العدد ٣٤ - ٢٠٢٢

تشرين في تشيلي

قصة انتفاضة عرفتْ كيف تنتصر

ما حصل في تشيلي خلال شهر، من ١٨ تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩ إلى ١٦ تشرين الثاني/ نوفمبر، والذي عرف بـ«الانفجار الاجتماعي»، وما تلاه وأدّى إلى انتخاب مجلس تأسيسي وإلى وصول «الشاب» غبريال بوريتش ومعه جيل ثلاثيني إلى سدّة الرئاسة وإلى المراكز الأساسية في الحكومة، هو قصة انتصار انتفاضة نضالية يجب سردها. وليس الغرض من السرد أن يشعر «الحراك» اللبناني أو العراقي بالذنب أو بالإحباط، بل لأن الانتفاضة مسرب يعيدنا إلى الرئيس سالفادور ألليندي وإلى كل حقبة ما بعد خروج الجنرال بينوشيه من الرئاسة، وقد دامت حوالي ٣٥ عامًا، من جهة، ويصلنا بصفحة جديدة تدشن كتابتها بدءًا من آذار/ مارس ٢٠٢٢ (تاريخ تسلّم بوريتش منصبه الرئاسي)، من جهة أخرى.

شهر من النضالات والقمع

٦ تشرين الأول/ أكتوبر: بدأت القصة بقرار بسيط قضى برفع تعرفة نظام النقل العام في منطقة سانتياغو، عاصمة تشيلي. لم تكن الزيادة كبيرة بحد ذاتها، ولم يُعرها أحد أهمية خاصة. بعد أيام على رفع التعرفة، كان الرئيس اليميني سيبستيان بينييرا يصف البلد في برنامج إذاعي على أنه «واحة من الاستقرار» ويقارنه متهكمًا بدول أخرى في المنطقة.

اتفق مئات الطلاب الثانويين على التهرب من الدفع في محطات المترو. ومع مرور الأيام، ازداد عدد المتهربين من غير الثانويين ما أدى إلى مشاكل داخل المحطات عرفت ذروتها نهار الجمعة ٨ تشرين الأول/ أكتوبر عندما وقعت صدامات مع قوات الشرطة أدّت إلى توقف عمل الشبكة. حرّك وزير الداخلية قانون أمن الدولة لقمع التجاوزات فصبّ قراره الزيتَ على النار. تضاعفت الصدامات والحرائق في مختلف أنحاء المدينة. فجر اليوم التالي، أعلن بينييرا حالة الطوارئ في العاصمة ومنع التجول في الليل، فانتقلت التظاهرات إلى كبريات المدن الأخرى. في خطاب للأمّة ليل السبت ١٩ تشرين الأول/ أكتوبر، أعلن الرئيس مشروع قانون لتجميد زيادة التعرفة وأقرّه مجلسا النواب والشيوخ. ولكن لم تعُد المشكلة محصورة بالتعرفة، إذ انتشرت الحرائق وتزايدت عمليات نهب المحلات التجارية، وتحول يوم الأحد ٢٠ تشرين الأول/ أكتوبر إلى يوم أسود وُجدت خلاله جثث خمسة قاصرين في محلّ محروق، فيما سقط ثلاثة متظاهرين برصاص الجيش.

أطلّ الرئيس مجددًا ليعلن «الحرب على عدوّ يخوض حربًا ضد كل التشيليين الذين يريدون العيش بحرّية وسلام» وإنزال ٩٥٠٠ جندي إلى الشارع للمساعدة على حفظ الأمن. لم يلقَ الخطاب الجديد استحسانًا حتى من قائد الجيش الذي علّق قائلاً «لستُ في حرب مع أحد». أما المعارضة فأعلنت أنها «ليست حربًا، إنها غضب اجتماعي». كردّ فعل على خطاب الرئيس الأمني، دخلت الطبقات الوسطى في الحراك وكبُر حجم التظاهرات وارتفع عدد المشاركين في الندوات التي صارت تنظّم في نهايتها. أطل بينييرا للمرة الثالثة، ليل ٢٢ من الشهر نفسه، واعترف بأنه أخطأ وتحدّث عن «روزنامة اجتماعية جديدة» تتضمن رفع الحدّ الأدنى للأجور، وزيادة المعاشات التقاعدية، ودعم الأدوية لتخفيض سعرها، وتأجيل الزيادات على أسعار المحروقات. بعد إعلانات الرئيس، انضمت إلى الحراك قطاعات جديدة، منها قطاع سائقي الشاحنات والسيارات العمومية الذين أخذوا يقطعون الأوتوسترادات مطالبين بتخفيض تعريفات المرور عليها. يوم ٢٣ تشرين الأول/ أكتوبر كانت حالة الطوارئ قد شملت ١٥ عاصمة مناطقية من أصل ١٦.

