لم يضرم الشاب التونسي، محمد البوعزيزي، النار في نفسه بل أضرمها في جسده. فعندما قام يوم الجمعة ١٧ ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠١٠ بسكب الوقود على جسده وإشعاله احتجاجا على بطش السلطات كان يرسل رسالة واضحة مفادها أن باستطاعة جسده أن يعبر عما تجيش به نفسه بشكل أبلغ من أي شكوى يكتبها وبطريقة أبلغ من أي هتاف يردده. وبالفعل كان من جراء هذا الفعل الدرامي أن سقط نظام من أقوى الأنظمة العربية ومن أشدها قمعا واستبدادا.
الجسد والعسكر
إن هذا اليقين ببلاغة الجسد وقدرته على تحدي السلطة رأيناه يتمثل في أشكال أخرى في مصر. فخالد سعيد الذي قام شرطيان بضربه حتى الموت يوم ٦ يونيو/حزيران عام ٢٠١٠ أصبح أيقونة الثورة المصرية ليس بسبب مقطع الفيديو الذي يظهر فساد الشرطة المصرية والذي كان خالد يقوم بتحميله على الإنترنت عندما تمكن الشرطيان من تحديد مكانه، بل بسبب الصور التي التقطت لجثته في المشرحة والتي نشرت لاحقا على الإنترنت مصحوبة بصورته وهو حي، الأمر الذي أوضح بشكل جلي مقدار التعذيب الذي تعرض له.
ومن اللافت أن جسد خالد سعيد استمر في تأجيج مشاعر المصريين لمدة طويلة بعد موته. ففي محاولة منها لتبرئة الشرطة، أصدرت مصلحة الطب الشرعي تقريرا ناقضت فيه شهادة الشهود وزعمت أن الوفاة كانت نتيجة اختناق الضحية إثر بلعه لفافة مخدرات حاول إخفاءها لحظة القبض عليه.
وبذلك أصبح جسد خالد سعيد، كما ظهر في صور المشرحة وكما «تكلم» في تقرير التشريح، الشغل الشاغل لأسرته وموضوع اهتمام الجماهير. فالأسرة رفضت تقرير التشريح وأصرت على انتداب خبراء آخرين لتشريح الجثة من جديد. ومن ناحيتهم قام الناس بتنظيم وقفات احتجاجية في الإسكندرية وفي القاهرة ابتدعوا فيها نمطا جديدا من الاعتراض لم تشهده من قبل الساحة السياسية المصرية: الوقوف صمتا بصورة الضحية على الأرصفة وفي الشوارع، وكأن الناس بذلك يقولون ما سيعبر عنه محمد البوعزيزي: الجسد أصدق أنباء من الكلم.
وفي أعقاب اندلاع الثورة المصرية بعد ذلك بأشهر قليلة استمر الجسد في احتلال مكانة مركزية في كل مرحلة من مراحل الثورة، وكان، وما يزال، بؤرة الصراع مع العسكر الذين يستميتون في الدفاع عن مصالحهم ويجاهدون لدحر هذه الثورة. فبالرغم من الشعارات الملهمة والنكات المبهجة، وبالرغم من المقالات الرنانة والخطب الطنانة استمر الجسد يلعب دوره المحوري كوقود لسعير الثورة وكمؤجج لحماسها. فالقتلى الذين سقطوا بالآلاف والجرحى الذين فقدوا الأعين والأطراف، مثلهم مثل خالد سعيد، هم أيقونات الثورة وهم من يحرك الجماهير ويلهب مشاعرها. فالفيديو الذي يظهر الشيخ عماد عفت وهو يحتضر إثر استهدافة من قناصة في ميدان التحرير، وشهادة أحمد حرارة عن كيفية فقده لعينه اليسرى في أحداث شارع محمد محمود في نوفمبر/تشرين الثاني بعد أن فقد عينه اليمنى يوم سقوط الشرطة في ٢٨ يناير/كانون الثاني، وانهيار الجهاز الهضمي لمايكل نبيل سند الذي أضرب عن الطعام لمدة تزيد عن الثلاثة أشهر اعتراضا على محاكمته عسكريا بالرغم من كونه مدنيا ــ كل تلك الأحداث توضح مركزية الجسد ومحوريته في مواجهة العسكر.
محورية جسد المرأة في المعركة
على أنه يبدو أن جسد المرأة أصبح الآن، وبعد مرور سنة على اندلاع الثورة، هو الحيز الأهم الذي تدور فيه المواجهة مع العسكر مع ما يمثلونه من سلطة أبوية وآلة قمعية ونية مبيتة لوأد الثورة وللتنكيل ببطلاتها وبأبطاها.
فمِن نشر علياء مهدي لصورتها عارية على مدونتها في محاولة جريئة منها لكسر التابوهات حول الجسد ولطرح سؤال هام عمن يملكه ويتحكم فيه، الى سحل جنود الجيش للمنّقبة «ست البنات» وتعريتها أمام مجلس الوزراء، الى الضرب المبرح الذي تعرضت له عزة هلال وهي تحاول أن تحمي ست البنات وتذود عنها من بطش العسكر، الى خروج عشرات الآلاف من النساء للشوارع والميادين في مظاهرة حاشدة منددات بانتهاك الجيش لحرمة أجسادهن ــ كل تلك الأفعال وضعت جسد المرأة في بؤرة هذه الثورة العظيمة وأعادت للثورة حيويتها وعنفوانها.
