ذاهباً للقاء الصحبة أو عائداً من بينِهم في الليل المتأخّر لا بدّ لي من أن أخترقَ الساحة. أمشي في محيطها فتعزلُني الوحدةُ وسْطَ الحشد المتقاطع بكلّ الاتّجاهات. فَتحَت الساحةُ للماشين دائرةً مكشوفةً في مدينةٍ صنعتْها الأزقّة الضيّقة. يحدّد الماشونَ في فضائها اتّجاهاتِهم، ويسيرون على بلاطها لينسوها. تُخفي الحركةُ الدائبة في الساحة وتقاطُع الشوارع المعنى الرمزيَّ كـ«ساحةِ حرّية» يجسّدُها النُّصب. ننسى معناها وتصيرُ مجرّد مكانٍ لوقفةٍ قصيرة. ينفتح كثيرٌ من الأسئلة ويمسّ القلبَ حالما أدخلُ هذا الفراغَ الدائريَّ المفتوحَ على الاحتمالات. بدلاً من أن ترْبط، تفصل ساحةُ التحرير التراثَ الممتدَّ على طول شارع الرشيد عن الحداثة المسروقة منه إلى شارع السعدون. تفصل النّصب عن الناس الذين يُفترَض أن يرَوه. تفصل الناسَ باتّجاهاتٍ مختلفة. تفصل التواريخَ بأحداثها الكبيرة. وتفصل الأحاديثَ عن مقدّماتها. حين نلتقي وقد تقاطعتْ طرقُنا تكون أحاديثُنا قصيرة. نترك المقدّماتِ ونذهب رأساً إلى الأحكام. في يومٍ شتائيٍّ باردٍ التقينا القاصَّ حامد الهيتي تحت النُّصب، سكرانَ كعادته. وبصوته الأجشّ مثل طبلٍ مشقوقٍ يردّد بتكرار:
- مستحيل، مستحيل، مستحيل!
- ما المستحيلُ يا حامد؟
- أصلعُ ويرتدي رباطاً ويدّعي أنّه شاعر.
- مَن هو ؟
سألناه ونحن نقْطع نحيبَه.
- ...
عند تأسيس الساحة حملت الحديقةُ التي تقع خلفَها اسمَ الملك المنحوس غير الجدير بمنصبه «غازي». حمل الجسرُ الذي يربط الساحةَ بالنهر والذي افتتحَه الملكُ فيصل الثاني في العام ١٩٥٧ اسمَ الملكة عالية. أزيحتْ هذه الأسماءُ بنقائضها في العهد الجمهوري.
انكسرت الدائرة مرّات. أعيد تصميمُها في العهد الجمهوريّ لتصلُح مكاناً لعرضٍ جماهيريّ. في طرفها المقابل لشارع السعدون منصّةٌ يجلس عليها الزعيمُ لتحيّة الجماهير وهي تتدفّق لتقدّم الولاء. أتذكّر حركتَه القلقة على المنصّة مسحوراً بالحشد وخائفاً في الوقت نفسه من قتَلته وقد توارَوا فيه. أنيرت الساحة بمصابيحَ كشّافةٍ لكي يرى كلُّ واحدٍ ذاته وهو يدخل الضوء. في وسطها، أحاول أن أضبط استقامةَ خطواتي فينكشف السكرانُ تحت الضوء الساطع. وحدي أو مع رفيق دربٍ نقطع الساحةَ مسرعَين. حين أصيرُ في المركز والنُّصب إلى يميني، يقفز أمامي مصوّرٌ فوتوغرافيٌّ وينفجر ضوءُ «الفلاش» فأغمضُ عينيّ. ضاعتْ كلّ صوَري وأنا وسطَ الساحة بين الأمّ المفجوعةِ والحصان الهائج. وسطَ الدائرة أو في محيطها، يحرس جنودٌ بعدّتهم الكاملة فراغَ الساحة وسرَّها القادم. كنتُ أنا وأصدقائي ندور حول الساحة ونتجنّب اختراقَها من الوسط. وقد جعل الزعيمُ من «حديقة غازي» التي شخصتْ في ما بعدُ خلف النّصب أقلّ مهابةً وأكثر ألفةً لتسمّى «حديقة الأمّة» حيث تمثالُ الأمّ الواقفةِ وهي تحمي من العاصفة ابنَها المختفي خلفَها. في الحديقة المنخفضةِ عن مستوى الشارع، سياجٌ من الأس ونافوراتٌ ومصاطبُ تعطينا فسحةً للراحة. نجلس على مصطبةٍ وبأيدينا قناني البيرة فنشعر أننا في قلب المدينة النابض بالحركة. مع ذلك لا أتذكّر نفسيَ جالساً فيها.
النصبُ الذي صار بديهةً
ما عادت الساحةُ كما كانت مكاناً للوقوف والفرجة. تكيّفَت مع روّادها. بالكاد أتخيّل خروجَ العوائل من الدور الأخير في «سينما غرناطة». بعد أن شاهدوا قصص الحُبّ، لبسوا معاطفهم وخرجوا يسيرون الهوينا والأخيلةُ لا تزال تترجّع في دواخلهم راغبين بالصمت ليستمرئوا العاطفةَ التي تركها الفيلم في دواخلهم. رؤى لا يؤمنون بها، تهتزّ مثل سلكٍ تحرّكُه الريح، لا علاقة لها بالفيلم ولا بالحياة حَولهم، وهي وليدةُ الاثنين. في الجانب الثاني المحاذي لـ«لبتاويين» حيث يسير بالقرب منها القَوّادُ إبراهيمُ بشعره السّبطِ المدهون ذهاباً وإياباً وهو يدخّن. حين تسأله عن واحدة يجيبُك برصانةِ رجل الأعمال: عندي منهنّ ستٌّ وثلاثون؟
شكّل النصبُ الساحةَ وتشكّل بها. كنتُ أنا وصحافيّ أجنبيّ ننزل الجسرَ وقد غادرْنا المنطقةَ الخضراء. Wow هتفَ الصّحافيّ وهو ينظر إلى النّصب وسطَ الساحة وربّتَ على كتف السائق الشابِّ كي يتوقّف. «مستحيل»، ليس في السّاحة مكانٌ للتوقّف. نرى النصبَ ماشينَ على عجل. تجري الأحداث والأحاديث تحت النّصب، أمامَه أو خلفَه، ولكن على عجَل. وقفنا، سركون بولص وأنا، أسفلَ النصبِ لنتعرّف إلى محمود البريكان الذي كان يعبُر الساحةَ وحْدَه. قبل أن نسألَه عمّا إذا كانت لديه قصائدُ لم تُنشرْ، قطع الحديثَ شخصٌ رابع. أشار إلى النصب من دون النظر إليه:
- ما رأيكم به؟
لكوننا منكشفينَ وسطَ إنارةِ النصب الساطعة، فقدْنا حرفة استعمال الكلمات. بقينا صامتين ننتظر درّةَ سائلِنا.
