العدد ٢٦ - ٢٠٢٠

الكورونا اللبنانيّ

عندما تصير الصحّة سلعة

رُبّ عزلةٍ جامعة

أنتجت الرأسمالية، القوةُ المنظِّمةُ الأقوى في عالمنا، فائضًا من كل شيء: ذكاءً اصطناعيًّا وطبًّا هادفًا ومشخصنًا وعلمَ التَّخَلُّق وتقنيات النانو وزراعات لمحاصيل أحادية ذات إنتاج مرتفع وفنًّا تصوّريًّا وجراحةَ آليّة وأفرادًا يتمتّعون بتعليمٍ عال.

للمفارقة، أظهرت جائحة كوفيد-19، التي تنتشر في العالم منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي على أقرب تقدير، كيف هندست الرأسماليةُ أيضًا مصائبَ كبرى. استبدادٌ ومراقبةٌ بتقنيات عالية وعسكرةٌ في الخطاب والأسلوب، إذ هناك حربٌ تُخاض ضد الفيروس. دولٌ غير قادرة على تصنيع عدة حماية ونظافة أساسيّة، من أقنعةٍ وقفازات وورق حمّام، وكذلك الأدوات الطبية الأكثر تعقيدًا، من أجهزة التنفس ومقاييس منسوب الأوكسجين، فتلجأ إلى سرقتها. بنى رعاية صحية مترهلة تنقصها المواردُ البشريّة والمالية وتغيب بالكامل في بعض الأماكن. أسلوب معيشةٍ هشّ تعتمد حياتُكَ فيه على بدل شهري أو أسبوعي أو يومي أو في الساعة، تجنيه كموظّف أو مياوم في اقتصادٍ يشغّل الناس بالقطعة. فشلٌ في العناية بالأكثر ضعفًا. عنفٌ مصدره على الدّوام مفهومُ القيمة وعدم القدرة على رؤية الإنسان خارج مفهوم العامل في نظام رأسماليّ (وهنا يختلف العمل عن الوظيفة كما وصفته حنة آرندت، وهو يعبّر عن عالم الأشياء والسلع الزائف والمخترَع من قبل وعبر الإنسان نفسه). وأخيرًا وليس آخرًا، مأساة أن يُتوفّى من تحبّ وحيدًا من دون القدرة على وداعهم.

لا تختلف جائحة كوفيد-١٩ في ما تُبيّنه، أي ما سبقها وفاقَمَها وكيفيّة وصولنا إلى ما نحن عليه وكذلك تداعياتها الحاليّة والمستقبلية بالإضافة إلى حدودها، عن حادثة إطلاق أوّل قمر صناعي عام 1975 ويُدعى "سبوتنيك 1". وقد دفعت حادثةُ إطلاق القمر الصناعيّ حنّة آرندت إلى استكشاف كيف يهدّد تقاطعُ نماذج العزلة العالميّة والأرضية مستقبلَ الحياة بأسرها. تنشأ حالتُنا المعاصرة من علاقاتها المتناقضة بين التكنولوجيا والعلوم والخبرات والتقدّم العلمي وتركُّزِ الثروة في يد الأقليّة من جهة، والوظيفةِ الإنسانية، التي تصنع الحياةَ وتُديمها وتُكاثرها، والعملِ والضعفِ والوهنِ أمام الموت وتحديات أخرى كقوانين الطبيعة والتاريخ أو الآلهة، من جهةٍ أخرى. إذًا أصبح بإمكان الإنسان ارتياد الفضاء، وبإمكان الخوارزميات الرقمية إصدار أحكام قضائية، وبإمكان تجارب عشوائيّة خاضعة لرقابةٍ علميّة تحديد كيفية تقليص الفقر حول العالم، وبالتالي تجاوُز الحدود "الطبيعية" للأرض وفكر ورغبات الإنسان. لقد غيّر كلُّ ذلك، وبشكلٍ جذريّ، نطاقَ الاحتمالات الوجودية وضربَ الترابط القائم مع الهموم السياسية والعالمية (من عالم، أي الهموم الاجتماعية والاقتصادية).

