تتغيّر حياتنا تحت وطأة تسونامي "كوفيد-19" بطرقٍ لم نكن لنتصوّرها منذ أسابيعَ قليلة. لم يشهد العالم تجربةً جامعةً مماثِلة منذ الانهيار الاقتصاديّ عامَي 2008-2009: أزمة عالميّة واحدة تتحوّل بسرعةٍ بالغة وتُقَولب نمطَ حياتنا اليوميّة على وقْع حساباتٍ معقّدة لمخاطرَ واحتمالاتٍ متضارِبة.
في الاستجابة إلى هذا الوضع المستجدّ، يطالب العديد من الحركات الاجتماعيّة بمقارباتٍ تراعي جدّيّة تداعيات الفيروس التي قد تكون كارثيّة، وتحاكي في الوقت عينه عدمَ قدرة الحكومات الرأسماليّة على معالجة الأزمة بالطرق المناسبة. تشمل هذه المطالباتُ مسائلَ سلامة العمّال وضرورة التنظيم على مستوى الأحياء وضمان الدخل والضمان الاجتماعيّ وحقوق المياومين والعاملين في وظائفَ غير مستقرّة، بالإضافة إلى حماية المستأجرين وأولئك الذين يعيشون في فقر. من هذا المنطلَق، أظهرتْ أزمةُ "كوفيد-19" بطريقة فجّةٍ الطبيعةَ اللاعقلانيّةَ لأنظمة الرعاية الصحيّة المبنيّة على الربح التجاريّ، التقشّف شبه العالميّ الذي طاول كوادرَ وبُنى المستشفيات الحكوميّة (بما فيها أسرّة العناية الفائقة وأجهزة التنفّس)، عدم توفّر الرعاية الصحيّة العامّة والكلفة الباهظة للخدمات الطبيّة في بلاد عدّة، وكيف تعمل حقوق الملكيّة لشركات الأدوية على الحدّ من إمكانيّة الوصول إلى علاجاتٍ محتملَةٍ وتطوير اللقاحات.
لكنّ الأبعادَ العالميّة لـ"كوفيد-19" لم تكن في صلب النقاش اليساريّ. في ملاحظةٍ دقيقة للكاتب والمؤرّخ الأميركيّ مايك دايفيس قال، "هناك تجاهلٌ شبْهُ تامٍّ للخطر على الفقراء من قبَل الصحافيّين والحكومات الغربيّة" ونقاشاتُ اليسار محدودةٌ على نحوٍ مشابهٍ إذ تتركّز بشكل أساسيٍّ على أزمات الرعاية الصحيّة الفادحة التي تتجلّى في أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة. حتى في قلب القارة الأوروبيّة، هناك فروقاتٌ كبيرةٌ في قدرة الحكومات على التعامل مع هذه الأزمة، كما تُظهر المقارنةُ بين ألمانيا واليونان مثلًا، لكنّ الكارثة الكبرى هي تلك التي سوف تصيب باقي العالم. في مقابل ذلك، يجب أن تصبحَ نظرتُنا إلى الوباء عالميّةً فعلًا، ومبنيّةً على فهم كيفيّة تقاطُع جوانب الصحّة العامّة لهذا الفيروس مع المسائل الكبرى في الاقتصاد السياسيّ (بما فيها احتمال حصول انكماشٍ شديدٍ في الاقتصاد العالميّ). ليس الآن الوقتَ المناسبَ لنصب الأسيجة (الوطنيّة) والحديث عن مكافحة الفيروس داخلَ حدودنا فقط.
