بدأ الحراك على شكل عامّيةٍ عابرةٍ للمناطق والطوائف والفئات الاجتماعيّة، ضمّتْ فئاتٍ واسعةً من الطبقات الوسطى وذوي الدخل المحدود وفقراء الأرياف والمدن، التفّت حول العلَم اللبنانيّ في هبّةٍ وطنيّةٍ عارمة لم تخلُ من تعبيرات السخط والغضب من جماهير أحزاب السلطة على قياداتها.
خلال الأسابيع الأولى، نزلَ إلى الشوارع واحتَلّ الساحاتِ العامّة عشراتُ الألوف من المواطنات والمواطنين عبّروا عن معاناتهم من البطالة وغلاء المعيشة وارتفاع أكلاف الصحّة والتعليم والتفاوتِ بين المناطق والطبقات، إلخ. شاركَ ذوو الحاجات الخاصّة والعسكريّون المتقاعدون وحضرتْ مطالبُهم والحقوق. وحضر الطلابُ والتلامذةُ محتجّين على غلاء الأقساط ومطالِبين بدعم التعليم الرسميّ، رافضين المناهجَ "البالية" وخصوصًا كتاب تاريخ لبنان. وتميّزتْ مشاركةُ النساء برفع مطالب نسويةٍ مستقلّة تتعلّق بحقّ المرأة في منح جنسيّتها لأولادها وبالإدانة العنيفة للتمييز القاتلِ ضدَّ النساء في أنظمة الأحوال الشخصيّة.
قطَعَ الأمينُ العامّ لحزب الله تلك الأيّامَ المجيدة بخطبةٍ ألقى فيها الشكوكَ بوجود مؤامرةٍ وأعلن دعمَه للعهد والحكومة، مؤيّدًا «الورقة الإصلاحيّة» التي تبنّتْها والتي سوف تشكّل المرجعَ الرسمي في معالجة الأزمة. ثم دعا السيّدُ حسن نصرالله أنصارَه إلى الخروج من الشوارع والساحات في تخوّفٍ واضحٍ من تكرار الانتفاضة العراقيّة في لبنان.
تقلّصتْ رقعة المشارِكين جغرافيًّا واجتماعيًّا بعدما جرى تحييدُ ضاحية بيروت الجنوبيّة والبقاع الشماليّ وقسم من البقاع الغربيّ، ومُعظم الجنوب، باستثناء صيدا وبؤَرٍ متمرّدةٍ على سلطات الأمر الواقع في صور والنبطية وكفررمان. وفي جبل لبنان، كانت أبرزُ بؤرِ الحراك ساحلَ الشوف وإقليمَ الخروب، وضاحيةَ بيروت الشرقيّة وساحلَ المتن وكسروان. يقابل ذلك انتقالُ مركز الثقل في الحراك إلى أرياف الشمال الغربيّ ومدينة طرابلس التي استعادتْ وجْهَها المدنيَّ في مهرجاناتٍ من الغضب والأمل في "ساحة النور".
الأزمة الوزاريّة والتصعيد الشعبيّ
شكّلت استقالةُ سعد الحريري في نهاية تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠١٩ المنعطفَ الثانيَ في مسار الحراك. ومهما يكنْ من تفسيراتٍ متفاوتةٍ في تحديد أسبابها - بين صراعات أجنحة السلطة وضغطِ الحراك – شجّعت الاستقالةُ قوى الحراك على التصعيد والمطالبة برحيل الرئيسين الباقيين، باسم شعار "كلّن يعني كلن". ردّتْ عليها مسيراتُ التيّار الوطنيّ الحرّ إلى القصر الجمهوريّ واعتداءُ أنصار حزب الله وحركة أمل على المتظاهرينَ والمعتصمين على جسر فؤاد شهاب (الرينغ) وفي ساحات بيروت وصور وبعلبك.
