كنت أتصفّح بسرعة كتاب «مختارات من الشعر الكوبي في القرن العشرين» عندما فوجئت باسمٍ عربي دفعني إلى إعادة القراءة– فيّاض والأصل فَيْض، وهو اسمٌ يدلّ على الفيضان والطلاقة، من تدفّق المياه والخطابيّة. في ذلك الوقت، كنتُ في المراحل الأولى من البحث لإعداد أطروحتي عن شبكات التبادل الثقافي التي نشأت بين المثقّفين العرب والأميركيين اللاتينيين خلال الستينيات من القرن الماضي، بحيث أثار اهتمامي ظهور كاتب تكشّف – عبر بحث سريع على الإنترنت – أنه من أصول لبنانية، فألهاني لفترةٍ عن قراءاتي الأخرى. أدركتُ الأمر سريعًا عندما اطّلعتُ على سيرة حياته: كنت أعيش من دون أن أدري في عالمٍ فكريّ شكّله فيّاض خميس بطرق غير مباشرة ولكن مهمّة. شارك مع روبرتو فرنانديز ريتامار عام ١٩٥٩ في تحرير أولى المختارات الشعرية التي نُشرت في أعقاب الثورة الكوبية. كان رسّامًا وشاعرًا وصحافيًّا، وصمّم أيضًا غلاف رواية «الجنّة» (Paradiso) لخوسيه ليزاما ليما عام ١٩٦٦. وفي باريس، رعى الكاتب السوريالي أندريه بريتون معرضَه الأول للرسم. أتذكّر سعادتي باكتشافه في تلك اللحظة تحديدًا. عندما عدت إلى المختارات الموجودة أمامي، قرأت قصيدة خميس، وتحوّلت مفاجأتي المسلّية إلى دهشة:
ينبوعُ اللغة، رجلٌ، فقدَ النطق،
حَفرَ على الطاولة، في الواقع، واللاواقع،
تذكّر محادثةً بين السمك،
أولى كلمات طفل، خطابًا مؤثّرًا،
لوائح الشريعة، رسالة حُب،
فقدَ النطق.
نُشرت هذه القصيدة للمرّة الأولى في العام ١٩٦٨، وكانت عن إعادة تعلّم كيفيّة التحدّث كاستعارة لعمليّة تحرر من الاغتراب؛ الرجل ينبوع لغة تتفجّر في التاريخ:
وفجأة، في اندفاعة مطلقة للحياة العاديّة
بدأ يتكلّم بطريقة منطقيّة مثل المجنون
عن كلّ ما كان يريد التحدّث عنه
وامتلأ العالم بأمور عديدة جديدة
أصبحت الأمور القديمة أحدث
والأمور الجديدة أصبحت أقدم وأحدث1
التضامن أو بناء الجسور
كان العام ١٩٦٨، بالطبع، عام المؤتمر الثقافي في هافانا، وهو لقاء يجمع مثقّفين من جميع أنحاء العالم لمناقشة المشاكل التي تطرحها الكولونيالية والنيوكولونيالية في وجه التطوّر الثقافي، وكيفية التغلّب عليها. طوال العقد الماضي، بدأ المفكّرون المناهضون للاستعمار والإمبريالية في جميع أنحاء العالم يجادلون بأنّ التحوّل الاجتماعي والاقتصادي لن يكون كافيًا لإلغاء الموروثات الأيديولوجية والأخلاقية للمجتمع البرجوازي، وبالتالي لا بدّ من السماح بتشكّل مجالات أخرى مثل اللغة والثقافة والوعي. في تلك اللحظة، وفي ذاك الظرف، كتب خميس قصيدة أعادت وضع اللغة في مركز الإبداع البشري، وهي قصيدة يصوّر فيها الإبداع البشري كطوفان تحويلي.
