العدد ٣٤ - ٢٠٢٢

في ثورة تشرين العراقية

الحدث والإرادات والهوية

فوجئتُ حين دخلتُ الساحة في عزّ الاعتصام: ليست هذه الساحة التي أعرفها وأعبرها دائمًا! في ذاكرتي الثابتة، لا تزال الساحة مركز بغداد الحيوي الذي يلتقي فيه أحد عشر شارعًا. يدخل ويخرج منهُ العابرون إلى محالهم في المدينة التي بناها أبو جعفر المنصور على شكل دائرة. أنا نفسي أدخل الساحة كل يوم ذاهبًا إلى العمل أو عائدًا من البارات الممتدة على النهر. لا أنظر إلى النصب، أعرف تفاصيله بالبداهة. هو أيقونة الساحة، ولا يزال كما هو وفي مكانه، وكما صمّمه جواد سليم، في وسطه أمّ القتيل، وقد انكبّت تنحب على قتيلها. لِمَ لا تصرخ؟ ما تغيّر في النصب هو آثار رصاصات أطلقت على المتظاهرين فأخطأتهم وأصابته. لمسة أخرى من الحاضر، هالة رمادية من أثر قنبلة غازية في مكان تحت حوافر الحصان الهائج.

الساحة عمومًا هي هي، سوى أنّ ما غيّرها هو هذا الحشد المعتصم فيها فأعاد صياغتها الرمزية كمركز لإرادة الناس الذين اختاروها مكانًا للاعتصام.

تحت النصب الذي صُمِّمَ على شكل لافتة في تظاهرة هناك كرنفال من أعلام وتقاطعات ضوئية بأشعة الليزر وملصقات وأغانٍ تتقاطع وسجادة هائلة من وجوه حيوية تريد أن توحّد أصواتها فلا تستطيع. الكرنفال محدد زمانيًّا كما يصفه الفيلسوف ميخائيل باختين، هذا الكرنفال المعمّد بالدم مفتوح الزمان حتى تتحقق «المقالب»، المطالب تتجدد وتتمدد. استقالت حكومة عادل عبد المهدي. «كلّن يعني كلّن» على الطريقة اللبنانية. هل هو اختبار للإرادة والصبر؟ المهم أن ما لم نتوقّعه قد حدث.

فوجِئنا كلنا بالانفجار الغاضب للشباب مع أنه حاصل بالتأكيد. فوجئت سلطة المحاصصة والفساد وطرحت السؤال المعهود «من الذي حرّكهم!». فوجئت الأحزاب التي تقنع نفسها بمعرفة نبض الشارع، وفوجئ التيار المدني الذي اعتقد بيقين بأن لا حراك للشارع من دون أن يكون هو المحرك. فوجئتُ أنا برغم أني كنت أهجس به كل يوم في الغضب المتنامي وفي الجنون الشامل. فقبل تشرين الأول/ أكتوبر، عانى ٨٠٪ من العراقيين من الكآبة، وفقدت الحياة معانيها عند ثلاثة من كل أربعة أشخاص، كما يكشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «المستقلة» للبحث بالتعاون مع مؤسسة «غالوب». اليأس من التغيير طبَع الحياة في أوضاع ضاغطة لا يقوى الإنسان على مواجهتها تولّد فكرة انتظار الفرج من فوق: من معجزة إلهية أو من كاريزما ذات قدرات فائقة تحلّ الأزمة.

انتحار

لم تحصل المعجزة. توزعت القوى على القاع إلى مليشيات وولاءات حزبية داخل الجيش. تكاثرت حالات الانتحار: ماذا ننتظر؟

قبل الانفجار بأشهر أقدم شابّ من محافظة ميسان، جنوبي العراق، على الانتحار في يوم عرسه. ترك العروس في سواد. قبله أضرم شابّ النار في جسده عند خروجه من إحدى الدوائر الحكومية وسط العاصمة بغداد. ثالثٌ ألقى بنفسه من الجسر إلى النهر. العوائل شأنها شأن الدولة تَعتبر الانتحار عارًا، لأن العالم مليء بالنمّامين المستعدّين لصناعة الحكايات، لذلك يختلقون حكايات حول جثة المنتحر، قصصًا تلفّق «عار» الانتحار. مع ذلك، رصدت مفوضية حقوق الإنسان ١٣١ حالة انتحار في الأشهر الثلاثة الأولى من عام ٢٠١٩. لِنرَ كيف ناقش «عباقرة» البرلمان وفقهاء الظلام أسباب الانتحار:

  • عضو البرلمان، محمد إقبال: «الموضوع يتجاوز الإحباط ومراحله النفسية»، ليضيف، وهو قد شغل منصب وزير التربية في حكومة حيدر العبادي، أن «للمخدرات التي بدأت تلتهم العقول والأموال دورًا».
  • ممثل المرجعية الشيعية العليا في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي حذَّر: «إذا لم يجد الشابّ ما يشبع حاجاته فقد يلجأ إلى طرق منحرفة خاصةً إذا كان لديه أصدقاء سوء».
  • رجل الدين الشيعي فرحان الساعدي نفى أن «يكون الفقر، مثلما يشاع، هو أحد الدوافع الكبيرة للانتحار»، مرجعًا السبب إلى «الانتقال السريع من نظام شمولي إلى الحرية المطلقة… المشكلة التي نعانيها هي أنه لا توجد قوى ترشد المجتمع وتطبّق الإجراءات الرادعة والكفيلة بوضع حد لمثل هذه الحالات حيث إن دور رجال الدين، وفي المقدمة منهم المرجعية الدينية، هو الوعظ بينما نحتاج اليوم إلى الردع»، وبيّن أن «هناك ما يسمّى بكسر الحاجز عبر ما بات يُنشر في مواقع التواصل الاجتماعي حيث المَشاهد متاحة، بدءًا من شرب الخمر إلى عمليات القتل إلى سواها».
  • النائب عبد الله الخربيط: «لا نبرر الانتحار وأسبابه، ولكن نريد أن نعرف من دفع المواطن لليأس إلى هذه الدرجة؟» وتابع أن «الجو العامّ في البرلمان متحفز بشكل كبير لمعالجة هذه الحالة».لم تستغرق جلسة البرلمان التي ناقشت موضوع الانتحار نصف ساعة. موّه خطابُ الأحزاب الفاسدة الأسبابَ بإدانة الضحية باعتبارها جحدت فضل الرب بما خلق. وحين يريد الإنصاف، سيحيلها إلى ضعف رقابة العائلة وصحبة السوء والاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا وضعف الوعي الديني. في النهاية، طُرح الحلّ العبقري لمعالجة الظاهرة بتوجيه توصية إلى إدارات المحافظات لإعلاء أسيجة الجسور بحيث يصعب على محاولي الانتحار تسلّقها لإلقاء أنفسهم في الأنهر.

