العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

اللغة واستراتيجيات النصّ: قراءة في روايات إلياس خوري

إلياس خوري مثقّف نقدي متعدد الإبداعات، ينطلق من صوت العقل النقدي والالتزام بقضايا التحرر، منخرطًا في الممارسة اليومية في زمن صار فيه ألم الشعوب العربية أكبر من أن يُحتمل. وهو بهذا مثالٌ للمثقف الذي طالبه إدوارد سعيد بأمورٍ ثلاثة: أن يجرؤ على قول الحق في وجه السلطة والتصدي لها، وأن يكون شاهدًا على الاضطهاد وعذابات الشعوب، وأن يكون صوتًا للمعارضة الوطنية في نزاعاتها مع السلطة ومؤسّساتها.

كيف نقترب من عالم إلياس خوري الروائي؟ هذا الفضاء الروائي الذي يشدّك فيه صوتُ الراوي الحميم بصيغة الأنا إلى نسيج الحَكي، ليغدوَ القارئ نفسه متورطًا في شبكة القص وشاهدًا على الأحداث. الدخول إلى عالم خوري يستدعي قراءات متكررة للنص الروائي، حيث تضيف كلّ قراءة بعدًا جديدًا في عملية الاستقبال واستمتاعًا في التلقي ومشاركةً في جماليات فعل الإبداع.

تعيش رواياتُه هاجسَ الأسئلة، أسئلة الرواية وأسئلة الحداثة: هل الكتابة وهْم، وهل تقع حقيقة الحكاية خارج الحكاية؟ هذه الأسئلة هي كذلك أسئلة الواقع العربي والمثقف العربي المعاصر؛ فالرواية- بما هي قصٌّ تخييلي- تستعيد عبر أنساق اللغة لحظاتٍ كانت عاشتها الأنا الفرديّة في خضمّ الفعل الاجتماعي لتدفعَها إلى الأمام في نسق جدلية الصيرورة التي تصنع المستقبل.

الحكاية

ما هي الحكاية؟ هل نجدُ الحكايات مرميةً في شوارع الذاكرة وأزقّة المخيّلة؟ وكيف نجمعها لنقِيم نسقًا فوق أرض تتحطم فيها كلّ الأنساق؟ ما الموت؟ هل تستطيع الحكاية أن تنتصر فعليًّا على الموت كما فهمنا شهرزادَ الحكاية؟ هل الحكاية هي في أن نستعيد «رفّةَ الجفن» أو «غمضةَ العين»، التي تفصل بين الوجود وبين الحكاية- بما هي تَذكُّر واستعادة؟

تنطلق غالبية روايات إلياس خوري من موتٍ ما لتحكي قصص الحياة وأحلام الناس البسطاء وآلامهم. وهي تقوم على «الاستعادة والتذكّر» (recollection) عبر حركة نحو الأمام؛ فالنهاية تفسِّر البدايةَ التي لا يمكن فهمها إلا عبر حركةٍ استعاديةٍ تنطلق من بدايةٍ ليست هي سوى الحكاية نفسها. الموت هو الذي يفتح فجوات القصّ ليفسحَ مجالًا للرواة المهمّشين والأبطال الصغار ليرووا حكاياتهم.

علينا بدءًا أن نؤكّد على طبيعة الصنف الروائي. فعلى الرغم من أنّ الرواية هي إنتاج جمالي لنظام لغوي- سيميائي، فإنها تقترب، لناحية الشكل والبنية، من الظواهر الاجتماعية التي تنتمي إليها. فالرواية تنهض بدلائل موضوعية هي تعبيرات عن القيم التقليدية- في مجتمع ما - وتلك الناشئة، وهي قيم تعكس بالضرورة علاقات القوة في البنى الاجتماعية كما تشير إلى التحديات التي تواجهها هذه البنى. الرواية بهذا المعنى هي أثر مكتوب يحاكي جملة من التحوّلات الاجتماعية تتمحور في معنى اللغة والكتابة والقراءة (التلقّي)، فالروائي يكتب خارج (أو حتى ضدّ) جمود «تاريخ» السلطات، وهو «يؤرّخ» للتغيير الاجتماعي الذي هو في طور التكوّن. وعندما ننقل هذه الاعتبارات العامّة من حيّز النقاش حول مرجعية النص التاريخية إلى احتمالات اللغة وإلى حيّز البنى النصية للحكي، يجدر بنا الالتفات إلى أمر أساس هو أنّ أشياء الفضاء والعالم لها وجود مستقلّ عن اللغة، فيما داخل النص ينهض على وجود الأشياء والعالم عبر اللغة.