بدأ الأسبوع الثاني للانتفاضة بتظاهرات في المدن كافة وأكبرها في العاصمة سانتياغو شارك فيها مليونان ومئتا ألف متظاهر، في ما اعتُبر أكبر تظاهرة في تاريخ تشيلي. أمام ضخامة الحشد، حاول الموالون تصويرها على أنها «تعبير شعبي صادق غير موجه ضد أحد» مع أن أجزاء كبيرة من التظاهرة كانت تطالب باستقالة الرئيس. بعد ذلك المشهد، لم يبقَ أمام الحكومة سوى رفع حالة الطوارئ وتقديم استقالتها ليؤلّف الرئيس حكومة جديدة. ومع انسحاب الجيش من الشوارع، صارت التجمعات تقليدًا يوميًّا ينتهي باشتباكات بين متظاهرين راديكاليين وقوّات الشرطة. ليلة ٢٨ تشرين الأول/ أكتوبر، عاد العنف ومعه الحرائق وعمليات النهب والتكسير. نسَبته الحكومة إلى عنفيين متسللين بين المتظاهرين، فيما رأى فيه هؤلاء مؤامرة تنفّذها الحكومة بواسطة اليمين المتطرف.

مطلب أوحد: مجلس تأسيسي

في نهاية الأسبوع الثاني، هدأ التوتر. مطلع الأسبوع التالي، كان يوم نضال حاشد سُمّي «الاثنين العظيم» دعت إليه أحزاب اليسار ونقابات التعليم والاتحاد العمالي العامّ ونقابة سائقي الشاحنات واتحاد المتقاعدين. طالب هؤلاء المجلسَين بعدم إقرار ما سمّاه بينييرا «الروزنامة الاجتماعية الجديدة» لأنها لا تلبّي المطالب الشعبية، وهددوا باللجوء إلى الإضراب العامّ. لكنّ ذلك اليوم غرق في أعمال العنف. هرب آلاف طلّاب الثانوي من المدارس للالتحاق بالتظاهرات. دخل شرطيون بسلاحهم إلى حرم الجامعات وأطلقوا النار داخل الثانويات. سقط ثلاثة متظاهرين جدد وأدّت مشاهد إطلاق النار في المدارس الثانوية إلى إعادة إضرام النار في الانتفاضة الاجتماعية التي دخلت عندئذ أحياء الأغنياء. وقعت صدامات داخل أكبر «مول» استهلاكي في أميركا اللاتينية. وخلال الليل، تم تكسير مقرّات الأحزاب اليمينية. وفي ٧ تشرين الثاني/ نوفمبر، دعا بينييرا مجلسَ الأمن الوطني إلى الانعقاد (لم يُدع من قَبل إلا لمناقشة الخلاف الحدودي مع بيرو)، كما أرسل سلسلة من القوانين لتشديد العقوبات على من يخرّب الممتلكات العامة والخاصة. وفي اليوم نفسه، صدر عن اتحاد البلديات بيان وقّع عليه ٣٣٠ من أصل ٣٤٥ بلدية، تنتمي إلى كلّ الأطياف السياسية، دعا إلى تنظيم استفتاء خلال مهلة شهر لإقرار دستور جديد. في الثامن من الشهر نفسه، خرجت تظاهرة كبيرة في العاصمة خلّفت عشرات الجرحى وفقد خلالها أحدُ الطلاب بصره. ولم تتردد الشرطة في قمع المتظاهرين الذين تجمّعوا على أبواب المستشفيات.

