على الرغم من «اتّفاق الرياض» الذي وقّعتْه «الحكومةُ الشرعيّة» و«المجلسُ الجنوبيّ الانتقاليّ» في السادس من تشرين الثاني / نوفمبر ٢٠١٩، لم تكن أوضاع الجنوب مرشّحةً للهدوء طويلاً حتى لو توقّفت الحرب كلّيّاً في اليمن، إذ أعلنت السعوديّة وجود قناةِ مفاوضاتٍ مفتوحةٍ مع الحوثيّين وانتشرتْ قبْلها تسريباتٌ إعلاميّة عن مفاوضاتٍ أميركيّة - حوثيّة سرّيّة. كما ظهر بوضوحٍ في وثيقة الرياض أنّ الحرب ضدّ الحوثيّين انتهتْ، فقد تحدّثتْ عن توحيد الجهود لمكافحة الإرهاب لا محاربة الحوثيّين، مع تأكيد تمثيل المجلس الانتقاليّ في وفد الحكومة الشرعيّة لمفاوضات الحوثي، أي أنّ الحوثيّين لم يُذكروا إلّا كطرفٍ مفاوِض، إضافةً إلى الحديث عن الاتفاق كخطوةٍ في طريق الحلّ النهائيّ للحرب اليمنيّة. ويعني توقُّف الحرب وقفَ المواجهات بين السعوديّة والحوثيّين، لكنّ هذا لن يغيّر شيئاً على أرض الواقع في الجنوب من فوضى مليشياتٍ وتدخّلاتٍ إقليميّة بل سيدفع إلى انكشافٍ أكبر لطبيعة الصراع فيه.
أشباح الماضي
تأخذ الصراعاتُ في اليمن طابعاً دائريّاً بحكم الطابع الثأريّ للصراعات والتقسيمات التي تترسّخ مع تكرار الصراعات. لا يزال البعضُ في الشمال يستدعي حربَ ١٩٦٢ وتقسيم اليمن التاريخيّ، يمن أعلى (المقصود به شمال صنعاء وما حولها) وغالبيّتُها زيود (شيعة)، ويمن أسفل وهو بقية المناطق الوسطى والغربيّة والشرقيّة وتغلب عليها الشافعيّة (سنّة)، إضافةً إلى تقسيمٍ آخر أضْيَق يتحدّث عن انقسام هاشميّين (آل البيت) ويمنيّين أصولُهم قحطانيّة من عرب الجنوب، فهذه تقسيمات عمرها مئاتُ الأعوام.
يتكرّر شيءٌ مشابهٌ في الجنوب، فعند نشأة دولةٍ الاستقلال الجنوبيّة بعدَ جلاء البريطانيّين عام 1967 والتي سرّحتْ معظمَ العاملين مع الاستعمار البريطاني، خصوصاً ضمن الألوية العسكريّة وأبرزُها «جيش الليوي» ومعظمُه تَشكّلَ من محافظتَي أبين وشبوة، إضافة إلى «جيش البادية» في حضرموت، ليحلّ مَحلّهم جيشٌ بهيمنةٍ مناطقيّة من محافظة الضالع التي كانت جزءاً من اليمن الشماليّ حتى ثلاثينيّات القرن الماضي ومحافظة لحج الواقعة شمال عدن وقد حملتْ توجّهاتٍ استقلاليّةً ومعارضةً دائمةً للاستعمار البريطانيّ.
ظلّ التوتّر المناطقيّ حاضراً حتى انفجر عام ١٩٨٦ وأحدثَ شرخاً حقيقيّاً، إذ بدا بوضوحٍ الاصطفافُ المناطقيُّ في تلك الحرب، اصطفاف أبين - شبوة في وجه الضالع - لحج، وقد انتهت الحرب لصالح الطرف الأخير. وكما في كلّ الحروب اليمنيّة الأهليّة التي لا تنتهي بتسوياتٍ سياسيّةٍ ولا بمصالحاتٍ وطنيّة بل بسلوكٍ غنائميّ وانتقاميّ واضحٍ من الطرف المنتِصر، اضطرّ الطرفَ المهزومَ إلى الفرار ليستقبل الشمال عشرات آلاف الجنوبيّين النازحين من الحرب، ومن بينهم قياداتٌ عسكريّةٌ وسياسيّةٌ مهمّة مثل الرئيس الجنوبيّ الأسبق علي ناصر محمد والرئيس الحاليّ عبد ربه منصور هادي.