أنشطة خميس الثقافية والسياسية في فرنسا وكوبا، واستثماره في مشروع العالم الثالث، وحتى اسمه المستعار «إل مورو» (العربي)، سوف أكتشف كلّ ذلك لاحقًا، وعلى مدى سنوات، عيّنتُ خلالها لنفسي مهمّة التعرّف إلى حياته وأعماله. ما تعلّمته يستحقّ المشاركة لأسباب عدّة. لا يزال خميس مجهولاً خارج كوبا، حتّى عند المهتمّين بأدب أميركا اللاتينية في القرن العشرين. ربّما يعود بقاؤه في الظل، بشكل جزئي، إلى وفاته عن عمر الثامنة والخمسين بالسرطان، وإنّما أيضًا إلى حالات التهميش المختلفة التي خضع لها طوال حياته: بصفته ابن مهاجر لبناني في ريف كوبا، ونازح ريفي إلى هافانا، وفنّان كوبي فقير في باريس لاحقًا. لكنّ البعد عن العالمية قدّم دروسًا خاصّة، كان خميس منتبهًا لها. تعلّم، مرارًا وتكرارًا، التعرّف إلى جيوب الحياة البشرية المشتركة التي استُبعِدت من الروايات الكبرى والثقافة الرسمية. وربما الأهم أنّ موقع خميس الهامشي وزوايا النظر التي توفّرها إلى عالم منظّم من خلال العنف، شكّلت الالتزامات الأمميّة والمناهضة للاستعمار التي طوّرها في خمسينيات القرن الماضي وستّينياته. كانت حياته مكرّسة لمهمّة التضامن، لبناء جسور جديدة قد توصله إلى جسور أخرى، سواء عبر الشعر أو الترجمة أو السياسة. هذه من أهمّ الموروثات التي تركها لنا خميس، وتستحقّ العودة إليها اليوم.
وُلد فياض خميس في ٢٧ تشرين الأول/ أكتوبر ١٩٣٠ في أوخوكالينتي، بلدة صغيرة في ولاية زاكاتيكاس في المكسيك، لأب لبناني شيعي يُدعى يونس خميس، وأم مكسيكية اسمها كونسبسيون برنال. وكما لاحظ العديدُ من دارسي الهجرة، تميّزت الفترة التي أعقبت العام ١٨٨٠ مباشرةً بزيادةٍ في عدد العرب المسيحيين الذين هاجروا من بلاد الشام إلى أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. تنوّعت أسباب الهجرة، لكن يُنظر إلى أزمة السلطنة العثمانية، وازدياد التوترات بين الدروز والموارنة، واستقرار الجاليات العربية في الشتات، على أنّها ساهمت في قرار العديد من الأفراد بعبور المحيط الأطلسي.2 على الرغم من أنّ الأسباب الفعلية لوصول يونس إلى المكسيك (أو سفر العائلة إلى كوبا في العام ١٩٣٦) لا تزال غير معروفة، من الواضح أنّ يونس، مثله مثل كثيرين قبله، انتقل بحثًا عن رخاء اقتصادي. في بلدة أوخوكالينتي، حيث التقى يونس بكونسبسيون، اعتمدت الأسرة على براعة الأب اللبناني في تجارة الماشية. وبمجرّد استقرار العائلة في غوايوس، المكان الذي بقي خميس مرتبطًا به طوال حياته، اشترى يونس محلّ بقالة. يروي شقيقه مصطفى، في مقابلة أجريت بعد وفاة الشاعر، أنّ المتجر أصبح مكانًا مهمًّا لنموّ العلاقة الوطيدة بين يونس وفيّاض. ففي حين أُرسِل الأبناء الآخرون للعمل في قصّ قصب السكر، كُلِّف فيّاض بمساعدة الأب على إدارة المحل؛ هكذا، كان للصبي متّسع من الوقت للقراءة، أو الرسم بأي مواد متاحة. وفقًا لمصطفى، كان يونس – الذي امتلك عادةَ ارتجال الأغاني بالعربية – سعيدًا بمهارات فيّاض الفنية اللامعة. كان يقول: «ابني يشبهني».
من هافانا إلى باريس
في الواقع، تحوّلت مساعي خميس الإبداعية إلى موهبة في غوايوس. في العام ١٩٤٩، نشرت مطبعة صغيرة في البلدة مجموعته الشعرية الأولى «البوصلة» (Brújula)، التي كتبها بأسلوب الكتّاب الرومانسيين الكوبيين. بعدها بوقت قصير، انتقل خميس إلى هافانا ليبدأ دراسة الرسم في أكاديمية سان أليخاندرو للفنون الجميلة. كطالب مهتمّ بكلٍّ من الشعر والفنون البصرية، انخرط خميس مع مجموعة طليعية عُرِفت باسم «الفريق الحادي عشر» (Groupo Los Once)، الذي تأثّر بالتيّارات الأوروبية المعاصرة في الفنّ التجريدي، وبمجلة «الأصول» (Origenes) الأدبية الحداثية التي يديرها الكاتب خوسيه ليزاما ليما. قاده الانتماء إلى هذين المحورين من الابتكار الجمالي والأدبي إلى وضع مدينة باريس نصب عينيه، بحيث انتقل إليها في العام ١٩٥٣. انغمس في ما تقدّمه المدينةُ للثقافة العالميّة وهو بلا أيّ مورد مالي. عمل في مشغل النحّات المجري لاسلو سابو مقابل استخدامه للمنامة في الليل. ربّما كانت هذه أكثر فتراته إنتاجيّة كرسّام، فاقترب أكثر من الأسلوب التعبيري التجريدي، الذي نقل إحساسًا بالمعاناة والتشريد.
