على المدوّنة ذاتها، أسفل صورة علياء المهدي العارية، حضرت صورة صديقٍ لها، في الفكرة كما في الموقف، عارٍ هو أيضا، وتلك صورةٌ لم يتوقف عندها أحد، إن بالاتهام أو بالتحية.
في الفيديو ذاته، إلى جانب السيدة المنقبة التي كانت تتلقى هراوات العسكر وأحذيتهم، وُجد شابٌ يتلقى الضرب ذاته، حتى أن جنديا قفز فوقه بكامل قوته، واستمر ضربه بعدما همد جسم الفتاة في أوجاعه، لكن صورته ذابت في صورتها.
من هي «المرأة» التي يتم الدفاع عنها؟
هي الأم والأخت والزوجة والابنة، أولا، لا المواطنة التي تثور لأجل حقها بالحياة الكريمة في بلدها.
انتصر الناشطون والمواطنون للسيدة المنقبة، لأنها تلقت القمع طبعا، لكن، أساسا، لأن القمع أنتج عريّا لم يتمكن المجتمع من هضمه. ضُربت كثيرات قبلها، وتمت جرجرتهن من شعورهن، أمام الكاميرات، ووقفت كثيرات في مواجهة العسكر، في صور لافتة القوة، لكن العريَ هو الذي أخرج الفعل عن سياقه، واستدعى الدفاع عن «المرأة».
وعندما خرجت التظاهرة النسائية للانتصار للمرأة، قلن إن النساء خطٌّ أحمر. خط أحمر، بمعنى أن قمعهن بهويتهن الجنسية تحديدا، هو خط أحمر. وكانت لكل سيدة مشاركة في التظاهرة كلمة تقولها للكاميرات، تضع التظاهرة في سياق الوعي الثوري وتقدّمه على مجتمعه، فسعى الشبّان لنصرتهن، من خلال إقامة حلقة بالأيدي حولهن، من باب ممارسة «المسؤولية» بالحماية. حماية الأم، والأخت، والزوجة، والابنة. وقد قيل ذلك كثيرا، أحيانا على ألسنتهن، وغالبا على ألسنتهم.
أما علياء المهدي فقد وجدت أيضا من ينتصر لها، في مواجهة المنتقدين تحديدا، وبغض النظر عن الإطار الذي حدّدته لعريها، على مدوّنتها. قلّة انتصرت لقضيتها، وواجهت المجتمع بجسمها، أما أكثرية الأصوات الجماهيرية المدافعة فلم تنتصر لقضيتها، كون قضيتها مرتبكة بالعري... سعى المدافعون «الجماهيريون» إلى دحض حجج المتهجّمين، ومنهم ثوار كثرٌ، بالقول إن عريها شخصي ولا يعني فجور الثورة، وإن المبادرين إلى التكفير لا يعرفون للحياة سبيلا إلا بالتكفير، وإن التركيز عليها إنما يكشف عاهة اجتماعية وقصورا فكريا، ... مع أن علياء المهدي لم تموّه أسباب الصورة، وكان إطار عريها شديد الوضوح.
فقد كتبت: «حاكموا الموديلز العراة الذين عملوا في كلية الفنون الجميلة حتى أوائل السبعينيات، واخفوا كتب الفن وكسّروا التماثيل العارية الأثرية، ثم اخلعوا ملابسكم وانظروا إلى أنفسكم في المرآة، وأحرقوا أجسادكم التي تحتقرونها لتتخلصوا من عقدكم الجنسية إلى الأبد، قبل أن توجهوا إليّ إهاناتكم العنصرية أو تنكروا حريتي في التعبير». وكانت بذلك تستبق الحملة ضدها، ما يعني أنها تحكي عن «حريتي في التعبير» كامرأة، كحرّة.