- ...
- على عكسكم. أنا لا أحبّه. مجرّد حركات متشنّجة.
رفعنا رؤوسنا لنرى النصبَ فوقنا من غير أن ندقّق في تشنّجاته، فقد صار بالنسبة لنا بديهةً. ليس هذا مكاناً لنقاشٍ جدّيّ. هذا مكانٌ للماشين. النّصبُ فيه مصادفة. لم يكن النفقُ قد أُنشئَ بعدُ ليضّيقَ الحيّزَ المتاحَ لرؤية النصب.
- لو كانت هذه اللافتة من قماشٍ لأدرتُها للخلف.
قالها وذهب…
منصّة الموت
السّاحةُ بفراغها الواضحِ المكشوف مهيّأةٌ لأحداثٍ كبيرة. وبينما أمشي فيها، حاذاني أفنديٌّ يرتدي الفيصليةَ تتقاطعُ ساقاه من شدّة السكْر. قالها من دون أن يلتفتَ إليّ:
- هنا (مشيراً بإصبعه إلى البلاطات التي أدوسُها) سيجري دمٌ كثير.
في الدائرة التي تمثّل اكتمالَ العلاقة بين الإنسان والكَون نظّم «البعثُ» يوم الاثنين في السابع والعشرين من كانون الثاني / يناير عام ١٩٦٩ مهرجاناً سيمثّل بدايةً للرعب التاريخيّ الشامل.
كنّا، سعادُ وأنا، في بيتنا في الوزيريّة حين سمعنا دويّاً وهتافاتٍ. نظرتُ من النافذة فرأيتُ طابوراً من الطلبةِ تجمّعوا من عدّة كلّيّاتٍ وجامعاتٍ يتّجهون نحو مركز بغداد. في تلك الأيّام التي تلتْ مجيءَ «البعث» للسلطة، اعتدنا الأحداثَ الكبيرة. نسير في الشوارع مُمسكينَ بأيدي حبيباتنا، ساحرين ومسحورين بالحبّ ونحن نجهل ما يجري من أحداثٍ خفيّة. يكتشف البعثُ وأجهزتُه الساهرةُ مفتوحة العينَين، لنا، نحن الغافلين، جواسيسَ ومؤامراتٍ تجري من خلفنا. أحاطَنا بمجالٍ مغناطيسيٍّ من التهيّؤِ لأحداثٍ كبرى ستحدث، أو تُحدث الآن حولَنا، ونحن لا ندري. يظهر في التّلفاز، بين فترةٍ وأخرى، أشخاصٌ يشبهوننا ويتكلّمون بلغتنا وبلهجتِنا العراقيّة، يعترفون بأنّهم خوَنَةٌ وأنّهم كانوا أطرافاً في مؤامراتٍ تديرها دولٌ كبرى من وراء الحدود.
أوصلتُ سعادَ الى المفرق الذي يؤدّي إلى بيتها في «الصليخ» دونما كلمات. تنغّصتْ سعادتُنا بهذا المجال المغناطيسيّ الغامض. ذهبتُ كما في كل يومٍ للقاءِ أصدقائي في المقهى فقاطعَني الموت.
نظمُ مهرجان الموت على شكلٍ ثلاثي:
- وقفتْ قيادة «البعث» يتوسّطها النّجمُ الصاعد صدّام حسين في شرفة وزارة الثقافة المطلّة على الساحة. من تحتُ نراهم صغاراً برؤوسٍ مدبّبة فوقهم السماءُ شاهدةً على وجودهم الصّارخ.
- أمامهم تحت الشرفة وسْطَ الساحة عُلّقت في عوارض سلسلةٌ من الجثث على شكل قوسٍ مفتوحة لجثثٍ قادمة.
- تمرّ الحشودُ بين الشرفة والساحة على شكل كراديسَ يقودها هتّافون مهمّتُهم أن يرفعوا حالةَ العُصاب حالما يمرّ الحشدُ في المجال المكهْرب بين الجثث والقيادة. يصرخ الحشدُ وهو يعيد الهتافَ ملوّحاً بقبضاته. يبهت الوجهُ ويكتسي سحابةً رماديّةً حين يرى الجثثَ، وقبل أن ينسى يُعيدُه الهتافُ لحماسة الحشد: جواسيس!
يفقد الفردُ وسط هذا الطقس الشامل نفسَه، يفقدُ أسئلتَه وشكوكَه ويصيرُ جزءاً من العُصاب الشامل الذي يحرّكه اليقينُ بأنّهم: جواسيس!
يرفع القياديّون أيديَهم متضامنين بفخر: هذا الموتُ إنجازُنا، وسيَليه موتٌ آخرُ وآخر. لا يدرُون أنّ هذه الطاحونةَ ستدوسُهم قريباً. عيني موزّعةٌ بين الثلاثة، الكورَسِ السّعيدِ في الشرفة، الحَشدِ الذي يحوّل الخوفَ إلى حماسةٍ والجثثِ وسطَ الحشد، ويعزلني عنهم غضروفٌ من القرَف والبَلادة. أغادرُ مشهد الجثث، لكنّ الأخيرةَ تجذبني بمغناطيسٍ عجيبٍ كأنّها تريد أن تقولَ لي بصمْتها سرّاً لا يعرفُه الآخرون. أحاول أن أُفلتَ من الحشد لكنّي أنحشرُ بأجسادِ الآخرين فأفز من ملمسهم. علقتْ عيناي بالجثث وقد تدلّتْ من العوارض باسترخاءٍ تخيّم عليها غيمةٌ رماديّةٌ في وضوح الساحة الصارخ. تشدّ الحبالُ الرّقابَ والوجوهُ مزرقّةٌ رماديّةٌ متّجهةٌ نحو سماءٍ شديدةِ الزرقة، ولونٌ حليبيٌّ ساطعٌ يزيد المشهدَ وضوحاً. خُيّل لي أنّ الجثثَ تهتزُّ مع ضجيج الهتافات، لكنّها لا تُسمعُ فقد خيّمَ عليها صمتُ الموتى. صمَّ بعضُ هذا الصمت أذنيّ.