بعد تحرك البلديات، اضطر بينييرا إلى تحديد موقفه من مسألة الدستور، فأعلن وزير الداخلية في ١٠ تشرين الثاني/ نوفمبر أنه سيكلف مجلسَي النواب والشيوخ صياغة مشروع دستور جديد يليه استفتاء للتصويت عليه. وفي ١٢ من الشهر نفسه، رفض ١٤ حزبًا معارضًا اقتراح الوزير وطالبوا بمجلس تأسيسي منتخب، فيما أضرمت النيران في مبانٍ رسمية وكنائس تاريخية وإحدى الثكنات العسكرية. أطلّ بينييرا مجددًا في الليل، وأعلن موافقته على دستور جديد «شرط أن تُجرى العملية ضمن الشرعية الديموقراطية». وبعد يومين، بدأت مفاوضات سياسية بين الأحزاب الموالية والمعارضة، وأسفرت عن توقيع «اتفاق السلم الاجتماعي والدستور الجديد» في القصر الجمهوري ينصّ على تنظيم استفتاء لمعرفة رأي المواطنين في دستور جديد، وفي حال الموافقة، ما هو خيارهم: أن يتولى صياغته مجلسٌ تأسيسي منتخب بالكامل؟ أم مجلس يُنتخب نصف أعضائه على أن يتشكل النصف الثاني من النواب؟ وتضمّن اتفاق الأحزاب أيضًا أن ينجز المجلس التأسيسي أعماله خلال سنة وأن تقرّ موادّه بأكثرية الثلثين قبل إعادة عرض المسوّدة على استفتاء جديد لتصديقها.

أسفرت «انتفاضة ١٨ تشرين» عن ٣٢ قتيلاً وكلّفت خسائر بلغت عدة مليارات من الدولارات. لكنها، وخلال أقل من أربعة أسابيع وبغياب قيادات معترف بها وبمشاركة شرائح مجتمعية عديدة، من الطبقات المعدمة وصولاً إلى الطبقة الوسطى العليا، نجحت في أن تطوي صفحة إرث بينوشيه الدستوري.

bid34_min_bab_awla_achkar_bw1.jpeg


خلال قمع تظاهرة في سانتياغو – تشيلي، ٢٠١٩/١١/٨

 

استفتاء شعبي لدستور جديد

من أجل التحضير للاستفتاء، تأسست لجنة مؤلفة بالتساوي من أحزاب المعارضة والموالاة، وهنا تقرر مبدأ المساواة بين الرجال والنساء في الجمعية التأسيسية وكذلك مسألة تمثيل الشعوب الأصلية وإعطائهم ١٧ مقعدًا من أصل ١٥٥، منها سبعة مقاعد لشعب «المابوش» الأكثر عددًا بينها. مع بداية عام ٢٠٢٠، بردت التظاهرات ولم تستعِد بعضًا من سخونتها إلا بعد مقتل أحد مشجعي فريق «كولو كولو» برصاص الشرطة إثر مباراة كرة قدم مع نادي «بليستينو» (فلسطين). وصارت الاشتباكات مع الشرطة تتجدد بعد المباريات منذرةً بأن النيران ما زالت مشتعلة تحت الرماد. بدءًا من آذار/ مارس، تناقص عدد التظاهرات بسبب الجائحة إلى أن توقفت. وللسبب نفسه، تأجل موعد الاستفتاء مرات عدة حتى جاء «١٨ تشرين» الجديد. لمناسبة مرور عام على الانتفاضة، سارت تظاهرة في العاصمة ضمّت ٢٥ ألف مشارك، وكالعادة، انتهت بمواجهات مع الشرطة واعتقال المئات. ولكن على عكس العادة، نُظّم الاستفتاء في الأسبوع التالي، وشارك فيه ٥١٪ من الناخبين الذين طُرح عليهم سؤالان: الأول حول الموافقة على صياغة دستور جديد، فنال ٧٨،٣٪ من الأصوات المؤيدة، والثاني حول كيفية تشكيل المجلس التأسيسي، فاختار ٧٩٪ من المقترعين انتخابه بكامل أعضائه.