الصحّة العامّة في بلدان الجنوب
كما هي الحال مع كلّ الأزمات المسمّاة بـ"الإنسانيّة"، من الضروريّ التذكيرُ بأنّ الظروف الاجتماعيّة القائمة في معظم بلدان الجنوب هي نتاجُ موقع هذه البلاد في تراتبيّة السوق العالميّة. تاريخيًّا، يشمل ذلك مواجهةً طويلةً مع الاستعمار الغربيّ والذي يستمرّ اليومَ بإخضاع الدول الفقيرة إلى مشيئة الدول الأغنى وكبرى الشركات العالميّة العابرة للحدود. منذ منتصف ثمانينيّات القرن الماضي تكفّلت الجَولات المتكرّرة من التعديلات البنيويّة، والتي غالبًا ما تكون مرفقةً بنشاطاتٍ عسكريّةٍ غربيّة أو أنظمة عقوبات مدمِّرة أو دعمٍ لحكّام مستبدّين، بالتدمير الممنهَج للقدرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلدان الفقيرة لتتركها غيرَ مجهّزةٍ للتعامل مع أزماتٍ كبرى مثل "كوفيد-19".
يساعد إبرازُ هذه الأبعادِ التاريخيّة والعالميّة على توضيح فكرة أنّ وقْعَ الأزمة الحاليّة ليس محصورًا بالوباء الفيروسيّ وغياب المناعة الحيويّة لمسبّبٍ مرضيٍّ مستجدّ. طريقة اختبار معظم سكّان أفريقيا وأميركا اللاتينيّة والشرق الأوسط وآسيا للوباء هي نتيجةٌ مباشرةٌ لاقتصادٍ عالميٍّ مبنيٍّ على استغلال الموارد والسكّان في بلدان الجنوب. من هذا المنظار يكون الوباءُ كارثةً اجتماعيّةً بشريّةَ المنشأ بامتياز، وليس فقط مصيبةً ناتجةً من أسبابٍ طبيعيّةٍ أو بيولوجيّة.
من الأمثلة التي تُظهِر جليًّا كيف أنّ هذه الكارثةَ صناعةٌ بشريّة الوضعُ المزري لأنظمة الرعاية الصحيّة الحكوميّة في معظم بلدان الجنوب، والتي غالبًا ما ينقصها التمويلُ والأدويةُ والمعدّات والكوادرُ المطلوبة. ويلعب ذلك دورًا مهمًّا في فَهم مخاطر فيروس "كوفيد-19" الذي يتسبّب في الانتشار السريع والواسع للحالات الخطرة والحرجة والتي تتطلّب عادةً دخولَ المستشفى (وهي تقدّر حاليًّا بحوالي 15-20٪ من الإصابات المؤكّدة). تجري مناقشة هذه الوقائع حاليًّا في سياق أوروبا والولايات المتحدة، وهي أساسُ استراتيجيّة "تسطيح المنحنى" من أجل تخفيف الضغوطات على قدرة المستشفيات على توفير العناية الحرجة.
لكنْ في الوقت الذي نلحظ فيه النقصَ في أسرّة العناية الفائقة وأجهزة التنفّس والكوادر الطبيّة المدربة على امتداد الغرب، علينا أن ندركَ أنّ الوضع في باقي العالم أسوأ مما هو في الغرب بما لا يُقاس. في مالاوي، على سبيل المثال، 25 سريرَ عنايةٍ فائقة في بلدٍ يسكنه 17 مليون إنسان. وهناك أقلُّ من 2,8 سرير عنايةٍ حرجة لكلّ 100 ألف شخصٍ كمعدَّلٍ في دول جنوب آسيا، منها حوالي 1100 في بنغلادش التي يقطنها ما يزيد على 157 مليون نسمة (أي بمعدل 0,7 سرير لكل 100 ألف شخص). في المقابل، الصوَر الصادمة التي تصدر من إيطاليا تحدثُ في بلدٍ يملك نظامَ رعايةٍ صحّيّة متطوّرًا بمعدّل 12,5 سرير عناية فائقة لكل 100 ألف شخص (مع قدرةٍ على تجهيز المزيد). الوضع حرجٌ إلى حدّ أنّ العديد من الدول الأكثر فقرًا لا تملك حتّى معلوماتٍ عن الأسرّة المتوافرة، وتقدّر دراسةٌ أكاديميّة صادرةٌ عام 2015 أنّ "أكثر من 50٪ من الدول [ذات الدخل المنخفض] لا تملك معلوماتٍ منشورةً عن قدرات العناية الفائقة لديها". بغياب هذه المعلومات، يصعب تخيّلُ كيف يمكن لهذه البلاد أن تخطّط لاستيعاب متطلبات مكافحة جائحة "كوفيد-19" التي لا مهْربَ منها.