بعد الوحدة اليمنيّة السريعة عام ١٩٩٠، تكرّر المشهد في حرب ١٩٩٤ والتي يفضّل الكثيرون توصيفَها كحربٍ بين الشمال والجنوب، وهو صحيحٌ في أحد مستويات الحرب، لكنّه ربّما يكون المستوى الأقلَّ أهمّيّةً، حيث كان البُعدُ الأيديولوجيّ لا يزال حاضراً بقوّة، فلم يكن قد مرّ وقتٌ طويلٌ على الصراع بين اليسار والإسلاميّين. ولا يقلّ أهميّةً عن هذا وذاك الطابعُ الانتقاميّ للنزاع، إذ اصطفّ الطرفُ الجنوبيّ المهزومُ في عام ١٩٨٦ مع حكومة صنعاء ضدّ الفصيل الجنوبيّ الذي يمثّله علي سالم البيض.
تلتْ حربَ ١٩٩٤ الإجراءاتُ الانتقاميّة والتّعاملُ الغنائميُّ مع الطرف المهزوم ومع دولة الجنوب، فكان أبناءُ محافظتَي الضالع ولَحج أكبر المتضرّرين، كما تمّ تسريحُ معظم جنود وضبّاط الجيش الجنوبيّ في عمليّةٍ واسعةٍ بالإحالة على التقاعد المبكر، وقد شمَلَ هذا الإجراءُ الكثيرَ من موظّفي القطاع المدنيّ.
المناطقيّة والسلفيّون
من هنا أصبحتْ محافظتا الضالع ولحج أبرزَ محافظتين ينشط فيهما «الحراكُ الجنوبيّ»، الذي بدأ عام ٢٠٠٣ كحركةِ مَطالبٍ بحقوقِ المتقاعدين، ثمّ أضحتا المكوّنَين الرئيسيّين لـ«المجلس الانتقاليّ الجنوبيّ» الذي تشكّلَ في ١١ أيار / مايو ٢٠١٧ إثر إقالة الرئيس هادي لعيدروس الزبيدي وعددٍ من القادة الجنوبيّين من مناصبهم في الحكومة «الشرعيّة».
يرأَس عيدروس الزبيدي المجلسَ الانتقاليّ، وهو شخصيّة عسكريّة جنوبيّة من الضالع، ومثّل أحد أبرز قيادات الحراك الجنوبيّ منذ بداية نشاطه في عام ٢٠٠٣، وكانتْ أثناءها إيرانُ أبرزَ مموّلي الحراك الجنوبي. أمّا نائبه هاني بن بريك، الأكثرُ حضوراً في الإعلام، فشخصيّةٌ سلَفيّة من يافع (منطقة قبائل جنوبيّة يقع معظم أراضيها في محافظة لحج) وأحد خريجي المعهد السلفيّ الشهير بدماج في صعدة. أيّد هاني الوحدةَ واستخدمَ جملتَه الدينية ضدّ مَن يطالبون بفكّ الارتباط مع الجنوبيّين، وانتقلَ بعد ذلك نحو الطرف الآخر. وبِن بريك من أبرز قياديّي «الحزام الأمنيّ» في عدن، وهو متّهمٌ بالتورّط في عمليّات تعذيبٍ داخلَ السجون بحسب ما أفادتْ تقاريرُ لوكالاتِ أنباءٍ عالميّة مثل «الأسّوشييتد برس»، وتَحوم حوله شبهةُ التورّط في عمليّات الاغتيال التي استهدفتْ في معظمها عناصرَ من «حزب الإصلاح».
من اللافت أيضاً عملياتُ الاغتيال التي طاولت الشبابَ الناشطين في عدن إثرَ اتّهامهم بالإلحاد، أبرزُهم عمر باطويل في نيسان / أبريل ٢٠١٦، والشابّ أمجد عبد الرحمن الذي قُتل في أيّار / مايو ٢٠١٧، ومَنعتْ قوّات الحزام الأمنيّ الصلاةَ عليه وتشييعَه بحجّةِ أنّه كافر، كما اختطفتْ مجموعةً من أصدقائه وأفرجتْ عنهم بعد أيّامٍ تحت ضغطٍ إعلاميّ وسياسيّ.
