العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢

شعارات الثورة التونسية:

لغة الحرية والكلمة ــــ الفعل

النسخة الورقية

هل قلتم ثورة ؟

اهتم في هذا النّصّ بإشكالية العلاقة بين اللّغة والثورة في تونس. واستعمل مفهوم الثورة مستندا في ذلك إلى التّسمية التي أطلقها الفاعلون على فعلهم. ورأيي أنّنا، إلى حدّ الآن، إزاء نزعة ثوريّة لا يمكن الحكم لها أو عليها قبل أن تحقّق مقاصدها وأوّلها القطيعة، القطيعة مع الماضي، تعلّقا بالحرّيّة والكرامة والعدالة، حسب شعاراتها، وفي الحدّ الأدنى وإذا ما تعذّرت القطيعة بقوّة قبضة المجتمع التقليدي أن نسعى باتجاه التقدّم. نحن مقبلون على احتمالات مختلفة ومنها احتمال الثورة، ولكن أيضا على احتمال نفي الثورة، لمّا تصبح الحداثة وصمة تخشى الإعلان عن نفسها، أو أن يتحوّل الوضوح عورة، فيختفي الجسد تحت السّواد عوض الحديث عن حرّيته في نزعة ثائرة، أو أن يصير الواقع حافلا بمعاني السلفيّة تحت عنوان الحرّيّة فتثبت بقدرتها المناورة على التّقدّم يسارا، وتستدرجك إلى أسئلتها ورموزها ومنها الهُويّة، ويتحوّل التنوير إلى نور، نور الماضي. لهذا نحن إزاء نزعة ثورية لم تحسم أمرها بعد، ينكشف فيها ما كان تحت الرّماد بمختلف تعبيراته وتناقضاته، وسيؤول أمرها بعد تصفية حسابات مختلفة إلى القوّة الاجتماعية التي تعبّر عن طبيعة اللحظة التاريخيّة وتمثّلها، وأظنّ أنّها لازالت قيد التشكّل. وستعلن عن نفسها لماّ تنضج طبقتها الاجتماعية وتخلق لغتها وتعبيراتها إبداعيا وفكريا وأيديولوجيا ولغويا ورمزيا، وأظنّها لا زالت جنينية في رؤوس أطفالنا. وتجد فرضية النّزعة الثوريّة بعض عناصر قوّتها وتماسكها في ما رأيناه في السّاحات العامّة، في مدن مختلفة، وخاصّة في شارع بورقيبة بعد عام من الثورة من عنفوان الفضاء العام الذي بدأ أفراده يتناقشون وجها لوجها بطريقة حرّة وعقلانيّة ويضعون الأسئلة الجديدة.

