كلما توحّش الاحتلال في قصف البيوت والأبراج والشوارع والأراضي الزراعية، اشتدّ وجعي. ومردّ ذلك إلى تزاحُم الصور في عقلي من التجارب السابقة، وإلى إطلاق العنان لتخيّل ما يمكن أن يكون قد حصل بعد الضربات الوحشية التي يصبّها الاحتلال حممًا فوق رؤوسنا.
في الأبراج قصص
عند قصف أبراج «الجوهرة» و«هنادي» و«الجلاء» و«الشروق»، لم يقتصر ألمي على هدم المباني وسقوط الشهداء، لقد تألّمتُ أيضًا بسبب الأحلام التي كانت تتطاير مع قصفها. أعرف هذه الأبراج جيدًا. كثيرًا ما زُرت في «الجلاء» صديقي المحامي ناظم عويضة الذي دافع عني في سجون الاحتلال، وكثيرًا ما تردّدتُ في «الشروق» على محلّ الساعات أسفلَه. لحظة قصف برج «هنادي»، المليء بمشاريع صغيرة للشباب وشركاتٍ أسّسها عشرات الخريجين الجدد من الجامعات، وانهياره بالكامل، تذكرتُ معاناة الشاب ساجد حمّاد وأخته نور.
ساجد طالب تعرّفت إليه خلال تدريسي لمساق القضية الفلسطينية في الجامعة. شاب طموح، أسّس بعد تخرجه شركةً صغيرة، بمساعدة والده، واتخذ لها مقرًّا في «برج الباشا» وسط مدينة غزّة. خلال الحرب على غزّة عام ٢٠١٤، تمّ تدمير البرج بالكامل، الذي، حتى لحظة كتابة هذا النص، لمّا تتم إعادة بنائه. بعد حرب ٢٠١٤ بفترة، سمعنا أنّ ساجد التحق بمجموعة من الشباب الغزّي الذين غامروا بركوب البحر بحثًا عن فرصة. ربما توصّل ساجد إلى أنّه حتى لو بنى فرصته في غزّة المحاصرة، فلن يستطيع حمايتها، لذا قرّر المغادرة بطريقة تحفّها المخاطر. ثم انتشرت أخبارٌ عن غرق السفينة ومقتل كل من كان على متنها. لكن لم يُعثر على جثة ساجد، ولم يعرف أحدٌ مصيره. أما عائلته فترفض احتمال أن يكون قد قضى غرقًا، مصرّةً، وملؤها الأمل، أنه ما زال على قيد الحياة. لهذا الغرض، مضتْ سبعُ سنين وما زالت شقيقته الكبرى نور تبحث عنه. في البداية أخذت إجازة من عملها بصفتها محاضِرة جامعية في الأدب الإنكليزي، ثمّ تركت العمل وتوجّهت نحو جميع الدول القريبة من مكان غرق السفينة علّها تجد أخاها، أو تسمع خبرًا يقودها إليه.
إنّ قصف كل برج يعني انهيار أحلام عشرات الشباب الذين حفروا في الصخر كي يؤسّسوا مشاريع يحققون طموحهم عبرها ويثبتون وجودهم وسط الحصار. لهذا، مع قصف كل برج، كنتُ أخشى أن أجد قصصًا شبيهة لقصة ساجد ونور. دع عنك أنّ خسائر هؤلاء الشباب لن تُعوَّض. وأن يبدأوا العمل من الصفر، يعني مزيدًا من الحفْر في الصخر، والتعب. هذا هو حال الأجيال التي تعيش في غزة.
تحت القصف
قصص الألم متشابكة. تكون جالسًا قرابة منتصف الليل مع عائلتك فتسمع صوت قصف. وما إن تبدأ البحث عبر مواقع التواصل الاجتماعي والواتسأب، وقبل أن تعرف المنطقة التي استُهدفت، تسمع انفجارًا أقوى، يليه صوت تساقط الحجارة المتطايرة من المبنى المقصوف على سطح بيتك، فتكتشف أنّ ما قُصف بيتٌ على بُعد مائة متر من منزلك.
في ليلة الجمعة ١٣ أيار/ مايو ٢٠٢١، وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، تلقّيتُ اتصالاً من شقيقتي التي تسكن في حي الشجاعية شرق غزّة. لقد انهالت القذائف على المنطقة ودخلت النيران منزلها، فخرجتْ مع زوجها وأبنائها وأحفادها سيرًا على الأقدام وسط الحِمم.
