العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

رؤوف مسعد عن عبد الحكيم قاسم

جمعَنا السجن وفرّقتنا الحرية

 

قبل رحيل عبد الحكيم قاسم بوقت قليل، دعانا صنع الله إبراهيم إلى عشاء وشراب في بيته. كنا قد نشرنا بالفعل آنذاك أهمّ أعمالنا؛ نحن «مجموعة الواحات»، كما أطلق الرفاق علينا أيامها حيث التقينا جميعًا في «سجن الواحات». لم أكن أعرف صنع الله ولا كمال القلش، ولا هما كانا يعرفان عبد الحكيم الذي زاملني شهورًا طوالاً في سجني («القناطر»، القريب من القاهرة، و«الحدره» في الإسكندرية حيث تمّت محاكمتنا). وكنا قد أصبحنا في وقت العزومة رجالاً متزوّجين: كان كمال القلش يعمل حينها صحافيًّا في جريدة «الجمهورية» بعد غربة بضع سنوات في الكويت مع زوجته المصرية. وعبد الحكيم قد رجع من تغريبة إحدى عشرة سنة في ألمانيا حيث عمل حارسًا ليليًّا معظم الوقت؛ وأنا عدتُ من تغريبة طويلة بلغت اثنتي عشرة سنة بين أوروبا وبغداد ولبنان تزوجتُ خلالها وطلّقتُ مرتين! أما صنع الله فكان يكتب ويقيم في شقة بالطبقة السابعة من دون مصعد في مصر الجديدة.

الرفاق في «سجن الواحات»

بعدما تعرّفت إلى كمال القلش، رفيق زنزانتي في «الواحات»، عرّفني إلى صنع الله، وقدّمتُ لهما عبد الحكيم. كوّنا مجموعة تلتقي بشكل شبه منتظم قبل «التمام، أي إغلاق السجن والزنازين»، في حوش سجن الواحات الواسع. نتناقش في ما يشغلنا من قضايا الأدب، وقد كتب صنع الله معظم ما دار بيننا من نقاش وتمّ تهريبه خارج السجن ونشره بعد ذلك في كتاب بعنوان «يوميات الواحات». كان مشروعنا الأول بعد الإفراج الذي كنا نحلم به أن نذهب أربعتُنا إلى أسوان ونكتب عن تجربة بناء السدّ العالي من الناحية الإنسانية. وبالفعل، ذهبنا لكن من دون عبد الحكيم الذي تحجّج بعدم إمكانية مرافقتنا لأسباب عائلية.

بعد ذلك بسنوات حصلتُ على منحة من «اتحاد الكتّاب البولنديين» لتعلّم اللغة البولندية وترجمة الثقافة البولندية إلى العربية، واقترحتُ على عبد الحكيم التقدم إليها معي. وبالفعل تقدّم إليها لكنه تخلّف أيضًا عن السفر بعد قبوله بالبعثة فسافرتُ بمفردي.

بعد انتهاء مدة المنحة تجوّلتُ في الأرض. سافرت من مصر في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٧٠ ورجعت إليها في تموز/ يوليو ١٩٨٢ لأؤسس «دار شهدي» للنشر. وهناك زارني في الدار عبد الحكيم مع الصحافية والكاتبة الصديقة سهام بيومي. كنت قد عرضت عليه أن يعطي الدار حق نشر رواية «المهدي» (وهي رواية بديعة عن تغلغل الإخوان المسلمين داخل القرى المصرية وإقناعهم «نجار سواقي» قبطي باعتناق الإسلام كي يجد عملاً يعيل به أسرته)، لكنّ عبد الحكيم رفض عرضي غاضبًا ثائرًا.

