هل تونس استثناءٌ في العالم العربيّ؟ هل يفسّر هذا نجاح الثورة الديمقراطيّة فيها؟ هذا ما يؤيّده صفوان المصري، لكنّ حججه غير مقنعةٍ نظريّاً وتاريخيّاً في كتابه «تونس، شذوذ عربي». كانت الثورات العربيّة منذ العام ٢٠١١ موضوع العديد من التحليلات والتأمّلات، وصولاً إلى خلق فسحة حوارٍ وسط الدراسات عن المنطقة وفي العلوم السياسيّة. عند التفكير في فشل الحركات الشعبيّة في العالم العربيّ، والحروب التي قامت في سورية واليمن، والتشظّي الليبيّ، تكثر التحليلات عن الثورة المضادّة، والمآزق الديمقراطيّة، وصناعة الحروب الأهليّة أو لعبة القوى. تسعى محاولات الفهم المختلفة هذه إلى تحديد العوامل التي تفسّر هذا الفشل، فتسترجع نماذج تاريخيّةً آتية من أماكن أخرى (الثورة الفرنسيّة، أو الأميركيّة، والتحوّل الديمقراطيّ الأوروبيّ أو الأميركيّ الجنوبيّ، إلخ..).
كتاب صفوان مصري جزءٌ من هذه الأبحاث، أو فرع من فروعها على الأقلّ، لاختياره الانكباب ليس على الفشل أو المآزق، يل على «الحالة التونسيّة» التي تبدو له نموذجاً واستثناءً في الوقت نفسه، لإدراك الحركيّات الفاعلة خلال الربيع العربيّ. ومن أجل ذلك يعتزم المصري رحلةً في تاريخ هذا البلد الصغير، بحثاً عن مفاتيح لفهم ما جرى هناك في أيلول / ديسمبر ٢٠١٧ (الانتفاضة)، وخصوصاً عن قدرة التونسيّين على مقاومة الهجمات المضادّة، التي عمّت المنطقة منذ العام ٢٠١٣. سؤاله بسيطٌ للغاية، يعلنه منذ الصفحة الأولى: «لماذا تونس»؟
ممّ صُنِعت «المعجزة التونسيّة»؟
ضمن هذا المفهوم الفكريّ، نصّ صفوان المصري عملٌ من طبيعة خاصّة للغاية، لأنّه صادرٌ عن شخصٍ لا دراسة المجتمعات العربيّة ولا النظريّة السياسيّة من اختصاصه. يقدّم المصري نفسه كمراقبٍ مهتمٍّ بتونس بصفةٍ شخصيّةٍ بحتةٍ، بما هو أستاذٌ جامعيٌّ عربيٌّ أردنيٌّ فلسطينيٌّ - أميركيّ، خبير أساساً بالإدارة في جامعة كولومبيا. المسألة عنده هي «النموذج التونسيّ». وبدلاً من أن يتناول الربيع العربي بما هو كتلة واحدة، يختار منه الحالة التونسيّة في محاولةٍ لتفسير كيف استطاعت الانتفاضة (والتجربة الليبراليّة والديمقراطيّة التي تلتْها خصوصاً، حسب رأيه) أن تستمرّ في هذا الجزء الصغير من المغرب بينما زرعت الحرب والثورة المضادّة في الأماكن الأخرى، أو أنّها ببساطة لم تتمكّن من أن تعبّر عن نفسها أو أن تنمو وتتطوّر.
والعمل الناجم عن ذلك هو بالتالي فرضيّةٌ من الفرضيّات ورحلة في تاريخ تونس تغطّي وتؤطّر عدداً من العوامل لإظهار أنّ تونس حالةٌ خاصّة ضمن «العالم العربيّ». ليست الفكرة بجديدة، في الحقيقة، ولا الجدّة هي ما يدّعيها المؤلّف. إنّه يهدف إلى توعية جمهورٍ (أميركيٍّ بوجهٍ خاصٍّ) حول هذا البلد الصغير العربي الغامض، وتوفير معلوماتٍ عن تاريخ تونس المعاصر (بل حتى عن تاريخها الأقدم، بما هو تاريخ يعود إلى العصور العتيقة).