خارجَ الحشد المنظّم متفرّجون يأكلون السندويتشات على مرأى من الجثث، وامرأةٌ شعبيّةٌ تتوسّل جنديّاً يحرسُ الموتَ ليسمح لابنها الصبيّ بأن يقترب أكثرَ من الحدّ المقرَّر. ورأيتُ عند استدارة الساحة شابّاً ترنّح من صدمة المشهد. وقبل أن يكتم فمَه بيَده مالَ على الرصيف وتدفّق القيءُ. لم يتحرّك الجنديّ الواقفُ قريباً في حالة استعدادٍ وقد لوّثَ القيءُ بسطارَه، لكنّ حشداً من المتظاهرين التمَّ ليغطّيَ عارَ ما فعلَه زميلهم. يقطع هديرُ الحشد ومكبّراتُ الصوت عليّ فكرتي والسؤالَ المحبوسَ في داخلي: من يعرف صحّة الجرم؟ بالنسبة للحشد في الساحة لا ضرورة للتحقق. كونُهم يهوداً و«عملاءَ لإسرائيل» يجعل الأمر مؤكّداً ومقبولاً. أنظرُ إلى الوجوه فأرى جحوظَ العيون وتوتّر العروق. ما من أسئلة. سرعةُ التصديق وانتظارُ المخلّص من مفرزات الهزائم الوطنيّة. نحن نحارب إسرائيلَ هنا، في دواخلنا، وننتصر عليها بتعليق «جواسيسها» والشماتة بهم. نرميهم بالأحذية والحجارة. لا تهمّ طبيعة الجرم الذي ارتكبه المعدومون، ولا صحّة الجرم وعدالة العقاب.
أبحث عن موطئٍ لقدمي وبصعوبةٍ أحشرُ جسميَ في الفراغات لكي أكسرَ الدائرةَ البشريّة وأخرجَ مثل نقطةٍ أفلتتْ من مسارها. أسمع وأنا أبتعد صوتاً حادّاً كما السكين يقولُ للحشد:
- هذه وجبة أولى وهناك وجباتٌ قادمة.
لا يكفي أن تكون معرفةُ الجمهور بالعقاب ضمنيّةً يدركها المواطنُ بالعقل. عليه أن يدرك العقابَ بالحس المباشر. يراه بالعين في وضوح النهار مزرقّاً رماديّاً ويشمّ رائحتَه الخانقة، رائحةَ القبر والفضيحة، بل ويستطيع إذا أراد أن يلمسَه باليد أو يؤرجح الجثّة.
أسمعُ هديرَ الجمهور وتهاليلَ نساء: «المزيد، المزيد، المزيد».
كيف حوّلوا الخائفين إلى مُخيفين؟! هل هذا ما أرادوه من مهرجان الرّعب؟ لقد نجحوا إذن! دخلَت الجثثُ في مخيّلتي تتأرجح في الحلم حين أنام وأحسّها باردةً حين ألمسُ جسدَ حبيبتي العاري، وأشمُّها في جسدَينا، وأذوقها مُرّةً مالحةً في طعامي.لم يفارقْني المشهد أياماً، فقد نبتَ الموت في مخيّلتي وأنا أعبر الساحةَ كل يومٍ ذاهباً إلى الصحبة أو عائداً منها آخرَ الليل. أقتربُ في الليالي الشتائيّة من الساحة وقد وضعتُ يدي في جيب معطفي، أتشاغل بالناس المسرعين لبيوتهم في شتى الاتّجاهات أو بالأرض المبلولة وهي تعكس أضواءَ الشارع. حين أصلُ إلى الساحة يُخيَّلُ إليّ أنّ هناك شيئاً رماديّاً مزرقّاً مفقوداً في الساحة. يعصرني قلبي وأنا أبحث عنه أو يبحث عني. كأنّ جثةً ستقفزُ من الحديقة وتأخذُ لي صورةً ثمّ تختفي. ستدلّني الورقةُ التي تطيّرُها الريح على أرض الساحة على شيءٍ خفيّ أو تحمل لي تحذيراً. يذكّرني المكان بالغائب، وهو الجثثُ المعلّقة وأزمتُها، وهي الحشد: كيف حوّلوا الخائفين إلى مُخيفين؟! هل هذا ما أرادوه من مهرجان الرّعب؟ لقد نجحوا إذن! دخلَت الجثثُ في مخيّلتي تتأرجح في الحلم حين أنام وأحسّها باردةً حين ألمسُ جسدَ حبيبتي العاري، وأشمُّها في جسدَينا، وأذوقها مُرّةً مالحةً في طعامي.
مددتُ الساحةَ طوليّاً في روايتي «حافة القيامة» وعلّقتُ الجثث على مصابيح الشارع. «تهتزُّ الجثثُ وتدور حول نفسها وتتقاربُ في نوعٍ من أخوّة الموتِ الهامسة التي تسخر في صمْتها من كل ما حدث. لكل جثّةٍ تعبيرُها الخاصّ، مائلةٌ، متصلّبةٌ، أدارتْ للرائي قفاها، مرفوعةُ الرأس أو منحنيةٌ إلى الأرض. أقدامُها مصفوفةٌ بتصلّبٍ أو منفرجةٌ باسترخاء. قلت وكأنّني أتشفّى بنفسي: فلتمتّع عينيكَ، أيّها التعيسُ، بهذا المنظر الرائع!
تغيّرَ مشهدُ الساحة كثيراً. انتشرتْ شرطيّاتٌ أنيقاتٌ في مكان العسكريّين المتجهّمين، ثم اختفَين من الساحة بسبب عدم وجود مباوِلَ نسائيّة. غطَسَ مسرحُ الموت تحت الأرض وتحوّل إلى نفَقٍ لا يدخُله أحدٌ ودكاكين بلا باعةٍ ولا مشترين، مكانٍ يشبِه قبراً لموتى قادمين. تغيّرتْ «حديقة الأمّة» متحوّلةً إلى مزبلةِ قناني كحولٍ فارغةٍ، لكنْ بقيتْ «ساحة الطيران» في الجانب الثاني من الساحة على حالها، معرضاً للفقْر الناشبِ أظفارَه فيها. يتعلّق شحّاذونَ أطفالٌ بالسيارة من دون فكاك. لا يعوّلون على الشفقة بل على الاستسلام، باعةُ شوربةِ العدس علاجاً للجوع والبرد، عربات الملابس المستعملة، الجنود الساهرون بانتظار الشاحنات التي ستقلّهم لجبهاتِ الحروب، لاعبو الورقات الثلاث، وعمّال المسطر حاملين مساحيهم بانتظار العمل أو الانتحاريّ الذي سيفجّرهم.
أيّام المفقودين
في الأيّام الأولى بعد عام ٢٠٠٣ احتلّ المفقودون حياة الموجودين مع انفتاحِ الكوى في ذاك العالَم السرّيّ الذي سمعنا فيه الحكاياتِ التي ترويها السلطةُ ولم نسمع الحكاياتِ من الضحايا.
أصبح المفقودون قريبين قَيد المَنال وصار البحثُ عنهم ضرباً من الجنون الشائع. شكّلت السجون السرّيّة هاجساً للعراقيّين، سواءٌ منهم الذين تغافلوا طوال العهد السابق عن وجودها أو الذين حَوّموا حولها خائفينَ أو باحثينَ بتوسُّلٍ عن أقرب الناس إليهم وقد اختفَوا وراء جدران هذه الأبنية الغامضة (الداخل فيها مفقود). من حاجتهم ومن توهّمهم، يكتشفُ الناس بين فترةٍ وأخرى سجناً خفيّاً في مزرعة، تحت دائرةٍ رسميّة، في سردابٍ واحدٍ من القصور الرئاسيّة. تطير الشائعةُ بسرعةِ البرق فيهرعُ أهالي المفقودين، بينهم هذه الأمُّ الريفيّة التي كانت تسير بخطواتٍ أقربَ إلى الركض وهي «فاحطة» ويداها ممدودتان إلى الأمام بينما تطير عباءتُها السوداء خلفها.