يُعتبر المجلس الانتقاليّ أبرزَ القوى السياسيّة والاجتماعيّة بالجنوب وقاعدتُه الضالع، المنطقة اليمنيّةُ الوحيدةُ التي نجحتْ في طرد الحوثيّين من دون دعم التحالف، بسبب قدرات أهلها العسكريّة، والسلفيّون هم القوّة الأبرزُ في الجنوب وأكثريّة المقاتلين في المليشيات الجنوبيّة المختلفة.
الصدام مع «الحكومة الشرعيّة»
بدا احتواءُ القياداتِ الجنوبيّة المطالِبة بالانفصال في الحكومة أمراً شديدَ الافتعال نظراً لطبيعة الخلاف التاريخيّ بينها وبين الرئيس هادي الذي وقفَ في صفّ حكومة صنعاء خلال حرب عام ١٩٩٤ ضدّ الحزب الاشتراكيّ في الجنوب، إضافةً إلى كونها قياداتٍ معارِضةً للإطارِ السياسيّ والدستوريّ للدولة التي يمثّلها الرئيس هادي، لذا من الطبيعيّ أنّه أدّى في ٢٧ نيسان / أبريل ٢٠١٧ إلى تداعياتٍ خطيرة، خصوصاً أنّ هذه الخطوةَ أثارتْ غضب الإماراتيّين، الذين ربطتْهم علاقةٌ متوتّرة أصلاً بالرئيس هادي منذ عَزله لرئيس الوزراء خالد بحاح في نيسان / أبريل ٢٠١٦ المقرّب منهم، إضافةً إلى شكوى الإماراتيّين من تأثيرِ حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين) على قرارات الرئيس هادي.
وقعَ أوّلُ اشتباكٍ عسكريٍّ بين الطرفَين في كانون الثاني / يناير ٢٠١٨ عندما أمهلَ المجلسُ الانتقاليُّ الرئيسَ هادي أسبوعاً لإجراء تغييرات حكوميّة وعَزْل رئيس الوزراء أحمد بن دغر بحجّة الفساد. أسفرت الاشتباكاتُ التي استمرّتْ ثلاثة أيّامٍ عن عشرات القتلى والجرحى، وسيطرتْ فيها قوّاتُ المجلس على معظم عدن ما عدا منطقةَ قصر الرئاسة في معاشيق. سياسيّاً لم تسفر المواجهاتُ عن شيء إذ لم يعزل هادي رئيس الوزراء أو يعدّلْ في الحكومة.
توقّفَ المجلسُ العسكريُّ عند قصر الرئاسة من دون محاولة اقتحامه، ورفضَ هادي الانصياعَ لهم. يمكن تفسير موقفه بسهولة: إنّه أمرٌ يتعلّق بتوازنات العلاقة بين طرفَي التحالف السعوديّة والإمارات، لأنّ المجلسَ المدعومَ إماراتيّاً لا يمكنه تجاوزُ الحكومةِ عند حدٍّ معيّن في ما قد يبدو صراعاً مفتوحاً بين طرفَي التحالف.
تجدّدت الاشتباكاتُ في آب / أغسطس ٢٠١٩ بحجّة الرّدّ على مقتل قائد اللواء الأوّل (دعم وإسناد) أبو اليمامة، الموالي للمجلس الانتقاليّ، في هجومٍ تعرّضتْ له منصّة المعسكر أثناء عرضٍ عسكريّ في الأوّل من آب / أغسطس أودى بحياة ١٨ شخصاً. اللافتُ في الحادث أنّ المجلسَ أصرَّ على تحميل الحكومة مسؤوليّة الهجوم رغم إعلان الحوثيّين مسؤوليّتَهم عنه، ما قد يعني أنّ الحادثَ تمّ انتهازه من المجلس بنيّةٍ مبيّتة للتصعيد ضدّ الحكومة.