بعد أكثر من نصف قرن على إطلاق "سبوتنيك" إلى الفضاء، تطرح جائحة كوفيد-19 أسئلةً شبيهة، ولو كانت من زاوية مختلفة، فهي تعرّي حقيقةَ أنّ كيفية انتظامنا وإنتاجنا لمجتمعاتنا وعالمنا تجعلنا غير مجهّزين لمواجهة التهديدات الأرضية والعالميّة على حدّ سواء.

على نطاق محليّ، لا يختلف لبنان عن باقي دول العالم. في الواقع، إنه المثال الأبرزُ على الإخفاق التامّ، فهو الكارثة الناتجة من عالم محليّ معولَمٍ خلقناه لأنفسنا، عالم مدمّر مبنيّ على علاقات مشتّتة وغير عملانية بين البشر وغير البشر، أي الشجر والأنهار والجسور والسدود والمولات التجارية والسيارات رباعية الدفع والصرّاف الآلي وكيلو الأرز والشهادة الثانوية والفيروس، وبين البشر أنفسهم، ومع السياسة. وإن وُجد قطاعٌ واحدٌ أو مجال عمل واحد يتجلّى فيه ذلك، خصوصًا في الظروف الحالية، فهو قطاع الرعاية الصحيّة.

أنظمة الرعاية الصحيّة الحكوميّة والخاصة

يشغل القطاع الخاصُّ الجزء الأكبر من نظام الرعاية الصحية في لبنان، إذ يملك 70٪ من مراكز الرعاية الصحية الأوّلية و80٪ من المستشفيات، من بينها ثمانية مستشفيات جامعيّة على الأقل. كما أنّ القطاع مجزّأ لكونه مبنيًّا على شراكات ملتبسةٍ بين القطاعَين العام والخاص مع مصادر متعدّدة لتقديم الخدمات والتمويل والوكالة للمرضى، وذلك من قبَل مؤسّساتٍ توافق على سداد التكاليف وتحدّد أساليب العلاج المعترف بها والمرخّصة.

يشمل مقدّمو الخدمات مستشفياتٍ حكوميّة شبه مستقلّة ومستشفياتٍ خاصة لا تتوخى الربح ومستشفيات خاصة ربحيّة وما يزيد عن 700 مستوصف ومركز تنمية اجتماعيّة تقدّم خدمات رعاية صحية أوّلية، تدير 70٪ منها منظماتٌ غير حكومية، محليّة ودوليّة، وجمعيّات مرتبطة بمؤسسات دينيّة أو أحزابٍ سياسيّة. كما تشرف وزارة الصحة العامة على شبكةٍ تضمّ 220 مستوصفًا مرخّصًا من الوزارة تقدّم رزم رعاية متكاملة، بما فيها الرعاية الصحية الجنسية والإنجابية. مصادر التمويل متنوّعة وتشمل وزارة الصحة العامة والصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعي (تم تأسيسه عام 1963) وصناديق القوّات المسلحة وتعاونيّات موظفي الدولة ومنظمات غير حكوميّة وشركاتِ تأمينٍ خاصة.

يحظى اليوم حوالي 47٪ من المواطنين اللبنانيّين بتغطيةٍ صحيّة، من بينهم 23٪ يغطيهم الصندوقُ الوطنيّ للضمان الاجتماعي و9٪ تغطيهم المؤسّساتُ العسكريّة و7٪ التأمين الخاص و4٪ تعاونيات موظفي الدولة و4٪ جهات أخرى. أمّا الـ53٪ الباقون فلا يتمتّعون بأيّ تغطية صحيّةٍ رسمية، وتتكفّل بهم وزارة الصحة العامة التي تلعب دور الملاذ الأخير في التأمين الصحي . الجدير بالذكر أنّ التغطية الصحية على مستوى المستوصفات تقع على عاتق برنامج الوزارة الخاص بالرعاية الأوّلية والذي يموّله البنك الدولي من خلال مجموعةٍ من الهِبات والقروض والتي يبلغ مجموعها 150 مليون دولار أميركيّ.