مللٌ فانفجار

قبل الانفجار مللتُ من هذا الغضب الذي يأكل نفسه حين نتظاهر (جمعة ورا جمعة...) وعددُنا يتناقص من المئات إلى العشرات، والوجوه هي نفسها تقريبًا: أنظر من موقع المنصة فأرى حزمة الشباب المدنية ذاتها، وعلى الحواف بمسافة مترين وقف الشيوعيون وقد شابَ شعرهم بوقار، يتمتمون مع أنفسهم وهم يردّدون الهتاف. خلفهم مساحةٌ فارغة ثم تبدأ الحياة العادية حيث باعة العربات يستثمرون وجود الحشد بدون أن يشاركوا فيه. بعدهم تبدأ الحياة العادية موغلةً في اللامبالاة والتسليم بالقدر: المطاعم التي تغذّي الاستمرارية الحيوانية داخل الإنسان، شركات الطيران التي تهيِّئ لحلم الهروب، حتى ولو لأيام معدودة، صفٌّ طويلٌ من محالّ بيع حاجات المعوّقين الذين أنتجتهم الحروب والمتفجرات بالجملة.

خارج حلقة التظاهرة تمتد حياة متوجّعة، لكنها ساكنة توشك في دخيلتها أن تسخر من هتافنا المبحوح «جمعة ورا جمعة والفاسد نشلعه». بابتسامتهم الساخرة يقولون لنا بجزم: لن تشلّعوهم بعد أن تَغلغلوا في الدولة العميقة! إقرار ضمني بأنّ الفساد تحوّل إلى قَدَر وما مِن خلاص إلا بقبوله أو الاندماج فيه.

يخفت هتافي وينفصل صوتي عنّي. أنزل من المنصة وأتجول في شوارع الكرّادة فأرى الناس منفصلين عنّا تمامًا، نحن المئات الذين تظاهرنا على مسافة أمتار منهم وقد بحّ صوتنا من الهتاف من أجلهم.

مع ذلك حدث الانفجار في اللحظة العراقية بامتياز حين أسدلنا أيدينا يأسًا وقلناها من داخلنا مع حسرة عميقة: خلاص!

أدمنتُ الدهشة وأنا أدسّ نفسي وسط جمهور لا أعرفه هذه المرة. أمشي بصعوبة وأتلفّت باحثًا عن فراغ بين جسدين ثم أرفع رأسي لأراهم في أعلى البرج: كيف جاءوا؟ من أين؟ ولِمَ جاءوا في لحظة لم نعد نناديهم؟ أسأل وقد نسيت أنهم يقررون بإرادتهم وليس بإرادتي. بقيت على مدى شهرين ونصف الشهر أتجول في الساحة. هناك أتناول طعامي. أقطعُ الطريق من شارع السعدون، أدور مرّات داخل الساحة الدائرية. أنزل داخل النفق الذي يكسر الدائرة من تحتها وأتّجه بخطوات مترددة من ساحة المعتصمين السلميين إلى «ساحة الخلاني» لأراقب الصدام اليومي بين المتظاهرين الأكثر صدامية وبين القوى المدرّعة التي تطلق عليهم قنابل الغاز. أريد أن أقطع طريق شابّ حافٍ يركض وبيده حجر فأسأله:
ماذا؟
لا يتوقف، ليس لديه الوقت ليتحدث، يجيب من دون أن يسمع باقي كلامي:
شلع قلع.
ويرمي حجارته.
«سنذهب إلى فوضى بلا أفق»، أقول لنفسي وأنا أرى الغضب يذهب بكل الاتجاهات.ليس هذا جمهورًا واحدًا، بل جمهوران وربما أكثر. في الساحة «السلمية» جمهور مدني أنكر ملابسَ الطبقة الوسطى، بنطلونات كاوبوي ومنديل مربوط على العنق. طلابُ جامعات ومهنيون. يتغير الجمهور كلّما أغادر الساحة باتجاه «ساحة الخلاني». يركضون سراعًا لساحة الصدام، ويعودون ركضًا وهم يحملون جرحاهم، حفاة أفلتت منهم أحذيتهم خلال الكرّ والفرّ، مقنّعون لا يريدون أن يعرف أحد هويتهم، يلمّون الحجارة النادرة التي بقيت على جانبي الشارع، هي آخر ما تبقى لديهم ليرموه. يصوّرون أنفسهم، أو يصوّرهم أصدقاؤهم وهم يرمون الحجر أو يتلقون الرصاص. تلك هي لحظة الفخر الوحيدة في حياتهم: كنّا هناك!

تتطور الأحداث أمام هذه الإرادة التي تتغذى من نفسها. صدر بيان رئاسي يأمر التربويين بمنع الطلاب من ترك الدوام، فأعلن المعلمون الإضراب. في الجنوب الأكثر غضبًا أحرقوا مقارّ الأحزاب، بما في ذلك مقر «الحزب الشيوعي» المشارك في الاعتصام. لا يتّسع الوقت والعقل للفرز حين يتحول الغضب إلى أفعال. الأفعال تقود إلى مزيد من الأفعال. حين سقط الحاجز على «جسر الجمهورية» توقف الشباب قليلاً وهم ينظرون إلى الأرض المغطاة بمظاريف الرصاص الفارغة والحجارة، وبقع الدم، «ما التالي؟»، فقد انفتح الطريق للمنطقة الخضراء حيث تقبع السلطة.