حدث هذا كلُّه على خلفيّة إعلانٍ إماراتيٍّ دعائيّ بانسحاب قوّاتها من اليمن قبل شهر، في ما بدا أنّه تصعيدٌ إماراتي ّبعد تخفّف الإمارات من المسؤوليّة المباشرة في الحرب اليمنيّة. عملت الآلةُ الإعلاميّةُ الدعائيّةُ للمجلس على الحشد ضدّ الحكومة بسبب تحكّم حزب الإصلاح بها، وهذا صحيحٌ نسبيّاً، فتأثيرُ حزب الإصلاح قويٌّ فعلاً على الرئيس الذي يتحكّم بالقرار بعد تعطُّل مجلس النواب وضَعفِ وَضْع الحكومات المتعاقبة إذ صار هادي يحتكر الشرعيّةَ بعد عزل خالد بحاح، فيجب أن يحصلَ رئيسُ الوزراء على موافقة مجلس النواب حتى يُعتمدَ رئيسَ وزراء شرعيّاً، الأمرُ الذي لم يتوفّر لكلّ رؤساء الوزراء اللاحقين لبحّاح.
على الأرض، وقع الاقتتالُ بين قوّات المجلس الأمنيّ وقوّات الحماية الرئاسيّة التي يقودها ناصر، نجلُ الرئيس هادي ناصر. انتهت المواجهاتُ سريعاً خلال ثلاثة أيّام، أعلن بعدَها المجلسُ سيطرتَه الكاملةَ على مدينة عدن في ١٠ آب / أغسطس ٢٠١٩، حينها بوغتَ الكثيرون ممّن تصوّروا أنّه لا يمكن للإمارات أن تتجاوز إلى هذا الحدّ حليفتَها السعوديّة فتطردَ الحكومةَ التي تدعمها السعوديّةُ من عاصمتها المؤقّتة. تصدّرَ وزيرا النقل صالح الجبواني والداخلية أحمد الميسري المواجهات، وكلاهما جنوبيّ لا ينتمي إلى حزب الإصلاح، ما أخلَّ كثيراً بسرديّة المجلس الانتقاليّ عن حزب الإصلاح بصفته حزباً شماليّاً رغم وجود جنوبيّين منتمين إليه.
غربٌ وشرق
تحت شعار «الحرب ضد الإرهاب»، بدأ المجلس الانتقالي يعلنُ عن مطاردة الإرهابيّين في شبوة وحضرموت الوادي (الداخل). والجدير بالذّكر أنّ الإمارات أعلنتْ سابقاً طردَها تنظيمَ القاعدة من مدينة المكلا في حضرموت في نيسان / أبريل ٢٠١٦، بعدما سيطرت القاعدة على المدينة إثر اندلاع الحرب في ٢٦ آذار / مارس ٢٠١٥. وبدا هذا الإعلانُ بمثابة تدشينٍ لدور الإمارات كوكيلٍ دوليٍّ في الحرب ضدَّ الإرهاب داخلَ اليمن. ينشط تنظيمُ القاعدة في اليمن داخل المناطق الشرقيّة شمالاً وجنوباً في مأرب والبيضاء، وبدرجة أقلّ في الجوف شمالاً، وهو متواجدٌ أيضاً في شبوة وأبين، وإلى حدٍّ ما في وادي حضرموت جنوباً، وهذه مناطقُ في معظمها محاذيةٌ للصحراء وتتّسم بالطابع القبليّ وبعضُها مناطقُ بتروليّة غنيّة.
سيطر المجلسُ الانتقاليّ بالفعل على منطقتَي الضالع ولحج. وبعد إعلانه السيطرةَ على عدن، اتّجه شرقاً نحو محافظة أبين، وهي المنطقةُ التي ينتمي إليها الرئيسُ هادي، وقد سقطتْ أبين بسهولةٍ قبل أن تتّجهَ قوّاتُ المجلس نحو شبوة حيث توجد «قوّات النخبة الشبوانيّة» في عاصمة المحافظة عتق التي تسيطر على ساحلها التي تموّلها وتدرّبُها الإمارات. لكنّ اللافتَ أنّ قوّاتِ المجلس واجهتْ هناك مقاومةً شرِسة بالفعل، ممّا غيّرَ من مسار الأحداث تماماً.