قبل الخوض في نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، فلنتوقف عند الأهمية التي أخذتْها مسألة الدستور وعلى أسبابها. عام ١٩٨٠، عرض النظام العسكري دستورًا جديدًا على الاستفتاء وأقرّه بـ٦٧٪ من الأصوات، مع أن هناك شكوكًا حول ظروف هذا الاستحقاق وشرعيته. منذ إقراره — والأصحّ منذ فرضه قسرًا — ارتفعت أصوات تطالب بدستور ديموقراطي. بعد خروج بينوشيه من الرئاسة، وخلال الانتخابات المتتالية التي أوصلت رؤساء ينتمون إلى المعارضة، أخذ الدستور طابع الأمر الواقع المقبول أو المسلّم به. اعترفت به تدريجيًّا كلُّ أحزاب المعارضة، باستثناء بعض أحزاب اليسار، ومنها الحزب الشيوعي، التي استمرّت برفضه من حيث المبدأ مع أنها كانت تتكيّف معه عمليًّا. أدخلت على الدستور بداية تعديلات كان لا بدّ منها بعد خروج بينوشيه من الرئاسة، كتخفيض مدة الولاية، ثمّ عُدّل عدد من المواد اللاديموقراطية خصوصًا خلال ولاية الرئيس الاشتراكي لاغوس عام ٢٠٠٦. في الحراك الطلابي عام ٢٠١١، والذي دام أشهرًا عدة، برزت المطالبة بدمقرطة التعليم (رفضًا لتحويل العلم إلى سلعة). واعتُبِر الحراك يومها أول نضال مجتمعي يعيد النظر بوراثة بينوشيه، ويثير مسألة إعاقة الدستور لسياسات عامة بنيوية وعميقة. ففي عام ٢٠١٣، أطلقت حملة Marca AC («مجلس تأسيسي ماركة مسجّلة») تطالب بمجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد كمطلب أوحد. وكان من بين المبادرين مع آخرين بهذه الحملة التي استمرّت إلى ما بعد انتخاب المجلس التأسيسي عام ٢٠٢١، الرئيسُ المنتخب مؤخرًا غبريال بوريتش بصفته رئيسًا لـ«اتحاد طلبة تشيلي» آنذاك.

دستور النيوليبرالية

عند وصول الرئيسة ميشيل باشليه للمرة الثانية إلى كرسي الرئاسة، أطلَقت ورشةً «تأسيسية» نتجت منها آلية قدّمتها إلى البلد في آخر أيام ولايتها، إلا أن بينييرا عطّلها فور تسلّمه الرئاسة مفضّلاً تكليف مجلسَي النواب والشيوخ بتعديل الدستور وتحسينه. ما لم يلتفت إليه بينييرا أنّ الموضوع لا يقتصر على التحسين لأنّ دستور ١٩٨٠ جرى تطعيمه بما سمّي إيديولوجيا الـ«شيكاغو بويز»، وهم اقتصاديون تشيليون تتلمذوا منذ أواسط الخمسينيات على يد ميلتون فريدمان (وفريق من أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاغو الأميركية) وحوّلوا تشيلي إلى أول حقل اختبار للأفكار النيوليبرالية. أمسك هؤلاء الخبراء بالمراكز الاقتصادية العليا وأجروا «صدمات اقتصادية» مستفيدين من منع النقابات، من أجل تأسيس ما سمّي «اقتصاد السوق الحر». خفّضوا الإنفاق العام، وقلّصوا العرض النقدي، وخصخصوا المؤسسات العامة بما فيها القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. أدّت هذه السياسات إلى نمو اقتصادي ملحوظ (وصفه فريدمان بـ«المعجزة الاقتصادية») على حساب الوضع الاجتماعي إذ تفاقمت البطالة وزادت معدلات الفقر. ونصل هنا إلى بيت القصيد، إذ سرّب هؤلاء الخبراء في كل مواد الدستور فكرة تقول إن كل ما تستطيع أن تقوم به المبادرة الخاصة لا ينبغي أن تقوم به الدولة. ومع الوقت، ترسّخ لدى المواطنين وعيٌ بأن دستور ١٩٨٠ يعيق قيام سياسات عامة مجدية وجريئة في مجالات مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وأنه لا بدّ من دستور جديد لتحسين الأوضاع الاجتماعية ولوضع حد للإقصاء الاقتصادي والاجتماعي وللحصول على حقوق جديدة، بيئية أو نسوية، ولتغيير قوانين اللعبة بالجملة.