أسلوب البحث - قراءة مؤلفاتٍ، وحواراتٌ مع تونسيّين أثناء بعض الزيارات - يسوق الكتاب إلى الاقتراب من خطابٍ شائع، خصوصاً في تونس، يأخذ شكل نوعٍ من «الفخر»، ما يمكن تسميته «كبرياء تونسيّ»، تُقدَّم فيه تونس غالباً بما هي «البلد العربيّ الأوّل» أو «البلد العربي الوحيد» الذي حقق كيت وكيت. ولا عجب أنْ يتركّز هذا الاستثناء التونسيّ في أربعة مجالاتٍ.
أوّلاً التعليم. فالنظام التعليميّ الذي أرسى قواعدَه الحبيب بورقيبة ووزيره الأوّل للتربية الكاتب محمود المسعدي كان يهدف إلى إنشاء طبقة من موظّفي الدولة، المؤهّلين حسب مقياس الجدارة الجمهوريّة، نظامٌ يحمي مكتسباتٍ ثنائيّة اللغة (الكولونياليّة) وينشرها على كامل سلسلة المراتب، ويحافظ في الوقت ذاته على التمييز بين التعليم والدين ويجعل من المدرسة حيّزاً (شبه) علمانيّ (ص 244 - 258).
ثانياً، تحرير النساء. يراجع المصري تاريخ تحرير المرأة في تونس، انطلاقاً من الشيخ طاهر الحدّاد، مصلِح جامع الزيتونة، ومؤلّف بحثٍ في العشرينيّات شجّع فيه على تعليم المرأة المُسلمة وإعطائها بعض الحرّيّة، وصولاً إلى الحبيب بورقيبة، الذي أصدر قانون الأحوال الشخصيّة عام ١٩٥٧ الذي أدّى إلى سفور النساء التونسيّات رمزيّاً وعمليّاً.
ثالثاً، الدِين، الذي انفصل عن الدولة، بفضل تحالفٍ إستراتيجيٍّ بين السياسيّين والسلطات الدينيّة التقليديّة في العام ١٩٥٧، أدّى إلى فصل الدين عن الدولة، وسمح بتنحية رجال الدين إلى حدٍّ ما عن التدخّل في الأمور السياسيّة بعد الاستقلال (ص 224).
أخيراً، «المجتمع المدنيّ»، الذي يعتبر نتيجة مجمل هذه التطوّرات التي سمحتْ بأن يكون لتونس المستقلّة طبقة وسطى ناشطة سياسيّاً.
هل تونس بلد عربيّ؟
إنّ عرض مزايا «النموذج التونسيّ» مسبوقٌ بجزءٍ تاريخيّ يؤكّد استمراريّة الوحدة الجغرافيّة والسياسيّة لتونس، حول قرطاج وأفريقيا الرومانيّة، وصولاً إلى التجارب الإصلاحيّة في إطار الإمبراطوريّة العثمانيّة. والغرض من مجمل هذه «التجارب التاريخيّة» هو بيانٌ متجدّدٌ لاستثناءٍ تونسيٍّ، أو لشواذّه، كما يقول العنوان.
لكنّ هذه المحاجّة موجّههٌ. ما يريد المصريّ إثباتَه هو أنّ تونس شواذّ وسط العالم العربيّ. لكنّ ذلك يرتّب عليه أن يعرّف العالم العربيّ انطلاقاً من هذا الاستثناء. خاتمة الكتاب واضحةٌ للغاية في هذا الصدد. والواقع أنّها لا تعني تونس في شيء. من الخطأ - برأي الكاتب - أن نفكر أنّ العالم العربيّ كتلةُ واحدة وأنّ العرب شعبٌ متجانسٌ، وبالتالي أن نتحدّث عن «ربيع عربي» (ص 291).
وبينما المسألة هي إمكان أن تكون تونس نموذجاً، أو أنّها تبدو كاستثناء، ضمن العالم العربي، راح المؤلّف يجمع المعلومات حول هذا البلد الصغير، ليصل إلى نتيجةٍ تقول إنّ «العالم العربيّ» مشكوكٌ فيه ككيانٍ في حدّ ذاته، بل إنّه ملغىً، بفضل دراسة الحالة التونسيّة. فقد «نجحتْ» تونس لأنّها، حسب رأيه، مختلفة في كلّ شيءٍ عن سائر العالم العربيّ، ولأنّها بالتالي شواذ. فمسارها التاريخيّ يجعل منها استثناءً لا نموذجاً. وفيما يتعدّي ضعف المحاجّة المنطقيّ، من المهمّ أنّ ننكبّ على هذه المسألة المثارة هنا.