يمكن إرجاعُ هذا التحوّلِ إلى أسبابٍ عدّة، أوّلُها اختلافُ التركيبة الاجتماعيّة، فبنْيةُ شبوةَ قبليّة معقّدة، وتلعبُ الولاءاتُ القبليّة دوراً مهمّاً فيها، لذا خشيَ بعضُ أبناء القبائلِ في النخبة الشبوانيّة من أبناء قبيلتهم الذين يقاتلون مع الشرعيّة أو مع أبناء قبائل أخرى تحسّباً من الثأر. ثانيها، استخدامُ المجلس لغةً مناطقيّةً ضدّ أبناء شبوة، مما أثار الثأرَ القديمَ وعزّزَ الانقساماتِ المناطقيّة في الجنوب. ثالثها، شبوة محافظةٌ نفطيّة وفيها موانئُ تصدير النفط والغاز وكانتْ ستوفّر مصادرَ دخْلٍ مهمّةً للمجلس الانتقاليّ لو سيطرَ عليها، وهذا ما حرصت الحكومةُ الشرعيّة والسعوديّة على منعه. من المهمّ هنا ملاحظةُ سيطرة السعوديّة على كلّ المناطق النفطيّة في اليمن، شمالاً وجنوباً، مأرب في الشمال وشبوة ووادي حضرموت في الجنوب. هكذا انقسمَ الجنوبُ إلى غربٍ يضمّ الضالعَ ولحج وعدن وأبين وشرقٍ فيه شبوةُ وحضرموت والمهرة، وفي ما عدا المهرة تملكُ المليشياتُ المواليةُ للإمارات حضوراً على طول الساحل الجنوبيّ، بينما تغيبُ تماماً في محافظة المهرة المحاذية لحدود عمَان والتي تتقاسم النفوذَ فيها سلطنةُ عمَان والسعوديةُ، لكنّ الاماراتِ تعود فتحضرُ عسكريّاً في جزيرة سقطرى التابعةِ لمحافظة المهرة.
تتمتّع محافظةُ المهرة وجزيرتُها سقطرى بخصوصيّة ثقافيّة، فلديهما لغةٌ مختلفة غير العربيّة، وهي إحدى اللغات السامية الجنوبيّة القديمة، وهي اللغة ذاتُها التي يتحدّثُ بها أهالي محافظة ظفار بسلطنة عمان. وهذا ما منحَ أبناءَ هذه المنطقة شعوراً قويّاً بهويّتهم المستقلّة. وعلى الرغم من عزلة محافظة المهرةِ وجزيرتِها سقطرى وبُعدِهما عن ساحة الصّراع اليمنيّ، إلّا أنّ هذا لم يمنعْ من امتداد الصّراع نحوَهما، حيث تسبّبَ الحضورُ الإماراتيّ في جزيرة سقطرى بأزمة كبيرةٍ بينَها وبين الحكومة اليمنيّة في نيسان / أبريل ٢٠١٨ حين قامت الإمارات بإنزالٍ عسكريٍّ استعراضيّ أثناء زيارة رئيس الوزراء اليمنيّ بن دغر للجزيرة، ما أثار غضبَ الكثير من اليمنيّين والذي انعكَسَ على شعبيّة المجلس الانتقاليّ المتراجعةِ بشدّة أثناءها لدى الجنوبيّين أنفسهم.
انقسام الجنوب والتدخّلات الخارجيّة
تتعدّدُ الأطرافُ الخارجيّة الفاعلةُ في الجنوب وتملك نفوذاً أكبرَ بكثيرٍ من الشمال، حيث تعدّ السعوديّة لاعباً رئيسيّاً فيه يهدّد حضورَها التأثيرُ الإيرانيّ المتعاظمُ في الشمال، قصيرُ العمر نسبيّاً، وتُنافسها على نحوٍ محدودٍ جدّاً بعضُ الأطراف الإقليميّة مثل قطر والإمارات. لكنْ يظلّ الشمال محكوماً بحضور مليشيا الحوثيّين القويّة بلا منافسٍ عسكريّ، مع بعض المليشيات المتعدّدة في محافظتَي مأرب وتعزّ والتي يعتمد بقاؤها على استمرار دعم التحالف.