هناك أيضًا أشكالٌ ومصادرُ أخرى من التغطية الصحيّة لغير اللبنانيّين المقيمين في لبنان. يحظى اللاجئون الفلسطيّنيون بالرعاية الصحية من خلال أنظمةٍ صحيّةٍ تديرها و/أو تموّلها منظمة "الأونروا". تضمّ هذه الأنظمةُ عياداتٍ صحيةً تديرها "الأونروا" ومستشفيات تديرها "جمعيّة الهلال الأحمر الفلسطيني" ومستشفيات خاصة وحكومية ضمن نظام الرعاية الصحية اللبناني، حيث تغطي "الأونروا" وشركاؤها نفقات العلاج". لكن كما هو معلوم، تعاني "الأونروا"، منذ مدّة، من تقليصٍ متزايد للتمويل وضغطٍ على الخدمات وإيقاف لبرامجها. أمّا خدمات الرعاية الصحية للّاجئين السوريّين، فهي تخضع لآليّات دعم "المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين" UNHCR وشركائها في المنظّمات غير الحكوميّة الدولية و/أو المحلّيّة. كما تقدّم "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين" دعمًا للرعاية التخصّصية في المستشفيات اللبنانيّة. نلحظ هنا أيضًا توجّهًا عامًّا، إذ تتقلّص الأموال المخصّصة للرعاية الصحية بينما تستمرّ المستشفيات الخاصة بتحقيق الأرباح من جسم الإنسان.

ولا يحظى العمّال الأجانب بتغطية صحيّةٍ سوى التأمين الصحي الإلزاميّ في نظام الكفالة، والذي من المفترض أن يسمح لحاملي أوراق كفالة بالحصول على الخدمات الأساسيّة في المستشفيات الحكومية، إلّا أنّ الواقعَ المعيش مختلف. أمّا العمّالُ الأجانب الذين لا يحملون أوراقًا ثبوتيّةً فلا يحظون بأي تغطية صحيّة ما خلا بعضَ الدعم من منظمات غير حكومية محدّدة.

أخيرًا، تستمرّ الحكومة اللبنانية، من خلال وزارة الشؤون الاجتماعية وبمساهمة "صندوق البنك الدولي الائتماني لمساعدة لبنان" و"المفوضية السامية لشؤون اللاجئين"، بتطبيق المشروع الطارئ لـ"البرنامج الوطني لاستهداف الأسر الأكثر فقرًا". تمّ تأسيس المشروع عام 2011 ضمن المشروع الثاني لدعم تطبيق شبكة الحماية الاجتماعية الطارئة. وقد شمل تقديم المساعدة الاجتماعية لأربعين ألف أسرة لبنانيّة تعاني من الفقر الشديد، بالإضافة إلى تغطية صحيّةٍ للمستفيدين في المستشفيات الخاصة والحكومية، مع الإعفاء من دفع الـ10إلى 15٪ من كلفة الاستشفاء المترتّبة عليهم.

الحرب الأهليّة والقطاع الصحّيّ

تركت الحرب الأهليّة اللبنانية أثرًا كبيرًا على النظام الصحيّ في البلاد. انخفضت نسبة الخدمات الصحيّة المقدّمة من الدولة إلى حدٍّ كبير بين عامي 1975 و1990، كما أدّت هذه السنين العجافُ إلى التدمير المنظَّم للقدرات المادية والبُنى التحتيّة والمؤسساتية للقطاع الصحيّ الحكومي. عام 1990 لم يبقَ في الخدمة سوى نصف المستشفيات الحكومية الـ24 بمعدّل سعة سريريّة لا تتعدّى الـ20 سريرًا للمشفى الواحد. دُمّرت المستشفيات الحكومية وخرجت عن الخدمة بينما أُنهك الكادر الطبيّ والتمريضيّ وهاجَرَ العديدُ منه. في المقابل، شهدت الحرب تزايدًا هائلًا في المستوصفات التابعة للمنظمات غير الحكومية والجمعيّات المختلِفة والأحزاب السياسية. استولت هذه المستوصفات تدريجيًّا على الخدمات التي من المفترض أن يقدّمها القطاعُ العام. بالإضافة إلى ذلك، لعبت وكالات الأمم المتحدة دورًا كبيرًا في تصميم وتطبيق برامج خدمات صحية أساسيّة بالتنسيق مع المنظمات غير الحكومية. اعتمدت النشاطات الطبيّة لهذه المراكز بنحوٍ كبيرٍ على توافر الأدوية التي أتت غالبًا عن طريق تبرّعات من وكالاتٍ مثل "اليونيسف" والتي كانت تستخدم الأدويةَ لتحفيز المنظمات غير الحكومية على تبنّي برامج وقائيّة.