كان عبد الحكيم قد رجع من ألمانيا بعد تغريبته الطويلة. وفي لقائنا الأول بـ«دار شهدي» بعد اختفاء كلّ منا عن الآخر وجدته أكثر عصبيةً مما كان عليه سابقًا. بعد ذلك، كنتُ ألتقيه صدفةً من دون مواعيد مسبقة على الرغم من أنّ علاقتا كصديقين كانت وثيقة في السجن قبل المحاكمة وأثناءها ثم في «الواحات». وكنتُ في بدايات عهدي بالقاهرة قد خرجت من «سجن الواحات» إلى الإسكندرية التي انتقلتْ إليها عائلتي الصغيرة بعد حبسي لأرجع منها مرةً أخرى إلى القاهرة أبحث عن صداقات وعمل. ركنت أحيانًا أبيت ليلتي أو بضع ليالٍ عند عبد الحكيم في غرفته أشاركه فراشه أو أنام على مرتبة صغيرة في أرضية الغرفة. كان عبد الحكيم يبحث أيضًا في القاهرة عن استقرار ما بعد الإفراج.

وكنتُ وجدت عملاً في «وكالة نوفوستي» السوفيتية للأنباء بمساعدة صنع الله. وقد ساعدني قبل ذلك أن أتعرف إلى السيدة «روكساني»، زوجة رفيقنا شهدي عطية الشافعي التي قدمت لي عملاً في مكتبة تملكها بالزمالك لبيع الكتب الأجنبية اسمها Tout Les Livres ، وحين وجدتُ العمل في «نوفوستي» اقترحتُ على السيدة روكساني أن تقدّم مكاني في العمل لعبد الحكيم، وهذا ما حصل فعمل عبد الحكيم في المكتبة بضع سنوات. كما اشترى غرفةً على سطح عمارة قريبة من المكتبة بثمن زهيد. وكانت الغرفة بالأساس «تتبع شقةً من شقق العمارة» وتُستخدم مخزنًا، وبالكاد تتّسع لسرير وكرسيَّين. أما المرحاض فجماعيّ، أي لكلّ الغرف المتشابهة على السطح التي يقيم فيها عبد الحكيم وبوّابو العمارة.

وكانت القاهرة أيامها أيضًا ملاذًا هامًّا وضروريًّا لمن مرّ بتجربتنا، تجربة جيلنا الذي سَرق منه [جمال] عبد الناصر سنواتٍ من شبابه واُلقي به في سجون صحراوية قاسية رطبة وحارة من دون غذاءٍ كافٍ أو ثيابٍ ملائمة. كما لم يكن يستطيع أهلنا البسطاء والمعوزون تحمّل أعباء سفر شاقة في دروب غير مسفلتة بين أسيوط و«الواحات» تقطعها السيارات في حوالي ثماني ساعات!

وكانت القاهرة المكان الإنساني البشري الذي نبحث فيه عن الحب والعمل والمأوى، ومن ثم عن توصيل كتاباتنا إلى المجلات المتاحة أيامها مثل مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها يحيى حقّي.

حين أخبرتُ صنع الله عن لقائي الأخير بعبد الحكيم في «دار شهدي»، اقترحَ أن نجتمع أربعتنا في بيته على «قعدة» لطيفة. وبالفعل، جئتُ وعبد الحكيم وكمال للاحتفال بعودة عبد الحكيم من «تغريبته» والنظر في أحوالنا جميعًا. ونحن في «الواحات»، كان عبد الحكيم أكثرنا تمردًا على أسلوب الكتابة المصري والعربي السائد، المتاح والمقبول من الرقابة الناصرية. لكنه أيضًا كان ينفق طاقته في نقاشات شفاهية طويلة وصادمة للرفاق الذين يكتبون طبقًا للقواعد المألوفة والسائدة أيامها. وكنا ثلاثتنا الباقون نمارس «التقية» معظم الوقت في عدم التصريح بما يعتمل داخلنا أو بما نرغب بالإفصاح عنه من انتقادات

كان عبد الحكيم معي في قضيتي التي كان المتهم الأول فيها أبو سيف يوسف، سكرتير «الحزب الشيوعي المصري» المنشقّ آنذاك عن «حركة التحرر الوطني الديمقراطي – حدتو» التي كان سكرتيرها زكي مراد والذي انشقّ عنه «المصري»*، الذي كان سكرتيره فؤاد مرسي. وأعتقد أنّ عبد الحكيم كان منتميًا تنظيميًّا إلى «الحزب» لأنه كان أحد مسؤولي الاتصال، وقد تمت مراقبته واعتقاله خاصةً أنه كان يؤمّن الاتصال بين أبو سيف وإسماعيل المهدوي، المتهم الثاني في القضية.