ذهبوا فأطلق عليهم الرصاص. أربعة عشر قتيلاً وعشرات الجرحى، وأسطول من سيارات الإسعاف «التُّك تُك» تسرع لجمع الجثث، فيقاطعها الرصاص.

أستريح في واحدة من خيم الاعتصام التي تتزايد كل يوم حتى وصلت إلى ١٢٨ خيمة. أتحدث مع الشبان الذين لم أتعرّف إليهم. أستلّ الشعارات من بين كلامهم باحثًا عن قصص ووقائع لأعرف كيف عرفوا بالموعد، ومتى قطعوا التردد وقرروا المجازفة رغم تحذيرات الأم وتهديدات الوالد، كيف خرجوا من التشكي الساكن، ومن مظلوميتهم الموجعة إلى هذا الغضب الجماعي. ما الذي تغيّر فيهم، وما الذي غيّروه. أحاول، وأنا أتحدث، أن أتفهم الفردَ ليروي حكاياته. لماذا يضحّي بحياته من أجل قضية عامة لا يشارك فيها الجميع؟ ثم ألتفت إلى الحشد خارج الخيمة لأتفهّم الجماعة: كيف جذبت أفرادها وكيف غيّرتهم؟

لكلٍّ سرديّته

سدّ والدي الباب بصدره، فدفعتُه: سأذهب يعني سأذهب.
رأيت صديقي الذي جاء معي إلى الساحة يتقدم نحو الحاجز وبيده العلَم وهو يهتف: سلمية! لم أصدّق أن عراقيًّا يرى صبيًّا بهذا العمر، يحمل العلم، وعليه عبارة «الله أكبر» سيطلق عليه النار.
كنت أحرس مقر الحزب وأنا أرى شبانًا بعمري يمرّون من أمامي في طريقهم إلى الساحة.أحاول أن أكشف المبالغات، والظلم المتصوّر خلف الظلم الواقعي. وبحسّ الروائي، أحاول تخيّل بيئة مفترضة لسبعة أخوة وأخوات يخرجون فجرًا للعمل في الشارع، ثم يعودون ليلاً لينهدّوا على فرش تشبه الصخور في صلابتها. أحاول تخيّل هذا الخرّيج الذي بقي عاطلاً من العمل، ثم صار حمّالاً في سوق علوة المخضّرات. لماذا يحتجّ الناس؟

الظلم والهوية

الشعور بالظلم وحده لا يدفع للمشاركة، بل يبقى في مكانه. وما لم يتحول إلى فعل، سيتغذى من لحمه. هناك مظلومون لم يشاركوا ومظلومون يشكون من أنّ التظاهرات قطعت رزقهم في الساحة، بل هناك من شاركوا في الجانب الآخر بإطلاق النار على شركاء الفقر.

شارك المظلومون أم لم يشاركوا!

المقارنة عند جيل لم يعرف نظريات الصراع الطبقي لعبت دورًا في تحويل الإحساس بالمظلومية الفردية إلى غضب جماعي. تزداد هذه المظلومية الجماعية غضبًا حين يقارن المحرومون أنفسهم بأبناء المسؤولين في الدولة والمنتمين للأحزاب الحاكمة بسياراتهم الفارهة، ورواتبهم العالية والحصول على وظائف في السلك الخارجي، بينما وصل عدد العاطلين من العمل إلى مستويات غير مسبوقة بين صفوف خرّيجي طلبة الجامعات الذين وصل عددهم إلى ١٥١,٨٠٢ للعام الدراسي ٢٠١٧–٢٠١٨ فقط. والأرقام تتزايد بمعدل تقريبي يصل إلى ٥٪ سنويًّا. البطالة أحد الهواجس الكبيرة التي تعتمل بصدورهم. وليس بغريب أنّ شرارة الانتفاضة الأولى انطلقت من الخريجين. المقارنة مع من كانوا زملاء في الدراسة ومن كانوا شركاء في المحلّة وفي فقرها ومن كانوا في الأعمار نفسها.

تعيد المقارنةُ تصوير التأريخ في ضوء الحاضر. الآباء يتباهون بأزمنة ذهبية عاشوها غير هذا الزمن. الملكيون ينشرون صورًا عن هيبة العائلة المالكة ونوادي النخبة ونظافة الساحات والشوارع، والجمهوريون ينشرون صورًا عن أناقة المتظاهرين وانتظام نسق التظاهرات وزهد الحكام العسكريين وجلسات العوائل في شارع أبي نواس، فيما ينشر البعثيون صورًا عن هيبة الجيش وقوة الدولة والرفاه الذي أعقب فورة النفط في السبعينيات. لا أحد من هذه الأجيال السابقة يعيش الزمن الحالي. كلٌّ يعيش زمنًا ذهبيًّا مضى. أما أبناء هذا الجيل فليس لهم زمنٌ يفخرون به. علي حسين عمره ٢٦ عامًا من سكان مدينة الثورة يقول: «نحن موتى أصلاً. حقوقك مسلوبة، شخصيتك مسلوبة، احترامك. أبسط شيء أن جوازك لا يعترف به أحد. إضافةً إلى الوضع الذي يمرّ به العراقي، والذي ترونه جميعًا، من فقر وبطالة وبنية تحتية منهارة بالكامل. هناك عوائل من أصدقائنا وأقاربنا لا يوجد لديهم أيّ مصدر للمعيشة. هذا الواقع دفعني للمشاركة في التظاهرات وأنتم ترون بأعينكم الملايين من الناس الذين خرجوا للاحتجاج، وجميعهم خرجوا بسبب الحيف والظلم» والواقع «كلها طلعت من ضيمها، وصلت الأمور ببعض الشباب إلى الانتحار».

المقارنة تخرج عنهم كأفراد إلى الوطن الرثّ الذي يعيشون فيه، مقارنة بدول الخليج التي تطورت بقفزات مع بلد يمتلك الثروات نفسها، وربما أنها تزايدت، مضافًا إليها تراث ثقافي وتأريخي أعمق، ومع ذلك يبدو رثًّا. خلقت هذه المقارنة الإحساس بما سمّاه د. فارس نظمي «الوطنية المجروحة».

