العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

النساء في الثورات

نحو إعلان نسوي جديد

النسخة الورقية

أعادت الثورات العربية الجارية طرح مسألة موقع النساء ودورهن بحدة كبيرة. فاللحظة التغييرية تفرض الموضوع، لاسيما بعدما لوحظت المشاركة النسائية في كافة التحركات وعلى امتداد العالم العربي بتنوع أوضاعه. ثم لوحظ انكفاء حضور النساء في الهيئات المنتخبة أو التقريرية، وبعض الارتدادات عن مكاسب كانت متحققة للنساء. وأما التفسير فيكاد يكون جاهزا: «هذا ما حصل بعد الثورة الجزائرية، على الرغم من جميلة بوحيرد والآلاف من رفيقاتها». «إنهم الاسلاميون»، تقول أصوات أخرى. وتختلط الامثلة التاريخية بتلك العائدة لركائز وحجج فكرية، ويغلب على كل حال منطق الضحية: «هذا ما يحصل دوما». وهو بذلك يكاد يصبح حتمية لا حل لها. هو قدر أو مصير.

ولكن، وفق أي معيار نقيِّّم المسار الذي قطعته نضالات النساء، افرادا وحركات، للوصول الى حقوقهن؟ وما هي حقوقهن تلك أصلا، ومن يقرر تعريفها؟ تغيب عادة هذه الاسئلة، ويبدأ النقاش من السطر الذي يليها، وكأن الاجابات عليها بديهية. أزعم أنها ليست كذلك بالنسبة للوعي العام، الشعبي السائد أو الغالب، بل وحتى لدى الحركات النسوية نفسها. ويتضح أن هناك ضرورة ملحة لنقاش واضح، يتناول المبادئ العامة وكذلك الاستراتيجيا، بما هي تحديد للأولويات ولطرق ووسائل تحقيقها. وهنا، كما في المجالات الاخرى كافة، تُطرح مسألة الصلة بين المبادئ والاستراتيجيا، فهما ليسا شيئا واحدا، لكن وبالمقابل، ليس بينهما انفصال أو طلاق. ثم يفترض أن كل خطوة تُقطع تغير شيئا في الواقع وفي القناعات والاندفاعات، مما يوجب التقييم وتجديد التلاؤم ما بين المستويين.

وعلى أية حال، فالانتفاض من أجل الحرية والكرامة والحقوق وضد الاستبداد والفساد والافقار والارهاب، عمل تحرري أساسي وتعبير عن تطلع ديمقراطي أصيل. وهذا ما يعيشه العالم العربي اليوم. وسيكون من السذاجة افتراض أن هذه الحركة ستمضي في طريقها بلا عقبات وصعوبات وصراعات، وبلا احتمال الارتداد والتراجع، وبلا تحويرات. والسؤال يتعلق بموقع النساء في الحدث وبمساهمتهن في التغيير العام من جهة، وأخيرا بحظوظ اندراج مطالبهن المخصوصة في هذا السياق العام.

يستمر حضور النساء كثيفا في الثورات الجارية في المنطقة العربية، بلا استثناء لمكان، مشاركات في التنظيم والابداع، في التظاهر والاعتصام، متلقيات للرصاص الذي أوقع عدة شهيدات من بينهن. كذلك يتعرضن للاعتقال والتعذيب، وحتى الاغتصاب. وبسبب من كثافتها واستمراريتها، فهذه المشاركة ظاهرة غير مسبوقة. لقد تصرفت النساء كمواطنات كاملات الصفة. فهل سيتمكنَّ من ارساء هذه المواطنة بما يتجاوز اللحظة الاستثنائية للانتفاض؟

حقل المطالبات النسوية

تبدو مطالبات النساء في العالم العربي متمركزة حول الاعتراف بحقهن في المساواة الفعلية، القانونية والسياسية. وهذه المساواة معترف بها في البنود الاولى من دساتير أغلب البلدان العربية وذلك قبل الانتفاضات، وإنما هو اعتراف عمومي وملتبس على الغالب، يقول «كل المواطنين متساوون». إلا أن بنودا لاحقة تكرس التمييز. ويأتي في المقدمة التمييز القانوني في ما يتعلق بقوانين الاسرة أو مدونات الاحوال الشخصية. ثم لا تلبث أن تطل برأسها غيرها من الاستثناءات، مستندة إلى مزاعم الخصوصية الثقافية والدينية، والتي تلجأ كي تبرر نفسها الى الهجوم على المعايير «الغربية» المواجهة لها، منددة بنوايا الهيمنة التي تختفي خلف «العالمية الشاملة».