هكذا التقيتُ عبد الحكيم للمرة الأولى في سيارة الترحيل من قسم الشرطة حيث جمعت المباحثُ معظمَنا لتوْدعنا سجن القناطر «تحت التحقيق» الذي استمرّ حوالي سنة ونصف السنة إضافةً إلى سبعة أشهر قضيناها في المحكمة العسكرية بالإسكندرية، وكنّا ستة عشر متهمًا.

حين تمّ ترحيلنا من الإسكندرية إلى «الواحات» وأبلغنا بالأحكام الصادرة بحقّنا، كان عبد الحكيم مصابًا بالروماتيزم في عضلات القلب، لذا لم يقبع طويلاً في ذاك السجن الذي خلا من أيّ طبيب لمعاينة المرضى، فنُقل مرةً أخرى إلى سجون بعيدة تتمتّع بإمكانات طبية مثل «أسيوط» و«القاهرة».

لقد كان السجناء في «الواحات» يتلهفون للخروج من هذا السجن الصحراوي لمجرّد الرغبة في سماع أصوات غير أصوات السجّانين والحرّاس: أصوات ممرضات إناث، ولو من البعيد، أو الالتقاء ببعض أفراد الأسرة الذين كانت ظروفهم المادية تمنعهم من الاتصال بسجنائهم في «الواحات».

لقد قضى عبد الحكيم وقتًا في بلدته بالقرب من طنطا بعد الإفراج عنه؛ ولعلّ رجوعه إلى بيت الأسرة قدّم له مادة كتابه «أيام الإنسان السبعة»، وهو في الحقيقة كتاب عن والده المتصوّف الذي كان عبد الحكيم يحبّ ويجلّ.

قدَر التراجيديا في «الغرف المقبضة»

«قدر الغرف المقبضة» هي النوفيلا الثانية لعبد الحكيم، وقد كتبها في برلين عام ١٩٨٠. أعتقد أنّ هذه النوفيلا أهمّ من «أيام الإنسان السبعة» لأنها عن رؤية عبد الحكيم لنفسه والحياة التي يراها غير عادلة. وبقراءتي لها، شعرتُ كيف تحوّل حكيم إلى إنسانٍ غاضب. كنتُ ألاحظ غضب صنع الله إبراهيم أيضًا في «تلك الرائحة» ثم في «نجمة أغسطس» التي كتب معظمها في تغريبته بين ألمانيا الشرقية وموسكو وجمع مادّتها حين كنّا معًا في أسوان نريد الكتابة عن السدّ العالي. ومن المدهش أني انحزت بالسليقة إلى الجانب المضيء لنا جميعًا بعد الإفراج عنّا، على العكس من حكيم وصنع الله، أحاول إيجاد شيء أتمسك به في صحراء ما بعد الإفراج. كنّا نبحث عن الحب والجنس، والأنثى التي افتقدناها في سنوات السجن، بل في سنوات ما قبله أيضًا، وحين خرجنا أخذنا نبحث عنها وكأنها كانت تنتظرنا! لكنّ تراجيدية عبد الحكيم تلبّسته، على العكس من صنع الله الذي كانت أحواله العائلية أسوأ بكثير من ثلاثتنا. لكمال القلش أسرة متماسكة رجع إليها في بيتهم بمصر الجديدة. وكانت لعبد الحكيم عائلته. ولي أيضًا عائلتي التي استقبلتني بترحاب مؤقت! لكنّ صنع الله لم تكن له عائلة يعود إليها فاستأجر غرفةً في مصر الجديدة وهناك كتب «تلك الرائحة»، وهي «نوفيلا» غاضبة لشخصٍ خرج من السجن يبحث عن أمه التي اكتشف أنه تمّ إيداعها في مستشفى الأمراض العقلية! وكانت شوارع القاهرة في «النوفيلا» تفوح برائحة عطنة نتيجة انهيار البنية التحتية للمجاري.