أجريت انتخابات المجلس التأسيسي يومَي ١٥ و١٦ أيار/ مايو من عام ٢٠٢٠، وارتفعت المشاركة إلى ٤١،٥٪ من الناخبين. وأول ما يلفت الانتباه في بلد مثل تشيلي أنّ المرشحين المستقلين من خارج الأحزاب شكلوا أكثر من ٦٠٪ من مجمل المرشحين. وقد دخل المجلسَ التأسيسي، نتيجة قانون المناصفة بين الرجال والنساء، ٧٨ رجلاً و٧٧ امرأة. ومن الطريف تسجيل أن القانون المذكور استفاد منه الرجال، إذ أُجبرت ١١ امرأة فائزة على ترك مقاعدهنّ لرجال فيما ترك خمسة رجال فائزين مقاعدهم لنساء فقط (اللواتي شغلن ٢٥٪ من المقاعد في مجلس النواب). وضمَن قانون المجلس التأسيسي لمندوبي الشعوب الأصلية ١١٪ من مجمل المقاعد الـ١٥٥ (فيما هم يمثّلون ٢٪ من مجلس النواب). وقد اختيرت محامية من مندوبي الشعوب الأصلية لتكون أول رئيسة للمجلس التأسيسي. وفي تحليل النتائج، يمكن القول إن العملية الانتخابية رجّحت كفة من يريد تغييرًا عميقًا في الدستور: لم ينجح ائتلاف اليمين في الحصول على ثلث المقاعد مع أنه ترشّح على لائحة موحدة مع اليمين المتطرف (٣٧ مقعدًا)، فيما حصد ائتلاف اليسار الراديكالي ٢٨ مقعدًا واليسار المعتدل ٢٥ مقعدًا. وكانت الحصة الكبرى للمرشحين المستقلين الموزعين على مجموعات عديدة (٤٩ مقعدًا) يمثلون في أكثريتهم الحركات الاجتماعية والمناطقية. من المبكر الحسم في مضمون الدستور الجديد الذي كتبه الناس هذه المرة والذي سيجْهز في تموز/ يوليو، ولكن لن نخاطر بالكثير إذا توقّعنا أنه — على عكس دستور بينوشيه — سيعترف بحقوق الشعوب الأصيلة ويؤسس لدولة الرعاية الاجتماعية.

انتخابات رئاسية

ما حدث في رئاسيات عام ٢٠٢١ هو خاتمة لسبع دورات انتخابية رئاسية متتالية بدأت بمفاجأة، ففي العام ١٩٨٨، سئل التشيليون إذا كانوا يريدون بقاء بينوشيه على كرسي الرئاسة لثماني سنوات إضافية، وكانت المفاجأة التي لم يتوقّعها بينوشيه ولا حتى خصومه، أنّ الشعب رفض له هذا «الحق» بنسبة ٥٦٪.

بات من الضروري انتخاب رئيس جديد. وهكذا تحوّل «اللقاء التشاوري للأحزاب من أجل الديموقراطية» المعارض لبقاء بينوشيه في الحكم، إلى ائتلاف سياسي قوامه «الحزب الديموقراطي المسيحي» و«الحزب الاشتراكي» وأحزاب أخرى. فاز مرشحو «اللقاء التشاوري» بأول أربعة انتخابات رئاسية: باتريسيو ألوين وإدواردو فري عن «الحزب الديموقراطي المسيحي»، ثم ريكاردو لاغوس وميشيل باشليه (أول امراة تنتخب لرئاسة الجمهورية في تاريخ تشيلي) عن «الحزب الاشتراكي». وانتظمت الحياة السياسية حول ائتلافين أساسيين: «اللقاء التشاوري» وهو ائتلاف الوسط واليسار، و«إلى الأمام تشيلي» المؤلف من حزبين يمينيين وفّرا الدعامة المدنية للديكتاتورية العسكرية. وكانت أول مرة ينجح فيها مرشح الائتلاف اليميني، سيبستيان بينييرا، في عام ٢٠١٠ بعد خروج باشليه من الحكم. ثم عادت باشليه إلى الرئاسة عام ٢٠١٤، تلاها بينييرا مجددًا عام ٢٠١٨.