الروافد

أنجز إلياس خوري منذ عام ١٩٧٥ حتى اليوم ثلاثَ عشرة رواية، ومجموعة قصص قصيرة. دعونا نقف بدايةً عند الروافد المختلفة التي عملت في تشكيل نصوصه:

هناك أولاً، معرفته الوثيقة بالموروث الحكائي العربي، في بُعديه الرسمي والشعبي، المتمثل في «ألف ليلة وليلة» والسيَر الشعبية.

وثمّة ثانيًا، علاقة متينة بمنجزات الرواية العربية من جرجي زيدان إلى نجيب محفوظ، وانفتاح حواريّ على الرواية العربية الحديثة ما- بعد المحفوظية (جيلا الستينيات والسبعينيات في مصر، وإميل حبيبي، ويوسف حبشي الأشقر، وغالب هلسا، وغسان كنفاني، وأنطون شمّاس، وغيرهم كثيرون). ويَجمع إلى ما سبق صلةً حميمةً بالشعر العربي، قديمه والمعاصر.

ولديه ثالثًا، اطلاعٌ واسعٌ على الإنتاج الروائي العالمي؛ فقد قرأ كامو وسارتر وكان عمره ١٥ سنة، وعلى روائع الكبار من المعاصرين.

هذا الموروث الفكري الذي تغذى به إلياس خوري لن يكون كافيًا لإحداث نقلة مفصلية في الرواية العربية لو لم يجذّره موقفُ المثقف النقدي، المنخرط في العمل اليومي، في قضايا المجتمع وفي الصراع ضد الاستعمار- الاستيطاني الصهيوني ومطامعه. هناك، بين الناس وفي مخاضة إنتاج وعي تحرري، نضجت لغةُ خوري الروائية وأخذ يُرهف تقنياته واستراتيجياته النصيّة.

النسب الشدياقي والتجريب في اللغة

لعلّه ليس من قبيل الصدف أن يجد خوري مع أحمد فارس الشدياق نسبًا أدبيًّا يربطهما بالحداثة والتجديد، إذ يُعتبر الشدياق بحقّ من الأوائل الذين عملوا على تطويع اللغة لربطها بالحكي؛ وقد تقدّم مارون عبّود في هذا المضمار. هل يعني أنّ إلياس خوري هو سليل هذه المدرسة في اللغة؟ نعم ولا؛ نعم، لأنّه لا يستطيع ككاتب حداثي وكصحافي إلا أن يتأثّر بمدرسة الشدياق؛ ولا، لأن خوري يعوّل على مصادر أُخرى كاقترابه من صيَغ الحكي في السيَر الشعبية، كما أنه يحاور تجارب معاصريه كتجربة إميل حبيبي الذي عمل على تفكيك اللغة: عبر التلاعب اللفظي، والتهكّم، ومزج الفصحى بالعاميّة، و«المحاكاة الساخرة» (Parody) عند تناوُل الشعارات الدينية؛ وتجربة صنع الله إبراهيم التي تقترب من التقرير الصحافي، والقائمة على دمج عدّة خطابات رسمية وشعبية في صيغة من الكولاج؛ وكذلك لغة إدوار الخرّاط الموسيقية التي تنهض على الترتيلة والشعر وتبني شيفرتها الميثية الخاصة.