مطلع كانون الأوّل/ديسمبر، دخلَ الحراكُ في منحًى جديدٍ مع تزايد وطأة الآثار المعيشيّة للأزمة الماليّة وحجْز المصارف أموالَ المودعين والتحويلات. تكشّفَ على نطاقٍ واسعٍ أنّ الأزمةَ لا تقتصر على محاصصةٍ طائفيّةٍ وفساد، إذ برزَ التلاقي بين فساد وهدْر السلطة السياسيّة مع الأرباح الفاحشة التي جناها أصحابُ المصارف وكبارُ المودعين. وظهرتْ على نحوٍ متزايدِ الوضوح مكامنُ سيطرة أوليغارشيا المال والتجارة والعقارات على مقدرّات البلد، واندماجِها الوثيق مع السلطة السياسيّة وتَحكُّمها بالسياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.
توالت الاعتصامات أمام مصرف لبنان وعنُفت الصدامات مع الجيش وقوى الأمن، وتكاثرَت المسيراتُ الأسبوعيّة، في الوقت الذي احتدّ فيه نزاعُ الصلاحيّات بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء المستقيل خلال مشاورات تعيين رئيسٍ للحكومة، التي انتهت بتكليف الجامعيّ والوزير السابق حسّان دياب، الذي ما لبث أنْ شكّلَ حكومةً من اختصاصيّينَ عيَّنَهم الثلاثيُّ الحاكم.
ردّتْ قوى الحراك على تشكيل الحكومة بفعاليّات التصعيد تحت شعار "لا ثقة"، أبرزُها محاصرةُ ساحةِ البرلمان ومحاولاتُ اقتحامها ومنْع انعقاد جلسة مناقشةِ قانون العفو العامّ. وبلغَ التصعيدُ ذروتَه يوم ١١ شباط/فبراير في محاولةٍ لمنع انعقاد جلسة الثقة بالحكومة.
كانتْ تلك آخرَ معارك الحراك الكبرى قبل أنْ يضربَه الحجرُ الذي أُعلن على أثر جائحة وباء كورونا منتصفَ آذار/مارس.
تصوّرات ومطالب
ليس من الضروري أن يكون المرءُ من أنصار مقولة "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية" ليُدرك أنّ حركاتٍ شعبيّةً تتوخّى الإصلاحَ أو التغييرَ لا تعملُ بلا مُضمَراتٍ فكريّةٍ أو مسبَقاتٍ تتحكّم بسلوكها، سلبًا أو إيجابًا، وتؤثّرُ في الوجهة التي تبذلُ فيها جهودَها وفي حظوظها من الإخفاق والنجاح.
منذ البداية، عاش الحراكُ مفارقةً عميقةً بين ما أطلَقَه الانفجارُ الشعبيُّ من طموحاتٍ وآمالٍ في التغيير الجذريّ والإطاحة بكامل طبقةٍ حاكمةٍ فاشلةٍ ومستغِلّة وسارقة من جهة، وواقعِ حال بلدٍ في حالة إفلاسٍ، في ظلّ انهيار سعر صرف الليرة والتدهور في مستوى معيشةِ أكثريّة اللبنانيّين. إنّ جدل الخيال/الضرورة هذا وضَعَ سقفًا لإمكانيّات التغيير دون أن يلجمَ بالضرورة أكثرَ الآمال والتصوّرات جذريّةً. يمكن قراءة الكثير من المطالب والشعارات، والآمالِ والأوهام، وحتى وسائلِ عمل الحراك، بناءً على هذه المفارقة بين حلم الثورة وضرورةِ مقاومة مفاعيل الأزمة، تولّدت عنها المراوحةُ التي حَكمت الحراكَ بين الدعوة إلى إسقاط النظام، باسم الشرعيّة الشعبيّة، والمطالَبة بحكومةِ تكنقراط أو حكومةٍ انتقاليّة.