في الواقع، أدرك خميس خلال سنواته في باريس الطرقَ التي بَنت بها تلك الحاضرة صورتها عبر مصادرة وقمع الأجانب والمستعمَرين والمهمّشين. فأدرك، بعبارة أخرى، أنّ الجمال الرائع والانتصارات الجمالية العظيمة غالبًا ما تتشارك في الاحتمالية نفسها: العنف الفظيع، عنف المصادرة والاحتلال. شكّل ذلك تخصيصًا محاولة لتجاوز التناقضات التي طبعت تجربته في باريس، إذ بدأ خميس، خلال إقامته في المدينة، في كتابة «الجسور» (Los Puentes)، كتابه الأول من الشعر الملتزم.
على الرغم من نشرها في العام ١٩٦٢، إلّا أنّ قصائد هذه المجموعة كُتبت بين العامين ١٩٥٠ و١٩٥٧، وبيّنت وجود ارتباط عميق ليس فقط مع التيّارات الفرنسية الطليعية – وأبرزها أعمال شارل بودلير، وبول إلويار، وأپولينير – بل أيضًا مع الانقلابات الجيوسياسية الكبرى في تلك الفترة. كما ذكر خميس مرارًا خلال حياته، فإن النفاذ إلى العلاقة بين الحداثة والاستعمار التي تميّز قصائد «الجسور» كانت نتاج الأدوات الإنسانية التي قدّمتها له فرنسا لفهم العالم – كتب جديدة، ومفاهيم جديدة، ومساحات جديدة للأسئلة الفكرية. وفي الوقت نفسه، كانت القصائد نتاج ردّ فعله على كلّ أعمال العنف التي تتناقض مع الدافع الأخلاقي لتلك الأدوات. أشار خميس مرة، إلى نوعين مختلفين من الثقافة السياسية التي تلقّاها في باريس: «تحدّث معظم من تواجد منّا في باريس عن السياسة فقط، حتى أننا أنشأنا مجموعات قراءة بعد العام ١٩٥٥. ثم اندلعت حرب الاستقلال في الجزائر. وقعت سلسلة من الأحداث التي لم تجعلنا نطوّر وعينا السياسي فحسب، بل أجبرتنا أيضًا على تبنّي مواقف من الأحداث الجارية».3
الثورة وبناء الإنسان الجديد
منحته الثورة الكوبية فرصًا كثيرة للعمل وتوسيع التزاماته السياسية. بعدما أطاح فيدل كاسترو وحركة ٢٦ يوليو الحكم الدكتاتوري لفولغينسيو باتيستا في العام ١٩٥٩، عاد خميس إلى كوبا على عجل، مصمّمًا على المساعدة في تقوية «الإنسان الجديد» الذي تنبّأ بوصوله في «الجسور»:
غدًا سنمتلك جميعًا الوجه البرونزي نفسه
وسنتحدث اللغة نفسها
غدًا، حتى لو لم ترد ذلك سيدي الجنرال،
يا أيها السيد التاجر، السيّد بالنظّارتين المصنوعتين من أسلاك ورماد
قريبًا، ستكون الحياة الجديدة، سوف يبني الإنسان الجديد مدنه
فوق عظامك، وأنا سوف أبني مدينتي فوق رماد
كاتدرائية نوتردام.4
بعد الثورة مباشرةً، تبنّى خميس مهمّة التنمية الثقافية إلى جانب مجموعة من الكتّاب والمثقفين من بينهم روبرتو فرنانديز ريتامار، ونيكولاس غولن، ونيفاريا تيجيرا، وخوسيه باراغانيو. إذا تجلّى الفهم الجماعي للثقافة في الاتحاد السوفييتي بوضع الفنّ في متناول «الشعب»، فقد أصبحت الأولوية في كوبا لتثقيف «الشعب» ليتمكّن من إنتاج الفنّ بنفسه. هذه هي رؤية الذات التي طرحتها الثورة – كان كلّ كوبي مثقفًا محتملاً وفنانًا محتملاً. كرّس خميس نفسه لتجسيد هذه الرؤية عبر جعل شعره وسيلة لـ«صوت» الشعب الجديد، والواقع الكوبي الجديد، فكتب بالعامية بانتظام مبتهجًا بالنصر، وهو ما مثّل خروجًا عن الصور المحكمة والنبرة اليائسة لقصائده السابقة. كانت مجموعته الشعرية «من أجل هذه الحرية» (Por Esta Libertad)، التي نُشرت في العام ١٩٦٢، تتويجًا لمحاولاته ربط الأهداف الإنسانية للثورة باللغة العامية:
إننا نصنع الشعر معًا.