يختلف الوضعُ في الجنوب حيث تتعدّد المليشيات. وعلى الرغم من القوّة العسكريّة نسبيّاً للقوّات الموالية للمجلس الانتقاليّ، الذي لا يتمتّعُ بنفس التماسكِ والتنظيم الموجودَين لدى الحوثيّين، إلّا أنّها قوّةٌ لا تعطيه تفوّقاً مطلقاً على بقية المليشيات الجنوبيّة، فقد حرصت الإماراتُ على تشكيل مليشيات لكلّ منطقةٍ ولكلٍّ منهما قوّةٌ مستقلّة ذاتُ ولاءٍ مناطقيٍّ، وهي الحيلةُ نفسُها التي مارسَها الاحتلالُ البريطانيّ، لأنّ تشرذمَ القوّةِ الجنوبيّة يضمن بقاءَ قوّة الطرَف الخارجي.
يستفزّ النشاطُ الإماراتيّ في الجنوب أطرافاً عدّة وهي سلطنةُ عمَان صاحبةُ العلاقة المتوتّرة تاريخيّاً مع جارتها الإمارات، وقطر التي تدهورتْ علاقتُها بشدّةٍ مع الإمارات بعد المقاطعة وبشكل أسوأ من الحال مع السعوديّة بسبب طبيعة التنافس على الحضور الإقليمي لكلتا الدولتين وطبيعة تناقض أدواتهما، فقطرُ تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على دعم الإخوان بينما تعادي الإماراتُ الإخوانَ بشدة. أيضاً صارت السعوديةُ ترى في الإمارات منافساً أكثر منها حليفاً، حتى إيرانُ التي كانت قد انقطعتْ علاقتُها بتيّارات الحراك الجنوبيّ التي موّلتْها سابقاً مثل عيدروس الزبيدي والرئيس الجنوبي السابق علي سالم البيض، ما زالت تحتفظُ بعلاقةٍ مع بعض الشخصيّات الجنوبيّة مثل فادي باعوم، وربّما تعاود النشاطَ بعد انتهاء الحرب.
عند الحديث عن العامل الخارجيّ في الجنوب، لا يمكن نسيانَ حضور تنظيمِ القاعدة فيه، فالمجلسُ الانتقاليُّ والحكومةُ يتبادلان الاتّهامَ بدعم تنظيم القاعدة، ويعتمد كلاهما بشكلٍ كبيرٍ على الجماعات السلفية في القتال، وبعضهُا جماعاتٌ سلفيّة جهاديّةٌ مرتبطة بتنظيم القاعدة. ومع أنّ الجماعات السلفيّة لا تتمتّعُ بقدْرٍ كبيرٍ من الانضباط، إلّا أنّها مكوّنٌ قتاليّ هامّ لأنّها سهلةُ التحشيد، ودافعُ القتال حاضرٌ لديها وقويٌّ على الدوام.
سوف تتصاعد قضيّة مكافحةِ الإرهاب وتزداد أهمّيّتُها في الجنوب، وقد استخدمَ الحوثيّون وجودَ الإرهاب حجّةً عند اجتياحهم للمحافظات الجنوبيّة في آذار / مارس ٢٠١٥، وحاليّاً يستخدمُ المجلسُ الانتقاليُّ هذه الحجّةَ، كما أنّها لطالما شكّلتْ قضيّةً تلاعَبَ بها الرئيسُ السابق علي عبدالله صالح. تكمن خطورةُ هذا الملفّ في أنّه يفتح البابَ للتدخّلات الدوليّة وعدم الاستقرار، كما يكاد يستحيل الحسمُ فيه من دونِ وجود حكومةٍ مركزيّةٍ قويّة.