مباراة كرة قدم

كنت في الساحة يوم ١٤/١١/٢٠١٩ محشورًا داخل الحشد حدّ الاختناق. أربع شاشات كبيرة نُصبت في الساحة لتزيد الحماس حماسًا. الجمهور في «ساحة التحرير» متحفّز، فهو معتصم في ساحة معركة وسيشاهد أربع شاشات كبيرة. معركة أخرى. على «المعركة» التي سيشاهدها من خلال عالم افتراضي سيبني تصورات النصر أو الهزيمة في معركته داخل الساحة. كثير من الرموز والمعاني تختفي وراء هذه اللعبة. صديقٌ كتب في الفيسبوك: لا تُحمّلوا اللعبة أكثر من معانيها! كيف؟ اللعبة ليست لعبة، فهي حمّالة معانٍ من خارجها وهي مشحونة برموز ووقائع عالقة بها وبمشاهديها الجالسين في الساحة. والأمر متعلق بطبيعة كرة القدم عمومًا وبطبيعة الفريقين وعلاقتهما، وأيضًا بتوقيت اللعبة.

من طبيعة كرة القدم أنها ترفع التفاخر بالوطنية إلى أعلى الدرجات. الأعلام تُرسم على الوجوه وترفرف على المشجعين في الساحة أو في المقاهي وعلى واجهات البيوت. الأناشيد التي تمجّد الذات تصدح عاليًا. المتظاهرون المشاهدون في «ساحة التحرير» لم يكتفوا بالأعلام، إنما شدّوا رؤوسهم بعصائب خضر بلون ملابس فريق أسود الرافدين. الشعور المتباهي بالذات الجماعية يتضخم في مواجهة الآخر الذي يصير خصمًا. ويتضخم أكثر حين تُعاد للحاضر العداوات التاريخية.

اللعبة بين بلدين هما إيران والعراق وبينهما حدود طولها ١٤٠٠ كلم. والجيرة لا تحمل علاقات الألفة وحدها، فالحرب وجه من وجوه العلاقة. مراقبة لعبة كرة القدم في «ساحة التحرير» تحمل ألفًا من المعاني والرموز. هذا الجمهور الهائل الذي تربّع في الساحة ليراقب حربًا ودّيةً بين دولتين خاضتا حربًا حقيقيةً لمدة ثماني سنوات، وكلّفت نصف مليون قتيل وجريح. هل من المعقول أنّ هذا الماضي مضى كليًّا، وهل تلاشت شحنات التعبئة والكراهية بين الجانبين؟

حقًّا إن الحشد المتربّع في الساحة بأعماره الشابة بين ١٥ و٢٥ عامًا لم يعش حربًا مضى عليها ثلاثون عامًا، لكن الآباء عاشوها قاتلين أو مقتولين. يقول التأريخ إن الأجيال لن تنسى ما حصل للآباء والأجداد. إيران كانت حاضرة في الساحة بصفتها خصمًا تاريخيًّا. ولكنها حاضرة أيضًا بصفتها خصمًا حاضرًا. السلطة لا تجرؤ على التشخيص فسمّتها «طرفًا ثالثًا»، تسميةٌ تحيل إلى الغموض، لكن الجمهور المتظاهر يعرف أن الطرف الثالث هو المليشيات الموالية لإيران، ويعرف أن القنابل التي تستهدف أجساد المتظاهرين إيرانية الصنع. لا يداهن هذا الجمهور ولا يخفي. لذلك تَردّد هتاف «إيران برّه برّه»! مع كل هدف عراقي في المرمى الإيراني. العقلاء أرادوا التفريق بين الشعب والسلطة وبين الفريق والحكومة. وبعد يوم واحد من المباراة ومع بداية الاحتجاج في إيران، ظهر بوستر يصوّر متظاهرين اثنين يقفان معًا، أحدهما يلبس العلم العراقي والآخر يلبس العلم الإيراني.

جيل التلفون النقال

مِثل صديقي الذي يكبرني بعامين، كانت ثقتي بهذا الجيل، تقارب الصفر وبالتحديد جيل الألفية الثالثة. أدهش حين أدخلُ «المتنبي» ويفاجئني شابّ بهذا العمر بأنه يعرفني وقد قرأ لي كتابًا. خلتُ أن الكتاب ينقرض هو وقرّاؤه. لذلك أقاطعه بالسؤال:
 كم عمرك؟
بالعمر يقاس قرّاء الكتاب أو قرّاء التلفون النقّال.كان صديقي متوترًا جدًّا حدّ الصراخ حين دخلتُ عليه ذات يوم:
سيخبّلني ابني قبل أن يتخبّل هو نفسه. من الصباح حتى الآن هو في غرفته موصدة الباب. أصيح فلا يجيب.حين صعدت وجدت الشاب (٢٥ عامًا) كما وصفه والده بين الكومبيوتر وتلفونه النقال. غاضبًا من غضب والده، قال لي بحزم:
والدي لا يفهم، ولا يريد أن يفهم. يظن أنني جالس في الغرفة وحدي. هاك انظر (فتح لي تلفونه النقال) أنا أتحدث مع خمسة وعشرين صديقًا في كل أنحاء العالم، نناقش قضايا لم يفكر بها والدي.في النهاية، أقنعني بأن هذه الجدران المصنوعة من إسمنت وحديد، التي تفصل الغرفة عن البيت، البيت عن الشارع، الشارع عن المدينة ــ الجدران التي تفصل البلاد عن العالم ــ مصنوعة من وهم. «أنا هنا في غرفتي في هذا البيت موصد الأبواب، في حيّ البلديات من هذه المدينة التي هي جزء من العالم». بحاسوبه الصغير يستطيع أن يخترق كل هذه الجدران ويتحدث مع صديق في الصين وآخر في النرويج، وطبعًا مع كثرة من أصدقاء هنا يشاركونه الغضب والشعور بأن هذا ليس وطنًا، بل قبوٌ للتعذيب.