من كلّ شجرةٍ مزروعةٍ في الشارع
من كلّ جدارٍ يرتفع لحماية حلم المنبوذ
من كلّ قطرة عرقٍ لفلّاح
ينظر بعينيه الدامعتين
إلى الأرض الشاهدة على ألمه الشديد،
من كلّ انتصارٍ جديد
يولد الشّعر5
لا يُعرَّف الشعر هنا على أنه تعبير عن تفكّر فردي، بل هو نتاج النشاط المادي الاجتماعي للإنسان. يخبرنا خميس أنّ الشعر ينبثق من الآليّات نفسها التي ينبثق منها العمل. إنهما شبيهان لأنهما فعلاً إبداع.
على الرغم من حصول مجموعته «من أجل هذه الحرية» على جائزة Casa de las Americas الافتتاحية في العام نفسه الذي نُشِرت فيه، إلّا أنّ بعض النقّاد اعترضوا بسبب ما اعتبروه إفراطًا باللغة البرنامجية للمجموعة الشعرية؛ شاع انتقادٌ مماثلٌ يقول إنّ القصائد كانت أقرب إلى الشعارات من الأدب. (خضع أسلوبه الجديد في الرسم لتقييم مماثل، بعد أن أصبح أكثر رمزية: أصبحت الزهور والنجوم من الأفكار المهيمنة، وظهرت الصورة الطوطميّة لتشي غيفارا). لكنّ خميس ونظراءه دافعوا عن المجموعة، بحجّة أنّ تطوير شعر حبور وشعبي ضروري للشعوب التي مُنعت طوال تاريخها من التحدث بصوتها، والتي نادرًا ما كانت تملك فرصةً لممارسة كيفية إنتاج تعبيرات الفرح. كما كتب فرنانديز ريتامار في مقالٍ عن خميس: «المهمّ هو أن يكون لديك الاستعداد لعبور تلك الجسور والوصول إلى شاطئ جديد».
في الستينيات، وجد خميس المزيد من الجسور ليعبرها من خلال انخراطه في أنشطة «الاتحاد الوطني للكتّاب والفنّانين الكوبيين»، ومجلته الثقافية «الاتحاد» (Unión). تأسّس الاتحاد الوطني في العام ١٩٦١، وسرعان ما أصبح مكانًا لتطوير التماثل النامي لدى المثقفين الكوبيين مع مواقف التيّارات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم، وترجمة ذلك التماثل إلى تجارب عامّة وجمالية، وأيضًا إلى فهم جديد لأسباب تشابه الآداب لدى شعوب مختلفة. بعبارة أخرى، تولّد فهمٌ جديدٌ للتعاون الأدبي كطريقةٍ لتسخير الإمكانات السياسية للتضامن. لا يوجد دليل أفضل على الدور الذي لعبه «الاتحاد الوطني» في تشكيل هوية المثقفين الكوبيين مع الحركات الأجنبية المناهضة للاستعمار خلال منتصف الستينيات، أكثر من التغييرات الجمالية والتحريرية التي خضعت لها مجلّة «الاتحاد» في فترة تولّي خميس إدارة تحريرها.
بدءًا من العام ١٩٦٥، أعاد خميس توجيه تركيز المجلّة إلى العالم الثالث الناشئ والكتلة الاشتراكية. لئن شكّل شعر خميس في الستينيات دعوة إلى الثورة لترسيخ نفسها في التحوّل الثقافي، فإنّ عمله مع مجلة «الاتحاد» وضع هذه الدعوة قيد التنفيذ. كتب بيانات افتتاحية تشدّد على أممية الثورة الكوبية بشكل أساسي، وجعلها المهمّة الأساسية للمجلة ليكشف للشعب الكوبي عن رؤيةٍ للثقافة الثورية التي ولدت من استقبال الثورة في الخارج – في فييتنام والجزائر – والسماح لهذا الفهم الجماعي للثقافة والانتماء الوطني أيضًا، بتشكيل هدف البنية التحتية الجديدة للأدب الكوبي.