الغريبُ في مطالَبة السلطة بتشكيل حكومةِ تكنقراط مستقلّة عن أحزاب السلطة أنّه طُرح مقرونًا بترفّع قوى الحراك عن التفاوض على تلك الحكومةِ ("نطالب ولا نفاوض") أو المشاركة فيها. فكأنّ الاستقلالَ عن أحزاب السلطة ميزةٌ بذاتها، لا تَعني حتى الانحيازَ إلى الحراك والمطالبِ الشعبيّة. والأمرُ نفسُه ينطبقُ على المطالَبة بحكومةٍ انتقاليّةٍ تُجري انتخاباتٍ نيابيّةً مبكّرة، فموجزُ القول فيها أنّ الانتخاباتِ لن تكون مبكّرةً، وما إنْ يصدرُ قانونٌ انتخابيٌّ جديدٌ حتى يكونَ قسمٌ كبيرٌ من الزخم الشعبيّ الذي راكَمَه الحراك قد تبدّد.
يصعبُ عدمُ ملاحظة مدى التوهّم الذاتيّ، في هذين المطلبَين، وإغفال أيّ حسابٍ لتَناسُب القوى بين الحراك والسلطة، وأيّ تقديرٍ لمدى تَمسّك الطبقة الحاكمة بالسلطة وتماسُك النظام وراء متاريسه: الدستور، القوانين الحامية للنظام الطائفيّ والاقتصادِ الرأسماليِّ الحرّ والملْكيّة الخاصّة (وسوف نسمع الكثيرَ من الاستشهاد بالدستور عن اقتصاد السوق والملكيّة الفرديّة في الردّ على خطّة الحكومة الماليّة)
والمؤسّسات الجمهوريّة، تدافعُ عنها قوّاتٌ مسلّحة وأجهزةُ أمنٍ ومخابرات مواليَة، تعضدُها أحزابُ سلطةٍ مسلّحة، أبرزُها والأقوى هو حزبُ الله. صحيح أنّ السلطةَ تفاقمتْ نزاعاتُها حول الصلاحيّات الدستوريّة، وصحيح أيضًا أنّها حافظتْ على تماسُكِها السياسيّ والطبَقيّ في مواجهة الحراك. فلم تتردّدْ أحزابُ المعارضة الرسميّة – الاشتراكي، تيّار المستقبل، القوّات اللبنانيّة، حزب الكتائب – عن تكملةِ النصابِ في مجلس النوّاب.
على الصعيد الخارجيّ، حَظيَت السلطة باصطفافٍ إقليميٍّ جمع الدعم الإيرانيّ والإهمال السعوديّ والإماراتيّ، تُعزّزه المواقفُ الأوروبيّة المشجِّعة على الاستعانة بصندوق النقد الدوليّ، فيما تولّت الإدارةُ الأميركيّةُ رعاية التفاوض مع الصندوق، والتذكير بشروطه، والغمز من قناة حزب الله بين حين وآخر.
لعب أسلوب "احتلال الفضاء العامّ" في انتفاضة ١٧ تشرين الدورَ البارزَ الذي لعبَه في ثورات العام ٢٠١١ العربيّة. وهو مستلهَمٌ من وصفاتٍ تُعمّمها ورشاتُ وتدريباتُ مؤسّسات فَضّ النزاعات، والتبشير بالسلميّة، وبآليّات العدالة الانتقاليّة. وتستلهمُ تقنيّةُ التغيير هذه تجاربَ بعض دوَل أوروبا الشرقيّة في الثمانينيّات والتسعينيّات. وقد اكتسبتْ شرعيّةً فكريّةً في "نظريّة الفِعل التواصليّ" للفيلسوف الألمانيّ يورغن هابرماس، التي ترسمُ صورةً لجماهير "المجتمع المدنيّ" تحتلّ الفضاءَ العامَّ وتحاصر "قلعةَ الدولة" إلى حين سقوطها سلميًّا.
الذين يعتقدون بوجود حركاتِ تحرّرٍ وثوراتٍ انتصرتْ بناءً على هذا الأسلوب، حريٌّ بهم قراءةُ التاريخ أو إعادةُ قراءته. ولعلّه يفيدُ أنْ يعرفوا أنّ هابرماس أكّد أنّها تنطبقُ على بلدان الغرب حصرًا، وأنّه ما لبثَ أنْ تخلّى عنها ونعَتَها بـ"الانهزاميّة".