بالتالي، تكون الحرب قد دفعتْ باتّجاه الخصخصة المنتشرة اليومَ في القطاع الصحيّ في لبنان. على سبيل المثال، في العام 1970 كانت 10٪ فقط من موازنة وزارة الصحة مخصّصة للإنفاق على الرعاية الصحية في المستشفيات الخاصة، بينما يقدَّر اليوم أنّ نحو ثلثي مدخول المستشفيات الخاصة مصدره المال العام . بالمجمل، تعتمد وزارة الصحة العامّة إلى حدٍّ كبير على التمويل والدعم الدولي. من بين شركاء الوزارة عدّةُ وكالاتٍ للأمم المتّحدة ووكالات حكوميّة وصناديقُ أوروبيّة ودعم من البنك الدولي وتدخّلات لمنظمات غير حكوميّة. كما سبق وذكرنا، يعمل هؤلاء الشركاءُ على مستوى المستوصفات، وأيضًا على "بناء القدرات" في المستشفيات الحكوميّة. على سبيل المثال، يعتمد "مستشفى رفيق الحريري الجامعي" (مستشفى بيروت الحكومي سابقًا)، الذي يقود جهود البلاد في مواجهة تفشّي كوفيد-19 وفي فحص ومعالجة المرضى المصابين به، على الدعم المقدّم من منظمات مثل "اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر" و"أطباء بلا حدود" للقيام بعمله.

أخيرًا، يؤثر كل من الدَّين العام والعجز التجاري والمعارضة الداخلية والشرخ السياسيّ العميق والضغوط من القطاع الخاصّ على توزيع موازنة الوزارة الصحة العامّة وإنفاقها. بالإضافة إلى الاعتقاد الرائج، والذي غالبًا ما يكون مضخّمًا، بأن الأحزاب السياسيّة تستخدم المال العامَّ لأغراض زبائنيّة، يلعب مديرو المستشفيات الخاصّة وأطبّاء معروفون وأصحاب نفوذ وشركات استيراد الدواء دورًا مهمًّا في كيفية توزيع أموال وزارة الصحة العامة على المستشفيات الخاصة والعلاجات التي تتكفّلها الوزارة، بالإضافة إلى إدارة مناقصات شراء الأدوية للوزارة من شركات، مثل "مرساكو" و"فتّال" و"فرعون" و"أومنيفارما" وغيرها. تنتفع شركات الأدوية بشكل كبير من القطاع الصحي المخصخص. وفقًا لبيانات الجمارك اللبنانيّة، استورد لبنان في عام 2014، على سبيل المثال، منتجاتٍ صيدلانيّة بقيمة 1,1 مليار دولار، وتسيطر عشرُ شركات فقط على 90٪ من سوق الدواء هذه ويتحكّم أربعٌ منها بـ50٪ من السوق. يرسم هذا المشهدُ صورة عن الأرباح الهائلة التي تحقّقها هذه الشركات.

جريمة بـ"كوفيد-19" وبدونه

يقول الاقتصاديّ اليونانيّ-الأسترالي ووزير ماليّة اليونان السابق يانيس فاروفاكيس إنّ النظام الصحيَّ الخاصّ ليس عديم الفاعليّة فحسب بل هو مدمِّر أيضًا. كل دولار يُنفَق على الرعاية الصحية الخاصة يعيق قدرة مجتمعاتنا على التعامل مع الأوبئة . لا توجد حجّةٌ منطقيّة للرعاية الصحية الخاصة، ليس فقط لأنّها تجعل من الرعاية أكثر كلفة وغير متاحة للجميع، بل هي تطرح أسئلةً جوهريّة حول معنى الصحة والمرض وما نعتبره مهمًّا في مجتمعاتنا وكيف نجهّز العاملِين في القطاع الصحيّ ونقيّمهم ونكافئهم، وكيف قد تؤدّي أو لا تؤدّي خبراتهم إلى مهارات ومعرفة إضافيّة، بالإضافة إلى كيفيّة نظرتنا إلى جسم الإنسان.