أوّلاً، سيكون من السهل أن نعود إلى كلّ واحدة من الأساطير المؤسّسة «للتَوْنسة» لنتفحّص وجوهها العاتمة. من المثير للحنق بصورة خاصّة أن نرى كم تبدو البورقيبيّة هنا نهجاً مَجيداً وتنويريّاً بينما نعرف الدور الذي لعبتْه استبداديّة بورقيبة في كمّ أفواه كلّ معارضةٍ، وكلّ تجربة ديمقراطيّة. يصف المصري هذه الاستبداديّة كمنظومة دسائس بلاط جعلت «المجاهد الأكبر» - كما كان يحبّ أن يُسمّي نفسه - مأخوذاً فيها بجنون السلطة إلى حدٍّ ما، وهو يزداد سخفاً شيئاً فشيئاً بينما المحيطون به يحيكون المؤامرات (ذكر المؤلّف حملات القمع في بضع صفحاتٍ، انطلاقاً من الصفحة ٢١٦، وتعتمد بشكل أساسيّ على مقابلة مع الوزير السابق أحمد بن صلاح، المدير السابق في «الاتحاد العام التونسيّ للشغل» UGTT، الذي قاد سياسة اقتصاديّة اشتراكيّة وأقيل عام ١٩٦٩). ثمّ إنّ الإشادة الصريحة بنموذجٍ مدرسيٍّ يؤكّد على ثنائيّة اللغة تغفل الحديث عن سياسة التعريب العشوائيّة التي عرفتْها تونس انطلاقاً من العام ١٩٧٣.
كما أنّ الإشادة بتحرير المرأة التونسيّة تتجاهل عيوب هذا التحرير، وعدم المساواة في نيل الحقوق، والتوتّر الذي ظهر بين هذه الحقوق المكتسبة وبين مجال خاصّ لا يزال تتحكّم فيه نزعة بطريركيّة لا لبس فيها. عدا عن أنّه قد جرى تشريع هذا التحرير (كما يحدث تكراراً، إذا جاز التعبير!) دون إفساح المجال أمام الحركات النسويّة التي قامت بها النساء أنفسهنّ، فإنّ دراسة هذا التاريخ تسمح بأن نرى أنّهن لم يكنّ دائماً على اتفاق مع سياسة الحكومة المتعلّقة بتحرير «المرأة».
مسألة الدين ومكانه في الدولة معالجةٌ هي أيضاً بشكلٍ عامٍّ، دون الانتباه إلى التغيّرات التي جرت في عهد بن علي، والتي أضفت عليها صبغةً دينيّةً محافِظة (بثّ الأذان على كلّ قنوات التلفزة العامّة، شرطة رمضان، منع تقديم الخمور وبيعها، مراقبة الأماكن العامّة وإنشاء مصرف إسلاميّ وإذاعة إسلاميّة، تسيطر عليهما الأسرة الحاكمة) مع الاستمرار بسياسة التنديد بعلامات التديّن الخارجيّة المعتبرة بالجملة إسلاميّةً متشدّدة وبالتالي احتجاجيّة.
إنّ المؤلّف منهمك، بصورةٍ عامّةٍ، في تعداد مآثر ذاك الذي يسمّيه «أبو الأمّة» بحيث نسي أنْ يضع في حسابه بن علي، مع أنّ الأخير ظلّ في السلطة قرابة ٢٤ سنةً. وكذلك، بين القوى الاجتماعية الفاعلة، التي تشكّل ما يسمّيه المجتمع المدنيّ التونسيّ، بالكاد نتمكّن من رؤية فاعلين آخرين غير «الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل»، واتّحاد أرباب العمل، UTICA «الاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والمهن اليدويّة». ممّا لا شكّ فيه أنّ «الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل» لعب دوراً أساسيّاً في تنظيم تعبير العمّال عن أنفسهم، إلّا أنّه تعرّض لانقسام عميقٍ منذ العام ١٩٧٨ (الاضراب العامّ الكبير)، فتفكّك جزئيّاً وتغلغل فيه «الحزب الدستوريّ الجديد»، ثمّ «التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ» RCD. ثمّ إنّه في هذه الرواية السعيدة، لا وجود لحركات المعارضة السياسيّة، التي دفعتْ ثمناً غالياً في مقاومة الاستبداد، كحركات اليسار وأقصى اليسار، والأحزاب الإسلاميّة كذلك.
