وضعت الحرب أوزارها وهدأ دويّ الانفجارات والصواريخ. توقّفت التغطية الإخبارية وولّى الصحافيون وجوههم شطر كوارثَ أخرى في العالم. لكنّ الخبر العابر لدى الصحافيين هو عند صاحبه قصة حياةٍ ليست الضحية فيها رقمًا، وليست تندمل جراحُها، ولا تُمحى من الذاكرة ندوبُها.
تغطي الأخبار الجزء اليسير المثير من القصة، وتترك الباقي، فالصحافة لا تهوى متابعة المعاناة الصامتة والموت البطيء. يموت الضحايا بقصف الطائرات، لكنهم يموتون أكثر بانتزاع حرّيتهم وإهانة كرامتهم، ويموت الشباب بفقدان الأمل والبطالة والحرمان من حرّية الحركة والسفر، والأطفال بسلبهم الطفولة الآمنة ومساحات اللعب، والآباء بعجزهم عن إعالة عائلاتهم وتوفير الحد الأدنى من متطلّبات الحياة.
معنى العدوان
ليس العدوان أيامًا معدودةً تنقضي فيعود الناس إلى روتين يومهم. العدوان في فلسطين حالة مستمرّة مذ بدأ مشروع التطهير العرقي والتهجير الصهيوني قبل أكثر من أربعة وسبعين عامًا. وتتعدّد أشكال العدوان؛ مذابح وتهجير قسري وتدمير بيوت وقرى وسرقة أراضٍ وتمييزٌ عنصريّ وبناء جدران وحصار وإذلال على الحواجز واعتقال وسرقة موارد وتحكّمٌ بتفاصيل الحياة اليومية.
التهدئة كلمة مضلّلة. لقد توقّف موقتًا قتل الفلسطينيين بالصواريخ لكنّ أصناف العدوان والتطهير العرقي الممنهج لم تتوقّف لحظةً واحدة. تنتهي القصة في الأخبار، لكنها من هناك تبدأ في حياة الذين فقدوا أحبّةً لهم. كل ضحية سقطتْ خلال العدوان حياةٌ متكاملة، ورحيلها خلّف فراغًا لا يُملأ.
كيف للقصة أن تنتهي لدى علاء أبو العوف الذي فَقَدَ ابنتيه شيماء وروان، ثم والدتهما ديانا متأثّرةً بجراحها بقصف بيتهم وهم نيام ليلة السادسَ عشرَ من أيار/ مايو فقُتل معهم أربعة عشر فردًا من العائلة؟
وكيف للقصة أن تنتهي لدى الرضيع المتبقّي من عائلة أبو حطب؟ كيف تكون حياةٌ لطفلٍ انتُشل من بين الركام، من الموت، فوجد أنه فقد في لحظة عشرة أفرادٍ من عائلته؟ أيّ ذنبٍ اقترف ليستحقّ أن يشقّ طريقه محرومًا من ذاك الحضن؟ سيكبر الرضيع ويرسم على دفتره طائرة، وسيشير إليها ويقول «قتلَت أهلي». هكذا يحاول الاحتلال تدمير كلّ جميلٍ في خيال أطفالنا.
وعودةٌ في الذاكرة إلى الطفلة هدى غالية عام ٢٠٠٦، التي انتشرت صورتُها في الإعلام العالمي وهي تهزّ جثمان والدها علّه يستيقظ من الموت بعد أن قُتل جميع أفراد عائلتها بقصفٍ إسرائيلي بينما كانوا يتنزّهون على شاطئ بحر غزّة. لم يستيقظ والدها. كبرت هدى وصارت محامية. هدى أيضًا تنظر مليًّا إلى البحر وربما ترسمه على الورق. أما الجراح فلم تشفِها السنون ولن تفعل.
خلال سنيّ العدوان الطويلة، قلَّما نجا بيت فلسطيني من المأساة. لقد نال كلّ فلسطيني تقريبًا حصّته من قتلٍ أو اعتقال أو تهجير أو تدمير بيت أو منع من السفر أو إبعاد. هذا هو الثمن الإنساني الباهظ الذي يسقطه السياسيون من حساباتهم. هؤلاء يصفون المعاناة بكلمات جافّة خالية من الحسّ الإنساني. لا يرون المسألة أبدًا بإحساس ملايين الضحايا الذين دفعوا ثمن الحسابات السياسية لقوى الاستعمار حين قرّرت، وبالقوة، إحلال مجموعة عرقية محلّ أخرى.
روحُ الشعب
خلال بعض جولاتي الإعلامية في العالم، واجهت أسئلةً ساذجةً من المتأثرين بالدعاية الصهيونية من قَبيل: لمَ لا يصنع الفلسطينيون السلام؟
وما المطلوب من الفلسطينيين حتى يصنعوا السلام؟ لمْ يوجِد الفلسطينيون المشكلة. الفلسطينيون هم تحديدًا ضحايا غياب السلام. نحن نطالب بالسلام، فليقوَّض المشروع الاستعماري التطهيري العنصري ولتردّ المظالم إلى المظلومين، وحينها سيكون السلام.