والاعتداد بالشريعة الاسلامية1 يبدو حجة وازنة تدفع حركات ومجموعات من النساء، رغم نشاطيتهم العالية في الحيز العام، إلى قبول عدم المساواة، وأكثرهن حياء يغلفنها بحجة «التكامل» بين النساء والرجال، بالضد من تماثلهم. وهو نقاش قديم، ولكنه ما زال قائما. وأما الثورات الجارية فتطالب بسلطات ديمقراطية تستند الى «تأسيسيات»، مما يؤشر بقوة الى مستوى عالٍ من الادراك للخراب القائم، ويعين اللحظة كمفصل تاريخي. وهي تطالب بإجراء انتخابات عامة وبصياغة دساتير جديدة، وبالعدالة الاجتماعية والحرية. ويتسبب ذلك بمجابهات سياسية تزيد من تعقيد الموقف على النساء.

هل يكفي التأكيد على أنه، لقياس صحة الافكار والتحركات المطلبية، بما فيها تلك المتعلقة بحقوق النساء، يجب على الدوام وضعها في صلة مع الديناميات الفاعلة في المجتمعات، وتقييمها بالنظر الى تلك الديناميات. هنا يجب تجنب انحرافين: الاول العائد الى الدفاع عن «نسبية» ما، تبدو حجة للانتقاص، والآخر الذي يقع في التجريد الذي ينصٍّب الايديولوجيات كمراجع للتحليل عوضا عن المعطيات وعن سمات الواقع. وهذان انحرافان نصادفهما كثيرا عند تفحص المسألة النسوية في العالم العربي، بل هما تلخيصا قطبا الخريطة السائدة، المشدودة ما بين تلك المتمسكة بإسلامية منطلقاتها، والاخرى المعتدة بالمبادئ العامة للمساواة وحقوق الانسان. وأما المسألة الاخرى فهي سؤال أدوات وضع المنجزات موضع التطبيق، والوسائل العملانية لهذا، وهما هدف كل ممارسة سياسية، ومنها ما يتعلق بمسألة النساء.

والتعداد الذي يلي لا يهدف الى اسقاط سائر المطالبات، ولا الى الحكم على مقدار وجاهتها، بل هاجسه السعي الى إعادة الكلام الى النساء أنفسهن. فلفترة طويلة تكلم الباحثون، رجالا ونساء، وكذلك السياسيون، محل النساء، مفترضين ما ينبغي عليهن التفكير به، أو اعتقاده والرغبة فيه. وهذه ممارسة غير ديمقراطية بامتياز، حتى لو حرَّكها الدفاع عن أفضل الحقوق الممكنة للنساء. لكن الاهم، انها لا تسمح بإنضاج الموضوعات الخاصة بهن. فالمسألة النسوية، وهي تعبر في كل مكان عن علاقات الهيمنة الاجتماعية، لها حساسية كبيرة في المنطقة العربية وتقطر معها شحنة انفعالية مكثفة. ولا يعود ذلك الى خصوصيات شتى ومتنوعة كما يُظن، بل هي مرتبطة بشكل عميق بالقلق والشعور بالرضَّة اللذين تعاني منهما مجتمعات هذه البقعة من العالم بسبب الهزائم المتتالية والمتنوعة، والعجز عن «تحقيق الذات» بما هو انجاز التحرر الاجتماعي والوطني. لقد أثارت اللحظة الثورية الأمل بأن تكون أخيرا هذه الانجازات ممكنة. وهذا أعاد بعض الثقة بالنفس وبالكرامة التي كانت مثلومة. وهو على الارجح شرط لازم لمقاربة مسألة حقوق النساء بشكل صحي.

إن ملاحظة الادبيات المنتجة من قبل المنظمات والجمعيات النسوية، بما فيها الاتحادات المرخصة، تشير الى أربعة مواضيع أساسية:

+ إقرار قوانين العائلة أو «الأحوال الشخصية» بشكل يعترف بمساواة النساء وبمسئولياتهن داخل الاسرة. يتعلق الامر كذلك بمنع تعدد الزوجات، وبحماية حقوق النساء في حضانة أولادهن عند الطلاق، وحقوقهن في المنزل العائلي وبنسبة ما في الاملاك المكتسبة خلال الزواج، لاسيما حين تكون النساء عاملات ذوات دخل يُنفق على العائلة... وهي كلها مواضيع تمس مباشرة البنية البطريركية، وتبين مبلغ التناقض بين استمراريتها قانونيا وفكريا وبين الواقع الفعلي حيث النساء بتن يمثلن نسبة ذات مغزى من قوة العمل في مجتمعاتهن. أثار هذا الجانب أكبر قدر من التوترات والمواجهات في السنوات الماضية، ووصل أحيانا الى التسبب بمظاهرات هائلة متقابلة، حيث نزل مئات الالوف، من النساء خصوصا، الى الشوارع، بعضهن ذودا عن الشريعة الاسلامية التي «إذا طبقت بشكل سليم» تكفي لتوفير حقوقهن وحمايتهن من غدر الزمان، بينما تطالب الاخريات بمدونة مدنية يمكن تطبيقها على كافة المواطنين بالتساوي. من لا يتذكر تظاهرات المغرب في بداية الالفية الثالثة؟ وقد صدرت المدونة في النهاية بإرادة ملكية وسعت إلى التوفيق بين القطبين. ومن جهة ثانية هناك اصوات عديدة تسجل، وعن حق، الاعتباطية في تطبيق مدونة الاسرة المغربية الجديدة بسبب جهل و/أو ريبة القضاة وصاحبات الشأن أنفسهن، وعجزهن عن الاستفادة من بنودها. ذلك أن البؤس الشديد ما زال قائما، يرافقه ما هو معلوم من سلوكيات وتسويات. وكذلك هي الامية، وبالأخص بين النساء. وقد أعلن حزب حركة النهضة الاسلامي في تونس أنه سيحترم مدونة الاسرة المعمول بها، وهي متقدمة في اعترافها بحقوق متساوية للنساء مع حقوق الرجال. وهو كرر موقفه هذا بعد نجاحه في انتخابات المجلس التأسيسي. ويفتح هذا الموقف الطريق الى التقدم بما يخص التعامل مع القوانين الاسلامية. وتستمر من جهة أخرى محاولات التأويل التحرري للنصوص الدينية والأحداث والامثلة التاريخية العملية، بواسطة مجموعات تنتمي الى الاسلام والى النسوية في آن. وهي جهود ما زالت في بداياتها ولكن أهميتها لا تخفى على أحد.

طغيان المطالبات القانونية

+ ادانة العنف الجسدي والمعنوي الذي يطال النساء، والتمييز ضدهن، واقرار الاتفاقات الدولية في هذا الشأن (وعلى رأسها اتفاقية «سيداو»). فقد وضعت جميع الحكومات العربية تحفظات على بعض بنود هذه الاتفاقية، بحجج شتى تندرج كلها في بند الخصوصيات الدينية أو الثقافية. وثمة انطباع بأن النقاش سرعان ما ينزلق الى تحديد «مقدار العنف الجائز» على مستويات متعددة، بما فيه العنف الجنسي من قبل الزوج، الذي تطالب بعض الحركات النسوية في لبنان، أو المناهضة للعنف، باعتباره اغتصابا، فتواجهها صرخات الاستنكار الدينية المحذرة من تخريب البنيان العائلي ومن التدخل في الخصوصيات. ولكن اللافت كذلك هو العنف الجنسي ضد النساء كشكل من أشكال ممارسة القمع السياسي، وهو ليس بظاهرة جديدة، ولكنه يهدف الى ارعاب النساء ودفعهن الى الخروج من الحقل العام، والعودة الى الحيز الآمن للمنزل. وفي مجال آخر، وحيث وقعت اغتصابات جماعية للنساء في أزمنة الحروب الاهلية (وأبرز أمثلتها تبقى بوسنيا وكوسوفو وروندا)، فقد كان ذلك على الدوام اشارة الى نية في إحداث قطيعة بين الجماعات المتقاتلة. بينما يُذكر مثلا أن الظاهرة (كممارسة جماعية ومنهجية) لم تُرَ خلال سنوات الحرب الاهلية في لبنان، رغم كل فظاعاتها، لأنه توجد على الارجح في تضاعيف الوعي الجماعي اللبناني فكرة «التسوية» التي سيعاد اليها لاحقا، متى اُنهكت الاطراف أو عدَّلت التوازنات السابقة.

+ تعيين حصة (أو كوتا) في المجالس المنتخبة. وتتفاوت النسب المطالب بها، ولكن الصراع يجري حول المبدأ نفسه، حيث تعارض أصوات، نسوية أحيانا، هذا التدبير لاستثنائيته وافتعاله، فيما أصوات أخرى تشير الى عدم كفاءة بعض النساء اللواتي يُخترن لملء الخانات، في الدفاع عن قضايا المرأة. وهنا أيضا علينا أن نسجل أن حركة النهضة التونسية قد وافقت على اعتماد مبدأ المناصفة خلال إعداد «هيئة الدفاع عن مكتسبات الثورة» لقانون الانتخاب الجديد، وطبقته فعلا، فوصلت بواسطته ٤٧ امرأة الى المجلس التأسيسي على لوائح النهضة، من أصل ٨٩ منتخبا على لوائح النهضة، ومن أصل ٤٩ امرأة في المجلس عموما.2 ولكن، وعند التفاوض على تشكيل الوزارة بين التشكيلات الثلاث الفائزة في انتخابات المجلس التأسيسي، أطيح بمبدأ تخصيص حصة للنساء، أيا تكن. وتَشارك في هذه الاطاحة الحزب الاسلامي والآخر ذو الصبغة اليسارية/الحقوق انسانية والثالث الاشتراكي الليبرالي.