وإلياس خوري رائدٌ من روّاد التجريب في اللغة. إنّ روايته «أبواب المدينة» تمثّل عالمًا مغلقًا وتستدعي إلى الذهن ببنيتها الدائرية «حكايةَ مدينة النحاس» في «ألف ليلة وليلة»، كما تقيم علاقة تناصيّة مع نصوص الكاتب الأرجنتيني بورخيس. وهي تقوم على تكسير الجملة، والتقديم والتأخير- كما في الشعر- والتكرار، والاستطراد، واستخدام اللغة الشعبية في محاولة لفتح كوّة في بنية الشكل وفي خلق لغة كانت تتلجّج في صدر خوري الشاب آنذاك. تبقى هذه العناصر مركزيةً في روايات خوري اللاحقة على الرغم من التجريب اللغوي الذي يسمُها ويعطي لكلّ رواية طابعَها الخاص من حيث اللغة. وبإمكاننا أن نعتبر «الوجوهَ البيضاء» قفزةً نوعيةً في الرواية العربية المعاصرة، إذ يستعير خوري لغة الصحافة ببساطتها وجملها الواضحة، واعتماد القول الإخباري، والإيقاع الشفوي للحكي الخامّ الذي يقوله الناس العاديون. ومع تعدد الرواة تتعدد الأصوات اللغوية لتغدوَ حوارية صوتية. هذه التقنيات ما هي سوى التقاطٍ للغة الحياة ولغةِ الحرب الأهلية المتشظية والتي تعيد إنتاج تشظّيها مع انفجار الفضاء المديني.

هكذا تنحو رحلة «غاندي الصغير» منحى إعادة الحكاية كلّ مرّة من الأول بصوت مختلف وبزاوية رؤيا مختلفة تدور في حركة دائريّة على لسان أبطال هامشيين. لا تنتهي هذه الحركة الدائرية بإغلاق النص على نفسه، بل تفضي، على العكس من ذلك، إلى فتح نوافذ الحكي عبر تكاثر اللغات ووجهات النظر والتكثيف الدلالي. ويبلغ التجريب عند خوري مرحلةً من النضج والعفوية والحوارية الشعرية في «باب الشمس» وفي «يـالو». في «باب الشمس»، التي تنهض على شهادات حقيقية، يتبنّى خوري تقنية القصة الإطار من «ألف ليلة وليلة»، حيث الحكي هو، بمعنى ما، فعل ينتصر على الموت، فتنفتح فجوات القصّ على الذاكرة الفردية والجمعية لعشرات الناس العاديين المقتلعين من أرضهم التاريخية فلسطين. الراوي الأول خليل عاجزٌ عن التركيز، يقفز من حكاية إلى حكاية وتضيع منه الأشياء، فيدخل في عالم داخلي يتميّز بالدفق الشعوري وتداعي الأفكار وعدم التطابق بين الزمن الواقعي وزمنه الداخلي الخاص. يُسلّم خليل الحكي لرواة آخرين من أزمنة متداخلة، لكلٍّ هواجسهـ/ها ولغتهـ/ها الخاصة – مناطقيًّا واجتماعيًّا، لتعيد حكاياتُهم المتشظية إنتاج خريطة المأساة وشرط الحاضر. فـ«باب الشمس» هي رواية السرد المضادّ التي تَكتب- بلغة الناس البسطاء- تاريخَ العنف العنصري في مواجهة تاريخ المنتصر.

من «يالو» إلى «كأنها نائمة»

في «يالو» نتابع اللغة في طزاجتها، أثناء مخاض ولادتها من فم الرّاوي المنفصم على نفسه. يالو، الذي يناظر «أبله» دوستيوفسكي ويحاوره، يحاول الانتصار على الأنا المقموعة والمفككة تحت عذابات السجن والاستخبارات ونظام التسلط والقهر، عبر الحكي والكتابة ليعيد خلق فضاءات مجتمعات مشرقية متجذّرة في بلاد الشام ابتلعتها الفتن والحروب لتعيد الروايةُ صوغ تراثها الحضاري المتجذر في اللغة والطقوس.