عام على الثورة وعيون عليها. فهل حقّقت مقاصدها ؟ أم بعضها ؟ أم أنّها مقبلة على احتمالات مختلفة ومنها الثورة أو نفيها ؟ يبدو لي أنّنا إزاء نزعة ثوريّة لا يمكن الحكم لها أو عليها حتّى الآن في انتظار أن تذهب في اتجاه القطيعة بما فيها من تغيير جذري عميق، أو في الحدّ الأدنى أن تسعى باتجاه التقدّم. على أنّ احتمال نفي الثورة يظلّ هو أيضا احتمالا واردا، ليس فقط لأنّ الانتكاسة السياسيّة يمكن أن تحدث، فتُرِجعُ النظام السابق وبشكل مختلف ويصبح ما اُنجز باهظ التّكاليف، بل لأنّ فكر الثورة الذي كان يمكن أن يكون محرّكها وضامنا لمسارها لم يعلن عن نفسه بعدُ، ولم يحرّض إلى حدّ الآن على ثورة في المعنى، ممّا جعلنا هذه الأيّام نتورّط في تعبيرات احتجاجية مطلبيّة وقطاعيّة ضيّقة وتقريبا في كلّ مكان، دون تقديم للمعاني الثوريّة الكبرى من قبيل الحرّيّة ومناقشة طبيعة النظام الاقتصادي القادم. المفارقة أنّنا نرى مستقبلا للماضي في سياق ثوريّ يفترض أنّه يقطع معه، فيصير بذلك الواقع حافلا بمعاني السلفيّة تحت عنوان الحرّيّة، هذه التي تحاول أن تثبت بقدرتها في المناوِرة على التّقدّم يسارا، وتستدرجك إلى أسئلتها ورموزها ومنها الهُويّة، ويتحوّل التنوير إلى نور، نور الماضي، فلا يعنيها إلاّ سلامة هذا الماضي الذي يتحوّل إلى مضارع ويُراود المستقبل. لهذا يبدو لي، على الأقل إلى حدّ الآن، أنّنا إزاء نزعة ثورية لم تحسم أمرها بعد، ينكشف فيها ما كان تحت الرّماد بمختلف تعبيراته وتناقضاته، وسيؤول أمرها بعد تصفية حسابات مختلفة إلى القوّة الاجتماعية التي تعبّر عن طبيعة اللحظة التاريخيّة وتمثّلها. وستعلن عن نفسها لماّ تنضج طبقتها الاجتماعية وتخلق لغتها وتعبيراتها إبداعيا وفكريا وأيديولوجيا ولغويا ورمزيا، وأظنّها لا زالت جنينية في رؤوس أطفالنا. وتجد فرضية النّزعة الثوريّة بعض عناصر قوّتها وتماسكها في ما رأيناه في السّاحات العامّة، في مدن مختلفة، وخاصّة في شارع بورقيبة بعد عام من الثورة من عنفوان الفضاء العام الذي بدأ أفراده يتناقشون قضايا الشأن العام وجها لوجها بطريقة حرّة وعقلانيّة ويضعون الأسئلة الجديدة. وهذا هو الوجه المريح في كلّ ما يحدث، والذي يعدُ بمشروع ما جديد يلوح في الأفق، لا يزال قيد التّشكّل بعسر، يبحث عن عناصره التائهة هنا وهناك. وقد يظلّ المشروع «في حضرة الغياب» إذا ما اتّسع الضّيق الفكري الذي يتلبّس نخبنا، وتمادى عجزها على أن ترى المستقبل، فترى ما لا يُرى، وخاصة إذا ما استمرّ كسلها في القبض على اللّحظة المعرفية التي تقترحها الثورة وصياغة بدائلها. هذه لحظة انبعاث شعب لم يجد أمامه متّسعا من الفكر الجديد فراح يعتني بماضيه ويأخذ الكتاب بقوّة لأنّه صالح لكلّ زمان ومكان، وله في ذلك حكمة. ولكنّ أطفالنا الذين تفتّحت أحاسيسهم على سجع الثورة سيكونون أكثر تأهيلا منّا على بلورة أفق جديد للمعنى الثوري الخلاّق. وإنّ أهمّ إنجاز تفعله سلطتنا الحاليّة أن تحافظ على الصيغة المؤقتة لسلطتها، فأطفالنا قادمون. وما علينا سوى تعليمهم وتدريبهم على «التمرّد» على السائد لخلق البدائل الآتية. وعلينا تعليمهم أنّ الثورة التزام، التزام بالحرّيّة كما يقول جون بول سارتر، حرّية الجسد، وحرّيّة الرأي والفكر والإبداع. وسيكون من المستحسن أيضا تعليمهم البحث عن الاختلاف في كل شيء لأن التّشابه سلوك القطيع.

متن الحرّيّة في لغة الشّعار

أجمع في مدوّني بين المنطوق اليومي والشعارات التي رفعت في وجه النّظام التونسي، ابتداءً من سنة ستّ وألفين وصولا إلى يوم هروب رأس النّظام. وأحاول أن أمسك ببعض القواسم المشتركة التي تجمع بين مختلف مفاصل هذه المدوّنة، مستندا في ذلك، ولو جزئيا، إلى القراءة السيميولوجية، بما هي مغامرة في الدّال. وأثناء التصنيف، واللّعب بالكلمات والتساؤل عن المرجعيات، تنبّهت إلى قاعدة أولى لافتة للانتباه مفادها أنّ الشّعارَ يساريٌّ بالضرورة. القوى الدينية السياسيّة تُكبِّر وتهلّل ولا ترفع شعارا، سواء كانت شيعيّة (لبنان، إيران) أو سنّيّة أو سلفيّة. الكابح الديني يمنع هذه القوى من أن تُبدع شعاراتها. ثمّ إنّ هذه القوى ظلّت تراقب المشهد وتفاعلاته، حذرةً، غير مطمئنّة، ولم تُعلن عن نفسها جهارا إلاّ بعد ١٤ يناير ٢٠١٠.