طبعًا، مسألةُ العناية الفائقة والقدرة الاستيعابيّة للمستشفيات هي جزءٌ فقط من مجموعةٍ أكبر من المسائل التي تضمّ النقصَ العام في الموارد الأساسيّة (مثل المياه النظيفة والطعام والكهرباء)، وإمكانيّة الحصول على رعايةٍ طبّيّةٍ أساسيّة مناسِبة وتواجد مسببات مَرَضية قاتلة أخرى (معدّلات مرتفعة من أمراض الإيدز والسلّ مثلًّا). إذا أُخذتْ كل هذه العوامل بعين الاعتبار، سيؤدّي ذلك حتمًا إلى ارتفاع نسبة الحالات الحرجة، وبالتالي الوفيّات، على امتداد الدول الفقيرة نتيجة انتشار "كوفيد-19".
العمل والسكن قضايا الصحّة العامّة
أظهرت النقاشات حول الأساليب المثلى للاستجابة إلى "كوفيد-19" في أوروبا والولايات المتحدة وجودَ علاقةٍ متداخلةٍ بين إجراءات الصحّة العامّة الفعّالة وظروف العمل وعدم الاستقرار والفقر. الدعوات الموجَّهة للناس بعزلِ أنفسهم عند مرضهم، أو فرض الحظر الإلزاميّ على مدى طويل، غير قابلة للتطبيق اقتصاديًّا بالنسبة للكثير من الناس الذين لا يمكنهم نقلُ عملهم إلى الإنترنت بهذه البساطة أو أولئك الذين يعملون في قطاع الخدمات ضمن عقودِ مياومةٍ أو نوعٍ آخرَ من التوظيف الموقّت. بعدما أدركتْ حكوماتٌ أوروبيّة عدّةٌ التبعات المصيريّة لأنماط العمل هذه على الصحّة العامّة، أطلقتْ وعودًا شاملةً بالتعويض على هؤلاء الذين فقدوا وظائفَهم أو أُجبروا على البقاء في البيوت خلال هذه الأزمة.
لا يمكننا حتى الآن الحكمُ على فاعليّة هذه الإجراءات ولا معرفةُ إلى أيّ مدًى يمكن أن تغطّي احتياجات الأعداد الكبيرة من الناس الذين سوف يخسرون وظائفهم نتيجة هذه الأزمة. لكنّ علينا أنْ ندرك أنّ مثل هذه الإجراءات لن تكون متاحةٌ لمعظم سكّان العالم. في البلاد التي تنخرط معظم القوى العاملة فيها في أعمال غيرِ نظاميّةٍ أو تعتمد على الأعمال اليوميّة غير الثابتة، والتي تشمل معظم دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة وآسيا، لا حلولَ متاحة تخوّل الناس البقاء في منازلهم أو عَزْل أنفسهم. يجب أخذُ كل ذلك بعين الاعتبار، بالإضافة إلى التسليم بأنّه من شبه المؤكّد أنّ تعداد الطبقة العاملة الفقيرة سوف يزداد كنتيجةٍ مباشرة لهذه الأزمة. تقدّر منظمةُ العمل الدوليّة أنّه في حال حصول السيناريو الأسوأ (وهو خسارة 24,7 مليون وظيفة حول العالم) سوف يرتفع عدد الذين يكسبون أقلَّ من 3,20 دولار في اليوم (حسب معيار تكافؤ القدرة الشرائيّة) في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل بحوالي 20 مليون شخص.
مرّةً أخرى، لا تقتصر أهميّة هذه الأرقام على الصمود الاقتصاديّ اليوميّ، إذ إنّه بغياب التأثيرات التخفيفيّة للحجر والعزل من المؤكَّد أنّ انتشارَ الوباء في سائر العالم سوف يكون أكثرَ ضررًا من المَشاهد المُرعبة التي شاهدناها حتى الآن في الصين وأوروبا والولايات المتحدة.