يستغلّ القطاعُ الصحيُّ الخاص ضعف الإنسان في وجه الموت. ببساطة، هو أسوأ استغلال وانتهاكٍ لجسم الإنسان من أجل الربح المادّي. ولبنان مثالٌ حيٌّ على ذلك، إذ يستحيل في ظل نظامه المخصخص والمجزّأ الحاليّ تطوير أطر وقائيّةٍ وعلاجيّة للصحة الاجتماعية ولتقديم الرعاية الصحية كحقّ، فما بالك بتوفير مواجهة جائحة مثل كوفيد-19. كما سبق وذكرنا، ترتكز القدرات التدميرية للنظام الصحي الخاص على عجز المرضى عن الحصول على الرعاية الصحية وتغطية تكاليفها، وهي تدمّر أيضًا قدرةَ المجتمع على التعامل مع وباء.

نتوسّع أكثر في هذه الفكرة من خلال مثالين: قدرة البلد على إجراء الفحوصات، ورفض المستشفيات الخاصة إجراء الفحوصات لمرضى كوفيد-19 أو معالجتهم من دون مقابل.

فحوصات كوفيد-19

في الأسبوع الأخير من شهر آذار/مارس، دانت نقابة أطبّاء لبنان طريقةَ إجراء فحوصات كوفيد-19 التي كانت تُجريها مستشفيات ومختبرات خاصة عدّة، ودعت وزارة الصحة إلى الدفع بالشركات المستوردة للفحوصات لحصر مبيعاتها إلى المستشفيات المؤهّلة فقط. كما طلبت من الوزارة التكفّلَ بتكاليف هذه الفحوصات في المستشفيات الخاصة. يستخدم فحص كوفيد-19 تقنية RT-PCR والتي تسمح برصد التسلسلات الجينيّة الخاصة بالفيروس، وهي تقنية دقيقة جدًّا تتطلّب الالتزام بعدد من البروتوكولات والأدوات ومن أنواع الجزيئيات المستخدمة لرصد وتحديد التسلسل الجيني للفيروس، كما أنّها تتطلّب معايير تحكّم (الفحص وإعادة الفحص للتأكد من صحة النتائج) والتي يستحيل تحقيقُها إذا كانت الفحوصات تُجرى بطريقة عشوائيّة. في مشهدٍ كهذا، تزيد مخاطر واحتمالات الحصول على نتائج خاطئة، مما يرتّب تداعياتٍ خطرة في حالة كوفيد-19، ويرجّح ألّا تكون الأرقام الرسمية اليوميّة لوزارة الصحّة بالدقّة المبتغاة.

تعقيبًا على ما سبق، أصدرت وزارة الصحة تعميمًا في 3 نيسان/أبريل 2020 يتضمّن لائحةً بأسماء 15 مستشفى تُعتبر مؤهلة لإجراء فحوصات كوفيد-19 بتقنية RT-PCR. تكشف نظرة سريعة على اللائحة نقطتي نقصٍ في إمكانية الوصول إلى المستشفيات والتملّص من المسؤوليّة الواقعة على عاتق المستشفيات الحكومية. غابت مستشفيات البقاع والجنوب وعكار عن اللائحة بالكامل، كما أنّ مستشفى "رفيق الحريري الجامعي" في بيروت كان المستشفى الحكومي الوحيد الذي يجري الفحص مجانًا، إذ يترتّب على المرضى الذين يقصدون المستشفيات الأخرى دفع ثمن فحوصاتهم. كما أعلن بعض الذين قصدوا أحد أشهر المراكز الطبيّة في بيروت أنه توجّب عليهم دفع مبلغ 160 ألف ليرة لفتح ملف في المركز في حال كانوا يقصدونه للمرّة الأولى، ذلك بالإضافة إلى كلفة الفحص البالغة 200 ألف ليرة، كما طُلب من بعض المرضى إجراء صوَرٍ شعاعية لصدورهم على كلفتهم الخاصة أيضًا. في المقابل، أعلن مدير مستشفى "رفيق الحريري الجامعي" الدكتور فراس أبيض على موقع "تويتر" أنّه عندما يفوق عدد الفحوصات قدرة المستشفى، يرسلون الفحوصاتِ إلى المركز الطبّيّ لـ"الجامعة الأميركية" في بيروت ومستشفى "أوتيل ديو"، التابع لـ"جامعة القديس يوسف" الخاصة، كجزءٍ من التعاون في مواجهة الوباء. وليس واضحًا ما إذا كان مستشفى "رفيق الحريري الجامعي" هو مَن يغطّي نفقات هذه الفحوصات أو وزارة الصحة.