القاعدة الثانية تفيد أنّ لغة الثورة، أو اللّغة في الثورة تنتقل بنا، بغتةً، وعلى غير المتوقّع، من براديغم الهُويّة والخصوصيات المحلّيّة إلى براديغم الحريّة بنزعتها الإنسانيّة، الكونيّة. ويبدو أنّ المرور من الهموم المحلّية إلى أسمى القيم الإنسانية، بعد فقدان الرّجاء، كان من أهم العناصر التي دفعت باتجاه التعاقد على مصطلح الثورة في الاستعمال الاجتماعي اليومي وإسنادها هذا الاهتمام العالمي. يتجلّى هذا من كثرة تواتر الكلمات التي تحيل إلى القيم الإنسانيّة: «حرّيّة، عدالة اجتماعية، كرامة وطنية، «حرّيات، حرّيات، لا رئاسة مدى الحياة»، «الشعب يريد، شغل، إسقاط». وظنّي بأنّ هذه اللّغة التي ترفع شعار الحرّيّة هي التي أعطت قيمة كونيّة لهذه الثورة. هذا المرور محيّر، لأنّه مباغت، ويأتي في لحظة اختنق فيها التاريخ وطغت العدميّة وتصاعد اللاّمعنى، فلم يعد لنا في هذه الأرض من وازع إلا أن يمرّ يومنا بسلام، تمهيدا لليل يعقبه نهار آخر دونما همّة في الإنشاء عالية، فإذا بنا نتعلّق بالأبعاد الإنسانية الأكثرها قداسة ونبلا، وإذا بالشّعب يُخرج الحيّ من الميّت. وأتعمّد استعمال مفهوم الشّعب تنبيها إلى ما كانت فيه من طّاقة إنجازية تُعلن عن الهويّة الشعبيّة لهذه الثورة.

وأراني اليوم أكثر قدرة على فهم السدّ ومبرّرات كتابته من قِبَلِ المسعدي: السدّ «كتابة جسَرت على معضلة الخلق»؛ حرقُ الجسمِ قهرا دفَع الكتل التي كانت تسمّى جامدة إلى دحض العدَمِ بالفعل الثوريّ الخلاّق، حينما فُهم الاحتراقُ حياةً وتُرجم ثورة. والقهرُ في لسان العرب اللّحمَ إذا أخذته النّارُ وسال ماؤُه. هذا التأويل وما تلاه من فعل صار رديف الحرّيّة في لغة النزعة الثورية: «حرّيات، حرّيات، لا رئاسة مدى الحياة». ورغم ما عبّرت عنه الشعارات من نزعة كونيّة، إنسانيّة، غير أنّها عادت لتكرّس براديغم الهوّيّة الدينية في السياسة العمليّة. ولعلّه مرحلة ضروريّة في سيرورة التغيير التي تبدأ بالصحوة الدينية، وبعدها يتحوّل النّقاش إلى المسائل الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والجماليّة.

سقطت البلاغة وظلّ السّجعُ

القاعدة الثالثة تنبّه إلى سقوط البلاغة بكل أشكالها، بما هي كلام على الكلام أو لغة فوق ــ اللّغة Méta-langage، فلا حاجة إليها هذه المرّة إلا في القليل. لقد تحوّلت الكلمة في اللحظات الحاسمة إلى فعل، إلى رصاصة مباشرة، محاربة، غير مواربة، حتى كادت بما فيها من تحديدية تقود الثورة وتوجّه مسارها، مختزلة للزمن فيها. وهكذا يتبيّن مع أوستين كيف تصنع الأشياء بالكلمات. فالشّعب لمّا يثور لا يحتاج إلى بلاغة بل إلى ملفوظ إنجازي يتّجه إلى الفعل فيسميه بدون مجازات. إنّها اللّغة ــ الموضوع التي تُسقط كل أصناف البلاغة من رمز وإيحاء ومجاز واستعارة وكناية: «التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق» ــ يا بوليس فيق فيق، الحجامة تحكم فيك ــ خبز وماء وبن علي لا ــ يسقط حزب الدستور، يسقط جلاّد الشعب. ورغم أنّها كثيفة المعنى والدلالة، لكنّها توقفت عند درجة الصفر من البلاغة، إلا من السّجع والإيقاع بما فيه من جرسيّة لازمة وانضباط عسكريّ يسعى إلى تغيير حالة سياسية تتغافل، بصورة قصدية أو عفوية، عن بقية الأبعاد كالثقافي والاجتماعي والاقتصادي. البلاغة شعرية حمالة أوجه. أمّا في النزعة الثورية التونسيّة فلا وجود لوسيط بلاغي في اللّغة إلا المرور إلى الفعل بغرض المواجهة والإطاحة بالحكومة: الشعب يريد إسقاط الحكومة. إنّها لغة تسعى إلى تغيير الواقع بلغة إنشائية، خالية من أقنعة البلاغة، فلا مجاز فيها سوى الكلام لخلق واقع جديد. وإسقاط البلاغة معطى جديد في تاريخ الحروب العربية، إذ كانوا قديما يدقون طبول الحرب بالبلاغة الشّعريّة قبل خوض غمارها.

