أتذكّر كثيرًا في هذه الأيّام كاتبَي مسرح شغَلا تفكيري لمدّة طويلة خلال سنوات دراستي في فرنسا بين عامَي ١٩٩٧ و٢٠٠٥، هما الإنكليزيّ إدوارد بوند، الذي ما زال على قيد الحياة، والألمانيّ هاينر موللر الذي رحل قبل ربع قرن.
يعجّ مسرحُ هذين المبدعَين بصوَر وكوابيس النهاية ويوم القيامة، سواءٌ على مستوى اللغة الشعريّة أو على مستوى الحكاية والعالم التخييلي:
في «شعب المعلّبات»، الجزء الثاني من ثلاثيّة «مسرحيّات الحرب» التي كتبها بوند مطلع الثمانينيّات، يصيب موتٌ غامضٌ مفاجىءٌ، بشكلٍ تدريجيّ، مجموعةَ الناجين القلائل من الحرب النووية فيقودهم لاحقًا لقتل مريضٍ يستغيث بهم "باسم المجتمع الذي لن يكون فيه قتلٌ بعد اليوم".
في "رباعي" هاينر موللر، التي كتبها في الفترة نفسها، لا يبقى حيٌّ من البشرية جمعاء سوى مرتوي وفالمونت، بطلا رواية الكاتب والروائي الفرنسي كوديرلوس دي لاكلو "العلاقات الخطيرة" الشريران بعبقرية، لتقول مرتوي ببطء في بداية المسرحية مستنكرةً:
"فالمونت!! ظننتها انطفأت شعلة اشتهائك لي".
لم يكن هذان المبدعان على اتفاقٍ جماليّ أو فكريّ، لكنّ المشترك بينهما بقي جوهريًّا وأثبت الزمن جلاء رؤيتيهما وتلاقيها على الأساسي. رأى كلاهما في الرأسمالية المعمّمة مضيًا حثيثًا بالإنسان إلى انتفائه، سواءً عبر القنبلة النووية أو عبر تسميم تجربة بناء المثال المغاير. تحدّثا بلغتين مختلفتين: التشظّي وجماليّة الشذرة لدى موللر، والبحث الفلسفي في براءة الإنسان المطلقة عبر أمثولات في مسرحٍ ما بعد بريختي لدى بوند. تحدّثا عن عالمٍ لن يبقى فيه سوى الإدارة والجيش، المعلّبات والجثث.
يقول بوند الذي قاطع الجميع في مجتمعه الإنكليزيّ (الديمقراطيّ) منذ منتصف الثمانينيّات في تعليقاته النظريّة على ثلاثيّته المسرحية تلك: "يتطلّب الأمر الكثير من الثقافة لتحويلنا إلى قتلة"، فيما ينفث موللر دخان سيجاره الشهير ويكتب ساخرًا في برلين الشرقيّة: "ما من رجل يزن أثقل من ملفه"، ثمّ يتحدّث بعد الوحدة عن إحساس التقزّز الذي تثيره فيه ألمانيا الغربية: "بلدٌ كاملٌ من دون أي إحساس بالذنب؟!!".
تُعرّي جائحةُ كورونا هذه الأيّام تدريجيًّا كذبةَ الرأسماليّة المتمثلة في المفهوم المعاصر للحرية، أي الوقت الحر. تحدّث المخرج المسرحي الألماني فرانك كاستورف، صديق موللر وربيبه، سابقًا عن ذلك:
"لقد تحوّل مفهوم الحرية إلى مفهوم الوقت الحرّ. لكنّنا نقضي الوقت الحرّ الآن في مناطق العطل تحت الشمس المدارية، في مكان ما في الكاريبي أو تايلاند. أماكن لسنا فيها في (أماكننا الفعليّة) أو (بيتنا) ونأتي إليها سالكين سلوك الفاتحين فنتصرّف ضمنها بحيث نبقى مع بعضنا البعض، لكنّ هذا لا يمنع أننا نشتمّ بطريقةٍ ما (ولو بصعوبة) رائحة النار المحتدمة تحت البركان".
المعادل الإقليمي لهذه الجنّات السياحية أو لغياب السياسي بهذه الصورة هو بيوت محطات الخليج الفضائية بأجهزة الكارديو ووجباتها المتنوعة التي تنال رضى الأب وأطفاله.
احتفت هوليوود هذا العام عبر الأوسكارات بفيلم المخرج الكوري الجنوبي بونغ جونغ "طفيليّات" الهائل، عن بحيرة الفقر التي تعوم عليها تلك الدار-الجزيرة، احتفالاً استنثنائيًّا. تقبّل المخرج أوسكاراته الأربعة بأدبٍ جمّ لا تشبهه سوى برودة نصف ساعة فيلمه الأولى التي تخفي كابوس الساعتين والنصف الشكسبيريّة التي ستليها. لكن عندما نال براد بيت أوسكار أفضل ممثل مساعد أمام أربعة منافسين كلهم أفضل منه بمراحل، رفع النجم الأميركيّ التمثالَ المطليَّ بالأصفر واستشهد موصفًا حياته ومسيرته، من أميركا الداخل عبر الإعلانات التلفزيونية إلى كلّ هذا المجد، بعنوان فيلم تارانتينو الفارغ: "حدث ذات مرّةٍ في هوليوود". كان براد بيت على صوابٍ للحظة. كان الناطق الرسمي باسم السيناريو الهوليوودي الذي امتدّ عبر الشاشات ليشمل العالم، فإذا به مع الأزمة العالمية الحالية يتبدّى أوهى من شباك عنكبوت.
يشاهد الناس بهياجٍ فيلم ستيفن سودربرغ القديم أو إنتاجًا جديدًا لنتفليكس عن الجائحة. تختلط برامجُ التحليل التي ترسم التحوّلَ الجيوبوليتيكي للعالم بمحاولات MBC التسريةَ عن النفوس عبر برامج تحدّي الفاشينيستا وأخبار عطايا وهبات لاعبي الأندية النجوم للمياومين.
تتألّق أفكارٌ قديمةٌ ناصعةٌ عن أطباء في إيطاليا والمغرب وكوبا من طينة ذي اللحية الحمراء، طبيب كيروساوا المتفاني الشهير الذي يقول للطبيب الشاب أمام صورة البؤس في حي ياباني قديم : "الفقر مسألة سياسية".
قبل تسع سنوات، ترجمتُ مسرحية هاينر موللر القصيرة هذه "حرب الفيروسات" عن الترجمة الفرنسية التي قدّمها صديقاه جان جوردوي وجان لوي بوسون في العدد المزدوج ١٦٠-١٦١من مجلة «المسرح العمومي» الفرنسية Theatre\Public. كان عنوان ذلك العدد الخاص بنتاج موللر، ويا للمفارقة،: «علمُ أنساب لعملٍ فني آتٍ».
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.