يجدُر لفت نظر إلى حدود هذا الأسلوب بالتفكّر في تجربة السودان الأقرب زمنيًّا، حيث حاصرت جماهيرُ الانتفاضةِ مبنى القيادة العامّة للجيش خلال أشهر، ونجحتْ في فرض عزْلِ الرئيس عمر البشير والجبهة الإسلاميّة الحاكِمة. ورغمَ أنّ أعضاءَ المجلس العسكريِّ كانوا من بطانة البشير، فاوضتْهم أحزاب "قوى الحرّيّة والتغيير" (الأمّة والشيوعيّ والبعث والناصريّين) و"تجمّع المهنيّين السودانيّين". ارتكبتْ مليشيات الجنجويد مجزرةً قضى فيها لا أقلّ من مئة شهيدةٍ وشهيد، ونجحتْ في فَكّ الحصار عن القيادة العامّة. ردّتْ قوى الانتفاضة بأقصى تصعيدٍ ممكنٍ - ضمنَ التزامها السلميّةَ ـ الإضراب العامّ لثلاثة أيّام. ثمّ عاد تجمّعُ المهنيّين السودانيّين إلى طاولة المفاوضات وانعقدتْ تسويةٌ رعَتْها مصرُ والإماراتُ والسعوديّة والولايات المتحدة، أُنشئ بموجبها مجلسٌ سياديٌّ تتقاسمُ عضويّتَه القوى المدنيّةُ والمجلسُ العسكريّ، وتشكّلتْ حكومةٌ من التكنقراط.
في لبنان، عَرَف الحراكُ وجهًا آخَرَ للتعبير عن ثنائيّة الدولة/المجتمع المدنيّ، هو التركيزُ على الفعل في المجتمع على اعتبار أنّ التغييرَ يجب أن يبدأ منه. وغلَبَ على هذا التيّار التطهّرُ – حتى التطيّر - من أيّ علاقةٍ بالدولة، بدعاوى طائفيّتها والفساد. ولسانُ الحال هنا أيضًا "نطالبُ ولا نفاوض". في هذا المضمار تلقّى تمجيدُ التنظيم القاعديّ "الأفقيّ" ومنوّعاتٌ من الأناركيّة الرافضة لأيّ سلطةٍ أو قيادةٍ (شعار "أنا القائد") أو تمثيل. وقد لا يدركُ مُطلقو هذا الهتاف إلى أيّ مدًى تشكّلُ هذه الفردانيّةُ قدسَ أقداس النيوليبراليّة، وهم يناطحونها على أنّها "الأوليغارشيّة".
وعلى سبيل استكمالِ التعداد، هناك الصنميّةُ التي ترى في التنظيم الجوابَ على كلّ مشكلةٍ تواجهُ الحراكَ تقريبًا، وإن يكن دأبُها بناءَ التنظيمات القاعديّة الأفقية وتَكاثرَها، على اعتبارها دليلَ تقدّمٍ على درب التحوّل إلى ثورة.
ليستْ هذه الملاحظاتُ دعوةً إلى التغيير بالعنف، فقد جُرّب فرضُ الإصلاحِ والتغيير بالعنف ذاتَ مرّةٍ بالنتائج الكارثيّة المعروفة! ولا هي بالتأكيد تطلّبٌ لأحاديّةٍ في التصوّر والتفكير والسلوك. إنّها مجرّد تذكيرٍ بحدود التغيير والإصلاح التي يفرضُها الالتزامُ بسلميّة حراكٍ شعبيٍّ، قد تسمَحُ بمقاومةِ سياساتٍ أو انتزاعِ إصلاحاتٍ أكثرَ ممّا تُمكّن من تحقيق تغييراتٍ بنيويّةٍ أو جذريّة.