هذا وغالبًا ما يسكن العمّالُ غيرُ النظاميّين والعاملون في أعمالٍ غيرِ ثابتةٍ في أحياءَ ومساكنَ مكتظّة حيث الظروفُ مثاليّة لانتشارٍ سريع للوباء. كما قال أحد الذين قابلَتْهم صحيفة "الواشنطن بوست" مؤخّرًا في ما يخصّ البرازيل: "أكثر من 1.4 مليون شخص، أي تقريبًا ربع سكان ريو دي جانيرو، يسكنون في إحدى عشوائيّات المدينة، والكثير منهم لا يمكنهم ترك أشغالهم ولو ليوم واحد، فما بالك إذا طُلب منهم فعل ذلك على مدى أسابيع. سوف يستمرّ الناسُ في مغادرة منازلهم... والعاصفة على وشك أن تضرب".
تواجه سيناريوهاتٌ كارثيّة مشابهةٌ الملايينَ من الناس الذين يجدون أنفسهم حاليًّا مشرّدين ونازحين من حروبٍ وصراعات. يشهد الشرق الأوسط اليوم، على سبيل المثال، أكبر حركةِ نزوحٍ قسريٍّ منذ الحرب العالميّة الثانية، إذ توجد أرقامٌ هائلة من اللاجئين والنازحين نتيجةَ الحروب القائمة في سورية واليمن وليبيا والعراق. يسكن معظم هؤلاء في مخيّمات اللجوء أو في أحياءَ مدنيّةٍ مكتظّة، وهم غالبًا لا يحظَون بحقوق الرعاية الصحّيّة الأساسيّة التي يحقّ عادةً للمواطنين الحصولُ عليها. هذا ما يجعل الانتشار الواسع لسوء التغذية وأمراض أخرى (مثل عودة ظهور الكوليرا في اليمن) من هذه المجتمعات النازحة أكثرَ عرضةً للوباء.
يمكن مشاهدة صورة مصغرة عن ذلك في قطاع غزة، حيث أكثر من 70 في المئة من السكان هم لاجئون يسكنون في إحدى المناطق الأكثر كثافة سكانية في العالم. تمّ رصد أول حالتَي كوفيد-19 في 20 آذار/ مارس (لكن عدم توافر معدات الفحص أدت إلى فحص 92 شخصًا فقط من أصل مليونين يسكنون في غزة). بعد معاناة على مدى 13 سنة من حصار إسرائيلي وتدمير ممنهج للبنى التحتية الأساسية، تتسم الظروف الحياتية في قطاع غزة بالفقر الشديد وسوء التصريف الصحي ونقص مزمن في الأدوية والمعدات الطبية (يوجد 62 جهازًا تنفسيًّا في غزة و15 منهم فقط قابل للاستعمال حاليًّا). كونها محاصَرة منذ أكثر من عقد من الزمن، تعيش غزة عزلًا عن العالم منذ ما قبل الجائحة الحالية، وقد يكون القطاع الإنذار المبكر لما قد يحصل في مجتمعات اللاجئين في الشرق الأوسط وغيره.
أزمات متقاطعة
الأزمة الصحيّة الوشيكة التي تواجه البلدانَ الفقيرة جرّاء "كوفيد-19" سوف تتأزّم أكثرَ نظرًا للانكماش الاقتصاديّ العالميّ المُرافق للوباء والذي من شبه المؤكّد أنّ تداعياتِه ستتخطّى مفاعيلَ انهيار عام 2008. من المبكّر تحديد مدى العمق الذي ستصل إليه الأزمة، لكنّ العديد من المؤسّسات الماليّة المهمّة تتوقّع أن يكون هذا الركودُ الاقتصاديُّ الأكبر في ذاكرتنا الحيّة. أحدُ أسباب ذلك هو الإغلاق شبه المتزامنِ لقطاعات الصناعة والنقل والخدمات على امتداد الولايات المتحدة وأوروبا والصين، وهو ما لم يحدثْ منذ الحرب العالميّة الثانية. ومع التزام خُمس سكّان العالم منازلهم، انهارتْ خطوط التوريد والتجارة العالميّة وانخفضت أسعارُ أسواق الأسهم العالميّة، حيث سَجّلتْ معظمُ المؤشّرات الرئيسيّة خسائرَ بنسبة 30-40٪ من قيمتها في الشهر الممتدّ بين 17 شباط/ فبراير و17 آذار/ مارس.