+ الغاء كافة القوانين التي تناقض المساواة، ولعل أكثرها تداولا حاليا هو العائد الى حرمان النساء من منح جنسياتهن الى ابنائهن. وهذا مثال له وجهان، واحد عملي يشير الى هشاشة واضطراب وضع الاطفال المولودين من زواج مختلط، وبخاصة في حالات الطلاق أو وفاة الاب، حين يعيش الاطفال في بلد الأم. ولكن وجهه الآخر يعني الجميع، وهو مرتبط بمبدأ المساواة نفسه، ومعاملة النساء كقاصرات (بالمعنى المهين، وبمعنى المواطنة الفعلية من الدرجة الثانية). ويمكن ملاحظة أن مطالبات النساء لم تتخط الاولاد الى الحق في منح جنسيتها لزوجها، وهو تسوية مسبقة مقترحة من قبل النساء انفسهن، ترد بخصوصها تبريرات عملية، كعدم تمكين الفلسطينيين المتزوجين من غير فلسطينيات من فقدان جنسيتهم المهددة (وهو قرار من الجامعة العربية)، وكأن الانتماء الى فلسطين تحدده هذه الاعتبارات. وهناك أيضا موضوع المساس بتوازنات ديمغرافية من طبيعة طائفية، كما لو كانت النساء نوعا من حصان طروادة لغزوات غامضة!

ويمكن ملاحظة طغيان المطالبات القانونية على سواها في هذا التلخيص الذي يستند الى أدبيات الحركات النسائية في المنطقة. وفي دراسة اشرفتُ عليها 3

www.arab reform initiative, Arab Women and Reform. ، ظهر بجلاء الفارق بين وعي النساء من الطبقات الشعبية والريف، الباحثات عن سبل تحسين أوضاعهن المادية، وبين المطالب التي تصوغها الناشطات النسويات والتي تنعكس هنا. وهذه اشكالية ثانية، تطرح كيفية عقد الصلة بين وعي النساء «العاديات» لمشكلاتهن وبين نضال النخبة النسوية.

تميّز مشاركة المرأة اليمنية

الامثلة التي سنتناولها من بعض البلدان العربية تهدف بالأساس الى عرض واقع يختزن مفارقات عديدة، تعبِّر على الارجح عن تشابك المسألة النسوية بعناصر البنية الاجتماعية والسياقات التاريخية للمجتمعات. ونعتقد أن «سر» المسألة النسوية يكمن في رصد تلك المفارقات ودراستها واستخلاص نتائجها. كذلك توضّح الامثلة المقدار العالي من لاميكانيكية الفرضيات التي تتكلم عن التعليم والعمل كوسائل لتحرر النساء. وهو ما لا يلغي التشديد بالمقابل على أهميتهما، والتي وإن قُطِع فيها شوط، فما زالت راهنة وبقوة، حيث أول الخارجات من المدارس عند الضائقة هن البنات، وأول من يفقدن العمل عند الازمات هن النساء، فضلا عن صعوبة وصولهن أصلا لهذه وتلك، رغم التقدم المسجل في الستينات. ذلك أن انتكاسة أعقبت ذاك التقدم، تتلاقى مع الانتكاسة العامة.

مشاركة النساء اليمنيات في انتفاضة بلدهن مثال مثير. نزلن الى التظاهرات ونصبن الخيام واعتصمن لأشهر في الساحات، وشملت مشاركتهن عدة مدن وليس العاصمة فحسب. وحين اعتقلت توكل كرمان التي اصبحت في ما بعد حائزة على جائزة نوبل للسلام، خرجت مظاهرات من الرجال تحمل صورتها وتطالب بإطلاق سراحها. وهي وسواها من المناضلات، اعتلين منصات الخطابة في الساحات العامة في صنعاء وفي مدن أخرى، وخاطبن الرجال من موقع قيادي. وكرمان تلك مناضلة شابة سبق لها أن قاتلت لمنع الزواج المبكر للفتيات. وهي عضو في المكتب السياسي لحزب الإصلاح الاسلامي، ولكنها كثيرا ما نشرت مقالاتها في جريدة الحزب الاشتراكي اليمني. وهي سيدة محجبة، كما شاركت آلاف المنقبات بالحراك الدائر. ما الذي يجب رؤيته هنا؟ الحجاب والنقاب اللذان يفترض انهما رمز اخضاع المرأة، بما هو إعلانها ملكية شخصية أو الزامها بالحيز الخاص؟ أم قبول المناضلات بمقايضة مشاركتهن في التحركات باحترام طقوس وتقاليد اجتماعية «تقليدية»، عن قناعة بها أو ارتضاء للتسوية مع القيم السائدة؟ ما هي قيمة المكسب المتمثل بدخول مئات الألوف من النساء الى مجال التسييس، ووجودهن في الشارع، وتناولهن للأوضاع أمام تلفزات العالم، مبتدئات بـ«أنا» و«نحن»، محددات ما يردن وما يرفضن، متحولات هكذا الى فاعلات في مصير بلدهن. هل حقا تلك ليست سوى استفاقة لبلقيس؟