ماذا أفعل؟ للحقيقة لم أُفكِّر. خرجتُ باتجاه سيّارتي، وأنا أسكن غرب غزّة، وبدأت المسير شرقًا. تواصلتُ معهم عبر الجوّال واتفقنا على أن نلتقي عند شارع صلاح الدين. لم أكن متأكدًا ما إذا كنتُ سأصل إليهم وألتقي بهم، وما إذا كنّا سنصل بسلامٍ إلى بيتنا غرب المدينة. لم أملك أي إجابة عن تساؤلاتي، كنتُ فقط على يقينٍ أن الله معنا. وعندما نقول، نحن الفلسطينيين، وتحديدًا في غزة، إن الله معنا ونعزو إليه أيّ شيء، كأن نقول «هذا نصرٌ ربّانيّ»، فنحن لا نقصد تمييز أنفسنا عن الآخرين، بل هذا يعني إحساسًا عميقًا بالضعف والخذلان من القريب والبعيد تليه مفاجأة بقدرتنا على الصمود والمواجهة، فلا نجد تفسيرًا لذلك سوى وقوف الله معنا، خصوصًا أننا نقوم بواجب تخلّى عنه الكثيرون ممّن هم أقوى منا.
نجحتُ في اللقاء بشقيقتي وعائلتها، بعد سيرهم مسافة حوالي كيلومترٍ على الأقدام تحت القصف، وتوجّهنا إلى غرب المدينة. ولم يكونوا وحدهم مَن شهد ذاك الخطر، فالكثير من الغزّيّين تشاركوا عبر «فايسبوك» الحديث عن رحلتهم على إيقاع الصواريخ والقذائف.
بعد انتهاء العدوان ذهبتُ إلى منطقة الشجاعية، وتفقدتُ الشوارع والطرقات التي سلَكها أقاربنا خلال خروجهم في تلك الليلة العصيبة. وجدتُ الطرقات محفورة، والمقبرة قد أصابها الخراب، والكثير من البيوت قد سُوِّيت في الأرض. أدركتُ حينها لماذا تملّكت الصغيراتِ في تلك الليلة حالة الذعر الشديدة! فوفو، ابنة الصف الثاني الابتدائي، بكت بحرقة وهي تصعد السيارة: «يا خالو، كل شيء راح، حتى أواعي (ملابس) العيد وشنطة المدرسة والدفاتر، ما ظلّ شيء، خرجنا من البيت حافيين». واستمرّت بسرد مخاوفها وقلقها. ولأنّ حديثها كان يزيد حالة التوتر داخل السيارة، وجدتُني أقرأ القرآن جهارًا حتى تدخل الطمأنينة إلى قلوب ونفوس من حولي.
وسط هذا القصف المتوحّش كنا نعيش. وعندما كان دارسو التاريخ يسمعون مثلي تصريحاتِ قادة الاحتلال بأنهم سيُعيدون غزّة إلى مرحلة ما قبل الحضارة، ويتفاخرون بذلك، كنت أسأل نفسي: هل يريدون القيام بما فعله التتار والمغول والجرمان والفايكنغ؟ كان الفزع يتملكني: ماذا يعني ذلك؟ هل يريدون القضاء على كل ما راكمْنا من ثقافة وأنماط حياة ومعيشةٍ ومؤسّسات؟ ثم أقول: لمَ لا؟ بيعملوها! وأنا المتابع للشأن الإسرائيلي، والمُجيد للّغة العبرية، أدرك جيدًا أنّ قادة الاحتلال مجموعة من الفاسدين والرعاع. ولست أبالغ بوصفهم بالرعاع، فالفارق الوحيد بينهم وبين المجموعات المتوحشة القديمة ليس في صالح هذا الاحتلال، لأن تلك المجموعات كانت تتحرّك بدوافعَ غريزية ولم تُدرك الآثار الممتدّة لسلوكها الإجرامي، أما الاحتلال فيقتل مدركًا جيدًا أبعاده وآثاره الممتدّة، بل يُعلن نيّته إرجاع الشعب الفلسطيني إلى ما عصر ما قبل الحضارة.