مثله (ح. ن) من مواليد ١٩٩٥ في مدينة الصدر. سائق تاكسي لا يحتمل الصفحات الكثيرة للكتب ولا رائحة الورق. لكن من يقول إن الحكمة محصورة في الكتب وحدها؟ إنه يعيش في عالم مُدركٍ. يستجيب للعالم كما يراه ويفسّره. هذا المواطن الذي يحمل تلفونه النقال يشعر بأنه وطنيّ وعالميّ في الوقت نفسه. نحن الذين اعتقدنا أن المشاركة لن تَحدث إلا من خلال الأحزاب والنقابات أخطأنا في تقدير استجابة هذا الجيل الذي وُلد وبيده لعبة على شكل هاتف محمول. «مثل كل أصحابي سمعنا من خلال التواصل الاجتماعي بأن هناك تظاهرات ستنطلق في ٢٥ تشرين الأول/ أكتوبر، كنا ستة شباب أصدقاء من منطقة واحدة فقال أحدنا: غدًا تظاهرات، ألا نذهب؟ فوافقنا على اقتراحه وقررنا التوجّه إلى ساحة التحرير. بقينا كمجموعة، إلا أنّ أحدَنا سقط شهيدًا فقررنا البقاء، ومنذ ذلك الوقت ونحن معًا في ساحة الاحتجاج».

كيف يخرج الموشك على الانتحار من إحساسه الموجع بالضيْم؟ بمعرفته من خلال الاتصال أنّ هناك من يشاركه الشعور بالضيم وهو مثله وبعمره. ماذا ستضيف هذه المشاركة للفرد وللمجموع؟ هذا ما شغلني. أمشي بينهم وأغترب عنهم. عيوني تتجول بين حشد من مشاهد تتزاحم وتتقاطع، ثم أجلس منهكًا وأنا أفكر كيف يمكن تحويل هذه المشاهد إلى كلمات؟

حين شارك محمد، وبعد أسبوع من الصراع مع غربته، وجد مظلوميته الخاصة تتداخل مع مظلومية الجمع، وإن اختلفت سردياتهم، أي أنها أصبحت سياسية، فازدادت رغبته في الاحتجاج. المعرفة من خلال المقارنة، والتداخل مع مظلومية الآخرين، أضْفتا على التعاطف بعدًا جديدًا.

هندسة التظاهرة

التظاهرة حين تمرّ بها أو تسير على حافتها تدعوك إلى داخلها، لا يمكن أن يكون كل هؤلاء على خطأ. شخصيًّا، رأيت التظاهرة لأول مرة عام ١٩٥٢ وكان عمري آنذاك تسعة أعوام. كنت أعرف بأن اثنين من أخوالي بين هذا الحشد من الملثّمين الذين يسيرون بخطوات ثابتة نحو الخطر الذي يترصّدهم. في مدينة النجف التي حُرّمت فيها السينما، تجسّدت البطولةُ في ذهني بالسائرين في هذا الحشد. لم أكن أعرف أن قلوبهم تدقّ من الرهبة وهم يقطعون مسافة الأرض الحرام بينهم وبين قوات الشرطة. في عام ١٩٥٦ شاركت في التظاهرة وكنت بين الأصغر فيها. جرّني الحشد فنسيت خوفي ونفسي الخائفة، نسيت حتى تحذير والدي الديموقراطي:
حتى لو شاركت، لا تتهوّر وتذهب إلى المقدمة!شاركت بعد تعبئة طويلة الأمد قامت بها أحزاب مختلفة؛ شيوعيون، قوميون، وديموقراطيون هزّهم العدوان الثلاثي على مصر وموقف حكومتنا المتخاذلة منه. الرغبة في الإجماع والتعبئة حرّكت الأحزاب. أنا عبّأني أخوالي الشيوعيون. ونحن في طريقنا إلى مركز التجمّع في الصحن العلوي بعد صلاة المغرب، علّمني خالي فنّ الهتاف «قصير وواضح ومفهوم ثم تنتهي بالنداء»: يا… سيقولون: يعيش أو يسقط! كررها ثلاث مرات! علمني ورفعني على كتفه فهتفت وعمري آنذاك أقل من أربعة عشر عامًا. البطولة تجسّدت في هذا القلب الذي ينبض بقوة. نقاوم خوفنا ونحن نتجه إلى نقطة الصدام حيث المتاريس التي تقف خلفها «القوة السيارة» والأصابع على زناد البندقية استعدادًا لإطلاق النار. لحظات التوتر هذه علمتني كم من الإرادة يحتاج المتظاهر ليتقدم خطوة.

عندما كبرت تعلمت بأن الأحزاب هي التي تحرك التظاهرات. يبلّغنا كادرُها المحترف دواعي التظاهرة وموعدها ونقطة التجمع وموعد الانطلاق وماهي الهتافات وما إذا كانت التظاهرة سلمية أو صدامية. هندسة التظاهرة تتشكل وفق الضبط الحزبي، شبيهة بالطابور العسكري وفي المقدمة ممثل الحزب أو ممثلو الأحزاب حسب وزنها السياسي. الأحزاب تعلّم، وتضع الشعارات وتحدد المسار ويمشي قادتها في المقدمة وخلفهم الجمهور.

أولادنا خرقوا هذه التراتبية الحزبية لأنهم تعلموا من تجربتهم الشكَّ بنوايا الأحزاب الساعية إلى السلطة. صلاتهم لا تتجه إلى فوق، ولا تخضع للتراتبية الحزبية، بل تذهب أفقيًّا إلى زملاء المدرسة أو المحلة حيث يجري النقاش بالندّية المتساوية والحيرة المتداخلة، ثم يأتي القرار من الذات: نذهب، أم لا نذهب؟ مظالمهم مختلفة حدّ التنافر، بينهم من يريد حصة في ريع الدولة، بينما يعتبر آخرون الريعَ رشوةً من فوق لقبول عبودية السلطة.