أقيموا بني أمّي صدور مطيّكم فإنّي إلى قوم سواكم لأميلُ

تلتقي هذه القاعدة الثانية مع ما تنبّه إليه رولان بارت في «ميثولوجيات» حين رأى في اللّغة الثوريّة لغةً لا أسطورة فيها. هذه الأخيرة يراها نسقا سيميولوجيا ثانيا متداخلا أو متراكبا في نسق سيميولوجيّ أوّل1، ولأنّها كذلك، نسق على النّسق فإنّ الثورة بما هي فعل تطهيري تقصيها من خطابها.

زلّات اللّسان

هذه الفكرة التي تُنبّه إلى سقوط البلاغة في لغة الثورة تساندها فكرة أخرى تصرّ على كشف المضمر عبر زلّات اللّسان Lapsus، بما هي رغبة غير واعية، دفينة ومكبوتة تفضح فساد النّظام، خروج مباغت عن النّص من شدّة ما تضغط عليك الحقيقة الكامنة. تقول امرأة في إحدى المناطق التخومية مرحّبة ببن علي منذ خمس سنوات تقريبا: «بفضلك هانا موتى بالشرّ»، بفضلك صرنا نتضوّر جوعا. وتقول أخرى أمّيّة في لحظة مواجهة دامية مع نظام بن علي الإقصائي: «لقد خرّجنا الاستعمار فمتى سنخرّج الاستقلال». وفي ذلك قهر للّغة عبر التعريف بالضدّ وكشف للصّواب عبر الخطإ وزلّة اللّسان. فرغم أنّه كلام نشاز يخرج عن قصد المتكلّم، إلاّ أنّه يدفع الفرد إلى الوعي بحقيقته والقدرة على قولها عبر الزّلّة. لقد تمّ خنق الكلمة ومحاصرة التعبير حتىّ لم يعد ثمّة من خيار إلاّ «الكلام أو الموت» بتعبير مصطفى صفوان2. فإذا بالكبت السياسي والاجتماعي يفجّر طاقة تعبيرية هائلة ساهمت في إسقاط نظام من أشدّ الأنظمة الاستبداديّة بُؤسا. الكلام أو الموت، هذا الخيار الصعب أفضى إلى انبثاق الرّغبات الكامنة في التخلّص من النّظام قبل الثورة، ويتحوّل بعد ذلك اللاّوعي إلى وعي هادر وفصيح: «الشّعب يريد إسقاط الحكومة». وغالبا ما يُعتمد السّجعُ في بناء الشّعار، بما هو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير3:

بن علي يا جبان الشعب التونسي لا يُهان
بن علي في السعودية والعصابة هي هي
dégage dégage [ارحل] dégage يا خمّاج
وفي المثال الأخير يخرّج المنطوق التونسي سجعه الخاص من لغة ممتزجة بين الفرنسية والدارجة المحلّيّة. السّجع بإيقاعه وبتأثيره الانفعالي يوقظ الصمت واللامبالاة:
يا مواطن يا ضحيّه إيجا شارك في القضيّة
يا بوليس فيق فيقْ الحجّامة تحكم فيكْ
الكرطوش حي حيْ والحجامة في دبيْ
والانفعال في هذه الشعارات الرّافضة يأتي من الإيقاع الموسيقى، أو ممّا يمكن تسميته بموسيقى الاحتجاج والرّفض، إيقاع انفعالي لا يترك لك مجالا للمحايدة واللاّمبالاة، بل تخترقك الموجات الصّوتيّة الجماعية فتقحمك في المشهد بالرّغبة أو بدونها.