وفي موقع آخر، تابعت المواجهة ذاتها: «كنت أجلس مع حبيبي في ميدان التحرير، وأضع ذراعي حول كتفه، فطلب مني رجل بوقاحة أن أحرك ذراعي وقال لنا: ماينفعش كده، والناس تعلق علينا. وعندما لم أسمع كلامه، وقلت له أنه ليس من حقه أن يطلب مني هذا الطلب، أتى بآخرين ليضربونا». ومرة أخرى، «كنت أجلس بجانب حبيبي نشاهد فيديو على تليفونه، ونستمع مع أصدقائنا إلى أغاني الثورة، وكنت أرتدي فستانا على الركبة، وتذمرت سيدة منقبة وطلب رجل منا أن نغيّر جلستنا. وكانوا يفتحون علينا الخيام التي نبات بها، ويتعاركون معنا إذا لم نفصل بين الرجال و«الحريم»، كما يسمون النساء».
وختمت بقول شديد الدقة: «مصر تحتاج إلى ثورة اجتماعية».
لم يناقش أحد مضمون العري الذي اقترحته، فالعين قد شلّت أمام الصورة المباشرة، انتصب فيها جسدٌ عار وجب التطهّر منه.
مصر، والدول العربية كلها، «تحتاج إلى ثورة اجتماعية».
يسجّل لمصر ــ الثورة أنها فتحت النقاش حول المرأة وجسدها، إن عبر تجربتي العري الاختياري والعري القسري، أو في تجربة كشوف العذرية، والمحاكمة القضائية التي أنتجت منعا لممارسة الجيش له.
ولكن، في تلك التجربة الأخيرة مثلا، اتضح أولا أننا نعيش في دولٍ تحتاج إلى حكمٍ قضائي ليُمنع دسّ الأصابع عنوةً في أجساد النساء. وتلك مصيبة. ومع أن الحكم القضائي إيجابي ويدعو للتفاؤل، فإن أحدا لم يطرح المسألة من باب أن العذرية حريةٌ شخصية، والتخلّص منها خيار خاص، ووجودها أو غيابها لا يمليان أي موقف عام.
صحيح أن تلك الفكرة لا تشبه «المجتمع»، لكن غيابها عن المجتمع هو تحديدا ما أنتج كشوف العذرية، التي ثار المجتمع نفسه ضدها. فقد ثار صونا لصورة «الأم والأخت والزوجة والإبنة»، ضمن «القواعد المرعية الإجراء»، وليس انتصارا لحرية الفرد في التصرّف بجسمه.
ولكون جسم المرأة ملكية عامة، مُنعت كشوف العذرية، في خطوة تصون العذرية التي يتحكم بها «المجتمع»، بدلا من صون حق المرأة باستعادة جسمها.
لماذا؟ لأن النساء، في نهاية كل مطاف، لسن أكثر من «شرف» المجتمع.
منذ أربعين عاما، كانت بنات مصر ونساؤها يتمشيّن في شوارعها ــ وفي أكثر شوارعها شعبيةً ــ مرتديات الـ«ميني جوب». وكانت البطلات السينمائيات يحتسين الخمر ويدخّن السجائر، أمام الجماهير المولعة بهن. وكانت الراقصة تحية كاريوكا، بطلة المعارك النقابية، من دون خشية توجيه إهانة لها على أساس مهنتها. وكان الحبّ الذي تغنيه أم كلثوم، ويطرب له رجالها ونساؤها، ينتصر للـ«قبلة إن كانت بين حبيبين»، فـ«ياخدها بدال الواحدة ألوف ولا يخشى للناس كلام». وكان، وكان، وكان...
وكان يُتوقع من مشهدٍ كهذا أن يؤدي بنا إلى عصرٍ يقول بالحرية الشخصية التامة، في عمق معانيها، بعد التمرّس في القشور. إلا أن ما تلاه من حكم بالقمع السياسي والفكري والاجتماعي، قد قام على زرع الخوف من الفرد وحريته، وإرساء منطق القوة في صياغة العلاقات الاجتماعية، والسياسية، والفكرية.
الخوف من الحرية، وقمعها بتسلسل القوّة.