الجديد في انتخابات ٢٠٢١ أنّ نظام الائتلافين اللذين تناوبا على السلطة ترهّل وانتهى. لقد دلّ ما حدث خلال العقد الأخير على أنّ المشاكل تتراكم من دون أن تتقدم الحلول، وترسّخت القناعة بأن القيد الذي يكبّل المجتمع دستوريًّا ونظامًا فقد وظيفته. فعلى سبيل المثال، كان «الحزب الشيوعي» وحلفاؤه اليساريون والبيئيون يؤيّدون دائمًا مرشح «اللقاء التشاوري»، إما في الدورة الأولى أو الثانية عندما يكون لديهم مرشح آخر. وشارك «الشيوعي» مع أحزاب «اللقاء التشاوري» في الأكثرية التي رشّحت باشليه عام ٢٠١٤، وشارك في الحكومة. عام ٢٠١٧، تأسس ائتلاف يساري جديد حمل اسم «الجبهة العريضة»، وهو مؤلف من أحزاب معارِضة لـ«نظام الائتلافين» ومن أحزاب جديدة وليدة الحراك الطلابي. وفي انتخابات ٢٠١٨ الرئاسية، رشّحت «الجبهة العريضة» صحافيةً لموقع الرئاسة فنالت أكثر من ٢٠٪ من الأصوات، الأمر الذي سمح بتشكيل كتلة برلمانية وازنة. وتبلور «الخيار الثالث» كقوة فاعلة، وصار الشيوعيون و«اليسار الجديد» يعملان معًا في الحراك الطلابي، في معارضة بينييرا وفي «الانفجار الاجتماعي». واقتربت «الجبهة العريضة» من «تشيلي الكرامة» (الإطار الذي ينشط «الحزب الشيوعي» من خلاله) واتفقتا على ترشيح لائحة موحدة حملت اسم «أؤيد الكرامة» لانتخابات المجلس التأسيسي، وتقدمت الكتلتان لأول مرة على مرشحي «اللقاء التشاوري». وصارت «أؤيد الكرامة» ائتلافًا سياسيًّا رشّح غبريال بوريتش للانتخابات الرئاسية.

في الانتخابات الرئاسية، تنافس بوريتش مع مرشحَي الائتلافين التقليديين ومع خوزي أنطونيو كاست، المرشح عن ائتلاف «الجبهة الاجتماعية المسيحية» (اليمين المتطرف) الذي حاول أن يكرر تجربة دونالد ترامب الأميركية أو جايير بولسونارو البرازيلية واعدًا بإعادة الأمن إلى تشيلي، كما تنافس مع ثلاثة مرشحين صغار من اليمين واليسار. وللمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية منذ عام ١٩٨٨، لم يصل أيّ من مرشحي الائتلافات الكبيرة إلى الدورة الثانية. حلّ المتطرف كاست أوّلَ بـ٢٧،٩٪، وبوريتش ثانيًا بـ٢٥،٨٪، وتأهّلا إلى الدورة الثانية. وحلّ مرشح «إلى الأمام، تشيلي» رابعًا بأقل من ١٣٪ من الأصوات، وحلّت مرشحة «اللقاء التشاوري» في المرتبة الخامسة بأقل من ١٢٪ من الأصوات.

شكلت نتائج الدورة الأولى صدمة كبيرة للائتلافين التقليديين معلنةً نهاية حقبة إمساكهما بمجمل المشهد السياسي. لكنّ الصدمة طاولت أيضًا كل الديموقراطيين بسبب تقدم كاست الذي لم يكن بارزًا في استطلاعات الرأي والذي استثمر مواقفه العنصرية ضد اللاجئين الفنزويليين. أما بوريتش فبالرغم من تأهّله، جاءت النتائج محبطة له إلى حدّ ما لأنه كان يتصدر كل استطلاعات الرأي ولأن التاريخ الحديث يعلّم أن من يتصدر الدورة الأولى يفوز دائمًا في الدورة الثانية. وتحسبًا للأخيرة، توجّه المرشحان المؤهلان إلى الوسط وليّنا مواقفهما، فيما اصطفّت الأحزاب حسب ميولها السياسية وائتلافاتها. أيّدت كل أحزاب اليمين واليمين الوسط المرشّحَ كاست، فيما أيّدت كل أحزاب اليسار ويسار الوسط بوريتش. وانفرد «الحزب الديموقراطي المسيحي» بين أحزاب اليمين واليمين الوسط بتأييد بوريتش وانتقل إلى «المعارضة البنّاءة» معلنًا انتهاء «اللقاء التشاوري» بعد تجربة دامت أكثر من ثلاثة عقود. في الدورة الأولى، كان مجموع أصوات اليمين يفوق أوساط اليسار بحوالي خمسمائة ألف صوت. لكن ارتفعت المشاركة بين الجولتين بمليون ناخب، ويبدو أن الأكثرية الساحقة منحت أصواتها إلى بوريتش الذي نال في الجولة الثانية ٥٦،٨٪ من الأصوات متخطيًا كاست بحوالي تسعمائة ألف صوت.