نزعة ثورية تحتاج إلى ثقافة

القاعدة الرابعة يمكن بلوغها لماّ نخرّج الحقل الدلالي الأوّل لشعارات الثّورة بناء على ما تكرّر فيها من ألفاظ وصور وما تقارب صوتا ومعنى. هذا الحقل الأساسي يشير إلى الرّغبة في القطيعة مع الفساد السّياسي دون أن يحمل، إلاّ في القليل، رؤية أخرى مختلفة للعالم، تعد بثقافة جديدة، فنّا وأدبا وعلما وأخلاقا وذوقا. فهذه ثورة لم تكن مسبوقة بوعي ثوريّ أنتج فكره، خلافا لبقية الثورات الأخرى البريطانية والفرنسية والبلشفية، التي كُتبت قبل قيامها. أما في مدوّنة الثورة التونسية فقد كانت أكبر الغائبين، إذ ليس ثمّة ما يشير في إحالات الشّعار رغم يساريته، ومنظور إليه في نصّيته، إلى نزعة نحو خلق مجتمع جديد، تصوّرا وممارسة، يسعى إلى تقويض بعض عناصر المجتمع التقليدي إلاّ ما ارتبط فيه بالحياة السّياسيّة. ومن اللاّفت للانتباه أنّ الشعارات جلّها قد عادت إلى اللحظة التي توقفت فيها الحياة السّياسيّة في تونس. ولقد كانت الجامعة التونسيّة مصدرها الأوّل. ولمّا احتاجت هذه الثورة إلى صوت يضبط إيقاعها لم تجد غير ما خلّفه اليسار الطلاّبي، وما صاغته الجامعة وبعض الأحزاب منذ أواخر الستينات حتى أواسط الثمانينات من علامات احتجاجية مناهضة للسلطة. ولو قرأنا هذه الشّعارات في مستواها الدياكروني، العمودي، لوجدناها تتجانس مع التطوّر السّياسي والفكري والأيديولوجي للجامعة التونسية في حركات مدّها وجزرها. فعلى سبيل المثال يتطوّر هذا الشّعار تصاعديا من الأرض إلى الخبز إلى الشغل: أرض، حرية، كرامة وطنية ثمّ خبز، حرية، كرامة، وطنية لينتهي في الأخير بشغل حرّيّة، كرامة وطنيّة. هذا الشّعار الذي ارتبط بما اصطلح عليه عند اليسار «بالعائلة الوطنيّة الديمقراطية» يكاد يختزل مسار التطوّر السياسي والأيديولوجي للجامعة التونسية في شقّها اليساري بالخصوص، إذ لم يكن فيها يمين بارز إلاّ لاحقا. لم يكن لهذه الثورة إذن من بديل ثقافي غير البدائل التي كانت سائدة قبل عهد بن علي الذي أجّل الثورة، وقد بدت في تلك الفترة تظهر بعض علاماتها في ذبذبات ثورية (Impulsion révolutionnaire) تحالفت فيها مختلف طبقات المجتمع، سرعان ما أجهز عليها بن علي بجهاز بوليسيّ خانق. الثقافة كانت في «حضرة الغياب» على غير ما كان معلوما في لغة انتفاضة ماي/ايار 1968 في فرنسا، التي أسقطت براديغمات وأنتجت أخرى. لقد كان في علاماتها ما يشير إلى نزعة مناهضة للمجتمع التقليدي وللرأسمالية وللإمبريالية:

ليسقط مجتمع الاستهلاك
ليسقط مجتمع السوق
لتسقط الاشتراكية الواقعية، عاشت السّريالية
لتسقط الدولة
ليسقط العالم الهرم A bas le vieux monde
الفعل لا ينبغي أن يكون ردّة فعل بل إبداع
L’action ne doit pas être une réaction mais une création