 في الخامس والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩، كسر المتظاهرون الشكلَ التقليدي للتظاهرة، كسروه في العمر السائد وأسلوب الاتصال، كسروه في تعدد الأهداف، وفي مبدأ القيادة والانضباط، وكسروه في هـندسة التظاهرة. لم تكن التظاهرة تنفيذًا لقرار حزب واحد أو أحزاب، إنما حصيلة جدل بين شبّان لا يعرفون بعضهم، تحاوروا، كما كل حركات الربيع العربي، عبر وسائل التواصل الاجتماعي فتجاوزوا المسافة المادية بينهم وعبروا حواجز السلطة الأمنية. تجاوزوا الهياكل الهرمية الحزبية من القيادة إلى الأسفل للقاعدة الحزبية المنفّذة. تلقّوها كأفراد واتخذوا القرار كأفراد، لكنهم جاءوا إلى الساحة أبناء محلة أو أقارب، (سألوني: نخرج؟ أجبت: نعم. نخرج). بهذا الاختصار وصف محمد الحوار. ما من حاجة إلى ديباجة طويلة للإقناع ولا لتحليل الوضع. القرار موجود في دواخلهم يحتاج للشراكة. المناقشات حول السياسة داخل الشبكات تزيد من الفاعلية وتحوّل المظالم الفردية إلى مظالم مشتركة وغضب جماعي، والذي يترجم إلى مشاركة في الاحتجاج.

غيّرتْ مشاركتُهم في الاحتجاج إحساسَهم بالمظلومية إلى ما سمّاه فارس نظمي بـ«الوطنية المجروحة»، وتغيّر الشعارُ المركزي للمعتصمين من «نازل آخذ حقي»، وهو حق فرديّ وإن طرح في إطار جماعي، إلى «أريد وطن!»، وهو إقرار بأن هذا المكان الرثّ المفتوح للطامعين ليس وطنًا، تحكمه سلطة لا تحترم مواطنيها. تسرقهم بوقاحة وتفتح عليهم النار حين يطالبونها بحقهم. بدت لنا هاتان الكلمتان «نريد وطن» حين عُلّقتا في أعلى البرج الذي يتوسّط الساحة جِدَّ غامضتين. هناك مَن ردد العبارة استخفافًا بقائليها: وما الجحر الذي أنت فيه؟ آخر علّق «هناك وطن آخر للّجوء إذا لم تعجبك هذه الزريبة». كنا نحوم حول المعنى حين فسّره الباحث د. حيدر سعيد «نريد وطن» يعني «نريد دولة» دولة حقيقية نحترمها وتحترمنا.

حكومة الساحة

بالتدريج، طرح المعتصمون في «ساحة التحرير» أنفسهم كدولة مفترضة مقابل «دولة المنطقة الخضراء» وبينهما الجسر. تَحقق ذلك خلال الأسبوعين الأولين من الاعتصام: لجنة لتنظيم العمل داخل الخيمة الواحدة، لجان لضمان نظافة الساحة، مجموعات الدفاع التي تتْبع قنابل الغاز ثم تصطادها وتطفئها قبل الانفجار، جهاز صحّي كامل لمعالجة الجرحى ومستوصفات طبابة داخل خيام ميدانية، لجان أمنية داخل الساحة وعلى حدودها. العلَم الذي يحرص المسؤولون على وضعه خلفهم أمام المصورين انتزعه المعتصمون وصار أيقونتهم. يلوّحون به حيثما يتجوّلون، يأتزرون به، يعلّقونه على خيمهم، يصلّون عليه، ويلوّحون به أمام متاريس السلطة. هذا علَمنا!

مقابل ذلك، تبدو لحظات الصفاء مع النفس نادرةً عند ممثلي السلطة في الجانب الآخر من الجسر، هي لحظات النسيان. نسيان أصولهم وأفكارهم السابقة عن الذات، نسيان المصادفة التي حملتْهم دفعة واحدة من القاع إلى عروش السلطة، النسيان هو الذي يوفر لهم الشعور بأن اللحظة الآنية هي الوضع الطبيعي الذي أرادتْه لهم الآلهة تعويضًا عن عذابات الماضي. طبول الصراع توقظهم من هذا الوهم على حقيقة الصراع. إنكار الحقيقة التي تُغشي البصر هو وسيلة الدفاع الأولى أمام الصدمة. الإنكار الإعلامي الموجّه للآخرين هو امتداد لإنكار داخلي. بالمعنى النفسي لا يقبل الحاكمون الصدمة، ويعتبرونها إخلالاً بالتراتبية الطبيعية التي أرادها الله. هناك دائمًا حاكمون ورعايا! لذلك يعتبرون ما حدث جزءًا من تدخّل خارجي أو من فعل متآمرين. إعلام [رئيس الوزراء] عادل عبد المهدي أحال الاحتجاجات إلى رد فعل أميركي على الاتفاقية مع الصين. ونوري المالكي، قبلَه، أحالها لمندسّين غير واضحي المعالم. الإنكار هو دفاع عن مصالح يعتبرها الحاكمون حقوقًا طبيعية، على المحكومين أن يتقبلوها كأقدار إلهية. يعرف الحاكمون أن فرصتهم في الحكم فرصة طارئة أملاها احتلال خارجي وعزّزها داخليًّا استقطاب طائفي داخلي بحيث صار الخصم يجسد هوية كل طرف. لذلك يفاجأ الحاكمون بأن الجمهور الذي انتخبهم يتنكر لهم في لحظة مفاجئة.

الجدل في الساحة

في الساحة جدلٌ بلا توقف، جدل يصل إلى حدّ الصراخ، وجدل مع النفس. الجدل هنا ليس كلامًا وحسب، بل جدل أفقي ينضّجُ الغضبَ الجماعي ويحوّله إلى جدل سياسي يتعلق بالأفعال المقبلة من خلال الفضاء الإلكتروني والفضاء المفتوح:
هل نذهب للبرلمان لنقدّم مطالبنا؟
لن نذهب، ليأتوا هم إلى الساحة، هنا البرلمان الحقيقي!
سنمسح بهم الأرض.
لننتظر تنفيذ الوعود.
لن ننتظر، هم يريدون كسب الوقت ريثما يأتي الشتاء!الحشد الواقف على حافة الخطر يدرك أنه لن يستطيع أن يبقى متماسكًا، حتى ولو في الحدود الدنيا، إلا في إطار حوار ونقاش عمومي مُحفِّز عقلانيًّا. لا ينتظر المعتصمون قرارات أحزاب تناقشت قياداتها وتوصلت إلى قرارات ستبلّغ للقاعدة، ولا تنتظر رجل دين يستشير ربّه بعد الصلاة ثم يبلّغ مواليه كلمة ربه «توكلوا على الله»! تجري المناقشات داخل الخيم وفي الفضاء العمومي المفتوح. تسعى إلى تأسيس عقلانية مفتوحة منطلقها ما سماه يورغان هابرماز «الفعل التواصلي» بديلاً من الفعل الاستراتيجي، وعن كل نزعة متمركزة حول الذات.