المرأة العراقية تدخل الحقل السياسي

وأما العراق، فقد عرف ثلاثة عقود من الديكتاتورية العنيفة بشكل خاص، وثلاثة حروب كبرى، وحصارا مديدا، وأخيرا احتلالا مباشرا من القوة العظمى العالمية. وهو ما كان كفيلا بخلخلة اي مجتمع في العالم. وقد فكك الامريكان مع احتلالهم العراق كل مؤسسات الدولة العراقية4، وأقاموا عوضا عنها نظاما سموه «العملية السياسية» التي نظِّر لها بواسطة «ديمقراطية المكونات»، المستلهمة من المثال اللبناني ومن مبدأ المحاصصة الطائفية. وقد مس ذلك بشكل خطير بحقوق النساء.

بدأت حركة المطالبة بحقوق النساء في العراق مع بدايات القرن العشرين. وعام ١٩٥٩، بعد ثورة ١٩٦٨ التي اطاحت بالملكية، عينت أول قاضية في العالم العربي وكذلك أول وزيرة فيه. وفي ذلك العام اقر القانون رقم ١٨٨ للاحوال الشخصية وكان حينها الاكثر تقدما في المنطقة. فقد كان قانونا مدنيا ينطبق على كل العراقيين بغض النظر عن مذاهبهم واقوامهم. وظل هذا القانون معمولا به حتى الاحتلال الامريكي عام ٢٠٠٣. بل كان غالبا ما يعدل لمصلحة النساء، كما حدث عام ١٩٧٨. وسنرى دلالات الاستثناء في هذا السياق. ومنذ ٢٠٠٣، تدور في العراق مجابهة حول المرسوم ١٣٧ الذي يلغي القانون ١٨٨. وقد رفضته الجمعيات النسوية فجرى سحبه رسميا، ولكن أعيد العمل به بواسطة الفقرة ٤١ من دستور ٢٠٠٥ والتي تقول «العراقيون احرار في انتسابهم في احولهم الشخصية الى أديانهم ومدارسهم الفكرية ومعتقداتهم وخياراتهم، وهو ما يضمنه القانون». وقد أقرت المادة من ضمن الاستفتاء الذي نظم حول دستور ٢٠٠٥ والذي حاز على موافقة أكثر من ٧٨ بالمائة من الاصوات.

ورغم هذا الانتكاس، و«تراجع شروط حياة المجتمع ومعاناة النساء بشكل خاص في هذا المجال، تعتقد الجمعيات النسوية على اختلاف مشاربها، أن سقوط نظام صدام حسين قد اتاح دخول النساء الى المجال السياسي في اطار تعددي وديمقراطي»5. ومن بين ستة آلاف جمعية موجودة في العراق حاليا، يوجد ألفان منها معنية بالمرأة، اي الثلث. وقد اعتُمدت الكوتا في البرلمان، ليس بنسبة ٤٠ بالمائة كما طلبت جمعيات النساء بل بنسبة ٢٥ بالمائة، بينما لم تقر أي كوتا في مصر، والزمت اللوائح الانتخابية بوجود امرأة واحدة على الاقل، وضعت غالبا في آخر القائمة فلم تفز إلا خمسة عشرة امرأة، ما نسبته واحد ونصف بالمئة من النساء بمقعد في البرلمان الجديد6

، (وقبل ذلك لم توجد اي امرأة في المجلس الاستشاري). ولكن الملاحظ أن النائبات العراقيات يصوتن وفق اتجاهات أحزابهن ويصبحن أحيانا «نساء ضد مصالح النساء»7.