الثورة التونسية لا تعد للوهلة الأولى في مدوّنتها اللغويّة بثورة في الثقافة، وقد امتدّ هذا الغياب بفعل التأثير ليطال بقيّة الجغرافيات العربية الثائرة ومنها اليمن التي تربط في أحد شعاراتها ربطا شرطيّا بين الإضراب عن الدّراسة وسقوط الرّئيس: «لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس». وهو بالمناسبة شعار يستعيد إيقاعا تونسيا رفع سنة ١٩٧٦ عند ظهور ما يسمّى بالحرس الجامعي: «لا دراسة ولا تدريس حتّى يخرج البوليس». ولكن حتّى نكفّ مرّة واحدة عن جلد الذات، أو ليست الثورة، والإيمان بها، بصرف النظر عن تحقّقها، ثقافة في حدّ ذاتها. الثقافة الحقّة، يقول سارتر، هي الثورة عينها، تلك التي تطبخ على نار حامية4، كأن يصرخ شعب أمام وزارة الداخلية، مصدر قوّة الحاكم، ويأمره قيصريّا صوتا وحركة: «Dégage». الثورة ثقافة، بحلوها ومرّها، بعنفها وسلمها، بكلماتها وسجعها، وذبذباتها ووهجها، بإيقاعها الخاص وغير المسبوق. من يتكلّمها، ويكتب قصّتها على الجدران، ويرسمها، وينسج ملحمتها، شعبٌ في مخاض ثوريّ، وفي معركة وجود. وكل من حاول احتكار صوته إلاّ واكتوى بناره.

وما يمثّل استثناء في اللّغة قد يكون دالاّ أيضا، فيشكّل بذلك قاعدة. واستثنائيته تكمن في انتمائه إلى منظومة لغويّة مختلفة، وإلى صنف اجتماعي مغاير. فكلمة dégage، لغة المدوّنين أبناء النّخبة، ورغم ما فيها من حسم، وقدرة إنجازية، إنشائية، ما دامت تمثّل إمضاء الثورة ولحظتها الحاسمة، قد توحي بافتكاكها من أهلها، وتحويلها من الهامش إلى المركز في لحظة تمويهية تسعى إلى أن تغلّف بعدها الطبقي. وتخفي صوت الهامش ولغته الثائرة.

كمْ هي مثيرة رحلة الملاحم الشّعبيّة كما تنقلها اللّغة من أرض ثقافيّة إلى أخرى، وخاصّة إذا تعلّق الأمر بالتقاطعات التونسيّة المصريّة التي لازال التاريخ يخفي بعض أبعادها السّحريّة ومنها التغريدة الهلاليّة وهي تتنقّل بين الصّعيد ومضارب الهمامّة، روّاد الآفاق النائية، تلك التغريدة التّي سعى عبد الرّحمان الأبنودي إلى اقتفاء أثرها من هنا وهناك، وبين هذا وذاك. في مصر لم يعد الزّحام قاحلا كما رآه محمود درويش في «رحلة المتنبيّ إلى مصر»،4 بل صار يضجّ بالمعنى بعد ما حدث ويحدثُ هذه الأيّام ممّا لا يكسره العزم. ولكنّه معنى منقوصٌ من قيمة الحرّية كما وصلني من مدوّنة الشعارات التّي رتّلتها الحناجر المصريّة. فالحرّيّة، بمعناها التقريري الحرفي، لم يكن لها متّسع فيها. ولكن أوليست الحرّية رغيفا ؟ ما الحرّيّة إن لم تكن في رغيف الخبز أيضا لشعب بلغ التسعين مليونا أو أقلّ أو أكثر ؟ أوليس الذي يُنادي بالحرّيّة يَنشدُ كذلك في ما يَنشد ويُنشِدُ رغيفا وحليبا لشعب لم يتجاوز في الحالة التونسيّة أحد عشرة مليونا ومع ذلك منهم نصف مليون من البشر الأحياء ولكن ميّتون ما داموا يرزحون تحت خطّ الفقر؟

هكذا يمرّ بنا الشّعار من اللّغة إلى الحياة.

  • 1. Barthes, Roland, Mythologies, Paris, Seuil, 1957, p. 187.
  • 2. مصطفى صفوان، «الكلام أو الموت»، ترجمة مصطفى حجازي، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008، ص. 35.
  • 3. علي الجارم ومصطفى صفوان «البلاغة الواضحة»، دار المعارف للطباعة والنّشر، تونس، 2006، ص. 265.
  • 4. محمود درويش، ديوان محمود درويش، المجلّد الثاني، دار العودة، بيروت، ص. 108.
العدد الأول - شتاء / ربيع ٢٠١٢
لغة الحرية والكلمة ــــ الفعل

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.