ونلقى بسهولة غضب حكيم في «الغرف المقبضة» كما نلقاه في «المهدي». كما أنّ إحساسه بقدراته الإبداعية كان مساويًا لإحساس صنع الله بذلك، ولعلّه أكبر. على أنّ الأحد عشر عامًا في ألمانيا الغربية لم تقدّم لحكيم ما كان يتمنّاه من كتابة أطروحة الدكتوراه عن أدباء جيله، أو أن تُنشَر ترجمات لكتاباته، لكنّها ألهمته تلك الرسائلَ الشخصية الهامة التي استطاع الصحافي والكاتب محمد شعير جمعها في كتاب ونشرها بعنوان «رسائل نوبة الحراسة» في «دار ميريت».

لكني بعد قراءاتي السابقة واللاحقة لأعمال عبد الحكيم ورسائله، أجزم أنه لم يستطِع التخلّص من غضبه المقيم عميقًا داخله، فالنظام الناصري بتركيبته الطبقية استطاع أيضًا أن «يلعب» على مشاعر الأنانية عند الشيوعيين المصريين بتعيين القادة الماركسيين في مناصب عليا (ولو لفترات محددة مقصودة) وإهمال الكوادر الأخرى عبر تعيينها في أعمال بسيطة. وقد عُيّن عبد الحكيم موظفًا في «هيئة المعاشات»، أي تلك المصلحة التي تدفع تعويضات التقاعد للموظفين العمّال إلخ، فيما عُيّن كاتبٌ مثل يوسف إدريس، ولأكثر من مرة، في منصب قيادي ثقافي، وكذا بعض الصحافيين أمثال صلاح حافظ وفيليب جلاب وأمير إسكندر وغيرهم.

لعلّ أسباب الغضب تكمن أيضًا في الحالة السياسية التي وصل إليها أمثال عبد الحكيم، فقد وجدنا أنفسنا في العراء، لم يهتمّ أحد من الرفاق «الهامّين» بإرشادنا نحو طريق الانضمام إلى «التنظيم الطليعي» مثلاً، وهو التنظيم الصغير القوي الذي أسّسه عبد الناصر وآخرون من دائرته الضيقة بديلاً سرّيًّا للاتحاد الاشتراكي الفاشل! هكذا وجد عبد الحكيم الطموحَ نفسه في العراء أو في «غرف مقبضة» كقدرٍ لا فكاك منه. لذا، حين جاءته فرصة السفر إلى ألمانيا الغربية لمدة شهر، أراد أن يبذل كل جهده للبقاء فيها وأن يطالب الآخرين بمساعدته في كتابة أطروحة دكتوراه عن جيله. وهكذا بقي في ألمانيا أحد عشر عامًا كتب خلالها معظم أعماله الهامّة مثل «المهدي»، وقد عمل معظم الوقت حارسًا ليليًّا في قصر ألماني، كما أحضر زوجته زينب وولديه إليه واستطاع الحصول على شقة صغيرة ووضع طفليه في الحضانة.

وتجدر الإشارة هنا إلى شكوى عبد الحكيم من علاقة زوجته بوالدته حينما كانا يعيشان في أفقر أحياء القاهرة. وكان يحلم، حسب قوله، بأنهما سيصبحان «مثل الملائكة»! ثمّ شكواه من زوجته بعد استقرارها معه في ألمانيا من أنها تراقبه وتجعل حياته صعبة ومريرة. لكنّ الملاحظة الأكثر دلالة أنه «أخفى» أسرته الصغيرة عنّا وعمّن اعتبر نفسه قريبًا منه، مثلي ومثل كمال وصنع الله! فلم يدعُنا إلى حفل زفافه أو بيته ولم نعرف شيئًا عن أولاده.

تناقض

خلال عهد مبارك، قرّر عبد الحكيم خوض انتخابات «مجلس الشعب» عام ١٩٨٧ على قائمة «حزب التجمّع». لكنّه عقب خسارته أصيب بنزيف حادّ في المخّ دخل على أثره المستشفى، ليخرج بعد أربعة أشهر مصابًا بشلل في يده اليمنى أعاقه عن الكتابة بنفسه، فظلّ يملي على زوجته ما يريد كتابته، حتى وفاته في ١٣ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٩٠ بعد رحلة طويلة مع المرض. ويبرز هنا تناقضٌ واضحٌ بين موقفين أساسيّين لعبد الحكيم؛ فهو قد بدأ الكتابة في صحيفة «الشعب» الأسبوعية التي كان يرأس تحريرها الشيوعي السابق عادل حسين والذي تحوّل إلى إسلامي متشدّد، في حين كتب رواية «المهدي» ليكشف التشدد الإسلامي في أقاليم مصر والأرياف، ثم فاجأنا بأنه ترشّح عن «حزب التجمّع اليساري الناصري» في انتخابات «مجلس الشعب»!