الخطة الماليّة
عشيّةَ الأوّل من أيّار/مايو قدّمت الحكومةُ خطتَها الماليّةَ الخمسيّة (غير المكتملة في صيغتها النهائيّة) وطلبتْ مساعدةَ صندوق النقد الدوليّ.
اعترفَت الخطّةُ بعجزٍ ماليٍّ يبلغ ٨٣ مليار دولار، وبحاجتها الملحّة إلى ٢١ مليار دولار للبدء بمعالجة الأزمة تأملُ أنْ تحصلَ عليها من الصندوق ومشروع "سيدر". على أنّ "خريطة الطريق" هذه ستكون موضعَ تفاوضٍ مع صندوق النقد ومع جمعيّة المصارف، التي تعارضُها بشدّة، ولن تصيرَ ساريةَ المفعول إلّا بعد إقرارها بواسطة عددٍ من القوانين في مجلس النواب.
يضمُّ هذا العددُ تحليلاتٍ عديدةً للأزمة الماليّة ومفاعيلها. لن نكرّرها هنا. ما نودّ التشديد عليه أنّ معظم ما وردَ في الخطّة أشبهُ بتقديم أوراقِ اعتمادٍ إلى صندوق النقد يحتوي سلفًا على أبرز إملاءات الصندوق المعروفة.
الخطّة الماليّةُ هي، في المقام الأوّل، خطةُ فرض التقشّف على الدولة: موازناتٌ "خفيفة" تنخفض فيها بنودُ الإنفاق الاستثماريّ والتنمويّ، ترشيقُ الجهاز الإداريّ ووقْفُ التوظيف في الخدمة العامّة وتجميدُ الرواتب، رفْعُ الدعم الحكوميّ للمحروقات والقمح والكهرباء، تقليصُ دور الدولة في تمويل الخدمة الاجتماعيّة والتوزيع الاجتماعيّ خصوصًا في مجالَي التعليم والصحّة.
وعلى الرغم من الحديث عن فَرض ضرائبَ تصاعديّةٍ، فأبرزُ تعهّدٍ لصندوق النقد هو زيادةُ الضريبة على القيمة المضافة. يبقى أنّ كلَّ هذه لا تعوّض ما تتضمّنُه الخطّة وسابقاتُها من أوراقٍ "إصلاحيّةٍ"، من تعهداتٍ بخصخصة شركات القطاع العامّ تحت عنوان إعادة هَيكلته.
في المقابل، تعطي الخطةُ الأولويةَ لإعادة رسملة القطاع المصرفيّ. والإجراءُ الأبرزُ هنا هو شَطب رؤوس أموال المصارف البالغةِ ٢١ مليار دولار وتشجيعُ أصحابها وكبار المودعين على إعادة الاكتتاب عن طريق تحويل وَدائعهم إلى أسهم. ابتُكرَ هذا الإجراءُ كبديلٍ عن اعتماد "التشحيل" ("هير كات") القاضي باقتطاع نسبةٍ من ودائع كبار مساهمي المصارف والمودعين لقاءَ ما جنَوه من أرباحٍ خلالَ المضاربة على مديونيّة الدولة. غير أنّ الفارقَ الكبير بين الإجراء الأخير وإعادةِ رسملةِ المصارف هو أنّ الأموالَ المحصّلة من "التشحيل" ستذهبُ إلى خزينة الدولة، في حينِ أنّ إعادةَ رسملة المصارف، حسب الخطة، سوف تعوّض عن كبار المودعين بواسطة أملاك الدولة، أي الخصخصة مجددًا.
لا تتضمّن الخطّةُ إجراءاتٍ لضبْط خروج الأموال من البلد (كابيتال كونترول)، مع أنّها تتحدّثُ عن استعادة أرباحِ الهندسات الماليّة والأموالِ المهرَّبة من المصارف إلى الخارج. وهذه كلُّها تنتظرُ التنفيذ، خصوصًا أنّ اللجانَ البرلمانيّة أقرّتْ مشروعَ قانونٍ لمكافحة الفساد يفعّل قانون الإثراء غير المشروع، وهو مشروعٌ واعِد شريطةَ أنْ يقرّه البرلمانُ وتصدرَ مراسيمُه التطبيقيّة.