لا بد من الاشارة الى سياق هام في ما يخص العراق. فخلال السنوات الثماني للحرب الفظيعة مع إيران، ثم خلال الاثنتي عشرة سنة من الحصار، لعبت النساء العراقيات دورا حاسما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وفي مختلف النواحي الانسانية، وذلك على امتداد البلاد. لقد أمسكن بكل بساطة به، معوِّضات في البداية غياب الرجال في الجبهات، ثم مبتدعات لتدابير تسمح بالاستمرار على قيد الحياة8

. وهذا استمر بوتيرة عالية وبلا مخارج أو مهارب منه وذلك لمدة عقدين من الزمن. وليس صدفة أن حاول نظام صدام حسين احتواء هذا الدور والمكانة التي ترتبت عليه، فسعى في نهاية الثمانينات الى سن قوانين لهذا الغرض، منها مثلا تلك التي تبيح للذكور ارتكاب جرائم الشرف حتى درجة القرابة الخامسة! وهو كان يحاول بذلك ايقاظ سطوة جانب بائد من العقلية والعلاقات القبلية9

. وقد كان الامر كاريكاتوريا الى حد أثار السخرية. وخلال السنوات الثماني لاحتلال العراق، وعلى الرغم من حالة التفكك والفساد السائدين، نمت المنظمات النسوية واستعادت «الحقل الاجتماعي» عبر الاعمال الخيرية، وكذلك عبر مجموعات ضغط شكلنها للحصول على الخدمات الاساسية للدولة. كما انتشرت جمعيات لمرافقة النساء المعنفات قانونيا، وللحصول على حقوق الأرامل ورفع قيمة التعويضات لهن، ولمراقبة توزيع المعونات العينية، ولمساعدة النساء أثناء الاجراءات الادارية، وصولا الى تنظيم حملات محو الامية (والامية كانت قد انتهت في العراق مطلع الثمانينات)، واكتساب المهارات المهنية، وذلك لتشجيع النساء على الاستقلال المادي.

لبنان: النظام الطائفي أبوي بامتياز

وأما في لبنان، فيوجد «الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية» كما قال الكبير، الدكتور سليم الحص. وهو يقصد طبعا نظام الطائفية السياسية الذي يبدو أبديا وقابلا للتجديد باستمرار في إشرافه على حركة السلطة والثروة وتقاسمهما. وهو نظام أبوي بامتياز ليس فيه مكان للنساء، إلا لزوجات أو بنات أو أخوات الزعماء، وهو ما يحصل في ظروف مأساوية، فينصَّبن ولكن بوصفهن «نساءهم». وقد ألهمت الثورات الجارية عددا من الشبان والشابات تنظيم حراك يقول «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي». ولكنه حراك أدى فحسب الى تظهير استمرار وجود تيار علماني وليبرالي أو يساري، بالأخص بين الطلاب. ولعله ليس من نافل القول التذكير أن نظام الطائفية السياسية ينظم كل نواحي الحياة في البلد، منذ الولادة وحتى الموت، مرورا بالعمل والزواج، وأنه لا يوجد حيز مستقل عن سطوته. والتذكير أيضا أن كتل النساء ينتظمن داخل قرارات طوائفهن والاحزاب المعبرة عنها، إلا ما ندر، ويدافعن بحجج نسوية عن تلك القرارات، أو بواسطة استحضار تعبيرات عن «إرادتهن» مناقضة لمساعي تحررهن أو حقوقهن.

يتجاوز الوضع الواقعي للنساء في المنطقة العربية، بشكل كبير، التنظير المحيط به كما التشريعات التي تخصه. فأدوار النساء كبيرة، وكذلك المكانة الفعلية والمسؤولية المنوطة بهن داخل مجتمعاتهن وفي أسرهن، على كافة المستويات، المادية والمعنوية.

مقدار غياب النساء عن مواقع المسئولية السياسية والوظيفية لا يقاس إذا بالرجوع الى المبادئ العامة للمساواة أو الى القواعد الاخلاقية، وإنما يكون بالنظر الى حضورهن الاجتماعي والاقتصادي الواقعي. وهذه وضعية لا شك في فصاميتها (أي انها مرَضية شيزوفرينية )، تكشف أكثر من سواها البنية الاجتماعية وعلاقات الهيمنة السائدة، التي تبدو هنا مستقلة عن معطياتها «الموضوعية». وبخلاف ما يُظن من أن سر ذلك يكمن في عقلية تقليدية يتمسك بها العرب، فلعله يمكن استنطاق تلك المفارقة لتظهير نسب «برَّانية» الاقتصاد مثلا الذي يعتمد على موارد ريعية أحيانا أو أخرى خدماتية (كالسياحة من بين غيرها ) أو على تحويلات العاملين في الخارج، ما يجعل تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية اعتباطيا.