في معرض تركيزه على هذه المهمّة، نشر خميس لكتّاب ثوريين مثل ليوبولد سنغور، ماريو دي أندرادي، أتيلا يوجيف، وولي سوينكا، للمرّة الأولى ربّما باللغة الإسبانية. وقد ترجم بنفسه أعمال الشاعر الجزائري الفرنكوفوني جان سيناك إلى الإسبانية، كدعم ثقافي وتعاون يحلم بهما منذ عقد عندما كان في باريس. ارتحل كثيرًا خلال تلك الفترة. قصد الصين حيث كتب مجموعة قصيرة بعنوان «أربع قصائد في الصين». وزار المجر حيث التقى الفيلسوف الماركسي جيورجي لوكاش وأجرى معه مقابلة صحافية. وفي العام ١٩٧٣، دُعِي خميس لعرض لوحاته من قبل «الاتحاد الوطني للفنانين التشكيليين» في الجزائر، وهي مؤسّسة تشكّلت جزئيًّا وفق نموذج «الاتحاد الوطني للفنانين الكوبيين». خلال تلك الرحلة، ألّف قصيدة عن رحلته بعنوان «حوليّات في الجزائر» (Crónica en Argelia)، عبّر فيها عن دهشته من التشابه التاريخي بين كوبا والجزائر، كما دهش لتمكّنه من الوصول إلى التراب الجزائري، والتحديق في سمائها، وعبوره جسرًا جديدًا.
ثمّة حدثان مهمّان آخران في حياة خميس في العام ١٩٧٣: الأول، نشر مجموعة «فتحت البوابة الحديدية» (Abrí la verja de hierro) الشعرية وهي الأكثر تمثيلاً لتطوّر خلاصاته عن التيّارات السوريالية والعامية، والثاني عودته إلى مسقط رأسه. بعد أن عُيِّن ملحقًا ثقافيًّا بالسفارة الكوبية في المكسيك، انتقل خميس إلى تلك البلاد لمدة ١١ عامًا. كانت هذه الفترة الأهدأ في حياته؛ كتب الأصدقاء والرفاق أنّ المسؤوليات الدبلوماسية تناسب خميس وإن ظلّ يجدها مرهقة. على الرغم من أنّ الكثير ممّا أنتجه خميس خلال هذه السنوات لم يُنشر، إلا أنه استمر في الكتابة والرسم بشغف، وطوّر اهتمامًا خاصًّا بالثقافة الشعبية في غوايوس، البلدة التي نشأ فيها. عاد إلى تاريخ وتقاليد شعبها كمصدرٍ لعمله، وعندما عاد إلى كوبا في العام ١٩٨٤، بدأ التخطيط لافتتاح متحف فنّي في البلدة. للأسف، لم يعِش خميس ليرى المتحف؛ توفي في ١٣ تشرين الثاني/ نوفمبر ١٩٨٨ بعد صراعٍ مع السرطان. مع ذلك، استمرّ في عبور الجسور حتّى بعد وفاته: في السنوات القليلة الماضية، تمّ إحياء مشروع المتحف من قبل جيل أصغر من الكوبيين المتحمّسين لبث روح خميس الإبداعية في غوايوس. بالإضافة إلى ذلك، بدأت العلامات التي تركها خميس على المشاهد الفكرية التي سكنها تحمل اسمه بشكل متزايد من خلال أعمال الباحثين والمعجبين الذين عاصروا «إل مورو».
في القصيدة عن رحلته الجزائرية، عبّر خميس عن أمله بأن تؤسّس كلماتُه «علاقة عميقة، وإن كانت غير مرئية، مع جمال الأحجار البيضاء في الجزائر».6 يمكننا اليوم تأريخ رغبته في ذلك التواصل بل وإعطاؤه اسمًا – التضامن بين شعوب العالم الثالث – باعتباره من الموروثات المشروعة لخميس، ونتاج الالتزامات التي تمسّك بها، والمؤسّسات التي ساعد في إنشائها. لا شكّ أنّ إقامة الروابط أمر جميل، لكنها لم تبقَ محجوبة، لصالحنا جميعًا.
- 1. Fayad Jamís, “Fuente de la palabra”, La Pedrada (Havana: Editorial Letras Cubanas, 1985), 163-64.
- 2. See Rigoberto Paredes Menéndez, “Los árabes en Cuba”, in Los árabes en América Latina: Historia de una emigración, ed. Abdeluahed Akmir (Madrid: Siglo XXI, 2009).
- 3. Orlando Castellanos, “Las palabras del Moro”, La Gaceta de Cuba, May-June (1992), 21-23.
- 4. Fayad Jamís, “Vagundo del alba”, La Pedrada (Havana: Editorial Letras Cubanas, 1985), 43-46.
- 5. Fayad Jamís, Por esta libertad (Havana: Casa de las Américas, 1962), 13.
- 6. Fayad Jamís, “Crónica en Argelia”, La Pedrada (Havana: Editorial Letras Cubanas, 1985), 150-59.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.