحرز تقدما يذكر. خلال ذروة الأزمة المالية، وعدت «مجموعة الثمانية الكبار» ان تحلّ نفسها وان تستخدام «مجموعة العشرين الكبار» بديلا عنها. لكن نسي الأمر الآن. لم تسمح رفع حصص التصويت في صندوق النقد الدولي لصالح دول الجنوب بأن تتقدم بمرشح مشترك للمنصب التنفيذي للمجموعة الصيف الماضي.
ثالثا، لم يساهم تشكيل «البريكس» في دعم انتاج بديل ايديولوجي للنيوليبرالية. تعددت الاقتراحات لإنشاء نظام اقتصادي أكثر استدامة، لكنها ظلت هامشية. تتيح «معادلة ريو» الخاصة بـ«المعاملة المنفصلة والتفاضلية» للجنوب بأن يطالب بتنازلات من سياسات المنظمات الدولية التي يرفض الشمال بمساندتها (منها مثلا قضية التغيير المناخي). ذلك هو موقف دفاعي. ولم يطرح بديل إيجابي حتى الآن. قد يبرز ذلك من الحراكات التي تبدأ من الأسفل، حيث لا يوجد شهية لترقيع نظام تراه معظم الناس على انه ساقط من اساسه.
رابعا وأخيرا، لا يملك مشروع «البريكس» قدرة على لجم السيطرة العسكرية للولايات المتحدة والحلف الاطلسي. حين تصوّت الأمم المتحدة للسماح «لدول اعضاء لاستخدام كل الاجراءات اللازمة»، كما فعلت في القرار 1973 حيال ليبيا، تعطي شيكا على بياض للعالم الاطلسي ليتصرف باستخدام القوة العسكرية. لا توجد بدائل اقليمية لديها القدرة على العمل. تبقى قوة الولايات المتحدة كونية المدى مزودة بقواعد عسكرية على كل القارات، وبالقدرة على تسديد الضربات العسكرية في كل مكان تقريبا. لقد وهنت الآليات الاقليمية للسلام وحل النزاعات بسبب الوجود الكوني للحلف الاطلسي والولايات المتحدة. هنا تترجم القوة العسكرية الجبارة الى قوة سياسية.
وإذا نظرنا في احشاء هذا النظام، نجد أنّ الحلول لمشكلاته ليست جزءا منه. فمشكلاته ليست تقنية، ولا هي ثقافية كذلك. انها مشكلات اجتماعية تتطلب حلولا سياسية. ان التراتب الاجتماعي في الملكية والاخلاق والقوة، يتطلب مراجعة جذرية، من دون شك. القضية هي تحديد الاستراتيجية والتكتيكات والطريق للوصول الى مكان لا يشبه ما نحن فيه اليوم. ان «الجنوب الكوني» ساحة صراع عظيم بين تكتيكات واستراتيجيات متنوعة تطبق في الشوارع وفي اروقة الحكومات.
إنّها قصة غير منتهية، قصة يجب ان تكون لها نهاية سعيدة.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.