الحداثة التونسيّة ذات الأفق الأوروبيّ
التَونسة - المعتبرة استثناءً بهيجاً - تُعرّف أيضاً بأنّها مَيل التونسيّين إلى ألّا يحدَدوا أنفسهم بالنسبة إلى العالم العربيّ والإسلاميّ، ولكن ضمن إطار متوسطيٍّ وفي مواجهة أوروبّا. هنا أيضاً تبدو الأدلّة التي تدعم هذا التأكيد آتيةً من سياقٍ يعرض فيه بورقيبة، صانعُ الاستقلال بلا منازع، مفاهيمه عن بلادٍ حديثةٍ في مواجهة فرنسا، وبمعنىً ما، متبنيّاً فكرة فرنسا. لكن لا يمكن فهم هذه السياسة إن لم نذكر ما آلت إليه حال أجزاءٍ أخرى من النضال الاستقلاليّ، وخصوصاً إزاحة العروبيّين، التي أدّت إلى شرخٍ دائمٍ في عالم السياسة التونسيّة.
الرئيس الحالي لتونس، الباجي قائد السبسي، هو أحد مهندسي إزاحة المعارضة العروبيّة، وقد أبعد البورقيبيّون عن الساحة هؤلاء المدعوين «اليوسفيّين»، لأنّهم أنصار صلاح بن يوسف، وحركات الشبيبة العروبيّة في بداية الستينيّات. لقد أزاح البورقيبيّون هذا القسم الهامّ من الحركة الوطنيّة (المناهضة للاستعمار). بيد أنّ هذه الحساسيّة السياسيّة مازالت موجودةً في عدّة أحزابٍ، ومنها الحزب الذي يديره أوّل رئيسٍ للجمهوريّة بعد ٢٠١١ منصف مرزوقي ( حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة)، أو قسم من أقصى اليسار. منذ نهاية الستينيّات، تخلّص بورقيبة كذلك من المعارضة الاشتراكيّة اليساريّة المتمثّلة في الحركات الطلابيّة والعمّاليّة المتكرّرة. وضع في السجن جيلاً من القادة الطالبيّين والكوادر النقابيّة الذين تحرّكوا من أجل مزيدٍ من العدالة الاجتماعيّة. وأخيراً، اعتباراً من الثمانينيّات، استهدف الحركات الإسلاميّة، التي كانت ضحيّة تزايد التوتّر في الجزائر المجاورة والقمع على الأراضي التونسيّة.
هذه المرجعيّة الأوروبيّة، المعتبرة هنا سمةً مميّزة لتونس بمجملها، قد فرضتْها البورقيبيّة «كأيديولوجيّة دولة»، أيديولوجيّة متناقضة لأنّها لا تنفكّ تتأرجح حسب مصالح أهل النظام. كما أنّ الجدارة الدراسيّة تصطدم بجدار حريّة التعبير: فالطالبات والطلّاب الناشطين والمسيَّسين قضَوا تحت حكم بورقيبة وحكم من خلَفه فقضوا في السجون بين خمس سنين وعشرين سنةٍ لمجرّد أنّهم شاركوا في مظاهرة. فضلاً عن ذلك، تعقّدت علاقات تونس مع جيرانها الأوروبيّين إلى حدٍّ كبيرٍ بعد فرض تأشيرة الدخول اعتباراً من العام ١٩٧٤ والتشدّد في تطبيق سياسة تحديد الهجرة. منذئذٍ أصبحت الهجرة نحو العالم العربيّ، وخصوصاً الخليج، مصدراً أفضل لدخل للتونسيّين كما لكثير من العمّال في العالم العربيّ.