في «كأنها نائمة» يقيم خوري «عقدًا غير رسمي» مع القارئ ينهض على مجموعة من العتبات والإشارات المحاذية للنصّ، والتي تهدف إلى تنبيه القارئ إلى احتمالات التناصّ المتشعّبة، فالعنوان نفسه، «كأنها نائمة»، يشير إلى «الكتاب المقدّس». وتنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث ليالٍ كما تدلّ عناوين الفصول، مشيرةً إلى أيّام الآلام الثلاثة. أمّا إيثاره اعتماد «الليالي» على «الأيّام»، فيبدو أنّه تمهيد. وهو بذلك يلفت الانتباه إلى طبيعة السرد الحالمة، ويغري القارئ بالدخول إلى تصميم الراوي الشبيه بالشبكة، حابكًا تصاميمه السرديّة، متشبّهًا بشهرزاد في هدأة الليل، لتغدو الرواية حلمًا متصلاً. فالبطلة «ميليا» أسيرة عالم الأحلام على «الطريق الملكيّ» إلى الذاكرة واللاشعور، بحسب تصنيف فرويد للأحلام، ما يجعل من رواية خوري حلمًا دائريًّا (السرد يؤطّره حلْمَان، فيبدأ بميليا وهي تغمض عينَيها من جديد لتكمل الحلم، وينتهي بها تحلم بالخروف الأبيض الصغير يزحف على صدرها).

أمّا الأحلام الأدبيّة فتأتي في صلب النصّ، وترتبط وظيفة الحلم بسياق الرواية الثقافي. هكذا تربط حالة الحلم وحلم اليقظة الماضي التوراتي والإنجيلي باللحظة المعاصرة، لا سيّما أنّ حالة الحلم بحدّ ذاتها هي فضاء حَدِّي أو عتبة مبهمة قابعة زمنيًّا في الطقوس الانتقاليّة العالقة بين حدود الوقت العادي وما يتجاوزه من طقوس وتعبيرات لغوية. أمّا الراوي في «كأنها نائمة»، فيعتمد السرد غير متجانس الحكي. وهو يتّخذ تارةً موقف الراوي العليم الذي يعرف كلّ شيء عن الشخصيات، لا سيّما ميليا، البطلة الرئيسة، وتارةً أخرى يكون أشبه بالمؤرّخ. لكنّه يلمّح إلى حضوره في الحكاية، ويكشف، قرابة نهاية الرواية، أنّه إسكندر، ابن أخي ميليا الذي أصبح صحافيًّا.

في الجزأين اللذين صدرا حتى الآن من ثُلاثية «أولاد الغيتو»، يخرج آدم من «استعارته المستديرة» (استعارة «وضّاح اليمن» التي يقرؤها خوري بما تنطوي عليه من تعقيد متعدد الدلالات)، والتي تلتفّ على نفسها وعلى تاريخها ليغدوَ حقيقةً تتجاوز معنى الرمز ليقف وحيدًا في فراغات «الطلل» الذي هو فلسطين. آدم، المولود الأول في غيتو اللدّ، بما هو الشاهد على بداية المذبحة، هو كذلك الإنسان الأخير الذي يحيا «مفارقة» الأطلال على امتداد جغرافيا الأنقاض التي أحالتها الصهيونية الاستعمارية إلى فجوة من العنف والجنون حيث يقف آدم حارسًا للخراب ولأصوات الموتى. آدم البداية، هذا الحاضر- الغائب المتروك عند تقاطع التذكّر والخراب في مكان برزخيّ للرحيل والاقتلاع مفكك الحيائز (deterritorialized)، يحمل في أناه نَسَغًا من كلتا الشخصيتين الروائيتين دوف- خلدون وسعيد المتشائل، ومثلهما هو يهودي بالمصادفة، بل قل بالمباغتة. ولعل «مفارقة» الأطلال التي صقلت وعيه على حدّ الألم والتوتر والتذكّر في غيتو وارسو وفي مصنع الموت «أوشفيتس»، هي التي سوف تجعل منه، في الجزء الأخير المرتقب من ثلاثية خوري، شخصًا آخر غير «دوف» و«سعيد»، شخصًا يخرج من استعارة آرثر كوستلر في روايته «لصوص في الليل» (كنفاني، عائد إلى حيفا، الآثار الكاملة، ١/٣٧٢)، ويخرج من منفاه وبداوته إلى مستقبل «مفارقة» الوطن/ الطلل الذي «تحتاج تسويته إلى حرب» تنتهي بهزيمة الصهيونية كمشروع إمبريالي- عنصري، ليفسح الأفق لتفتّح إنسانية جديدة اسمها فلسطين.