نقل الأعباء

توجد عدة تصوّرات للتعاون بين القطاعين العام والخاص في الرعاية الصحيّة. في لبنان، يمكن تشبيه هذا التعاون على النحو الآتي: النظام الصحيّ مبنيٌّ لتجنيَ مؤسّساتُ الرعاية الصحيّة الخاصة الأرباحَ في مقابل إلقاء الأعباء الماليّة والطبيّة، بالإضافة إلى المخاطر، على المستشفيات الحكوميّة. نقل الأعباء هذا هو من الأطر التي يمكن من خلالها النظرُ إلى ديناميّات القطاع الصحي، تمامًا مثل نقل الأعباء الهرميّ والجندريّ من الأطبّاء إلى الممرّضات.

الممرّضون في لبنان مستغَلّون ومنهَكون ولا يجنون ما يستحقّونه. وفقًا لرئيسة نقابة الممرضين ميرنا ضومط، قد يكون راتب ممرّضٍ بدوامٍ كامل 700 ألف ليرة فقط. في ظل الانهيار الاقتصاديّ الحاصل في البلد، خفّض العديد من المستشفيات رواتب ممرضيه، كما أن العديد من الممرضين لم يقبض راتبه منذ خمسة أو ستة أشهر. لكن تركيزنا هنا هو على ديناميّات العلاقة بين مؤسّسات الرعاية الصحيّة الخاصة والمستشفيات الحكوميّة. في السنوات الماضية، عمّقت أزمة اللاجئين السوريّين فَهمنا لكيفيّة نقل هذه الأعباء، إذ كانت المستشفيات الخاصّة، المتعاقدة مع "المفوضيّة السامية لشؤون اللاجئين"، ولمعالجة اللاجئين السوريين، غالبًا ترفض استقبال المرضى المخطِرين الذين يحتاجون إلى عناية فائقة أو قد يمضون وقتًا طويلًا في المستشفى. لهذا الرفض أسبابٌ عدّة، منها، على سبيل المثال لا الحصر، المحافظةُ على العدد المحدود من الأسرّة، خاصة في العناية الفائقة، لاستقبال مرضى قد يدفعون بدلات أعلى، وتفادي احتمال ارتفاع أرقام الوفَيات لديهم، والذي قد يستدعي تحقيقًا وزاريًّا كما في حالات وفاة الأمّهات خلال الإنجاب مثلًا. غالبًا تذهب هذه الحالات إلى المستشفيات الحكوميّة.

في سياق استراتيجيّة الوزارة على مستوى البلد لمواجهة وباء كوفيد-19، جرى تفويض "مستشفى بيروت الحكومي" تقديمَ الرعاية المجانية للجميع. نظريًّا، المستشفى هو الأكبر في البلد (بسعة قد تصل إلى 600 سرير)، وهو مستشفى جامعيٌّ مؤهل للتعامل مع حالاتٍ معقّدة، ويخوض كادرُه بحوثات طبّيّة، كما أنه قادر على تقديم رعاية عالية الجودة وإنتاج معرفة علمية صلبة. لكنّ الوقائع على الأرض، وفورة حملات التمويل لدعم المستشفى، تظهر أنّ فريق العمل منهك ولا يتقاضى مستحقّاته كما أنه معرّض للخطر ويلجأ إلى الإضرابات، وغالبًا ما يوجد نقصٌ في معدّات المستشفى، إضافةً إلى ترهّل حال بنيته التحتية. في المقابل، وحتّى تاريخ كتابة هذه السطور، تستمرّ المستشفيات الخاصة برفض معالجة مرضى فيروس الكورونا المستجدّ بالمجان، وحجّتُها أن وزارة الصحة العامة والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مدينان لها بمبالغ لمعالجتها مرضى منذ مدة طويلة. ليس واضحًا ما إذا كانت هذه المستشفيات سترفض استقبال المرضى علنًا إذا فاق عددهم القدرةَ الاستيعابية لمستشفى بيروت الحكومي، وهو أمرٌ محتمل.