لكن، وكما شدّد إريك توسان، لم يتسبّب "كوفيد-19" بالانهيار الاقتصاديّ الذي يتسارع إلينا الآن، بل ضغَط الفيروسُ على الزنّاد الذي أطلق شرارة أزمةٍ أعمق كانت تتشكّل على مدى سنواتٍ عدّة مضتْ. وما الإجراءاتُ المتَّبعةُ من قبل الحكومات والبنوك المركزيّة منذ 2008، وأبرزُها سياساتُ زيادة الكتلة النقديّة وتخفيضات الفوائد المتكرّرة، إلّا دليلٌ على ذلك. سعتْ هذه السياساتُ إلى رفع أسعار الأسهم من خلال زيادة عرض النقد الرّخيص إلى حدٍّ كبيرٍ في الأسواق الماليّة، وذلك بهدف تحقيق نموٍّ ملموس في كافّة أشكال الدَّين، على مستوى الشركات والحكومات والأُسَر. ففي الولايات المتحدة، مثلًا، بلغتْ ديونُ الشركات غير الماليّة الكبرى 10 تريليونات دولار في منتصف عام 2019 (أي حوالي 48٪ من إجمالي الناتج المحلّيّ)، مسجّلةً ارتفاعًا ملموسًا عن ذروتها السابقة في عام 2008 (عندما بلغ نحو 44٪). في معظم الحالات لم تُستثمر هذه الديون في استثماراتٍ منتجة، بل استُخدمتْ لتمويل نشاطات ماليّةٍ (مثل تمويل عائدات الأسهم وإعادة شرائها، وعمليّات الدمج والاستحواذ). وهكذا أصبحتْ لدينا الظواهرُ الرائجة لارتفاع أسعار أسواق الأسهم من جهة، وركود الاستثمارات وهبوط معدّلات الأرباح من الجهة الأخرى.
لكنّ البارزَ في الأزمة المقبلة أنّ التركيزَ الأكبرَ للنموّ الحاصل في ديون الشركات هو في السنداتِ عاليةِ المخاطر (أو ما يسمّى سندات الخردة)، أو في السندات المصنَّفة BBB، أي التصنيف الذي يقع مباشرةً فوق تصنيف سندات الخردة. وبالفعل، شكّلت الديونُ المصنَّفة BBB ما نسْبتُه 50٪ من سوق السندات العالميّة في عام 2019 وفقًا لشركة "بلاك روك"، وهي أكبر شركة إدارة أصول في العالم، علمًا بأنّ هذه النسبةَ كانت 17٪ فقط في عام 2017. هذا يعني أنّ الانهيارَ المتزامن للإنتاج والطلب وأسعار الأصول الماليّة على مستوى العالم يمثّل مشكلةً كبيرةً للشركات التي تحتاج إلى إعادة تمويل ديونها. في ظل تباطؤ النشاط الاقتصاديّ في القطاعات الأساسيّة إلى حدّ التوقُّف، تجد الشركاتُ التي كانت قد قرّرتْ ترحيل ديونها نفسَها أمام سوق ائتمانيّة مغلقة بالمبدأ، فلا أحدَ مستعدٌّ لمنح قروضٍ في هذه الظروف، حيث إنّ العديدَ من الشركات المثْقلة بالديون (خاصة الشركات المنخرطة في قطاعات الطيران والبَيع بالتجزئة والطاقة والسياحة والسيارات والترفيه) قد لا تحقّق أيَّ مداخيل في الفترة المقبلة. ولذلك يرجَّح أنّ موجةً من الإفلاسات والتخلّف عن السّداد والتخفيضات الائتمانيّة تلوح في أفق الشركات الكبرى. وهذه المشكلةُ ليست حِكرًا على الولايات المتحدة، فقد حذّرَ محلّلون ماليّون مؤخّرًا من "أزمةٍ نقديّة" و"موجة إفلاسٍ" قد تضرب منطقتَي آسيا والمحيط الهادئ، حيث تضاعفتْ ديون الشركات في العقد الماضي من الزمن لتصلَ إلى 32 تريليون دولار.