هكذا طوّر خوري في رواياته لغةً تعمل في قلب التناقضات القائمة على تفكيك الخطاب الرسمي والميثي ليخلق لغةً تستحثّ الوعي وتعيد تأكيد خطاب الإنسان المهمّش، ليحكي تاريخ المسكوت عنه الحائر أمام شرط الوجود وأسئلته.

استراتيجيات السرد

جديرٌ بالانتباه أنّ خوري ينأى في نصوصه عن صوت الراوي كليّ المعرفة الذي يهيمن على فضاء النصّ. يتحكم خوري بعملية التوالي الزمني وبتقنيات وصف الشخصيات، فاسحًا أمام كل شخصية التعبير عن تعدد أحوالها وأزمنتها وتطوّر خلجاتها، فالراوي الضمني في رواياته دائمًا يحكي بصيغة الأنا (وليس المقصود هنا صوت الأنا الرتيب المكرّر، والغارق في تفاصيل الذات). يعمد خوري إلى تبنّي زوايا نظر (أو التبئير) منفتحة (كاميرا ٨ ملم محمولة على الكتف)، ما يؤدي إلى تعدد تلك الزوايا. يسلّم الرواة بعضهم بعضًا فيتداخل ويتقاطع حكي الأحداث وحكي الأقوال، وتغيب عملية الوصف، ليتكرر إنتاج الحدث عبر احتمالات الأفعال وتوجّهاتها، ولتتجاور مجموعة من الخطابات الفرعية لتكتمل عبرها بنية فضاء النص الروائي.

ينهض فضاء النصّ إذن على التقطيع المشهدي السينمائي، فلا يعود الزمن يستقيم في خط تطور سردي يتجه إلى الأمام، بل إنّ التكرار والاستعادة والتقديم والتأخير والاسترجاع تفضي جميعها إلى تكثيف الزمن الذي يتراوح بين الزمن الفعلي التاريخي، وزمن القص، وزمن الشخصيات النفسي. فالتغيير في الصوت وفي الضمائر يستدعي تغييرًا على مستويات السرد ووجهات النظر التي تنفتح على بعضها البعض كالمرايا المتعاكسة.

بإمكاننا أن نقف هنا لنستنتج أنّ طبيعة اللغة التجريبية القائمة على التفكيك، وتكسير الجملة، واعتماد القول الإخباري، والإيقاع الشفوي للحكي الخام، وتَزاوج الفصحى بالعامّيات المحكيّة في بلاد الشام، ليست أمرًا مفتعلًا (أو لعبًا شكليًّا في اللغة)، بل هي محصّلة لطبيعة القصّ الذي ينبني عبر تجاور «بؤر الحكي» وتداخلها.