على أن تصدي سميرة إبراهيم لسلطة الجيش ونجاحها في مقاضاته في قضية كشف العذرية كان، في رأيي، أهم عمل ثوري شهده عام ٢٠١١ وذلك ليس فقط نظرا لشجاعة سميرة إبراهيم الفائقة بل أيضا لمحورية الجسد في مواجهتها مع العسكر. ففي مارس/آذار قبض الجيش على سميرة مع ست فتيات أخريات كن يتظاهرن في التحرير وساقهن لمعسكر الهايكستب في العباسية حيث تم الكشف عليهن طبيا بدعوى التحقق من عذريتهن. وقد حاول المجلس العسكري بعد ذلك تبرير ذلك الفعل المشين بالقول إنه كان يحاول الرد على أية دعوى قضائية مستقبلا قد تقيمها إحدى اولئك البنات تتهم فيها الجيش باغتصابها. وكأن المجلس باعترافه ذلك قدم عذرا أقبح من الذنب. أما سميرة فلم تنتظر حتى يقدّم الجيش تبريرا لأفعاله القبيحة، بل قامت برفع دعوى قضائية ضد الجيش تتهمه فيها بانتهاك حرمتها وامتهان كرامتها. وقد كسبت سميرة أولى مراحل التقاضي، وأمامها الآن طريق طويل حتى توقِع العقاب بمن قام بالكشف عليها وبمن أمره بذلك. قضية سميرة إبراهيم دالة لأنها توضح كيف أن يقين المرأة المصرية أن الجسد له حرمته وخصوصيته وأن العسكر لا يحق لهم انتهاكه مهما كانت الحجج والذرائع، ان هذا اليقين هو الذي مكنها من الانتصار على العسكر بشكل مدوٍّ. وبذلك تمكنت سميرة بشجاعتها وصلابة رأيها أن تلخّص الأهداف النبيلة التي تدور حولها هذه الثورة، أي حق المصري والمصرية في التمتع بجسده/ها.
كذلك برهنت سميرة إبراهيم على قدرة الفتاة المصرية على التصدي للانتهاكات المنهجية التي اعتادت السلطة الأبوية المصرية أن ترتكبها ليس فقط منذ تولي مبارك الحكم، أو منذ استيلاء العسكر على الحكم عام ١٩٥٢، ولكن منذ تأسيس الدولة المصرية الحديثة في مطلع القرن التاسع عشر. فقد لا تعلم سميرة أن كشف العذرية المهين الذي تعرضت له في مارس/آذار الماضي له تاريخ طويل في مصر. ففي عام ١٨٣٢ افتتحت في الأزبكية مدرسة للقابلات، وكانت تلك المدرسة تلقّن عددا محدودا من البنات مبادئ العلوم الطبية، ولدى تخرجهن من المدرسة كان متخرجات تلك المدرسة يتم تعيينهن كحكيمات في أقسام الشرطة للقيام بمهام الطب الشرعي. فبالإضافة لتحديد أسباب وفاة النساء كانت هؤلاء الحكيمات مكلفات بالكشف على البنات اللاتي يسوقهن أقاربهن من الرجال إلى أقسام الشرطة للتأكد من عذريتهن. وتحفل سجلات الشرطة المحفوظة في «دار الوثائق القومية» بمئات القضايا التي تتضمن تقارير الكشف تلك، والتي تحتوي على عبارات وضيعة مثل «وجد غشاء البكارة منزال (كذا) من مدة مديدة»، أو«وجدت ثيب (أي ليست بكرا) ومستَعْملة من قبل».
قد لا تدرك سميرة كل ذلك، وقد لا تدرك أيضا أن تلك المدرسة مثل غيرها من المؤسسات التعليمية الحديثة التي تأسست في القرن التاسع عشر لم تكن تهدف إلى نشر المعارف، ما بالك بتمكين المرأة، بقدر ما كانت تهدف إلى إحكام قبضة الدولة الحديثة على أجساد مواطنيها ومقدّراتهم. وبهذا المعنى، فإن الدولة الحديثة في مصر لم تكن يوما دولة المصريين والمصريات، ولم تكن يوما تخضع لسيطرتهم أو تعكس رغباتهم أو تحقق أحلامهم.
قد لا تدرك سميرة كل ذلك، ولكن نجاحها في مقاضاة العسكر على كشوفات العذرية الُمشينة التي يرتكبها هو أكبر تحدٍ يواجه النظام العسكري المصري، إذ بذلك أثبتت سميرة أننا لم تعد تحركنا مشاعر الخوف والعار والمذلة. وعلى عكس رسالة محمد البوعزيزي المثقلة بالإحساس بالظلم والقهر والغضب، أرسلت سميرة إبراهيم للعسكر رسالة مفعمة بالأمل وبالثقة في النفس، رسالة تقول إنه لا يحق لهم أو لغيرهم الاعتداء علي أجسادنا أو انتهاك حرمتها.
إن أجسادنا، كأوطاننا، ملك لنا ولن نسمح لأحد بأن يمتهنها أو يغتصبها بعد اليوم.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.