يشكّل كلّ ما ذُكِر خطرًا داهمًا على باقي العالم، إذ ستساهم مجموعةٌ من أساليب نقل العدوى، كما يفعل الوباء، بنشر الانكماش الاقتصاديّ بين كافّة البلدان والشعوب الأكثر فقرًا. وكما حصل خلال أزمة 2008، من المرجّح أن تشهد هذه البلادُ ركودًا في التصدير وتراجعًا حادًّا في الاستثمارات الأجنبيّة وعائدات السياحة، وانخفاضًا في التحويلات الماليّة للعمّال المغتربين. وغالبًا ما يغيب هذا العاملُ الأخيرُ عن النقاشات الدائرة حول الأزمة الحاليّة، لكن من الضروري التذكير بأنّ أحد أبرز ملامح العولمة النيوليبراليّة هو إدماجُ مجموعاتٍ كبرى من سكّان العالم في المنظومة الرأسماليّة العالميّة من خلال التحويلات الماليّة من قبَل أفراد الأسرة المغتربين، إذ كان عدد الدول التي تُشكّل التحويلات الماليّة من المغتربين أكثر من 10٪ من إجمالي الناتج المحلّي فيها 11 دولة في عام 1999؛ بينما بلغ هذا العدد 30 دولة في عام 2016، حيث سجلّتْ فوق 30% من الدول الـ179 التي توافرتْ بياناتُ تحويلاتها الماليّة نسبةَ تحويلاتٍ تفوق الـ5٪ من إجماليّ الناتج المحلّي فيها، وبذلك تكون قد تضاعفتْ هذه النسبةُ منذ عام 2000. والمذهل في هذه الأرقام أنّ عملياتِ التحويل هذه تطاولُ مليار نسمةٍ حول العالم، من أصل سبعة مليارات، إمّا كمُرسلين للأموال أو مستلمين لها. لذلك، فإنّ إغلاقَ الحدود بسبب "كوفيد-19"، إلى جانب وقْف النشاطات الاقتصاديّة في قطاعاتٍ أساسيّة يشغُلها المهاجرون غالبًا، قد تؤدّي إلى هبوطٍ حادٍّ في التحويلات الماليّة للعمّال عالميًّا، والذي ستترتّب عليه عواقبُ وخيمةٌ في بلدان الجنوب.
كما أنّ هناك آليّةً أساسيّةً أخرى يمكن من خلالها لهذه الأزمة الاقتصاديّة المتسارعةِ أن تصيبَ بلدان الجنوب، وهي تَراكم ديون البلدان الفقيرة في السنوات الأخيرة، والتي تشمل البلدانَ الأقلّ تطوّرًا في العالم بالإضافة إلى ما يُسمّى بـ"الأسواق الناشئة". فقد قدّر معهدُ التمويل الدوليّ في أواخر عام 2019 أنّ ديونَ الأسواق الناشئة بلغتْ 72 تريليون دولار، وهو رقمٌ تضاعَفَ منذ عام 2010، بالإضافة إلى أنّ جزءًا وافرًا من هذه الديون بالدولار الأميركيّ، أي أنّها تعرّض أصحابَها لتقلّبات سعر الدولار. وفي الأسابيع الأخيرة، ارتفع سعرُ صرف الدولار الأميركي على نحوٍ كبيرٍ نتيجة توافد المستثمرين نحو ملاذ استثماريٍّ آمنٍ في ظل الأزمة، وبذلك تكون العملاتُ الوطنيّة الأخرى قد ضعفتْ وازداد عبءُ سداد فوائد الديون الصادرة بالدولار وأصولها. هذا وكانت 46 دولة تنفق في عام 2018 على خدمة دَينها العام أكثرّ مما تنفق على أنظمة الرعاية الصحيّة كنسبةٍ من إجماليّ الناتج المحلّيّ. أمّا اليوم فالوضعُ مقلق، إذ إنّ العديد من البلدان الأكثر فقرًا ستواجه أعباءَ مستحقّات ديونٍ متزايدة في نفس الوقت التي تحاول فيه أن تديرَ أزمةً صحيّةً غير مسبوقة، وكلّ ذلك يحدث في سياق كسادٍ عالميٍّ عميقٍ جدًّا.