هل تكفي الديمقراطية؟

والنساء غائبات بشكل يكاد يكون تاما عن التمثيل السياسي. وعلى أية حال، وحتى وقت قريب، كان الجميع، نساء ورجالا غائبين عنه بمعناه الديمقراطي، إذ كان خاضعا لآليات انتقاء تخدم سلطات ذات رقع في غاية الضيق، استمرارها في الحكم قائم لأنها تؤدي خدمات وكلائية. وهذا لا ينطبق فحسب على بلدان انتهت السلطة فيها الى أيدي مجموعات نهّابة، كما في مصر وتونس وسوريا واليمن (مع الفوارق)، واستمدت مشروعيتها من دورها التوسطي بين إمكانات بلدانها ومنظومة النيوليبرالية العالمية، بل ينطبق كذلك على سلطات تحظى بشرعيات تقليدية (الملَكيات مثلا)، لكن وجودها في السلطة مرتهن هو الآخر بأداء هذا الدور الوكلائي والتوسطي.

مفارقة تطرح نفسها وتتعلق بمسألة الديمقراطية. فهذه الاخيرة قيمة عليا ولا شك، ولكن هل هي دوما معاضدة لتحرر النساء؟ ما العمل إذا سُنت بكل ديمقراطية حقيقية قوانين تمييزية ضدهن؟ المقاومة ولا شك، ولكن السؤال يبقى مطروحا، وهو متعلق بآليات اعادة انتاج وتأبيد علاقات الهيمنة بكليتها، بما في ذلك داخل الجماعة المهيمن عليها، اقصد هنا النساء انفسهن.

وما العمل لتلافي التحوير الذي يمكن أن يلحق بوجود النساء في المؤسسات التمثيلية أو التقريرية، حين تؤدي مواقفهن المتحفظة أو الرجعية دور الحجة لرفض مطالبات مرتبطة بحقوق النساء. يمكن رؤية هذا المنطق في العديد من المدونات الرائجة أو تعليقات القراء على مواقع اعلامية مشهورة، حيث يقال «اسألوهن»!

ردة الفعل الغالبة على حضور النساء في الحقل العام تتراوح عموما بين التوجس والتمجيد والتوظيف. والخيط المشترك بين كل تلك الخاصيات أنه يفترض بالنساء أن يثبتن كل مرة، وعلى كافة المستويات، انهن لا يبحثن عن الاستيلاء على السلطة! وباتت المسرحية ممجوجة، لأن النساء بالمقابل واعيات لهذا البعد، و«يمثلن» بمعنى من المعاني، أو يستبقن الممكن بالسلوك وفق تسويات مضمرة. وحين يحدث العكس، يتسببن لأنفسهن بالبقاء في حيز في غاية الهامشية، ومغرَّب (من غربة وليس غرب). وعلى كل حال، فآلة القمع تنزل عليهن بقوة حين يخرجن عن الدور الذي يرتضين تمثيله! وهذه وضعية تعزز كيدهن العظيم!

هل يمكن اعتبار أن الوصول الى السياسة هو التعريف الآخر للديمقراطية وان هذا ينطبق على الرجال والنساء على حد سواء؟ في هذه الحالة، يتطلب الامر إعادة الاعتبار الى جملة من «الخطط»: أولاها تشجيع مشاركة أوسع عدد ممكن من النساء في الحيز العام، أيا يكن، واعتبار ذلك أمرا مفتاحيا بمعنى انتاجه لما يليه من إدراك للذات حتى لو تأخرت نتائجه أو مرت بمسارات متعرجة. الحضور والمشاركة في الحقل العام مراهنة على نضج متعاقب، مع العلم بأن ذلك لا يكفي، وان الامثلة على سرقة منجزات النساء وعلى اجبارهن على الانكفاء تتكرر كل مرة. ولكن هل من سبيل آخر؟ فحتى الحقوق المنصوص عليها قانونيا قابلة للإهمال والتزوير، وحتى التدابير السياسية قابلة للتجاهل. وما يجري اليوم في برلمانات الثورات خير دليل.

ما هي التأقلمات أو التسويات المقبولة، والتي يمكن عقدها؟ وفق اي معايير يقاس التقدم المنجز، بحيث يَضبط التلاؤم المعتمد ويجعلها مندرجة في سياق معلوم، في استراتيجيا؟ هذه في مقدمة الاسئلة المطروحة بحدة وبشكل واقعي اليوم على امتداد العالم العربي.

أخيرا، يبدو أنه لا بد من بدء التفاوض على «اعلان نسوي» يمكن أن يشكل وثيقة الحد الادنى لمطالبات النساء في العالم العربي اليوم. وهذا لا يمنع احتفاظ كل مجموعة بتحليلاتها ومطالباتها الخاصة. ولكنه يولد دينامية سجالية مسئولة، ويفيد على السواء كل التيارات الموجودة بين النساء، لأنه وسيلة لردم القطيعة بينهن، وهي أكبر بكثير مما بين سواهن، وكذلك الريبة. وهذا بذاته له دلالاته. يمكن لمسار تفاوضي من هذا القبيل أن يضع التساؤلات والتحديات على الطاولة، وأن يبلور اتجاهات داخل التيارات تلك نفسها، وأن ينضج الكثير من الاهداف والوسائل على السواء. إنه جهد سياسي لتوليد عملية «توافق ــ صراع ــ توافق»، أو لتوليد استقطاب له فاعليته ومعناه.