طارتْ في أيّام البحث هذه شائعةٌ بأنّ في مدخل النفَق باباً حديديّاً يؤدّي إلى سجنٍ خفيٍّ، هناك كل المفقودين الذين لا يَعرف الأهلُ مصيرَهم بعدما اختطفتْهم السلطةُ. موقعُ السجن كما تخيّلوا تحت الساحة التي عُلّقتْ عليها الجثث. هرعتْ أمّهات المفقودين وآباؤهم إلى هناك. حاول شبّانٌ عنيدونَ داخلَ النفق اقتلاعَ بابٍ حديديٍّ وأحدُهم ينادي:
- جيناكم !
يأتيه صدى صوته «جيناااااكمممم…» فيتوهّم أنّ هناك مَن يردّ على ندائه من تحت. لكنْ في نهاية يومٍ شاقٍّ ومتوتّرٍ لم يخرج أحدٌ ولم يردَّ أحدٌ على نداء المُنادين.
صارت «ساحة التحرير» بعد 2003، والتي كانت مركزاً للسلطة والمكان الرمزيّ لنُصب الحرّيّة، مركزاً للقتَلة واللصوص وباعة المخدّرات وحبوب الفياغرا المغشوشة في البَسطات المفروشةِ حول نُصب الحرّية. هم الذين يحكمون المركزَ ويقيمون فيه سلطةَ اللا قانون. خلَقَ غيابُ السلطة نوعاً من انتشاء الذات داخلَ عالَمٍ لا عقلانيّ تشكّلُه ذواتٌ منتشيةٌ بحرّية بلا محرّماتٍ وتتشكّل ثانيةً منه. هنا، حيث يختلط الكلُّ ولا يعرف أحدٌ أحداً، تُرتكبُ أكبرُ الجرائم. على السيارات أن تمرّ بسرعةٍ وحَذَرٍ لأنّ أحداً لن ينجدُ أحداً إذا سُلب، ولن يسأل عنه إذا قُتل. تحت «نُصب الحرّيّة» حيث تنحني الأمّ مفجوعةً على ابنها الشهيد، رأينا جسدَي صبيَّين حافيَين مطروحَين على صناديقِ كارتونٍ وقد غُطّيا بصناديقَ أخرى. قُتل الصبيّان قبل دقائقَ من وصولنا. لم يَهرب القتَلةُ الملثّمون، أخفُوا مسدّساتِهم وانسلّوا داخلَ الحشد، وربّما هم بيننا الآَن يتفرّجون على قتيلَيهما. ما زال الدمُ يشخبُ من ثقوب الرصاص ويسيلُ خيطاً على بلاط الرصيف إلى عرض الشارع. وقفَ حول الجسدَين حَشدٌ من الناس يناقشون سبب القتل، أحاله بعضُهم إلى تصفياتِ ثأر، وقال بعضُهم إنّ «الحواسم»* بدأوا يُصفّون بعضُهم بعضاً بسبب الخلافات على الغنيمة. لم يمُدّ أحدٌ يده لرفع الجثّتين، إنّما يُرفع غطاءُ الكرتون عن الوجهين ويعادُ ثانيةً من غير أن يتعرّف عليهما أحدٌ. بقيَت الجثّتان ممدّدَتين تحت شمسٍ ساطعةٍ لحدّ الوهم. بقي الجميع، ومنهم نحن، منتظرينَ سلطةً غائبة.
غير بعيدٍ عن الجثّتين فرَشَ كهلٌ صندوقاً كرتونيّاً وهو يبيع بضاعته: باسبورات عراقية مرزومة. يُقسم اليمينَ بأنّها غيرُ مزوَّرة، وإنما مسروقةٌ من الدولة. ما على المشتري إلّا أن يعطيَه صورتَه ويُمليَ عليه الاسم الثلاثي والميلاد والمكان. بعد ذلك يُخرج البائعُ من جيب سترته الختمَ مؤكّداً أمام حشد الواقفين أنّ الختمَ هو ختمُ الدولة الأصليّ ثمّ يختمُ الجواز:
- سافر بالسلامة !
ينجز المعاملةَ وهو كما هو، جالسٌ على الأرض في الفضاء العاري مختصراً على زبائنه مشقّةَ الوقوف في الطابور الطويل وسلسلةِ الموظّفين المتجهّمين والروتين المعذّب في دوائر الدولة، لاغياً الخوفَ الملازم من أنّك ممنوعٌ من السفر.
تأكّدتُ وأنا أراقبُ هذه الفوضى من الخطأ الكبير: ما كان ينبغي أن نبدأ بالديمقراطيّة أوّلاً، قبل ذلك كان علينا أن نبنيَ دولةً لها أسنان. قال كلُّ الذين أفزعتْهم الفوضى والجرائم، بوضوح: لم نعرف نحن العراقيّين الدّيمقراطيّةَ في حياتنا، لا ينبغي أن تقدَّم لنا دفعةً واحدة.
٢٥ شباط / فبراير ٢٠١١
موعدي في الساحة يوم ٢٥ شباط / فبراير ٢٠١١ تحت النّصب. سيكون الكلّ هناك وهكذا تواعدْنا. أقطعُ المسافةَ إلى الساحة وسط شوارعَ خاليةٍ مُنعَ فيها السير. بقي الناسُ في بيوتهم خوفاً من حدثٍ فاجعٍ في ساحة الموت. هناك جوٌّ مشحونٌ بالخوف والتخويف. تظاهراتٌ حاشدة، أسلحة مختفيةٌ في الساحة، جهّز محترفو الفوضى كلاباتٍ ومقصّاتٍ لكسر أقفالِ الدكاكين وإعادة النهب بعد فترةِ استراحةٍ، قد يقتحمُ المتظاهرون المنطقةَ الخضراء وفيها الحكومةُ بكاملها والسفارة الأميركيّة. تتردّد كل هذه الشائعات ببالي وأنا أغالبُ مخاوفي بمزيدٍ من السرعة والعزم الجسديّ. ألتقي مجموعات ذاهبة الى هناك، لكنّني أسير وحدي. خمسة حواجز عسكريّة قطعتْ طريقي. في واحد منها قال لي جنديٌّ يعرفني بالاسم :أخوي أخوي. دير بالك على نفسك! قالها وهو يفتّشُني.