توقّعاتٌ لما بعد الحرب
المفاوضات بين الحوثيّين والسعوديّة حول وقف الحرب مرشّحةٌ للنجاح بعدما استنفدت السعوديّةُ قدراتِها في حربٍ لم تتقدّمْ فيها خطوةً منذ سنوات. ولن تكون مرحلةُ ما بعد الحرب منفصلةً عمّا قبلها. وعلى الرّغم من أنّ انفصالَ اليمن يبدو مستبعَداً بسبب الفيتو السعوديّ لأنّ السعوديّة ترى فيه تكريساً لقوّة الحوثيّين في الشمال، إلّا أنّ هذا لا يعني إمكانيّة عودة الوضع إلى ما كان عليه من سلطةٍ مركزيّةٍ تحكمُ من صنعاء.
السيناريو المعتمدُ للخروح من حالة الانقسام التي أفرزتْها الحربُ هو الفيدراليّةُ من دون توافقٍ على عدد الأقاليم حتى الآن، لكن حتى اليوم في الشطر الشماليّ مكوّنان، الجزءُ الأكبرُ منهما تحت سيطرة الحوثيّين. أمّا محافظتا مأرب وتعزّ، اللتان يقع معظمهما خارجَ سيطرة الحوثيّين، فهما آخر ما تبقى لحزب الإصلاح من معاقل. أمّا الجنوبُ فانقسمَ إلى مكوّنين رئيسيّين، محافظاتٍ غربيّة فيهما العاصمةُ عدن تحت سيطرة المجلس الانتقالي، وأخرى شرقيّةٍ تحت سيطرة الحكومة الشرعيّة. وجديرٌ بالذكر أنّه باستثناء الحوثيّين، الذين يسيطرون بشكلٍ كاملٍ على مناطقهم، تتعدّد المليشيات في المناطق الأخرى.
يتّجه اليمنُ بشكلٍ واضحٍ نحو الفوضى، فأيّ صيغةٍ سياسيّةٍ حتى لو كانت فيدراليّةً تتطلّبُ حكومةً مركزيّةً قويّةً في العاصمة، وهذا أمرٌ غيرُ ممكنٍ بسبب أنّ مرحلة ما بعد الحرب لن تلغيَ سيطرةَ الحوثيّين وهي مليشيا طائفيّةٌ تسيطرُ على العاصمة والمناطق المحيطة بها. لذا ستشكّل الفيدراليّة غطاءً سياسيّاً لبلدٍ منقسمٍ واقعيّاً، فعلى سبيل المثال، لا يمكن للشماليّ أن يدخلَ عدن إلّا بعد إبراز جواز سفره وتذكرةِ سفره لكي تتأكّد نقاطُ التفتيش الجنوبيّة أنّه قادمٌ فقط للسفر عبر مطارِ عدن بعدما أغلَقَ التحالفُ مطارَ صنعاءَ في آب / أغسطس ٢٠١٦.
في الوضع الحاليّ وفي مرحلة ما بعد الحرب، يتّفقُ الحوثيّون والمجلسُ الانتقاليُّ على أمورٍ عدّة، أوّلها رغبتُهم في التخلّص من الحكومة الشرعيّة والمرجعيّات السياسيّة وكلّ ما اتّفِقَ عليه سياسيّاً، ومن الإطار الدّستوريّ للدولة التي تسبقُ الحرب، لأنّ هذا يَعني إعادةَ تشكيل البلد حسب ما أفرزتْه الحربُ من قوىً عسكريّة، أي الحوثيّين في الشمال والمجلس الانتقاليّ في الجنوب. ثانيها، معاداةُ الطرفين لحزب الإصلاح وتبنّيهُما الدعوةَ لمكافحةِ الإرهابِ من أجل اكتساب شرعيّة الحضور دوليّاً. أمّا ثالثُها فاعتمادُهما على سياسة الهويّة وتحشيد الجماهير من دون وجود أيّ تصوّراتٍ مستقبليّة سياسيّة أو اقتصاديّة واضحة.
على الرّغم من اعتماد دعوى الاستقلال أو الانفصال التي يرفعُها المجلسُ الانتقاليّ على رمزيّة الدولة الجنوبيّةِ التي حكَمَها الحزبُ الاشتراكيُّ والتي ترتفعُ رايتَها أيضاً في التظاهرات والمناسبات المختلفة للمجلس، لكنّه بدأ يتحدّثُ عن الجنوب العربي نافياً الهوية اليمنية عن الجنوب.