مهما يكنْ، لا تتعهّد الخطّةُ بالإفراج عن الودائع والمدّخرات وإطلاقِ حرّيّة التحويل قبل مضيّ سنتين على بدء تطبيقها. إلى هذا، ثبّتت الخطّة سعرَ الصرف بضعف سعر الصرف الأصليّ، مع تعهّدٍ بتثبيته نهائيًّا في نهاية العام ٢٠٢٤، ولم تتدخّل الخطّة في مصير الودائع بالدولار التي تعمل المصارف على دفعها بالعملة المحليّة.
والأهمُّ والأخطرُ من كل هذا أنّ الخطّةَ تغْفل معالجةَ المترتّبات الاجتماعيّة للأزمة وللخطّة ذاتها: انهيار القدرة الشرائيّة، الإطاحة بنصف مداخيل العاملين بالأجْر والراتب (ثلاثة أرباع السكّان العاملين)، ارتفاع معدّلات البطالة، زيادة عدد الفقراء (٤٥٪ من السكّان)، تضاف إليها الآثارُ بالغةُ الخطورة لتقليص موازنات التعليم الرسميّ وتمويل الدولة للمضمونين في المستشفيات الخاصّة.
وهذا كلُّه قبل تقدير الآثارَ الإضافيّةَ لوباء كورونا وللحجْر.
هنا أيضًا سنَلقى الوصفةَ المعهودةَ لصندوق النقد: "الحماية الاجتماعيّة للأكثر هشاشةً"، وترجمَتُها العمليّة "برنامج معالَجة الفقر" الذي يوزّع مساعدات ماليّة ووجبات طعام على ٤٣ ألف أسرة من الأكثر فقرًا، علمًا أنّ الإفقار يضرب مستويات معيشة أكثرية اللبنانيين من أُجَراء وكَسَبة ومن الطبقات المتوسّطة، في غياب إجراءاتٍ فعّالة لضبط الأسعار والأرباح ولتشريعات كسر الاحتكارات.
المستحيل والضروريّ
إذ يتجددُ الحراكُ في تركيزٍ متزايدٍ على الآثار الاجتماعيّة للأزمة، آن الأوانُ لأنْ يلتقيَ الـ٤٠-٥٠ حزبًا وتنظيمًا ومجموعة وجمعيّة من الأكثر حضورًا في الحراك، لانتخاب ممثّلين عنهم، والتعاهد على النضال معًا في ظلّ برنامج مقاومةٍ مختَصرٍ ومحدَّد عنوانه مقاومة تحميل الأكثريّة الشعبيّة أعباءَ الأزمة.
لا يجوزُ ترحيلُ هذه المهمّة مجدَّدًا، كما حصَلَ في ٢٠١١ و٢٠١٥. هناك مصالحُ وحقوقٌ وتطلّعاتٌ وآمالٌ تستحقّ، بل تستوجبُ، أنْ تحملَها وتمثّلَها قوّةٌ ثالثةٌ مستقلّة عن طرفَي السلطة، تناضلُ وتُفاوض - نعم تفاوض - وتستقوي بكافّة أنواع التحرّكات والضغوط لانتزاع الضروريّ من الإجراءاتِ والإصلاحات لمصلحة الأكثرية الشعبيّة.
في غياب ذلك، سيتحوّلُ الحراكُ إلى مجموعةِ أعمال احتجاجٍ تهبُّ وتنطفئ، قد تزدادُ عنفًا، وتشتدّ عليها وطأةُ القمع، كما يتوقّعُ أصحاب نظريّة "ثورة الجياع"، لكنّها لن تسمنَ من جوع، إذا ظلّتْ تطلبُ المستحيلَ، أو تتخيّله، دون أن تحقّقَ الضروري.
بيروت ٦ أيار/مايو ٢٠٢٠
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.