رأيتُ تحت النّصب، حيث تواعدْنا، كلَّ من أعرفُهم كأنّما بانتظاري. مسحتْ وجوهُهم كلَّ مخاوفي. غيّرَت الساحةُ وجهَها الأليف. هكذا تفعل في الأحداث الكبيرة. بين النُّصب والجدار الإسمنتيّ الذي يواجهُه على جسرِ الجمهوريّة بدا المشهدُ تجسيداً لموقفٍ سياسيٍّ واجتماعيّ راهِن وممتدّ في الوقت نفسه. إذا نظرنا الى الساحة بين الجداريّة والجدارِ من موقع الله سنرى ثلاثَ مجموعاتٍ بشريّة:
- في الساحة وابتداءً من تحت النُّصب، تمدّد المتظاهرون وانتشروا في محيط الساحة صعوداً نحو الجدار الإسمنتيّ الذي يفصلُ المتظاهرينَ عن موقعِ السلطة في المنطقة الخضراء. تمتلئ الفجواتُ القليلةُ الفارغة بالناس. تتدفّقُ مجموعاتٌ أكثرُ شباباً وتوتّراً من «ساحة الطيران». لا ينظرون إلينا ولا يسمعون تحذيراتِنا، بل يذهبون مباشرةً نحو الحواجز.
- الكتلةُ البشريّة الثانيةُ هي قوّاتُ الأمن التي طوّقت الساحةَ من كلّ الجهات. لم يتغيّر المشهدُ هنا، تغيّرَت المهمّة، فقد انتشرت في كلّ المداخل المؤدّية إلى الساحة قوّاتٌ عسكريّةٌ مدجّجةٌ بالسلاح وذخيرتِه، مهمّتُها حصرُ جمهور المتظاهرين في مكانٍ محدّدٍ هو «ساحة التحرير» ولوقتٍ محدّدٍ هو الثالثة بعد الظهر. والأهمّ من ذلك، الاستعدادُ لتفريق المتظاهرين بالقوّة إذا ما خرجوا عن السيطرة. سبعةٌ من المداخل الثمانية المؤدّيةِ لـ«ساحة التحرير» مفتوحةٌ ومدخلٌ واحدٌ على جسر الجمهوريّة مغلقٌ بجدرانٍ إسمنتيّة بعلوّ قامتَي إنسان. أمام هذه الجدران وخلفَها أنساقٌ أفقيّة من قوّاتٍ خاصّةٍ مدجّجةٍ بالسلاح وبدروعٍ زجاجيّة. مهمّة هذه القوّات منعُ المتظاهرين من الوصول إلى «المنطقة الخضراء» المطوّقة بدورها بجدرانٍ إسمنتيّة، أي منعهم من الوصول إلى قلعة السلطة.
بين المتظاهرين والقوّات المسلّحة، في الطّبقة السادسة من عمارةٍ مهجورة (المطعم التركي)، غرفةُ عمليّاتٍ مكوّنةٌ من رجال أمن وسياسة، تراقب الساحةَ والمتظاهرين من موقعٍ عالٍ يُطلّ عليهم ومحصّن ضدهم. ترسل من هنا التّقاريرُ الفوريّة إلى مركز السلطة في المنطقة الخضراء لاتّخاذ القرار وتطبيقه في الميدان بأساليبَ تتراوح بين تطويقٍ مع ضبْط أعصاب، اختراق التظاهرة من الوسط، طائرة هليكوبتر تحلّق منخفضةً، قنابل دخانية، مدافع مياه، إطلاق نار. هكذا تتسلسلُ الأوامر.
على اختلاف المواقع بين الكتل الثلاث أعادَ هذا اليومُ تشكيلَ العلاقة بين الرموز الثلاثة، فالشعبُ الذي انتَخبَ هذه السّلطةَ قبل حوالي العام يستأنف موقفَه منها في الساحة في لحظة يدركُ فيها أنّه ارتكبَ خطأً ما. لم تعدْ هذه السلطةُ قدراً ولا تمثيلاً لهويّةٍ ينبغي الدفاع عنها بأيّة حال، إنّما هي سلطةٌ قابلةٌ للمحاسبة والنقض إذا تطلّب الأمر. لم ترَ السّلطةُ نفسُها، وهي تطلّ من الطبقة السادسة وتتفحّص بالناضور المقرّبِ، هذا الجمهورَ جمهورَها، فقد اعتادتْ على جمهورٍ تعوّدَ الإذعانَ أو التشكّيَ المستكين، جمهور يعطيها صوتَه وولاءه بحكْم رابطةٍ قدَريّة هي الهويّة الطائفيّةُ والخوفُ من الطائفة الأخرى، ولذلك تنظر لما حدَثَ بريبة: ما الذي حدثَ؟ تستحضرُ كلّ مخيّلةٍ التآمرَ، وهي خائفةٌ من هذا الجمهور بمقدار ما كانت تخيف به.
المندسّ والخوفُ من الآخر
أعود الآنَ إلى الكتلةِ الأولى. الجمهورُ هنا مختلفٌ كليّاً عن الجمهور التاريخيّ للتظاهرات العراقيّة. في السابق كانت الأحزابُ تنظِّم التظاهراتِ وتقودُها. تحدّدُ الأحزابُ أو الحزبُ الواحدُ هدفَ التظاهرة وطابَعَها السلميّ أو الصداميّ، تحدّد توقيتَها ومسارَها المكانيّ، شعاراتِها وهتافاتِها، ويخصّصُ الحزبُ كادراً متدرّباً على قيادة المجموعات البشريّة. سيتصدّرُ القادةُ الحزبيّون التّظاهرةَ ويسيرون بهيئاتٍ توحي بالوَقار والعزيمة. وإذا شاركَ في التظاهرة أكثرُ من حزب، ستكون الصدارةُ للأقوى تجسيداً لتسلسلِ سلطةِ الأحزاب المشارِكة.
خلال ٣٥ عاماً من حكم الحزبِ الواحد والفرد الواحد، أعيدَ تشكيلُ التظاهرة اعتماداً على علاقة القائد بالرعيّة. صارتْ مهمّة الحزب أن يجمعَ الجمهورَ من قُراه ومَعامله ومدارسه ودوائره ويزجَّه بالشاحنات ويصفَّه ويلقّنه ليمرَّ أمامَ منصّة التحيّة «لتجديد البَيعة للقائد» في عيد ميلاده أو ميلاد حزبه الأوحد. للاحتجاج أو للمبايعة، كان شكلُ التظاهرة التقليديّ يشْبهُ الطابورَ العسكريَّ في نسَقه، والطابورُ كخطٍّ مستقيمٍ هو أوّلُ تنظيمٍ هندسيٍّ للانضباط والطاعة.