ولعلّ تفسير هذين الموقفين المتناقضين يعطينا لمحةً لا بأس بها عن شخصية عبد الحكيم التراجيدية، أي الشخصية المحكوم عليها مسبقًا وتحاول أن تتمرد بلا جدوى على هذا الحكم النهائي المسبق.

وفرّقتنا الحريّة!

خرجنا من السجن لنجد أنفسنا «أيدي سبأ» نحاول إيجاد مكانٍ لنا في حياة مختلفة تمامًا عن الحياة داخل السجن. ببساطة، أن نصبح مسؤولين كليًّا عن أنفسنا. السجن الذي يحرمك من الحرية لكنه يقدّم لك ثلاث وجبات في اليوم وروتينًا «عسكريًّا قاسيًا» لساعات الصحو والنوم هو نقيض الهامش المعطى للسجين مطلق السراح. عندما تخرج، تجد أن بعض الرفاق «تبوّأ» مراكز هامّة، بينما أنتَ تبحث عن غرفةٍ للسكن في سطح عمارة، وعملٍ يضمن لك يومًا كريمًا تأكل فيه ما يأكله ملايين المصريين الفقراء أمثالك، أي سندويتش فول وفلافل! وتسأل نفسك دهِشًا، حتى من دون انفعالات، «هل هذا ما وصلنا إليه؟» هذا ما يلقاه من يقرأ رواية «تلك الرائحة» لصنع الله إبراهيم وبعدها روايته الأخرى عن الهزيمة التي لحقت بمصر وسورية والأردن عام ١٩٦٧، ورواية بعنوان «٦٧»، وهي رواية غاضبة تنتهك الأعراف حيث يمارس الراوي الجنس مع زوجة شقيقه كتعبير عن هزيمة خاصة.

وتكمن أهمية نوفيلا «قدر الغرف المقبضة» في أنها تؤسس رؤيةً شخصيةً/ بشريةً وإنسانيةً عن ريفيّ قدِم من بلدة صغيرة إلى الإسكندرية في محاولة لدراسة الحقوق في جامعتها، ونتيجةً لفقره لا يجد مكانًا يأوي إليه سوى أفقر أحيائها. هي الإسكندرية التي يحبها الريفي لكنه يكره «فقرها و«المسبغة» (الكفاف) وتوحّش فقرائها».

لقد قدّمت الحركة الشيوعية المصرية في الخمسينيات والستينيات تضحيات جسيمة وصلت إلى حدّ التضحية بالأرواح، لكنها أيضًا لم تكن «إنسانية» بما يكفي لكي تقدّم لكوادرها الوسطى والأساسية زادًا يكفيها المسبغة. فقد خرجنا من السجن بثياب مهلهلة ولم نكترث بذلك لنجد أننا سنعيش حياةً مهلهلة هي أيضًا لا تعتمد على ما وعدتنا به دولة عبد الناصر قبل الإفراج، وما تلاه من حلّ التنظيمات الماركسية، بل على ما يعتدّ وقتها في مزاج «أولي الأمر». تغلّب البعضُ منّا على هذه الهلهلة بأنواعها، والبعض الآخر سقط في «جبّ أسود كافكاوي» كما يكتب عبد الحكيم ناقمًا.

هي تراجيديا كاملة وقاسية بامتياز حملها «القدر» إلى قروي مصري وألقى بها على كاهله ليتساءل في السطور الأخيرة من «الغرف المقبضة»، حين يكتشف أنه أصبح مريضًا بالسكّر بالكاد يستطيع الرؤية، حول ما إذا كان المرض أصابه من الجدران الكالحة أو من غضبه ذات مرة من زوجته وأمّه فحطّم بساعده العاري زجاج الباب؟

ملاحظات ختاميّة

لقد توخيتُ الحذر هنا في الكتابة عن عبد الحكيم قاسم، الإنسان والروائي وزميل السجن والصديق، فأنا لا أريد أن أتطوّع لتقديم تحليلات نفسية أو سياسية لأني لست من المتخصصين في علوم النفس وعلوم السياسة، لكنّي حاولت قدْر الإمكان- وبموضوعية قدر الإمكان أيضًا- أن أتتبّع حياته عبر معرفتي الشخصية به وعبر قراءاتي لكتاباته التي بالتأكيد تكشف شخصيته وإبداعه.