دعُونا لا نقع في وهْم أنّ هذه الأزماتِ المتقاطعة من الممكن أن تنهيَ التكيّف البنيويَّ أو قد تؤدّي إلى ظهور نوع من أنواع "الديمقراطيّة الاجتماعيّة العالميّة". فكما رأينا مرارًا على مدى العقد الماضي من الزمن، فإنّ رأسَ المال غالبًا ما يستغلّ الأزماتِ كفرصٍ لإنجاز تغيير جذريٍّ لم يكن متاحًا سابقًا أو كان يبدو مستحيلًا. وبالفعل، فقد قال رئيس البنك الدوليّ ديفيد مالباس في اجتماع وزراء ماليّة مجموعة العشرين قبل بضعة أيّام: "على البلدان أن تقوم بتنفيذ إصلاحاتٍ بنيويّة من أجل تقليص المدّة الزمنيّة للتعافي... بالنسبة إلى البلدان التي تعاني من المعوقات الناتجة من إجراءاتٍ مفرطة أو أنظمة دعم أو نظم إصدار التراخيص أو الحمائيّة التجاريّة أو بطء عمليّات المقاضاة، فإنّنا سنعمل معهم لخلق أسواقٍ وخياراتٍ وآفاقِ نموٍّ أسرع خلال مرحلة التعافي".
من الضروريّ جلبُ كافّة هذه الأبعاد الدوليّة إلى صلب نقاش اليسار حول "كوفيد-19"، وذلك من خلال رَبْط مكافحة الفيروس بمسألة إلغاء ديون "العالم الثالث"، وإلغاء حُزَم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للتكيّف البنيويّ النيوليبراليّ، والمطالبة بدفع تعويضاتٍ عن الاستعمار، وإيقاف تجارة السلاح العالميّة، وإنهاء أنظمة العقوبات، وكلّ ما إلى ذلك. فكلّ هذه الحملاتِ هي فعليًّا مسائلُ متعلّقةٌ بالرعاية الصحيّة العامّة، إذ إنّها تؤثّر مباشرةً على قدرة الدول الفقيرة على التخفيف من آثار الفيروس، والانكماش الاقتصاديّ المرافق له. لا يكفي الحديثُ عن التضامن والمساعدة الذاتية المتبادلة في مناطقنا ومجتمعاتنا وضمن حدودنا الوطنية، من دون طرْح التهديد الأكبر الذي يمثّله الفيروس على سائر العالم. طبعًا تؤثّر مستويات الفقر العالية وعدمُ استقرار ظروف العمل والسكن، والافتقار إلى بنيةٍ تحتيّةٍ صحيّة مناسبة على قدرة السكان في أوروبا والولايات المتّحدة على التخفيف من آثار الوباء أيضًا، لكنّ الحملاتِ الشعبيّة في بلدان الجنوب العالمي تقوم على بناء تحالفاتٍ تعالج تلك المسائلَ من نَواحٍ أمميّة ومثيرة. من دون هذه الوجهة العالميّة، قد نقعُ في فخّ تعزيز السّبل التي يُستخدَم فيها الفيروس لدعم الخطاب السياسيّ السائد للحركات المعاديةِ للمهاجرين والأجانب، وهي سياسةٌ تتجذّر في الاستبداد والهوَس بإحكام الحدود، وقوميّة "بلدي أوّلًا".
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.