أعلن عدد من المستشفيات الخاصة في بيروت وجوارها تجهيزه أجنحة خاصة لتشخيص مرضى كوفيد-19 والعناية بهم. في مذكّرة موجّهة إلى شركات التأمين، وأغلبها يستثني كوفيد-19 من تغطيته إذ تذكر عقود هذه الشركات أن الجوائح غير مغطاة ببوليصاتها والأطراف الأخرى التي تغطي نفقات الطبابة، ذكرتْ إحدى المؤسّسات الفرنكوفونيّة المحترمة، في منطقة الأشرفية ببيروت، أنّ في "مركز الإنفلونزا" لديها، قد تصل كلفة الفحوصات التشخيصية (عدد من فحوص PCR، ومسح ضوئي صدري، واستشارة طبية) إلى 638 دولارًا، وذلك قبل دخول المريض المستشفى. بعد دخوله، تصبح كلفة الغرفة للّيلة الواحدة، من دون الأخذ بعين الاعتبار كلفة الأدوية وزيارات الطبيب، 1000 دولارٍ للغرفة الفردية و1500 دولارٍ لغرفة العناية الفائقة من دون جهاز تنفّس، و2800 دولار إذا تطلّب الأمر جهاز تنفس. يحصل المرضى المنخرطون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على حسم بنسبة 30٪. أما الإجراءات الإضافيّة، مثل أكسجة الدم خارج الجسم في حال فشل القلب والرئتين بذلك، فتحمل كلفة عشرة آلاف دولار تُحسب مرّة واحدة فقط.

لا يمكن للأغلبيّة الساحقة من سكان لبنان تحمّل هذه الأكلاف، حتى قبل الانهيار المالي في البلاد، فما بالك بعد انهيار سعر صرف الليرة. سيقصد هؤلاء المستشفى الحكوميَّ حتّى لو كان في وضعٍ يرثى له، فهو مستشفى الفقراء، أليس كذلك؟ لكن ماذا ستفعل المستشفيات الخاصة في حال فاقت الإصابات القدرة الاستيعابيّة للمستشفى الحكومي؟ هل سترفض استقبال المرضى؟ هل ستطرد المريض من العناية الفائقة بعد أسبوعين لأنّ الحساب فاق قدرة العائلة على الدفع؟

في النهاية لا توجد حقوق في الرأسمالية، فقط استهلاك. تحصل على ما تدفع ثمنه. تقبّل الأمر وكمّل دربك.

العزلة المزدوجة

إذا كان العالم اليوم معطوبًا، فإنّ لبنان محطّم وعلى شفير الانهيار. أتت جائحة فيروس كورونا المستجد لتفاقم آثار سنوات من استغلالٍ واستخراجٍ وسلبٍ بلا هوادة من قبل أوليغارشيّةٍ عاثت بالبلاد خرابًا. لكن كما لاحظ آدم هنية، يتشارك العالم اليوم تجربة متشابهة. إنّ مواجهة وباء كوفيد-19 وسط التخبّط الاقتصادي المرافق له تتطلّب مقاربةً عالمية. مع الحجر أو من دونه، لم نكن يومًا أكثر تواصلًا، لكن في "الملموس"، وحيث يزداد الوضع خطورةً، لم نشعر يومًا أننا وحيدون أكثر من اليوم. هنا صلب الموضوع: شدُّ الحبال بين العلوم والتكنولوجيا من جهة وعلاقاتنا بالحياة وبالآخر من جهة أخرى. هنا رابطٌ غير مفاجئ مع عمل حنة آرندت المرجعيّ عن أصول الاستبداد، إذ تُحاجج بأنّ الاستبداد كقابلية سياسيّة يولَد من هذه العلاقة الجدليّة جدًّا. في صراعها مع فيروس كورونا المستجد، استجابت الدول بأساليب متزايدة للاستبداد.