لقد أريدَ للفلسطينيين كيّ وعيهم وقتْل إرادة الرفض في نفوسهم، ودفعهم إلى الاعتقاد أنّ لا خيار أمامهم سوى الاستسلام والتأقلم مع مشروع اقتلاعهم، وإقناعهم أيضًا بأنّ تكلفة المقاومة أكبر من احتمالهم. لقد مارست الدولة الاستعمارية الصهيونية العقاب الجماعيَّ المفرط ضد كل محاولة فلسطينية للانبعاث والمقاومة.
لا ترى إسرائيل في تكوينها الأساسي استقرارًا لوجودها إلا بشطب الوجود الفلسطيني، تمامًا كما فعل المستعمرون الأوروبيون مع الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وأستراليا، فهذا الوجود يمثّل بنفسه نقيضًا لفكرة المشروع الاستعماري الصهيوني الذي يقيم دعايته على أنّ فلسطين أرض بلا شعب، لذا يشكّل الوجود الفلسطيني بنفسه مقاومة. ومنذ نشأة الكيان، تصبّ جميع السياسات الصهيونية في اتّجاه هدف رفع تكلفة الوجود الفلسطيني لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة أو الاستسلام والتأقلم. في المقابل، يمثّل كلُّ فعل فلسطيني يعاكس هذه الرغبة فعلَ ثورة ومقاومة، حتى رفعُ العلم الفلسطيني يمثل حالة مقاومة لأنه ينغّص المسعى الصهيوني إلى إخلاء الأرض للغزاة من دون أصحابها الأصليين. لذا، إنْ أردنا تعيين معيار للنصر والهزيمة، يمكن القول، وبكل ثقة، إنّ قدرة الفلسطينيين على المحافظة على أنفسهم من الاندثار وعلى ثبات الهوية الوطنية الفلسطينية في داخل فلسطين وخارجها عنصرُ انتصار مهمّ، وعنصر قلق مستمرّ للمشروع الصهيوني الاستعماري.
لقد شكّلت المواجهة الأخيرة في شهر أيار/ مايو، وهو الشهر الذي يستحضر فيه الفلسطينيون أحداث نكبة الـ٤٨، محاولةً صهيونيةً جديدة/ قديمة لكيّ الوعي وإقناع الفلسطينيين بعبثيّة المقاومة. في المقابل، بدت قوة إرادة الفلسطينيين وحيويّتهم الثورية. لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا كبيرًا من الضحايا في غزّة والضفة والداخل المحتلّ، كما دُمّرت البيوت والمصانع، لكن تأكد للإسرائيليين أيضًا أن أربعةً وسبعين عامًا من الجريمة المتواصلة لم تكن كافية لإضعاف روح هذا الشعب. لقد وجّه الأخيرُ لكمةً إلى كبرياء إسرائيل فأظهر حدود قوّتها الاستعمارية الباطشة، وعجزها عن هزيمة حلم الشعب بالحرية.
وليس من الإنصاف أن يتحوّل النقاش إلى مقارنة بين القدرات العسكرية التي يمتلكها كلٌّ من إسرائيل وقوى المقاومة الفلسطينية، فاختلال الموازين بين الفريقين فادح، بل ليس من الإنصاف وصفهما بالـ«فريقين». الواقع أن هناك دولة استعمارية تملك دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا غير محدود من القوى الدولية، مقابل شعب يملك إيمانًا عميقًا بحقه المشروع في النضال من أجل الحرية. لذا، فإن القيمة الجوهرية لسلاح المقاومة هي إرادةُ القتال والعزيمة.
أضِف إلى ذلك أنّ الغزاة الذين يمتلكون القوّة والإمداد الدولي بالمال والسلاح والغطاء السياسي عاجزون عن تحديد المصير. لقد خيّب الشعب الفلسطيني مساعيَهم، فلم يندثر ولم يتأقلم. إن لهذا الشعب إرادة مكّنته من تحويل جلّ صنوف الألم والمعاناة إلى قوّة غضب ومقاومة. لقد انبعث الفلسطينيون من تحت ركام المنازل وأعلنوا أنّ إرادة البقاء والانتصار أقوى من آلة الموت. لقد نحتوا الصخر بهدف امتلاك أدوات للمقاومة. صحيح أن الفلسطينيين لا يملكون في هذه المرحلة القدرات العسكرية لإنهاء الصراع لصالحهم بسبب اختلال الموازين، لكنهم زلزلوا الأرض بوجودهم، وسلبوا المحتلَّ الأمن والاستقرار والرفاهية، فأتت الرسالة واضحة: «نحن ضحايا مستضعفون، نحن نتألم وتنفطر قلوبنا من قتل المحتلّ لأحبابنا، لكنّ توقنا إلى الحرّية والخلاص أقوى، وإرادة المقاومة فينا لن تُهزم. ومن يقيم كيانًا على قتْل الآخر وسرقة أرضه، سوف يعيش خوفًا دائمًا».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.