أتذكر اليوم المرعب، ١٠ كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٩، ونحن في الساحة ننتظر وصول الحافلات من المحافظات. أيدينا على قلوبنا بانتظار مذبحة، قبل يومين شاع الخبر من خلال التواصل الاجتماعي بأن المتظاهرين في «ساحة التحرير» ووفودًا من المحافظات، بينهم عشائر مسلحة، سيزحفون لاجتياح المنطقة الخضراء وإسقاط الحكومة واعتقال القادة. صديقي المهندس الذي يقيم في المنطقة الخضراء اتصل بي خمس مرات ليخبرني بأن كلمة «الصَّبّات» تكررت اليوم كثيرًا كتعبير عن الرعب. فوجود الصبّات الإسمنتية هو المقياس الثابت للأمان. ستسقط، أم تصمد؟ لم يكن الخبر مجرّد شائعة، فقد كان له مؤيدون في الساحة خاصةً وقد أعلنت «مفوضية حقوق الإنسان» أن عدد القتلى تجاوز الأربعمائة والستين، والجرحى سبعة عشر ألفًا.

كنت في الخيمة أسمع جدالاً بالتلفونات النقالة بصوت يجرح الأذن. من الطرف الآخر متظاهر حادّ المزاج مع فكرة اختصار الزمن والتضحيات بهذا الحل الحاسم: الاجتياح. ومن جانبنا هذا المتعقّل المتصبّب عرقًا:
ستكون مذبحة! هذا ما يريدونه بالضبط. الحرب الأهلية. إنها المخرج الوحيد من أزمتهم.لم يكن هذا النقاش بين قائدين مقرِّرين، إنما بين مشاركَين اثنين في الاعتصام، أحدهما مسؤول إداري لخيمة واحدة. الجدال بالتلفونات الخلوية قرّب المسافات والآراء من الصراخ إلى الصمت بانتظار واحد من اثنين، العاطفة الجياشة أم العقل؟ في النهاية، بقيت المسافة الفارغة على جسر الجمهورية على حالها، فارغةً ترتعش من تصادم الاحتمالات، لكنها خالية. فقد حُسم الجدل لصالح العقل.

الطائفة والهوية

مرةً كنا نعبر البوسفور على ظهر سفينة بيضاء. النوارس تحلّق فوقنا في دوائر، تترقب غفلتنا لتنقضّ على الطعام في أيدينا. عيني متعلقة بالضفة الآسيوية حين سمعت من يناديني «أستاذ؟». التفتّ فوجدت معمّمًا خمسينيًّا أعرف أنه عضو في مجلس النواب وهو قيادي في حزب حاكم.
فتح النقاش:
قرأت مقالتك الأخيرة وأريد أن أبيّن لك أنك واهم باعتمادك على استقصاءات الرأي التي تقول إن شعبيتنا انخفضت بمقدار ٤٠٪.
إذن أنت لا تؤمن باستقصاءات الرأي؟
لا. هذه من خدع الحملات التي تسبق الانتخابات.
بمَ تؤمن إذن، ولمَ أنت واثق من صحة تقديراتك؟
المواكب الحسينية. تعال وشاهد بنفسك تدفّق الملايين.في الأعوام الأولى بعد ٢٠٠٣، كان هناك شعور بأن الهوية الطائفية هي التي تجمع الرعيّة مع ممثليها، ولدى الشيعة بالتحديد امتداد تاريخي يرجع إلى مظلومية الحسين. أحزاب الإسلام السياسي سوّقت نفسها بتأبيد المظلومية على أنها لا تمثل جمهورها سياسيًّا فقط، وإنما دينيًّا أيضًا. ويتجلى ذلك عمليًّا في التقارب الشكلي بين الممارسين والخاضعين خلال الزيارات الأربعينية. ينزع السياسيون الشيعة ملابسهم الإفرنجية ويرتدون ملابس «الزوار» الزاهدة. يغادرون جدران المنطقة الخضراء وينزلون مع رعاياهم سيرًا على الأقدام ويوزّعون الطعام بأيديهم على الزوار. يقدمون أنفسهم كممثلين دينيين وسياسيين للطائفة التي انتخبتهم.

خلال المسير وقبيل مرأى القباب الذهبية، يلتفتون إلى الخلف، ومن فوق أكتاف حماياتهم إلى الحشد الممتد خلفهم والسائر أمامهم إلى كربلاء فيبتسمون بخيلاء: هذا جمهورنا!