من البحر إلى النهر
وبرغم الوحشية حولنا والألم داخلنا، كانت أرواحنا تُزهر عندما نسمع صوت رشقات الصواريخ، والأولاد يشيرون إليها قائلين «هذه تبعتنا». لقد شعرنا أنّ هذا هو سلاحنا الوطني. ومع تداول الأخبار عن تفوّق صواريخنا، بشكل نسبي، على القبّة الحديدية، ووصولها إلى قلب المدن التي تتركز فيها قوّة الاحتلال واقتصاده ومؤسّساتُه العسكرية، شعرنا بالفخر، وتساءلنا: كيف راكمتْ مقاومتنا هذه القوة؟!
وعندما تعالت هتافات من داخل المسجد الأقصى ومن أحياء مدينة القدس «حطّ السيف قبال السيف واحنا رجال محمد ضيف»، و«يا غزة يلّا من شان الله»، وعندما سمعنا الفلسطيني في أراضي الـ٤٨ يقول للشرطي والمستوطن: «أبو عبيدة بديرخ»، أي أبو عبيدة في الطريق، أي المقاومة قادمة، ظهر السؤال أمامنا: «متى حصل هذا التحوّل»؟ يا إلهي، لقد اعتقدنا أنّ غزّة أصبحت، كما أراد الظالمون لها أن تكون، نموذجًا للبؤس يخشى بقية الفلسطينيين حتى التضامنَ معه! كيف ومتى أصبحت رمزًا للقوة وعنوانًا للمقاومة ونموذجًا ملهِمًا في نظر الفلسطينيين؟
وفي البحث عن أجوبة، اكتشفنا حجم ما كان غائبًا عن وعينا. كنا نظنّ أنّ شبابنا أصبح بلا هوية ولا انتماء وأنه يرغب في مغادرة الوطن، فإذا به يقود المعركة في الأقصى والشيخ جرّاح وسلوان، وبعد ذلك في جبل صبيح جنوب نابلس! اكتشفنا أنّ شبابنا «ملاح» كما قال أحد خطباء الجمعة من أراضي الـ٤٨. وتذكّرنا أن الذي صنع مجد المقاومة في غزّة هم الشباب، حيث حفروا الأنفاق وصنعوا الصواريخ وأمّنوها وصمموا الطائرات المسيَّرة وشغّلوها، واخترقوا حواسيب الاحتلال. عرفنا أننا لسنا أمام جيل ضائع، وكان من بواعث الفخر عندما اطمأنّت أفئدتنا إلى أن الصغار لا يتذكرون فقط جريمة الاحتلال، بل هم منخرطون في مقاومته برغم كل الصعوبات والتضحيات.
أحيانًا كثيرة يعجز المرء عن تفسير حالة الصمود التي يعيشها الشعب الفلسطيني، ولكن عندما يستمع إلى قصص أهل المعاناة والتضحية والفعل، وقصص حاضنتهم الشعبية، يدرك سرّ الصمود والاستعداد للتضحية والمواجهة. ومن القصص الحاضرة في ذهني من الحروب السابقة قولُ راعي الكنيسة في غزّة: إذا قصف الاحتلال المساجد، فإنّ أبواب الكنائس مفتوحة. وبالفعل يذهب المسلمون ليصلّوا في الكنيسة. ومن القصص أيضًا عندما توجّه شابٌّ لإبلاغ والدته خبر استشهاد إخوته الأربعة واستأذنها مواصلة طريقهم قالت له: سأأذن لك بشرط أن تصطحبني معك كي نواصل طريق إخوتك.
لقد أظهرت الحرب الأخيرة أنّ من يقف خلف أداء المقاومة الرائع شبابٌ من أكثر الناس قدرةً على الإنجاز. شبابٌ مقبلون على الحياة، يستطيعون العمل وكسْب المال داخل البلد وخارجها، لكنهم يؤْثِرون خوض طريق المقاومة. عندما تكتشف أنّ المقاومة استقطبت إلى صفوفها د. جمال الزبدة الذي تعلّم الهندسة في أرقى جامعات الولايات المتحدة، وسخّر علمه لتطوير الصواريخ، ودرّب ابنه المهندس أسامة على العمل في المجال نفسه، تدرك أنّ المقاومة ليست ملتزمة أخلاقيًّا فقط تجاه شعبها، ولكن معرفيًّا أيضًا. وعندما تستمع إلى زوجات الشهداء ورفضهنّ لقب «الأرملة» والإصرار على لقب «زوجات الشهداء»، تُدرك أن المسألة بالنسبة لهنّ ليست مجرّد وفاءٍ أو حزن، بل شراكة في مشروع سيواصلنَ السير على دربه، وسيربّينَ الأبناء على النهج نفسه.