  • 1. كما هي سائدة، ولن نجادل في ذلك، فهذا يفيض عن غرضنا هنا. لكن هذه السيادة لا تنفي كونها تأويلات قابلة للشك، حتى لو احتل اصحابها مناصب رسمية أو مهروا فتاويهم بأختام المؤسسات المهيبة. فهذه اعتبارات تتعلق بالسلطة وليس بالدين، واصحابها هؤلاء يبقون في نهاية المطاف بشرا يخطئون ويصيبون. ويكفينا دلالة على ذلك الأعمال النقدية لمفكرين مسلمين من بينهم جمال البنا ومحمد شحرور.
  • 2. بالطبع لم تطبق المناصفة في مجلس الوزراء التونسي، ولا حتى روعيت أي نسبة معقولة من الحضور النسائي، وكذلك الامر بخصوص الحكومة
  • 3. انظر «النساء العربيات والاصلاح، دراسة مقارنة بين المغرب والاردن»، بالعربية والانجليزية، على موقع مبادرة الاصلاح العربي ٢٠١٠.
  • 4. بحجة تداخل السلطة والدولة في مثل هذه النماذج. والحقيقة ان الامريكان تخبطوا وجربوا وارادوا على اية حال أن يحكموا سيطرتهم على البلد، وبدا لهم ذلك غير ممكن من دون تفكيك كافة مؤسساته. وكان الحصار المديد قد نخرها الى حد بعيد.
  • 5. بحسب طروحة دكتوراه تنجزها الباحثة زهرة علي حول الحركة النسوية العراقية.
  • 6. انظر: بشير عبد الفتاح، «المرأة المصرية ضحية الثورة والانتخابات»، على موقع الجزيرة للدراسات، كانون الثاني/يناير 2012، وهو يقول «هذه النتائج المتواضعة لم تتناسب بأي حال مع الوجود الفعلي للمرأة في المجتمع المصري، والذى ينعكس بشكل لافت في ثقلها الديمغرافي حيث تمثل نسبة ٥٠ % تقريبا من إجمالي عدد السكان، و ٢٥ % من قوة العمل، و٤٩ % من طلاب الجامعات و٤٠ % من مجموع الناخبين المسجلين في جداول الانتخابات».
  • 7. وهو ما تجسّد بطريقة كاريكاتورية في المجلس التشريعي الفلسطيني لعام ٢٠٠٦، حيث تصدرت النائبات الاسلاميات المعركة ضد اقرار قانون الاسرة وصوّتن لمصلحة تعدّد الزوجات على سبيل المثال.
  • 8. وهذا يستدعي ملاحظة الدور الذي لعبته النساء الفلسطينيات لحظة الاقتلاع العنيف لمجتمعهن عام ١٩٤٨، في الحفاظ على تماسك عائلاتهن وسلامتها، ومعنوياتها، والتمسك بسائر الروابط الاجتماعية المنتهَكة بحكم الحدث الفظيع. ثم في ابقاء الحياة مستمرة في السنوات الاولى للمخيمات، بينما كان الشعور السائد بين الرجال يتقاسمه الذل والاحباط. وعلى ذلك فقد لعبت النساء دورا مميزا في الحفاظ على ذاكرة فلسطين.
  • 9. كما كان يسعى لإعادة تركيب تلك من أعلى وبشكل مزور، وقد عرفت مثلا محاولاته لتنصيب زعماء على تلك العشائر يبايعونه، سموا شعبيا «شيوخ السلطة»، وهم منحوا مالا وسلاحا وقدرة على التوسط في المؤسسات.
العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢
نحو إعلان نسوي جديد

التعليقات

عبارة " اسألوهنَّ " تُصبِح انتهازيّة ذكوريّة بامتياز , في واقِع عربي مسحوق مهمّش في سواده لألف عام خلَت .. عبارة تستخدمها و تروّج لها " النيوليبيراليّة " في ما تستَخدِم و تُروّج لتأبيد واقِع النّهب و الفساد و القمع و التَّبَعيّة . الإعلان العالمي لحقوق الإنسان , و القوانين و المواثيق الدّوليّة هي المرجعيّة اليوم لأنها ثمرة كفاح و جهد إنساني مُشتَرَك طويل .

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.