ثمّة أمر آخر جدير بالاهتمام في تقنيات خوري يتمثّل في قدرته المميزة على تكوين الشخصية الحكائية. وهذا يعود إلى الاستراتيجيات النصيّة التي تكلّمنا عنها، فرواية خوري حواريةٌ شعريّةٌ بامتياز، فهو، بابتعاده عن الوصف وعن استخدام صوت «الراوي كليّ المعرفة»، ينتج شخصياتٍ غير جاهزة سلفًا، شخصيات مركّبة متعددة الوجوه لا تكتمل إلا باكتمال الحكي، لا بل تمتلك، بما هي شخصيات حقيقية نابعة من الواقع وبما تمثّل من أبعاد إنسانية وشمولية، قدرةً على الاستمرار في ضمير القرّاء المتلقّين. ولعل تمكّن خوري من التشكيل «الأيقوني» ومن بناء الرمز الكلّي (المسيح، ومار الياس، والغريب، وفلسطين كاستعارة كبرى) هو ما يضفي على شخصياته حياةً خاصةً خارج نصوصه الروائية.

يفضي بنا هذا إلى المحور الأخير من هذه الملاحظات، أعني الفضاء التاريخي- الجغرافي. إنّ روايات خوري متجذّرة في بيئتها الجغرافية، وهي تعود بنا إلى أحداث مفصلية في تاريخ بلاد الشام في وقت كانت فيه القوى الدولية العظمى تسعى إلى تفتيت السلطنة العثمانية والسيطرة عبر استلحاق «مللها»، فكانت أحداث ١٨٤٠-١٨٦٠ التي عمّت لبنان وامتدّت إلى دمشق؛ ثم مجازر التطهير العرقي ضد الأرمن والسريان في مطلع القرن العشرين. هذان الحدثان الكبيران أعادا تشكيل منطقة بلاد الشام بما نتج عنهما من عنف وموت واقتلاع وتهجير؛ فنجد خوري في «مجمع الأسرار» يقدّم رؤى عميقة تتعلق بطبيعة العنف السياسي-الاجتماعي في المنطقة، فيتابع هجرة آل نصّار إلى كولومبيا بعد المذبحة التي تعرضوا لها في جبل لبنان الجنوبي ليندمجوا بغرباء الحروب الأهلية التي تناسلت في كولومبيا أواخر القرن التاسع عشر، وليتناصّ مع غارسيا ماركيز في رواية «موت معلن». ثم تأتي الهجمة الصهيونية الاستيطانية، المؤسَّسة إيديولوجيًّا على ميثيّة- أسطورية، لتقتلعَ الشعبَ الفلسطيني عبر القتل والذبح والتهجير من الأرض لتُكمل دائرة الموت ولتقيم على أنقاض بلاد الشام مملكةً للغرباء – فروايات خوري تحكي بصوت هؤلاء الغرباء والموتى الذين يُخبرون في فضاءاتها حكاياتهم التي أهملها التاريخ.

الملاحظة المهمة أنّ الحرب الأهلية اللبنانية هي التي شكّلت الولادة الحقيقية للرواية اللبنانية. ولا يَفهم خوري هذه الحرب بمعزل عن صيرورة الجدلية التاريخية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وما أفضت إليه من تأسيس لدولة العسف والقمع العربية- التي يسمّيها دولةَ المماليك الجدد- فتاريخنا الحديث هو نتاجٌ مباشرٌ لهذه الفترة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم. إنّ أسئلة الحرب اللبنانية تبدأ هناك، كما أسئلة السقوط التي تتوالى انفجاراتٍ لا قعرَ لها، فالحروب ليس فيها منتصر- كلنا مهزومون في الحروب وكلنا قتلى وغرباء، والغربة هي معنى الإنسان.

في القلب من هذه الأسئلة الوجودية التي تطرحها نصوص خوري تغدو فلسطين- المحاصرة بالدم والعهر والخيانة- هي السؤال المركزي والقضية التي يمكن أن تصهر كلّ الشعوب وكلّ الغرباء في بحثهم عن المعنى والحرية والكرامة الإنسانية.

يقف إلياس خوري متميزًا بين سائر أبناء جيله، وهو يُعدّ بحق بين الأسماء الكبيرة في العالم العربي وأدب العالم الثالث في استراتيجياته ما بعد الكولونيالية، يحاور الرواية العالمية ويُعتبر من أعلامها المعاصرين.

 

العدد ٣٥ - ٢٠٢٢

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.