آية والتاجر
أختم نصّي هذا بقصّتين: الأولى لأحد تجّار غزّة لإظهار وجهٍ من وجوه التضامن خلال الحرب، والثانية لشابّة تعمل في مجال الصحافة استُشهد زوجها ووالد أطفالها الثلاثة وهو يعمل في تفكيك قذائف الاحتلال التي لم تنفجر خلال الحرب.
لن أذكر اسم التاجر كي لا تتضرّر مصالحه كما يحصل للتجّار الذين ترتبط أسماؤهم بتقديم أي مساعدة للوطن، لاسّيما في ما يتعلق بتصاريح الدخول والخروج من وإلى غزّة، لذا نجد الكثير منهم يتبرّعون في الخفاء. التقيتُ بهذا التاجر بعد الحرب، وحدّثني عن الأضرار التي لحقتْ بالتجار، وأخبرني عن التعاون الكبير بينهم خلال الحرب وبعدها، وعن مساندتهم بعضهم البعض خصوصًا أنهم لا يجدون من يقف إلى جانبهم. ضرب بعض الأمثلة عن التعاون مشيرًا إلى أنّ هذا جزء من الأخلاق التجارية السائدة، فمثلاً يتوقّف التاجر خلال الحرب عن المطالبة بمستحقّاته المالية، وإذا احتاج إلى مخازن ينقل إليها ما تبقّى من بضاعته فيتمّ توفيرها له مجانًا، وكذلك الأمر إذا احتاج إلى آليّاتٍ لنقل البضائع المتبقية، وإذا احتاج إلى مكان جديد كي يعرض ما تبقّى من بضاعته يمكن أن يتقاسم معه زميله في المهنة متجره. وهذا محلّ فخر، فخلال المحنة يغيب التنافس في مجتمع التجار ويحلّ التعاون والتكافل.
أما قصة الصحافية الشابة آية أبو طاقية فتُلخِّص مجمل ما تحدثنا عنه من ألمٍ وفخرٍ ووعي. عندما توقف العدوان، تفقّدت آية صديقاتها، وخاطبت كل من يطالع حسابها على «فايسبوك»: «يا أعزّاء، قِبلتنا بعد التكبير قلوبُ المجروحين، وبيوتُ المكلومين، هؤلاء الأعزّاء هم أصحابُ السموّ، وشُعَلُ النصر، ولّوا وجوهكم قِبَلهم، استأذنوهم أن تكونوا لهم خير السنَد، هؤلاء أصدقاؤنا الذين جارت عليهم حمم العدوان فاختارتْهم وتركتنا، ارحموا عزيزهم، واسألوهم ماذا يريدون، وكيف يريدون، فبثباتهم ننتصر».
إنّ آية تخوض معركةً تعرف أبعادها. بعدما نجتْ، أدركت أنّ عليها دورًا جديدًا وهو مواساة المكلومين، فراحت بعد استشهاد زوجها بأيام تكتب عنه وعن حبهما وتتحدث عن مزاياه وتدعو له وتعبّر عن شوقها له ووجعها من فقدانه، واعتبارها بأنه حيّ معها، ووعدتْه بأنّ العلاقة بينهما ستستمرّ وأنها تستعدّ للقائه في الحياة الآخرة. وآية نموذج لنساء فلسطين الشابات اللواتي يُقدّمن لهذا الوطن إنتاجًا يربو في قيمته وأثره على ما تُخصّصه ميزانية الحكومة في المجال الإنتاجي والتشغيلي، ويُقدِّمن للمجتمع المناضل ما يكفل تماسُكه في أصعب اللحظات.
هذا جزءٌ بسيطٌ من حكايتنا مع الألم والفخر والمعاناة والبطولة والصمود، ولكنّه جزءٌ له كبيرُ الأثر. لقد ذرفتُ، وعلى امتداد ثلاثة عقود، كثيرًا من الدموع وأنا أقرأ وأكتب عن فلسطين، لكنّ الدموع الأغزر هي التي ذرفتُ وأنا أخطّ هذه الكلمات.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.