بقيت مهمة تشكيل الحكومة: بعد انتقال «الحزب الديموقراطي المسيحي» إلى المعارضة، تَشكل ائتلاف جديد باسم «الاشتراكية الديموقراطية» مؤلفًا من أربعة أحزاب من اليسار واليسار الوسط أبرزها «الحزب الاشتراكي» وانضمت إلى الأكثرية الجديدة. وتألفت الحكومة من ٢٤ وزيرًا، بينهم ١٤ امرأة. نالت «أؤيد الكرامة» نصف الحقائب وتوزع باقي الحقائب على الكتلة «الاشتراكية الديموقراطية» و«الحزب الاشتراكي» والمستقلّين. وتولت حفيدة ألليندي وزارة الدفاع وعيّنت قيادية في «الحزب الشيوعي» ناطقة باسم الحكومة.

يسار متجدد

ملاحظات ختامية:

أولاً، مع انتقال «الديموقراطي المسيحي» إلى المعارضة خسر بوريتش التعادل مع مقاعد اليمين في مجلسَي النواب والشيوخ، لكنه كسب تجانسًا أكبر في أكثريته.

ثانيًا، كان تعيين حاكم المصرف المركزي (الذي خدم في ولايتي باشليه وبينييرا) وزيرًا للمالية محاولةً لكسب ثقة الأسواق والنخب المالية لئلا تخرّب كل إمكانية للتغيير، بعدما صرّح بوريتش خلال الجولة الأولى بأن «مشروعه هو تحويل تشيلي من مختبر النيوليبرالية إلى مقبرتها».

ثالثًا، تتألف النواة الصلبة في الحكومة من «الثلاثي» الذي أحاط بالرئيس المنتخب خلال الحملة الانتخابية ويحيط به الآن في الحكم. وهي تضمّ الأمين العامّ لرئاسة الجمهورية جورجيو جاكسون، مهندس «الجبهة العريضة» ومؤسس حزب «الثورة الديموقراطية»، والأمينة العامة لمجلس الوزراء كاميلا فاياخو، القائدة الطلابية والنائبة الشيوعية، ووزيرة الداخلية إيزكيا سيشيس، نقيبة الأطباء السابقة وقائدة طلابية شيوعية سابقة. يجمع بين هؤلاء — ومعهم الرئيس بوريتش — أن أعمارهم تتراوح بين ٣٤ و٣٦ عامًا، وقد تعرّف بعضهم إلى بعض في الحراك الطلابي عام ٢٠١١، وانتُخبوا نوابًا خلال دورتين متتاليتين ولم يتوقفوا يومًا عن التنسيق فيما بينهم حتى عندما كانوا في أحزاب وائتلافات متمايزة.

إنهم «جيل» يساري متجدد. إنهم وجوه «الخيار الثالث» الذي أصبح الخيار الأول. إنهم تجربة اشتراكية حضَنها باكرًا بطريرك اليسار في أميركا اللاتينية، رئيس أوروغواي السابق بيبي موخيكا الذي يقول عنها بأنها ستأتي بـ«رياح نقية» ليسار أميركا اللاتينية.