لم تغيّر التظاهراتُ في «ساحة التحرير» علاقةَ المواطن بالسلطة فحسب، إنّما أعادتْ تشكيلَ ذَوات المتظاهرين كمواطنين بدلاً من كونهم مُوالين أو أتباعاً. زرعَ الخوفُ من المواطن الآخر، الخوفُ الذي كرّستْه عقودٌ من هيمنة المُخبر السرّيّ والمُخبر الافتراضيّ، علاقةَ الشكّ بين المواطن والمواطن في «جمهوريّة الخوف».لم تغيّر التظاهراتُ في «ساحة التحرير» علاقةَ المواطن بالسلطة فحسب، إنّما أعادتْ تشكيلَ ذَوات المتظاهرين كمواطنين بدلاً من كونهم مُوالين أو أتباعاً. زرعَ الخوفُ من المواطن الآخر، الخوفُ الذي كرّستْه عقودٌ من هيمنة المُخبر السرّيّ والمُخبر الافتراضيّ، علاقةَ الشكّ بين المواطن والمواطن في «جمهوريّة الخوف». تعزّزَ هذا الخوفُ أيّامَ الاقتتال الطائفيّ بعد ٢٠٠٣ بتحوّله إلى خوفٍ من المُواطن بعدما كان خوفاً من السلطة.
تقوم فكرة «المندسّ»، التي تضمّنتْها التحذيراتُ التي سبقت التّظاهرَ، على استثمار ذاك الخوفِ التّاريخيّ من المواطن الآخر، وقد يكون هناك ما يسنُدُ الهاجسَ، بأنّ هذا الآخرَ الذي يجاورُك ويهتفُ مثلك ليس بريئاً كما يبدو إنّما هو مخبرٌ أو إرهابيٌّ مستتر، سيعتقلُك أو يفجّرُ نفسَه قريباً. عليك أن تبتعدَ عنه وتلوذَ بنفسك. انكسرَ هذا الخوفُ من الآخر في الساحة، أو على الأقلّ أصبح ثانويّاً، فقد تلاشت الفوارقُ الطائفيّةُ والعقائديّةُ والقبليّةُ حين حقّقَ الجميعُ كرامتَهم كمواطنينَ لا رعايا.
أعادت التظاهراتُ تشكيلَ هويّة الساحة من كونها نقطةَ عبورٍ إلى مكان اعتصامٍ يلوذُ فيه المتظاهرُ بالنُّصب وقد اتّخذَ، ويا للمصادفة، شكلَ لافتة! لم يعد المتظاهرونَ في هذه الساحة الأمّ أبناءَ طوائفَ متعادية، إنّما تضمّهم مهنةٌ واحدةٌ ويجمعهم مطلبٌ واحدٌ في مواجهة سلطةٍ تظلم الجميعَ بمساواة.
أعرف حين أغادرُ الساحةَ أنّني أجهلُها. لا أفكّرُ بها وأنا فيها. أجتازُها وحواسّي نحو مكانٍ خارجَها. إنّها أيضاً مكانٌ لأحداثٍ صغيرةٍ لم أرَها ولم أسمعْ عنها. بالمصادفة المحضةِ، رأيتُ الصبّيين القتيلَين تحت النُّصب، ثمّ اختفى الحادثُ من ذاكرة الساحة وعابريها. هناك أحداثٌ أصغرُ تخلو من الدّم الذي يُفزع ويجذب لم تدخلْ في ذاكرة الساحة والعابرين فيها. وراء هذا العشرينيّ ضخمِ الجثّة والمتلفّت حوله بقلقٍ حكايةٌ غامضة. هل من المعقول أن يكتفيَ عملاقٌ مثلُه ببيعِ علب الكبريت؟ كيف اخترقت الصبيّةُ غابةَ الرجال الشرهين بهذا البنطلون الضيّق؟ ما القصّةُ الخفيّة للفندق (للعوائل فقط) في موقعٍ تتحاشاه العوائلُ؟ من أين وإلى أين هربَ هذا الحصانُ النحيل مقطوعُ اللّجام والهائجُ في ضجّة الساحة؟ لا أعرف! هناك دائماً غموضٌ يخيف ويجذب. كثيرٌ من الحكايات المتوارية خلفَ المظهر اليوميّ الرتيب للساحة. أين تختفي كلُّ هذه الحكاياتِ، ومن سيَرويها؟ الشحّاذ المتكوّرُ مع أسماله في طرَف الساحة قريباً من نُزل الراهبات، يعرفُها أكثرَ منّي، وربّما رجل الأمن الذي يحملُ الكاميرا ويباغتُني بانفجار الضوء، أو القوّاد إبراهيم الذي يذرع الساحةَ ذهاباً وإياباً. رأوا كثرةً من الأحداث لم أعرفْها ولم أسمعْ عنها. ما لا أعرفُه يزيد من غموض الساحة وسحرها. في لحظاتٍ من الغفلة، تنبثقُ في ذهني من دون مقدّماتٍ أحداثٌ لا أعرفُ متى وأين حدثَتْ. كأنّي اتّكأتُ على سياجِ شرفةٍ عالية، فانخلع السياجُ وانخلعتْ معه عن الأرض التي تسنُدني. أحيلُ كلَّ الأحداث المبتورةِ إلى مستودع الغموض في الساحة.
يوميّات الساحة
٣ / ١١ / ٢٠١٩
أعود للسّاحة يومَ ٣ / ١١ / ٢٠١٩ في عاشر أيام انتفاضة تشرين. كان يوماً للشهداء. زُرعت صفوفٌ من شموع في أرض الساحة على شكل مستطيلاتٍ حولَها شبّانٌ صامتون. يبكي واحدٌ منهم دون صوت «فقدتُ صديقي». الرقص ممنوع. التحريم لم يكن دينيّاً ولا باسم الشريعة، إنّما احتراماً للشهداء. لقد تغيّرت المقاييس في الساحة، ومعها تغيّر المقدّسُ، صار يرتبطُ بالشهداء. صوَرهم في كل مكان: معروضةٌ على مساندَ موجّهةٍ نحوَ المنطقة الخضراء حيث السلطةُ المدانةُ بالقتل المتعمّد. على سياج الجسر حيث قُتلوا، على الخيَم التي اعتصموا فيها والتي صارتْ تحملُ أسماءهم (ابن ثنوه)، منشورةٌ على برج الحرّيّة. الشهداء من عمرٍ متقارب، هو عمرُ المعتصمين الذي يتراوحُ بين ١٥ - ٣٥. أكبرهم ولدٌ في عزّ الحرب العراقيّة - الإيرانيّة وكان والده مجنّداً فيها وكبر في مجاعة الحصار ثمّ قضى شبابَه في الحرب الطائفيّة ورأى بعينيه كيف يسرق الفاسدون مستقبلَه ويتحتّم عليه حين يفكّر بالزواج أن يوفيَ ديونَ الدولة المفلِسة. أمّا أصغرُهم فقد وُلد بعد ٢٠٠٣ ولم يعرف جرائمَ صدّام ولا الخوفَ الذي أكلّ حميّةَ والديه. عاش بين المفخّخات والقتل على الهويّة، لا يعرفُ الأرقامَ ليدركَ مداخيل بلدِه، لكنّه صار رجلاً قبل أن ينبتَ الزّغبُ على شفتَيه وعليه أن يتركَ المدرسة ليصير مُعيلاً بعدما فقدَ والدَه. نشأ بين صوَر الشهداء الجوُّ الثوريُّ المبعثرُ في الساحة، وفرَضَ نفسَه على الطقس، فحكاية الإمام الحسين التي قدّمها الطقسُ الشيعيُّ التقليديُّ كحكايةٍ للتفجّع والبكاء، قدّمت بميكرفون الساحة بعد صلاةٍ سريعةٍ كحكايةِ ثورةٍ على الظلم والظالمين.