كشفتْ جائحة كوفيد-19 عن الطرق المتعدّدة التي نعاني فيها من عزلة مزدوجة: مع "الطبيعة"، أي علاقات البشر مع الطبيعة، ومع العالم الاجتماعيّ الذي خلقناه، الانهيار الاقتصاديّ، هذا إذا افترضنا أنّ مثل هذا التفريق ممكن. السياسة هي ما يقرّب بين الاثنين. كيف نقف في مواجهة المصائب؟ كيف نفكّك البنك الدولي؟ كيف نحلّ صندوق النقد الدولي؟ كيف نمنع الرأسمالية العالمية من أن تعيد إنتاج نفسها مجدّدًا، ومن أن تعمّق العزلة مجدّدًا، ومن أن تزيد تكرارًا ومرارًا عدمَ المساواة؟ هل العالم الذي رآه كارل ماركس حيث الكلّ يبرع على طريقته ممكن؟ لا أسعى في طرحي لهذه الأسئلة إلى النظر في براغماتية المقترحات السياسيّة، بل أرغب في تفعيل عمل المخيّلة من أجل جعل مستقبل بديل ممكنًا (وبأيّ ثمن؟).

أقلّه، ألّا يموتَ أحدٌ وحيدًا.

 

هوامش

1    أو علم ما فوق الجينات، وهو العلم الذي يهتمّ بدراسة العوامل الخارجيّة والبيئيّة التي تنشّط أو تثبّط عمل الجينات وتؤثّر على كيفيّة قراءة الخليّة للجينات.
2     Nicolas Celink, Antonio Casilli : «Le confinement se décline différemment selon sa place dans la société», Libération, 25 mars 2020.
3     Adrian Cho, Economics Nobel honors trio taking an experimental approach to fighting poverty, Science magazine, 14 October 2019.
4     Walid Ammar, Towards Universal Health Coverage: Universal Community Health Coverage for Preventive and Essential Outpatient Care.
Beirut: Ministry of Health; 2010
5    المقصود بتقديم الخدمات، الأطباءُ والممرّضون الذين يقدّمون الرعاية.
6     For more information, see Blanchet K, Fouad FM, Pherali T.,
Syrian refugees in Lebanon: the search for universal health coverage. Conflict and Health. Published 2016 Jun 1.
7    تتبع المستشفيات الحكوميّة لوزارة الصحة العامة لكنّها تتمتّع باستقلاليّة ماليّة وإداريّةٍ. الأطباء، مثلًا، ليسوا موظفين حكوميّين وقد تكون كلفة الطبابة على عاتق الوزارة أو المريض. تمّ منحهم هذه الاستقلاليّة بموجب قانون صدر عام 1996. وفقًا لمدير عام الوزارة الدكتور وليد عمّار، مَنح القانونُ المستشفيات الحكومية "فرصة ألّا تكون مكمّلة للقطاع الخاص فقط بل منافسة له أيضًا".
(Ammar Walid, "Health Beyond Politics". WHO, MPH,
ISBN 978-9953-515-489, Beirut. January 2009, p. 29)
8     Ammar, 2010.
9     Jade Khalife, Nadwa Rafeh, Jihad Makouk, Fadi El-Jardali, Bjorn Ekman, Nabil Kronfol, Ghassan Hamadeh & Walid Ammar (2017) Hospital Contracting Reforms: The Lebanese Ministry of Public Health Experience, Health Systems & Reform.
10     Ammar, 2009.
11     Ammar, 2010.
12     Waiting for Reforms. Executive Magazine. 2015.
13    Cf. https://www.youtube.com/watch?v=OLfHpvJKNg0&t=171s
14    أبلغ الأطباءُ الإيطاليّون أنه بينما كان ممرّضو وكادر الطوارئ منهمكين بالمرضى الذين يعانون من ضيق تنفّس، وقف الجراحون المتخصصون يتفرّجون لا يعرفون ماذا يفعلون حتى شرح لهم أطباء آخرون كيفيّة تنبيب المرضى، وأعطاهم المستشفى مناشير عن كيفيّة التعامل مع الأمراض المُعدية.

العدد ٢٦ - ٢٠٢٠
عندما تصير الصحّة سلعة

إضافة تعليق جديد

تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.