 


غبريال بوريتش، الراديكالي المرن

ولد غبريال بوريتش عام ١٩٨٦ في «بونتا آريناس» أسفل جنوب تشيلي والقارّة الأميركية الجنوبية في أقرب نقطة من القطب الجنوبي قرب مضيق ماجيلان، أهم الممرّات المائية الطبيعية بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. عائلة أبيه من أول عشر عائلات كرواتية هاجرت إلى تشيلي في نهاية القرن التاسع عشر. وعائلة والدته إسبانية الأصل من كاتالونيا. عام ٢٠٠٠، ساهم في إعادة تأسيس اتحاد الطلاب الثانويين. ثم انتقل عام ٢٠٠٤ إلى سانتياغو ليتابع دروسه في المحاماة. ولم يحصّل الشهادة التي تسمح له بممارسة المهنة. انتسب في الجامعة عام ٢٠٠٨ إلى مجموعة «اليسار المستقل» وكان من أهم قياديي الحراك الطلابي عام ٢٠١١ الذي طالب بدمقرطة التعليم، وانتُخب رئيسًا لاتحاد طلبة تشيلي بعدما تغلّب على لائحة الرئيسة السابقة للاتحاد كاميلا فاليخو الشيوعية (التي صارت نائبة رئيس الجمهورية). انتُخب عام ٢٠١٣ نائبًا عن منطقة «بونتا آريناس»، وهو من أول نماذج النواب المستقلين الذين انتخبوا خارج الائتلافيَن الكبيرين، وأعيد انتخابه عام ٢٠١٧ على لائحة «الجبهة العريضة». عام ٢٠١٣، أسس مع آخرين حملة Marca AC التي كانت تطالب على الدوام بمجلس تأسيسي يتولى صياغة دستور جديد. عام ٢٠١٦، استقال بوريتش مع مجموعة من «اليسار المستقل» لتأسيس مجموعة «طلاب مستقلون» الأكثر انفتاحًا على المجموعات والأحزاب اليسارية الأخرى، وساهم مع صديقه جورجيو جاكسون في هندسة ائتلاف «الجبهة العريضة» الذي تحوّل في انتخابات عام ٢٠١٧ إلى ثالث ائتلاف من حيث حجم كتلته النيابية. عام ٢٠١٨، ساهم في تأسيس حزب «الحشد الاجتماعي» الناتج من اندماج أربع مجموعات يسارية. عام ٢٠١٨ وفي خطوة لافتة، طلب إجازة من مجلس النواب لدخول مستشفى الأمراض العقلية خلال أسبوعين (وهو يعاني مما يعرف بالـ TOC أي اضطراب الوسواس القهري) لتسليط الضوء على واقع الصحة النفسانية في البلد.

لعب دورًا أساسيًّا في الاتفاق الذي أدّى إلى تنظيم الاستفتاء من أجل دستور جديد، والذي نجم عنه انشقاق في «الجبهة العريضة» وفي حزبه لأن المعترضين اعتبروا أنه لم يستأذنهم لتمثيلهم، ذلك أن أكثرية الثلثين تقلّص إمكانيات التغيير في الدستور الجديد، ما اضطره إلى توقيع الاتفاق بصفة شخصية. ثم أبدى استعداده لتحمّل عقوبة الطرد إذا قررت هيئات الحزب والجبهة ذلك، لكنه لم يُطرد بل اختير لكي يكون مرشح الهيئتين في الانتخابات الرئاسية، مع أنه صرّح مرتين عامَي ٢٠١٩ و٢٠٢٠ بأنه تنقصه «التجربة الكافية» لمنصب كهذا. حثّ على ائتلاف «الجبهة العريضة» مع «تشيلي الكرامة» (الذي يضم «الحزب الشيوعي») فشكلا ائتلافًا سياسيًّا باسم «أؤيد الكرامة». جريًا على التقليد السياسي التشيلي، نظم هذا الائتلاف انتخابات تمهيدية فاز بها بوريتش بـ٦٠٪ من الأصوات على حساب عمدة منطقة فقيرة في سانتياغو، الشيوعي فلسطيني الأصل دانييل جودة (الذي كان مرجحًا فوزه). لبوريتش مواقف نقدية من أنظمة نيكاراغوا وفنزويلا اليسارية، فهو يقول «لأن خيارنا هو بناء يسار يلتزم الديموقراطية وحقوق الإنسان، يسار قادر على القيام بالنقد الذاتي حيث يجب». غبريال بوريتش أصغر الرؤساء سنًّا في العالم وأصغر رئيس في تاريخ تشيلي. وهو يمثل نموذجًا من قياديين سياسيين جدد يوفّق بين فكر يساري راديكالي متجدد مع حاسة سياسية لافتة وقدرة مميزة على التفاوض.

العدد ٣٤ - ٢٠٢٢
قصة انتفاضة عرفتْ كيف تنتصر

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.