كيف؟
توقف الفقر عن كونه تحديا يجب إلغاؤه، ليضحي حالا تفرض على الناس للسيطرة عليهم به. والفقر، يجرّ وراءه الجهل. ارتفعت نسبة الأمية في مصر، حتى فاقت نسبتها ثلث الشعب. وللتخلص من إمكانية ثورة الضعيف على الفقر والأمية، أخرج رجال الدين من عماماتهم الحلّ السحري: الآخرة. الآخرة، وما يرافقها من غطاء للرأس، تُحكم الحجاب على العقل. ولكي يسود الحجاب، تمت إدانة السفور. وفي مواجهة السفور، بات كل فردٍ صاحب فتوى. ومع الفتوى، حلّ التكفير. فلو كانت الجنة متاحة لكل الناس، لكان الناس قد توحّدوا في حال ما. العداوات زرعت في كل بيت، وباتت المحجبة كافرة مقارنة بالمنقبة، والسافرة عورة المجتمع. أما الرجل المفقّر والمجهّل فاستعاد القوامة على النساء، كأضعف الإيمان. فليظلم قليلا، وهو يتلقى الظلم كثيرا. وتحالف رجال الدين مع رجال السلطة ورجال المال، وأرسيت قواعد دولة يتكاثر عدد النائمين على محطات المترو فيها بشكل خيالي، ويتضاعف عددهم من عام إلى آخر، حتى بات العيش عشوائيا، والمدينة عشوائية، والحرية تهمة بعيدة المنال، والحقد، كل الحقد، على من يدّعيها فرديا لنفسه، يُقتل، باسم آخر قوة ممنوحة إلي.
وهكذا، بات الفقر واقعا، والجهل فقها، والحرية كفرا، والقوة شرعا.
تلك حال يجوز التوحّد عليها، لأنها تعمي الفرد عن الإمكانيات الأخرى.
سادت الحال على السواد الأعظم من شعب فقير، وتفشّت العدوى بين الأقل فقرا، والأقل جهلا، فبقيت قلة منهم تتذكر المطلب الأساسي، بينما موّه كثيرون الحرية، بحيث تتلاءم مع ألوان «الشعب». أما «الأغنياء» فلهم كوكبهم، «يمارسون» فيه حرياتهم كاملة، ويخرجون على المجتمع بالخطاب المحافظ الذي يضمن لهم بقاء الثروات في «الأنتوراج بتاعنا».. ويوما بعد يوم، باتت العودة عن مكتسبات زمنٍ سابق، خيارا خاصا، تجوز الشهادة لأجله!
وهكذا، أغدقت القدسية على المعادلة، وأضحى الفرد المهزوم في مجتمعه، جزءا من آلة تخدم الإله طمعا بآخرةٍ وردية. هي آلة، كل جزء صغير فيها إله صغير، يحتفي بقمعه، ويتوق إلى ممارسته.
ولكن، هل تكون الثورة ضد «قمعي»، وتتوقف عند «ممارستي» للقمع؟
ففي المعادلة القائمة، تظهر الحرية المطلقة وحشية، مخيفة، لا بل هي كفرٌ. والقوة تبدأ من زندي، فبيتي، وصورتي، وشارعي، لتضحي دينا جارفا لكل ما يثير فيّ أي ذرّة تردّد.
واليوم، عندما يتحرّك الشعب للمطالبة بحريته التي تتخذ شكل عدالة اقتصادية وتمثيلية، فهو يحمل معه وفي داخل كل فرد منه، منظومة القمع الكاملة تلك: منهم من تبنّاها، ومنهم من طرح إمكانية مساءلتها، وقلة ثارت تماما عليها، لكن الوعي إلى وجودها ليس عاما. وبدا ذلك جليا في صفحات دعم الثورات العربية (وليست المصرية)، على «فايسبوك»، إذ لا تطلق شعارا إلا «بحمد الله»، ولا تنتصر لشهيد إلا بـ«لا إله إلا الله»، ولا تهتّ حاكما إلا بـ«قلّة الرجولة» و«الإعاقة» و«الإلحاد». والتهمة وصف لفئة مهمّشة أو مقموعة اجتماعيا، أما الفخر فمصدره الدائم قيمٌ محافظة جدا، دينية، و«أخلاقية».