روح التّعاون في الساحة في أعلى تجلّياتها. يريد كلُّ واحدٍ أن يقوم بعملٍ ما. تريد البطالة الطويلةُ والطاقةُ المحبوسة أن تفعل وسْط مهرجانٍ من الأفعال. أمشي على الأرض التي يمشي عليها الكلّ، أقلّصُ جسدي ليشغل أصغرَ حيّزٍ كي أمرّ وسْط الحشد. هناك من يُرشدني لطريقٍ أقصر بحيث أدخل ثلاثةَ تكاتك (وسيلة النقل في الطرق الفرعية) لأعبرَ للجهة الأخرى. رفعتُ رأسيَ فرأيتُ برجاً من شبابٍ يصعد من الساحة حتى الطابق الأخير من المطعم التركيّ. شبّانٌ لم أتعرّف عليهم، كنتُ أتحاشاهم، وأخطأتُ بحقّهم، يحاذونني في مسيري أو يقطعون طريقي، شبّانٌ وقفوا فوقي ينظرون لهذا الكَهل متعثّرِ الخطوات الحائر وسْط دنياهم: ماذا يفعل هنا؟ للحظةٍ واحدة رفعتُ رأسيَ وفكّرتُ بأنْ أكونَ شابّاً مثلَهم، للحظةٍ فقط، فوجدتُ ثلاث أيدٍ ممدودة لي. قدّمتُ يدي فتلقّفوني بينما كانت يدان ترفعانني من تحت. حصلتُ خلال هذه اللحظة على ثلاثة ألقابٍ: حجّي وعمّي وأستاذ.
هدأ الغضب في اليوم العاشر وبدأ الفعل. يريد كلّ واحدٍ أن يقومَ بفعلٍ ما. تكنس شابّةٌ من بين أقدامنا. بدتْ غاضبةً من إهمالنا، تُقلّد أمّها حين تكنس البيت. أمامها رجلٌ وابنُه جمَعا الأزبال وحمَلاها خارجَ الساحة. يتراجعُ الشبّان ليفتحوا طريقاً لهما كي يمرّا مع حمل من أكياسٍ سود. كلّ فعلٍ له قدسيّتُه هنا ومنه الصلاة. جلستْ لمّةٌ من المعمّمين في مربّعٍ حُجزَ لهم تحت سماء تَخطّها الألعاب الناريّة. تحتي داخلَ النفَق شابٌّ لا يلتفت للمستغرِبين حوله. يصبغُ جوفَ النفَق الجَهم باللون الأبيض: يا لطولةِ بالِه! كم سيقضي من الأيّام والساعات حتّى يصلَ إلى النهاية الأخرى من النفَق. عملٌ لم تفكّرْ به الحكوماتُ ولم يخطرْ ببالها. خلْفَه شبّانٌ أكثرُ جدّيّة يضعون الفرشاة: لمسةً على الجدار وخطوتين للخلف. يكتبون يوميّاتهم لوحاتٍ داخلَ النفَق. أردتُ أن أقولَ لهم: ليس هذا مكاناً للفرجة! ثم تأكّدتُ أنّهم لن يُبالوا بنصيحتي. هذه ساحتُهم. هنا الوردة، هنا فلنلعبْ!
الحكاية والصورة
مررتُ في شبابي في هذه الساحة آتياً من بارات «شارع أبي نواس». في هذه النقطة بالتحديد يقفزُ أمامي دائماً مصوّرُ الساحة فيشتعلُ الفلاش بوجهي مثلَ فضيحة. اختفى المصوّر. هنا كلٌّ يصوّرُ نفسَه أو يصوّرُ صديقاً يريد أن يوثّقَ وجودَه في هذه اللحظات التاريخيّة: كنتُ هناك! الصورة ستعطي حكايتَه مصداقيّةَ الشاهد. يجرّني ابنُ أخي الذي امتهنَ الساحةَ من مكاني ليريَني حكايةً أخرى قبل أن تكتملَ الحكايةُ الحاليّة. في جوفِ الخيمة التي دخلْناها أمٌّ وأولادُها كوّنوا فريقاً يطبخ ويوزّعُ السندويتشات على الحشد بصبرٍ عجيب.
أكثرُ من موقعٍ للإسعاف والطبابة. أردتُ أن أسألَ عن الحالات التي استقبلوها. الطبيبُ الخفَر مشغولٌ بعلاج شابٍّ متعَبٍ منذ ثلاثة أيّامِ سهَرٍ متتالية. تَقدّم أحد مساعديه (إبراهيم) ليخبرَني: لم تكن لدينا حالةُ تسمّم اليوم والبارحة، لكنّ أوّلَ البارحة كان يوماً عصيباً.
تدوخُ وأنت وسْط الساحة من كثرة الأفعال حولك، مع ذاك فإنّها لا تتقاطع كأنّ منظّماً سماويّاً يدير أفعال هذا الحشْد ببراعةِ من يعرفُ نيّة كلِّ واحدٍ منهم. أثبتَ العراقيّون في هذه الساحة، والذين يشكو الحاكمون من أنّهم الأكثرُ عصياناً للنظام، أنّهم الأكثرُ تنظيماً لأنّ النظامَ جاء من رغبتهم الخاصّة. انتقلتْ تقاليدُ المَواكب الحسينيّة للسّاحة بنَصْب الخيَم وتنظيم أماكن النوم وتوفير وجبات طعامٍ مجّانيّة وأوقاتِ توزيع الشاي وأماكن الحلاقة ومكتبةٍ مفروشةٍ على الأرض لمُحبّي القراءة. سيجدُ كلُّ واحدٍ المتعةَ والثوابَ في خدمة الآخر. هناك فريقٌ يستقبلُ القنابلَ المسيلة للدموع وهي تنقذفُ من وراء الساتر فتُتابُعها عيونُ المتظاهرين ويُعيدها واحدٌ من أعضاء الفريق بضربةِ تِنس (مضرب) إلى ما وراءَ الساتر أو يحملُها بيده ويُلقيها في النفَق ليستقبلَها فريقُ المَطافئ. وهناك البويَجي الذي يرتدي فروةَ قردٍ مهمّتُه القبضُ على القنّاصين في السطوح العالية.