إصرار السلطة على نهج المحاصصة الإثنية والطائفية، كما يوضّح الباحث د. حارث الحسن، «أسهم في مأسسة وتطبيع الاختلافات الهوياتية لتصبح سياسية، لكنه عجز عن التعامل مع الانقسامات الأفقية الصاعدة على أسس اجتماعية اقتصادية، بالدرجة الأساس، بحيث تكرست الفجوة بين لغة النظام وآليّاته من جهة، والديناميات المجتمعية من جهة، فعطّلت قدرة النظام على الاستجابة الكفوءة للتحديات التي تفرضها تلك الديناميات». الاحتجاج بكل رموزه بدأ وتوسّع في مناطق الغالبية الشيعية وضد سلطة شيعية في الغالب. في بيروت وقريبًا من البحر، حضرتُ اجتماعًا ضمّ ناشطين عراقيين ولبنانيين. عندما حدد الشاعر فارس حرام الاحتجاجات في المناطق الشيعية — النجف كربلاء الناصرية، العمارة، البصرة — تنبّه ناشط لبناني إلى غرابة الواقعة:
هذا لم يحدث عندنا!الاحتجاجات تركزت إلى حد كبير في مناطق الغالبيات الشيعية الأكثر فقرًا. وعبّرت عن تمرّد على الاختزالات الطائفية وعن التوق لفضاء هوياتي مغاير بقيم مختلفة. لكنّ ثقافة الطائفة لم تكن غائبة عن أجواء الاحتجاج. كثيرٌ من تقاليد المواكب الحسينية انبثّت في فضاء الساحة. الخيام المنصوبة في العراء كأنها وُضعت لاستقبال زوار قطعوا مسافات طويلة. بعض الخيام تحمل أسماء المواكب الحسينية. قدور الطبخ الكبيرة المنتشرة في الساحة تقدم الطعام مجانًا وللثواب على الطريقة الحسينية. تمجيد الشهداء بحمل نعوشهم وتدويرها في الساحة وتشبيههم بالشهيد الحسين. إيقاع الهتافات يشبه إيقاع «الردّات» الحسينية. صور الحسين وأعلامه موجودة في الساحة مع صور غيفارا والأعلام العراقية. لكن كل هذه الرموز في النهاية موجّهة ضد حكم الطائفة. قصة الحسين هنا ليست حكاية عن المظلومية الأبدية التي يتذرّع بها الحاكمون، ليست حكاية للبكاء، إنما أَوّلَها المتظاهرون إلى حكاية ثورة على الظلم كما توضّح أكثر من لافتة في الساحة. هجوم القوات العسكرية والمليشيات على مواقع الاعتصام وحرق الخيام يشبه هجوم جيش يزيد على مخيم الحسين في كربلاء.

أعيد تأويل حكايات الماضي بمعنيين مختلفين لتفسير الحاضر: مرويّة السلطة حول المظلومية الأبدية التي توحّد الطائفة بحكامها ومحكوميها، مقابل مرويّة المتظاهرين التي تعكس الظلم في تغيّره، فالظلم عابر للطوائف كما يرينا الواقع الحالي، ولذلك توجهت ثورتهم ضد حكم الطائفة التي لم تعد تمثلهم لا دينيًّا، ولا سياسيًّا. الظلم الشخصي هنا، حقيقيًّا كان أو متخيلاً، يلعب دورًا في تأجيج الغضب. والأعداد الكبيرة تضفي شرعية على الاحتجاج في مقابل شرعية السلطة التي اكتسبت شرعيتها من خلال انتخابات مطعون بشرعيتها. تشير تقارير السلطة نفسها إلى أن نسبة المشاركة في آخر انتخابات تراوحت بين ٤٠ و٤٥٪ من الناخبين، في حين يقلل المقاطعون النسبة إلى ٢٠٪.

في الساحة، ومن خلال الجمع، أعاد الفرد المحتجّ تعريف هويته فأصبحت الهوية الاجتماعية أكثر بروزًا من الهوية الشخصية. وبدلاً من تحديد هويته بما يجعله مختلفًا عن الآخرين؛ السني مقابل الشيعي، المسلم مقابل المسيحي، المتدين مقابل الملحد، العربي مقابل الكردي؛ صار يعرّفها بما يجعلها متطابقة مع الآخرين الذين يشاركونه الهدف والمصير في مواجهة الآخر، وتحوّلت «الأنا» إلى «نحن»، وترافق التماهي مع الآخرين بوعي بالتشابه والمصير المشترك مع أولئك الذين ينتمون إلى الفئة نفسها. وعندما يتغير تعريف الذات من الشخصية إلى الهوية الاجتماعية، يصبح معيار المجموعة للمشاركة بارزًا، وكلما زاد تعريف الفرد بالمجموعة، زاد الوزن الذي ستحمله معايير المجموعة وزاد الأمر «التزامًا داخليًّا بالمشاركة نيابةً عن المجموعة» كنقطة انطلاق «للهوية المسيّسة». وتصف المتظاهرة والمسعفة سارة، وهي صيدلانية من مواليد ١٩٩٥، خلال حديثي إليها في «ساحة التحرير»، هذا الشعور المشترك بالهوية: «أصبح بيني وبين هذا المكان (ساحة التحرير) ارتباط قوي مصدره ما رأيته ولمسْته من تعاون وألفة وتكاتف بين أشخاص لا يعرف بعضهم بعضًا، ولا تربط بينهم أي صلة اجتماعية، ومع ذلك هم متكاتفون، واحدهم يتمنى للثاني الخير ويحميه ويحافظ عليه». فيما نقل لي الدكتور أحمد الغراوي، وهو طبيب من بغداد في الثلاثين من العمر: هناك تلاحم وتكاتف يتجاوزان الاختلافات الطائفية والدينية فبيننا المسيحي والسني والكردي والشيعي، وأهم ما حقّقناه في تظاهراتنا هو القضاء على الطائفية، وهذا أكثر ما سيغضب الحكومة والطبقة السياسية التي استطاعت أن تقبض على زمام الحكم من خلال اعتمادها على تطييف المجتمع وانقسامه.

كثرة اجتماعات الحكومة والبرلمان، الاستعجال في تمرير قرارات كانت نائمة على الرفوف، كثرة الانشقاقات داخل الكتل الحاكمة، الارتباك بين الوعود وإمكانية التحقق، المزايدات وتملق بعض المتظاهرين، استقالة رئيس الوزراء المعيّن عادل عبد المهدي، تقديم موعد الانتخابات المقبلة، تغيير قانون الانتخابات، الأحزاب والقوى الموالية لإيران وصعود مرشحي التشرينيين — كل ذلك ناتجٌ عرضي للأزمة التي خلقها وجود المتظاهرين العنيد في الساحة، هذا الوجود الذي يجمع كثرةَ العدد وإجماعَ الإرادات، أشعرهم بأنهم مواطنون وليسوا رعايا، مساهمون في صناعة تاريخهم وتاريخ البلد. ٩٧٪ منهم يرون أن مشاركتهم جعلتهم أكثر افتخارًا بأنهم عراقيون، حسب استطلاع أجرته مؤسسة «الرواق».

 

 

العدد ٣٤ - ٢٠٢٢
الحدث والإرادات والهوية

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.