تعريف «العالم العربيّ» يختصر كلّ العرض. بالنسبة إلى مصري، «العالم العربيّ» هو حالة. أن تكون عربيّاً، يعني أن تعيش ضمن مفهومٍ معيّنٍ، بأفقٍ مشتركٍ يتضمّن بصورةٍ خاصّةٍ انصهاراً بين العروبة والإسلام، ومقداراً من العنف الاجتماعيّ، وأنظمة استبداديّة، وأنظمة تعليم مثقلة بالأيديولوجيا إلى حدٍّ كبيرٍ. إنّه أفقٌ يعرّفه منذ الصفحة ١٠ كنقطة مقارنةٍ. وتقع تونس، تبعاً لرأيه، خارج هذه الحالة. بالتالي لا يمكنها أن تكون نموذجاً للعالم العربيّ، بما أنّها ليست خاضعةً فعلاً لظرف «الكائن العربي». ولمّا كانت سائر البلدان العربيّة تتشارك في هذه الحالة، فهي لن تستطيع بالتالي أن تقوم بأيّة ثورة. فهل يعني هذا أنّ عليها أن تَقنع بمصيرٍ مشتركٍ، هو الخضوع الاستبداد؟ لا يقول المصري ذلك، لكنّ هذا ما يُفهم من حديثه.
لماذا نناضل؟
عندما انتهيت من قراءة كتاب المصري، عادتْ تلحّ على خاطري لازمةٌ، تلك التي كان يردّدها الثوّار التونسيّون عام ٢٠١٠ - ٢٠١١ وقد ردّدوها كثيراً في الماضي، تلك التي تناولها أحياناً الثوار المصريّون واليمنيّون والسوريّون على شكل شعارٍ، أو أمثولة، أقصد هذا البيت الذي أصبح مشهوراً للشاعر أبي القاسم الشابي، يقول: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة / فلا بدّ أن يستجيب القدر». لم يكن مصادفةً أن يصبح هذا البيت شعاراً ضدّ الاستعمار أوّلاً ثمّ في مجرى النضالات التحرّريّة. ذلك أنّه يَطرح تحديداً شيئاً معاكساً للقَدَريّة التي نراها يتطوّر هنا. إنّه من المثير للاهتمام بمناقشة الانتماء العربيّ انطلاقاً من تجربة ثورات ٢٠١٠ - ٢٠١٣، في سياقٍ أصبح فيه ما كان يدعى العالم الغربيّ قشرة أيديولوجيّة، قوقعةً فارغةً، نوعاً صدئاً غير سويّ من معاداة الإمبرياليّة، بينما كان من الواضح أنّ العروبة تتوافق مع مصيرٍ مشتركٍ مؤلّفٍ من التضحيات والحماسة العسكريّة. إنّ الانتفاضات والثورات لم تنفكّ تحافظ على صلةٍ فيما بينها، ضمن هذا الإطار وبالرّغم منه بدءاً من الثورات في فلسطين، وكذلك الانتفاضات الدوريّة في «الشارع العربيّ»، وصولاً إلى الانتفاضات الراهنة. وبسبب وجود هذا المصير المشترك تحديداً أمكن صفوان المصري أن يؤلّف كتابه.
يكمن الغموض في أنّ المصري يفضّل أن يجعل من الاستثناء، أو الحباحب كما يقول غرامشي، شذوذاً وبالتالي مصادفةً تاريخيّةً غير قابلة للتكرار. وتبدو مسألة النموذج هنا الوجه الآخر لنظريّات تصدير الديمقراطيّة، وهي راسخة في الفكر الأميركيّ العامل على العثور على وصفة يمكن إعادة إنتاجها وتكييفها. الخصوصيّة التونسيّة الكبرى هنا - التي تؤكّدها محاجّة تاريخيّة سطحيّة للغاية - تأتي لتعزيز محاجّة من هذا النمط: تونس بلد ديمقراطيّ، وهي جزءٌ من العالم العربي. فإذا كانت تونس ديمقراطيّة، فلأنّ تاريخها يُبعدها عن العالم العربي (وعن مميّزاتها المشتركة ومصيره). إذاً، تونس ليست عربيّة (حقّاً). ولن يستطيع العالم العربي بلوغ الديمقراطيّة بالتالي.
إضافة تعليق جديد
تهمّنا آراؤكم ونريدها أن تُغني موقعنا، لكن نطلب من القراء أن لا يتضمن التعليق قدحاً أو ذمّاً أو تشهيراً أو تجريحاً أو شتائم، وأن لا يحتوي على أية إشارات عنصرية أو طائفية أو مذهبية.