ثورات العرب الجارية راهنا لا تطرح على نفسها تلك الأسئلة. ثورة مصر، تواجه السؤال الصعب.
هل ستقوم الثورة ضد جزءٍ من الظلم، متسلّحة بجزءٍ أكثر تجذرا منه، بحيث لا يخاف المواطن من تغييرٍ آت، إذ يأمن لثباتٍ مستمر فيه؟
ومع ذلك، ثار الناشطون ضد اتهام «إسلاميّ» للمدوّن علاء عبد الفتاح بأنه «شاذ»، لكن أحدا منهم لم يقل أن «الشذوذ» اسمه مثلية، وهي واقع، وليست تهمة. أتى الرفض للتهمة، ووجب نفيها، تماما كما جسم علياء المهدي تهمة «واجبنا كثوار» أن ننفي معانيها كيفما أتت، وتماما كما عري الفتاة المنقبة تهمة «واجبنا كثوار» أن نثبتها على الحاكم العسكري.
هناك شيء ما في أفق الثورات ينتقص من ثوريّتها، كونها تحتفي بالإنسان كما هو. وهو، بعد أربعين عاما من القمع، بات صنيعته. الثورة، إن لم تهزّ المنزل وأسسه، كيف تصنع التغيير؟
هل ستتطلب إزالة صورة حسني مبارك عن الجدار، المحافظة على الأصفر الباهت الذي يحيط بها؟
عندما خرجت حملة ترويجية بإعلان يضع فم شيخ الأزهر على فم بابا روما، «انهارت» المرجعية المسيحية صونا لشرف المقام الديني، في حين اكتفت مشيخة الأزهر بتجاهل الموضوع، كونه «غير ذي أهمية». تلك كانت خطوة لافتة في ثوريتها، ضمن مجتمعات «بلعت» الظلم كله، وغصّت برسوم كاريكاتورية تهزأ من نبي، فخرجت تصيح بوضوح: «إلا رسول الله». كان بوسع المشيخة أن تنتفض ذودا عن «الإسلام»، إلا أن الشيخ الصوفي أحمد الطيّب أخرج الصورة من سياق المجتمع المحافظ، وقرأها بعين المعنى: هل تقول شيئا يستأهل النقاش؟ لا يهم موقع الفم على الفم، ولا يهمّ العري. مضمون صورة علياء المهدي كان يطرح موضوعا شديد الأهمية للنقاش، ولكنه لم يستدعه. العري «أكبر» من أن تهضمه العين. العري أقوى من المجتمع.
ينتظر المرء عمرا، ويهرم، على حد قول الرجل التونسي، لكي يحظى بحياة أقل رداءة، على كافة المستويات، ولكي يقوى على هضم كل الممنوعات، لا بل طحنها. وعندما تحلّ لحظة الثورة، يكون الطموح كبيرا، والخشية بحجمه. ماذا لو أتى الطموح محافظا، على سلم اجتماعي أرساه الفساد؟
كل الدلالات تقول بتأرجحٍ على تلك الحافة اليوم، تأرجحٌ تصنعه مبادرات فردية تتذكّر الحق الأساسي بالحرية، وتسعى إلى آخر رمق للتذكير به، والدفاع عنه.
وهو تأرجح تمكن قراءته بعين ثورية، فهو ابن لحظة انتفاض على عقود من التجهيل والتعتيم المنهجي والمموّل. وهو، في مصر وحدها، قد بات مرئيا، ثاقبا للعين، طارحا التحدّي على الذات. لكن غيابه عن التجارب العربية الأخرى يبقى مرعبا، علما أنه تأرجحٌ يمكن أن يُعِين مجلسا عسكريا على سرقة الثورة من معناها. وهو تأرجحٌ يمكن أن ينتج رئيسا، يشبه «اللي فات»، تستقر صورته، مبتسما وحده، في إطار جديد، على حائطٍ يحتفي باصفراره.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.