بعد قراءتي السريعة الأخيرة لـ«قدر الغرف المقبضة»، التي ذكرتُ آنفًا، أستطيع أن أقول بثقة إنها جزء أساسي من سيرة ذاتية لعبد الحكيم، وإن كانت تحوي بعض المراوغات في عدم ذكر الأسماء كاملة (مثل «شوقي»، وهو الشاعر شوقي خميس الذي زاملني زنزانة «سجن الحضرة» في الإسكندرية طوال سبعة أشهر خلال محاكماتنا). كما أنّ نكوص عبد الحكيم عن وصف المحاكمة إلا من نافذة قاعة المحكمة وسقفها العالي يمنحني إحساسًا بنكوصه أيضًا عن الدخول في تفاصيل هامّة حول كيف كانت المحاكمة عسكريةً، وكيف أنّ المكان الذي زجّتنا به إدارة السجن كان بالأساس المكان المخصص للمحكوم عليهم بالإعدام، فالسجن هو أحد السجون المصرية التي تتمّ فيها الإعدامات شنقًا ولا يزال.

كذلك إنّ رسائل عبد الحكيم التي جمعها محمد شعير في كتاب بعنوان «نوبة الحراسة» هي رسائل كاشفة لمن يريد أن يتفهم الجوانب الأخرى من شخصية الرجل لناحية اهتمامه بتفاصيل الحياة اليومية بهدف تسجيلها، حياته وحيوات الآخرين البعيدين عنه مكانيًّا والمقرّبين إلى قلبه.

كما أنّ عبد الحكيم تجاهل تمامًا أن القضية التي حوكم وسُجن خمس سنوات على أساسها- نفّذ من حكمه أربعين شهرًا- هي قضية شيوعية. وهذه أيضًا مراوغة في الكتابة لم أجد لها تفسيرًا ولا أعرف لها سببًا. بل إنّ كلّ اتصالاته قبل سفره إلى ألمانيا كانت محصورة في «شوقي»، وبعد سفره لم يكتب لرفاق سجنه، وأنا واحدٌ منهم، خطابًا واحدًا! حتى أني أقمتُ حوالي أربع سنوات في بولندا وذهبت إلى برلين تحديدًا لمقابلة صنع الله، ثم إلى كمال القلش أكثر من مرة خلال إقامتي تلك ولم أكن واثقًا من وجود عبد الحكيم في ألمانيا، ولعلّي لم أهتمّ بالتدقيق في البحث عنه.

ما كتبته هنا هو تلخيص، إلى حدّ ما، لشخصية بالغة التعقيد والتركيب، شخصية تراجيدية ومبدعة في آن، شخصية تتطلب دراسةً من متخصصين في النقد الأدبي وعلم النفس معًا.

لكنها رحلة قمتُ بها عبر الزمان والمكان. وأنا الآن في الخامسة والثمانين من العمر (وقد أمضينا في السجن من عام ١٩٦٠ حتى ١٩٦٤) ما زلت أرى عبد الحكيم في توتّراته وضحكاته وعبثه وغضبه وصراخه حاضرًا قويًّا في غرفتي الأمسترداميّة. بل إني منذ سنوات طوال، قدّمت له تحية خاصة في مفتتح روايتي «غواية الوصال»، وقدِم هو لي في رؤيا ليلية شبه نبوئية- كما رأيتُها آنذاك في غرفتي بأمستردام- بعد رحيله عن دنيانا بسنواتٍ طوال- وكنتُ مهمومًا إلى حدّ المرض لستُ أعرف كيف أنهي السطور الأخيرة من تلك الرواية فساعدني على كتابة ما عصيَ عليّ!

 

العدد ٣٥ - ٢٠٢٢
جمعَنا السجن وفرّقتنا الحرية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.