لم أجدْ «أمّة البكّائين»، عكْس ما كتبَه صديقي الروائي علي بدر، بل رأيتُ المرَحَ وخفّةَ الدم في مشهدِ الساحة. خرجَتْ عوائلُ بكاملها مع أفرشتها للساحة كأنّها تحضُر مهرجاناً للمتعة. مشهديّة متنوّعة ومتقاطعة. ترفع رأسَكَ للأعلى فترى مهرجاناً من الألعاب الناريّة وخطوطَ الليزر تتقاطعُ ألوانُها. تنزل قليلاً فترى عمارة «المطعم التركيّ» التي اكتسبتْ أسماء جديدة («جبل أُحد» او «برج الحرّيّة») تغمز بمرحٍ من كلّ نافذةٍ فيها. لا أصدّق عينيّ: معقولٌ هذه نفسُ العمارة ذاتِ السلالمِ والأروقةِ المظلمة التي صعدْتُها ذاتَ يومٍ بدعوةٍ من صديقٍ كأنّني أدخلُ في كابوس. تبدو ليَ الآنَ كبرجٍ من الضوء. أنا المسكونُ بالوَسواس، خفتُ من زحمةِ الفرَح فيها. أنزلُ بعيني إلى ما حَولي: يقدّمُ كلُّ واحدٍ عَرضَه الخاصّ ومن ابتكاره، فرح بالعرض حتى لو لم يجدْ كلماتِ إعجاب: هذا ما أستطيعُ تقديمه! مرّ أمامنا صبيٌّ يحمل صورةً مكبَّرةً لرئيس الوزراء عادل عبد المهدي من دون أيّ تعليقٍ تحتَها.
- ماذا تفعلُ به؟
سأله ابن أخي ياسر، فأجابنا بضحكةٍ طفوليّة:
- معجبٌ بجماله الربّاني!
فوق واحد من مداخل الساحة لافتةٌ كُتبَ عليها «أن تطلبَ من الظالم أن يعدلَ كما تطلبُ من المجنون أن يعقِل». لافتةٌ أخرى على شكل سؤالٍ «إذا كان رئيسُنا صالح ورئيس وزرائنا عادل، ليش الوضع حلبوصي؟» سؤال يجمع الرئاسات الثلاث.
يحمل واحدٌ لافتةً عليها «أنا عراقيّ، أنت مَن؟» وقدّمَها لكلّ من يريد أن يأخذَ صورة. على التكتك لافتةٌ تقول «نازل للساحة وحتى حقّي ما أريده». صارت الساحةُ مركزاً للإلهام. وفي سرعةِ الحراك فيها تُقال الحقائقُ باختصارٍ شديد: أريد وطناً، وحسب. الأقنعة متنوّعة وكذلك عصائبُ الرأس.
يريد الكلُّ أن يكون مميّزاً في الحشد ويحقّق نفسه كذاتٍ منفردةٍ داخلَ الحشد. حتى جنائزُ الشهداء تتقدّمُها سلّةٌ من الخوص فيها شموعٌ وآسٌ كما في زفّة القاسم.
حاملا العلمَ بيده وقناعَ الغاز في رقبته يدخلُ الإنسانُ السّاحةَ متفرّجاً وعارضاً في نفس الوقت. يريد أن يسمعَ حكايةَ كلِّ مَن فيها ويروي قبل ذلك حكايتَه. من «المطعم التركيّ» يبدو المشهدُ كاملاً: المنطقة الخضراء وجسر الجمهوريّة وساحة التحرير. تبدو «المنطقة الخضراء» سلسلةَ جدرانٍ دونما حياة. جدرانٌ داخلَ الجدران. جدرانٌ تعزلهم عن الحياة في «المنطقة الحمراء» وجدرانٌ تعزلهم عن جيرانٍ لا يعرفونهم، جيرانٌ يبادلونهم الخوفَ وجدرانٌ تعزلهم عن حرّاسهم خلفَ جدران البيت.
من قُصورهم ومناطقهم المحصّنة يراقبُ الحاكمون ما يحدثُ خارجَهم بحذرٍ مشدّد. يقلّبون قنوات التلفزيون ويتحدّثون في مجالسهم عن السياسة كهمٍّ شخصيّ. يمسّهم ما يحدثُ كأفراد، يمسّ عوائلهم وأملاكَهم، ويشعرون في أماكنهم بأنّ الدولةَ ومعها الوطن أقرب لهم. لكنّهم في قلقٍ دائم. ليسوا سعداءَ ولن يكونوا، فالفرصُ الضائعةُ تنغّصُ عليهم أوقاتهم. في هذا البلد المضطرب. تتدفّق النقود بلا منافسةٍ حرّة ودونما كفاءات، تتدفّق بسهولةٍ وغزارةٍ تدهش أصحابها، لكنها دهشةٌ مشوبةٌ بالقلق من أفكارٍ سيئة، لذلك يعانون من ضغط الدم والسكّر والجلطة بسبب كثرة المفاجآت السيّئة والتنافس الذي يتّسمُ بالغدر.
بين السّاتر الإسمنتيّ على «جسر الجمهوريّة» وصدور المتظاهرين مساحةٌ فارغة. على الأرض المسفْلتة بين الاثنين تناثرتْ مظاريفُ الطلقات وقنابل الغاز الفارغة. في الفضاء الفارغ بمستوى الصدور بقعٌ من دخانٍ خانقٍ يدخلها الشبّان ويحرجون مُخنّقين وقد فَقَدوا الاتّجاهات. هناك جسد صبيٍّ ممددٍ على الأرض يحاول صبيانٌ بعمره جرَّه خارج مساحة الموت التي تنبض على إيقاع أنفاسه. تنبضُ قلوبُنا، نحن الواقفين، معه. تعيد رشقاتٌ قصيرةٌ المنقذينَ إلى الخلف: خلّيه ينزف حتى الموت! تطلُّ خلفَ الساتر فوّهاتٌ لا تزال ساخنة. وراء الساتر، ساتٌر آخر، بعده ساتر. خلفَ سلسلة السواتر تختفي السلطةُ التي تحكمُ البلد ولا تراه. من الشرفة الخلفيّة تبدو الساحةُ غابةً من رؤوسٍ تهتف دون صوت «أريد وطناً!» وأعلامٌ تخفُقُ في الريح.
لقد خلَقَ المتظاهرون الذين اعتصموا في الساحة منذ أسابيع هويّةً وطنيّة مقاوِمة عابرة للطوائف. الساحة كما هي دائماً مهيّأة لحدَثٍ كبير.
. عصابات وميليشياتٌ تسكن مناطقَ العشوائيّات أو «الحواسم» المنتشرة في مناطق بأطرافِ بغداد. وتلك المناطقُ هي غالباً معسكراتٌ للجيش العراقيّ السابق وأبنيةُ الدوائر الأمنيّة التي كانتْ تابعةً للنظام السابق. و«الحواسمُ» في الأصل التسميةُ التي أطلقَها الرئيسُ العراقيّ السابقُ صدّام حسين على الحرب الأميركيّة على العراق عام 2003.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.