كانت تتبنّى الحديثَ عن الجنوب العربيّ بعضُ تياراتِ الحراك الجنوبيّ المتطرّفة، وهي فكرةٌ لطالما اتّسمتْ بأمرَين، أوّلاً: معاداة الشماليّين كمجتمعٍ وليس فقط كنظامٍ سياسيٍّ وافتراض أنّ المشكلةَ مع الشمال ليست سياسيّة فحسبُ بل تتعدّاها إلى تاريخٍ ومجتمعٍ مختلفَين، في محاولةٍ لتبنّي سرديّةٍ تاريخيّةٍ فيها قدْرٌ كبيرُ من المغالطات عن الجنوب متجاهلةً أبْسطَ الحقائق، مثل حقيقة أنّ الضالعَ كانتْ جزءاً من الشمال حتى ثلاثينيّات القرن العشرين، وطبيعة التركيبة السكانيّة لعدن المرتبطة بالشمال بسبب هجرة أبناء الحجريّة من تعزّ إلى عدن أثناء مرحلة الاستعمار، إضافةً إلى التداخل القبليّ الكبير بين محافظتَي مأرب الشماليّة وشبوة الجنوبيّة. ثانياً: لا تبدو هذه الدعوى متخاصمةً مع مرحلة الاستعمار البريطانيّ بل هي أقربُ إلى التمجيد لتلك الفترةِ ممّا يُعدّ تناقضاً لكلِّ ما تعبّرُ عنه دولةُ الاستقلال التي حكَمَها الحزبُ الاشتراكيُّ. كما أنّها تتجاهلُ حقيقةَ أنّ «اتّحاد الجنوب العربيّ» الذي أسّستْه بريطانيا في نيسان / أبريل ١٩٦٢ لم يشملْ يوماً أكبرَ محافظتَين جنوبيّتين من حيث المساحةُ وهما حضرموت والمهرة، وأنّها قد تكون دعوةً لتكريسِ انقسام الجنوب وليس فقط إلى فصلِه عن الشمال.
لقد انتهتْ الوحدةُ اليمنيّة، لكنْ لا يبدو الجنوبُ في طريقه نحوَ تأسيسِ دولته المستقلّة بقدْر ما يبدو أنّه يسيرُ في طريق الفوضى، والسؤال لم يعدْ: هل تستمرّ الوحدة اليمنيّة؟ بل: هل تستمرّ وحدةُ الجنوب في اليمن أم يتشظّى إلى كياناتٍ مختلفةٍ بحسب تعدُّد المليشيات والفاعلين الإقليميّين؟ يبدو الجنوبُ بعيداً تماماً عن عشيّةِ الاستقلالِ في الثلاثينَ من تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٦٧، حيث كانت توجدُ قياداتٌ ونُخَب - على علّاتها - لكنّها تملك تصوّراتٍ سياسيّةً وطنيّةً، ولم تغرقْ كليّاً في المناطقيّة، كما عملتْ في وضْعٍ إقليميٍّ أٌقلّ خطورةً واستقطاباً، ناهيك عن أنّ الاستعمار ترَكَ بُنْيةً تحتيّةً للإدارة في عدن، التي صارتْ الآنَ مدينةً مدمَّرة.
يميلُ كثيرون من أنصار الحراك الجنوبيِّ إلى استجرار الحديث عن ماضي المظلوميّة الجنوبيّة في عهد الوحدة، وهو حديثٌ لم يتبقَّ منه سوى الرغبة في التحشيد الجماهيريّ لاستعداء الشماليّين كأفرادٍ وكمجتمعٍ بهدفِ التغطية على حالةٍ مُخيفة من الإفلاس السياسيّ، فمِن ماضي عدن الليبراليّ أثناءَ الاستعمارِ أو العدالةِ الاجتماعيّةِ والانضباطِ في عهد الحزب الاشتراكيّ، لم يتبقّ شيءٌ يُذكَر. صار الواقعُ مريراً بعد عمليّة التجريف المستمرّة للسياسة في الجنوب بسبب الاستبداد والصراعات المتكرّرة حيث لم يتبقّ سوى قوىً سلَفيّة ونُخَبٍ جنوبيّةٍ غارقةٍ في الفساد أو الارتزاق من الخارج.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.